"زنادقة الإسلام ثلاثة :المعري والتوحيدي وابن الراوندي"
أبو العلاء المعري شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء أحد اكبر شعراء العربية وأحد المنبوذين من قبل كثير من الناس – خاصتهم وعامتهم- حتى إن النعوت التي ألحقت به من نوع :الملحد، الزنديق، الأعمى تعييرا عن عاهته يتميز عن الشعراء العرب بتبحره في العربية وسعة معارفه في الدين والفلسفة وهو من الذين تبنوا أسلوب حياة النباتيين فقد حرم على نفسه اللحوم والبيض والحليب وكل مشتقات الحيوان وكانت حجته أن الإنسان أثر ،محتال يأخذ ما ليس من حقه :
غدوت مريض الدين والعقل فالقني : لتسمع أنباء الأمور الصحائح
فلا تأكلن ما أخرج الماء ظالما: ولا تبغ قوتا من غريض الذبائح
والغريب هو إخلاص الرجل لمذهبه حتى في أحلك الظروف فقد مرض وأوصى الطبيب له بديك مع حساء فلما قربوه منه لمسه بيده ورفض أكله وقال كأنه يخاطب الديك:"استضعفوك فوصفوك، هلا وصفوا شبل الأسد؟"
يعد المعري من الشعراء الذين كرسوا حياتهم وشعرهم وفكرهم لنقد الواقع وتعريته وهو أحد الذين انتبهوا بذكاء لفكرة السلطة قبل فوكو وعراها، كما تعرض لنقد رجال السياسة ورجال الدين معا:
مُلَّ المقام فكم أعاشر أُمـــــــة ... أمرت بغير صلاحها أمراؤها
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها ... فعدوا مصالحها وهم أجراؤها
وقال في نقد رجال الدين:
رويدكَ قد غررت وأنتَ حرّ
بصاحب حيلة يعظ النّساء
يحرّم فيكمُ الصهباءَ صبحا
ويشربُها، على عمد مساءَ
تحسّاها فمن مزجٍ وصِرْف
يَعُلُّ، كأنَما ورد الحســـــــاء
يقولُ لكم: غدوتُ بلا كساء
وفي لذّاتِها رهَنَ الكِســـــــاء
إذا فعل الفتى ما عنه يَنهــى
فمن جهتَين لا جهة أســــــاء
كان المعري لا يني يفكر أن الإسلام ككرة الثلج بدأت صغيرة وانتهت كبيرة فالفقه مثلا ليس إلا فكرا بشريا ألبس رداء القداسة فالبشري تماهى مع الإلهي ومن ثمة جاز الاعتراض عليه ونقده لأنه عمل بشري :
أجــــــــــــاز الشافعي فعال شيء: وقال أبو حنيفة لا يجــــــــــوز
فضل الشيب والشبان منــــــــــــا: وما اهتدت الفتاة ولا العجوز
بل انتقد الأديان وشنع عليها واعتبرها سبب الفرقة والبغضاء وكأنه ينتقد الإيديولوجيا ويتبنى الدولة المدنية قبل ميلاد الفكرة اقرأ قوله:
في اللاذقية فتنة : مابين أحمد والمسيــــــــح
هـــــــذا بناقوس يدق وذا: بمئذنة يصيـــــــح
كل يعزز دينــــــه :يا ليت شعري ما لصحيح؟
أو قوله:
عجبت لكسرى وأشياعه : وغسل الوجوه ببول البقر
وقول النصارى إله يضام: ويظلم حيا ولا ينتصـــــر
وقول اليهود إله يحب رشاش الدماء وريح القــــــــتر
وقوم أتوا من أقاص البلاد:لرمي الجمار ولثم الحجــر
فوا عجبا من مقالاتهم: أيعمى عن الحق كل البشــــــر؟
لقد انحاز المعري إلى العقل ودافع عن العقلانية إذ دعا إلى إعمال العقل حتى في النصوص بل اعترض عليها :
كَذَبَ الظَنُّ لا إِمامَ سِوى ال
عَقلِ مُشيراً في صُبحِهِ وَالمَساءِ
فَإِذا ما أَطَعتَهُ جَلَبَ الـــــ
رَحمَةَ عِندَ المَسيرِ وَالإِرســــاءِ
إِنَّما هَذِهِ المَذاهِبُ أَســـبا
بٌ لِجَذبِ الدُنيا إِلى الرُؤَساءِ
وقسم الناس إلى فئتين :أصحاب العقول وهم الباحثون عن الحقيقة الذين لا يغريهم الشكل كسلطة الحاكم وسلطة رجل الدين وسلطة الرمز وسلطة الماضي ، وقسم هم العامة أو القطيع والذين يصنعون طواغيتهم بأنفسهم:
إثنان أهل الأرض ذو عقل بلا :دين وآخر دين لا عقل له
وانظر إلى اعتراض الشاعر على النصوص المقدسة:
يد بخمس مئين عسجد وديت: ما بالها قطعت في ربع دينار؟
تناقض ما لنا إلا السكوت عنه: وأن نعوذ بمولانا من النار:
ولقد اعترض جهرا على الخالق:
أنهيت عن قتل النفوس تعمدا: وبعثت أنت لقبضها ملكين!
وزعمت أن لها معادا ثانيا:ما كان أغناها عن الحـــــــالين
لقد كان المعري بمقالنا الحديث رجلا تنويريا ميالا إلى المجتمع المدني نصيرا للعقل ، مثالا للرجل المخلص لعقيدته لا يطلب دنيا ولا جاها ومن أجل ذلك الإخلاص قطع رجاءه بمغريات الحياة واكتفى بالنزر اليسير حتى لا تسوقه أطماع النفس إلى خيانة الضمير وقد انتقد رجال الدين الذين لبسوا المسوح وكانوا طلاب دنيا لا طلاب علم ولا آخرة بل أعلن صراحة أن دين الناس هو الرياء:
أرائيك فليغفر لي الله زلتي :بذاك ودين العالمين ريــــاء
وقد يخطئ الإنسان ظن عشيره :وإن راق منه منظر ورواء
إن كثيرا من الأفكار التنويرية والحداثية تجدها عند الشاعر ولا يعوزها إلا المصطلح الحداثي مثل: المجتمع المدني ، العقلانية، النقد الهدام لتوليد المعنى، الإنسانية في مقابل اللاهوتية أو الناسوت كأولوية على اللاهوت ....
والعجيب أن الشاعر صبر على الأذى ولم يستسلم ولم يتب بتعبير فقهاء اليوم عن حالة بعض المفكرين والفنانين الذين يقضون أعمارهم دفاعا عن مذهب ثم ينكصون في أرذل العمر ولن تعدم أمثلة من الوسط الفكري أوالفني ولكن تجد المعري صامدا غير مبدل ولا هياب فالمعري هو المعري شابا وكهلا وشيخا وهو أمر جدير بالاعتبار حين نفكر في المثقفين الذين يهرولون نحو السلطة رياء وطمعا في جاه ومركز، أو المثقفين الذين يخافون من السلطة ويسكتون على الظلم إيثارا للسلامة غير أن العجيب هو حالة التفتح في المجتمع العربي في القرن الرابع والخامس الهجريين فالمعري المعترض على النص ، المقدم للعقل على النقل، الناقم على السلطة السياسية والدينية لم ينله سوء فلم تتم تصفيته وغاية ما ناله هجاء وانتقاص من النوع الذي ذكرناه آنفا وكثير من أحداث القتل في التاريخ الإسلامي القديم تحت طائلة الردة والكفر إنما تمت لأسباب سياسية بحتة مغلفة بغلاف الدين حتى لا تنتبه العامة كقتل غيلان الدمشقي الذي شنع على الأمويين وكذا الجعد بن درهم ثم عبد الله بن المقفع والحلاج في العصر العباسي مثلا فأي ردة أصابت مجتمعنا العربي حين نفكر في حالة فرج فودة ومهدي عامل ،حسين مروة وشكري بلعيد وغيرهم هل المجتمع العربي في القرن الرابع أكثر حداثة من المجتمع العربي في القرن العشرين وهو القرن الذي عاش فيه أولئك الأعلام وتمت تصفيتهم؟
نتساءل حقا ونحن نرى موجة أسلمة العلوم، وأسلمة الأدب وتحريم الفن، وتبديع الديمقراطية ، وتقسيم الناس إلى كفار ومسلمين، والدعوة الحثيثة إلى إحياء الماضي والعيش في أسماله وعدم احترام الحرية الشخصية وإهانة المرأة هل العالم العربي مستعد لنقاش جدي حول المسائل الثلاث المستعصية: الله، الجنس ، السياسة؟
هل يقبل مرجعية عقلانية إنسانية غير المرجعية الماضوية تلك التي تتمأسس على تقديس السلف وتبجيل الماضي عوض تقديس الإنسان واحترام الحق الإنساني في كيفية العيش ونمط التفكير وحرية المعتقد وحرية الجسد بلا وصاية كهنوتية؟
إن الدولة الدينية خطر على الدين ذاته وخطر على الحريات الأساسية وعلى الثقافة والإبداع والفنون إنها تطمح إلى إلغاء الفروق والتباين وتنميط المجتمع في نمط موحد اللباس والتفكير والشعور مهووس بإيديولوجيا الكفاح والتبشير وهو ما أسميه مجتمع علبة السردين: حجم واحد وطعم واحد ورائحة واحدة وهو أمر ضد الدين ذاته الذي يقر باختلاف الناس ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة.
لا حل إلا بدولة مدنية كما حلم بها أبو العلاء فقد كان مفكرا وشاعرا حداثيا كما نقول اليوم ونص على كثير من القضايا المصيرية وبت فيها بعقله وحده.