هل يمكن عصرنة الأنظمة الديكتاتورية؟ ـ فاتن نور

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

277hابان أزماتها، كانت الأمبراطورية الرومانية تسلم مقاليد الحكم الى "دكتاتور جبار"، يتمتع بحريات مطلقة لمدة سبع سنوات.. ترى انها كافية لاجتياز الأزمة. ربما استفادت بعض الأنظمة العربية مما يحكيه التاريخ، فترى أن بقاءها في السلطة كأنظمة ديكتاتورية جاهزة بخبرات طويلة، هو الأجدى لاجتياز أزماتها، أنما بفارق بسيط عما يحكيه التاريخ، وهو أن لا تتمتع بحريات مطلقة لبعض الوقت، أو حتى اجتياز الأزمة بسلام.
يمكننا أن نُمسك بوحش كاسر ونخرجه من جوف الغاب، أن نجتهد في ترويضه، كي يستجيب لأوامرنا في حلبات السيرك لبعض الوقت. فثمة كواسر افترست مروضيها أمام أعين المتفرجين، وبعد سنوات طويلة من الترويض والألفة والخدمة الاستعراضية.
ماذا تعني عصرنة النظام الديكتاتوري ؟
تعني إيجازا ، أن نحيل الغاب كله، الى حملان وديعة ويمامات زاجلة.. كل الوقت..
تعني أن نحيله من نظام شمولي يحكم بالحديد والنار، من نظام الحزب الأوحد والقائد الإله  المحصن بشريعة حزبه أو قبليته أو أسرته بعد شريعة الرب، الى نظام ديموقراطي يؤمن بالتعددية الحزبية والثقافية، والتداول السلمي للسلطة. يعني أن ننزل به من عرش السيد المخدوم ترفا، الى بساط الخادم المُعرض في اية لحظة، للإستجواب والمساءلة الدستورية والقانونية، وسيكون بأي حال، خادما لبعض الوقت وليس كله.


عصرنة نظام ديكتاتوري يعني نسخه الى نظامٍ نقيض فكرا وثقافة وأداءً، يعني حلحلته ايديولوجيا، وسلخه من جلده الموشوم بالاستبداد والتسلط والجبروت، واستلاب الحقوق وانتهاك الحريات. يعني تحوله من قمع إرادة الشعب والبطش بها، الى تأصيل سيادة الشعب وترسيخها كمصدر للسلطات. يعني أن يبطش النظام بنفسه ويردعها عن مزاولة البطش بالاخر وتهميشه ثقافيا وفكريا، وسحقه سياسيا وانسانيا.  يعني أن يزن شعبه بالمقلوب فيصبح مطيعا لتطلعاته وطموحاته، لا مُطاعا بالقوة ودون قيد أو شرط، أي أن يحكم بالمقلوب المُعصرن رأسا على عقب.
يمكن للشعوب أن تنسخ انظمتها الديكتاتورية، بمعنى، ان تُطيح بها وتبدأ من الصفر أو تحت الصفر، أن تتكبد خسائر ثقيلة وتحتمل بضع سنوات عجاف مريرة من النضال والتضحيات، لإقامة انظمة ديموقراطية رصينة، ودول مدنية تحترم المواطن وتؤمن حقوقه العامة والخاصة دستوريا، فلا يهان أو يستهان به عقائديا أو عرقيا أو اثنيا، أو  أية اعتبارات آخر تخرج عن مبدأ المواطنة والعدالة الإجتماعية والمساواة بمفهومها المتحضر..
أما ان ينسخ النظام الديكتاتوري نفسه بنفسه، ليصبح بين ليلة وضحاها، نقيضا لنفسه، فهذا لا يبدو سائغا تصديقه.. لا يبدو ممكنا أن يغير النظام الديكتاتوري جلده بجلد لا يسع طموحاته أو أطماعه السلطوية، ولا يُشبع بنيانه الفكري والنفسي القائم على اساس الأحادية المطلقة والإستلاب المزمن بكل صنوفه.. فهذه الأنظمة مصابة بكل داءٍ عضال مُستفحل، ولدينا في الواقع العربي وانظمته الشمولية اسوة حسنة. القذافي نازل شعبه الأعزل نزالا مسلحا، مستميتا متشبثا بالسلطة، وهرب من هرب منهم أو تنازل عن السلطة مضطرا وإلاّ لما فعل. وثمة أنظمة شمولية ما انفكت تقمع شعوبها وتدك تظاهراتهم السلمية التي تقرها دساتيرهم، وتحت شعارات تضليلية خائبة، كالغوغائية والشغب، أو الخروج عن شريعة الإسلام وتعاليمه. أو أن تصورها اعلاميا كتظاهرات مدفوعة الثمن، تحركها قوىً أجنبية.
الأنظمة الديكتاتورية لا تحترم دساتيرها عادة، ولا تُفعّل منها إلاّ ما يخدم مصالحها أو لا يتقاطع معها، فلا أرضية قانونية صلبة لما يُكتب في الدستور لصالح الشعب.  وأسهل ما لديها التقول بالاصلاح والتغيير، أو اضافة حبر دستوري تحت الضغط الداخلي أو الخارجي لاجتياز أزماتها، وإلهاء شعوبها لبعض الوقت. ولا تفعل هذا عن يقظة عقلانية تستوعب متغيرات الزمن الحاضر ووعي الإنسان المتزايد بقيمته وجدواه، وبحقه الطبيعي أن يعيش حرا آمنا متمتعا بكامل حقوقه على كل الصعد.. فهي وإن استيقظت لبعض الوقت، فلتدارك أزمة من أزماتها أو للخروج من كابوس ثقيل قض سباتها، فأنزلها نزولا اضطراريا من عرش سمائها السابعة الى أرض الواقع.
المشكلة الحقيقة لربما، هي أن الأنظمة الديكتاتورية لا ترى في نفسها ما تراه الشعوب الرازخة تحتها، فبينما لا تدعي الأنظمة الليبرالية الغربية الكمال، وتمتاز بالمرونة ومراجعة الذات والتشاور مع الآخر، وتنظر بعين الشك والحذر الى سياسات قياداتها، تدعي الأنظمة الديكتاتورية بانها الأمثل والأنجع فيما تقرر وتفعل، وتنظر الى قياداتها وكأنهم آلهة لا تحيد عن جادة الصواب او أنبياء منزلون.  فهم القادة الملهمون فكرا وأدبا واخلاقا بلا منافس.  ويبدو من الصعوبة بمكان أن تعصرن أنظمة فاسدة كهذه نفسها بنفسها ومن موقع تواجدها في السلطة، إلآ لإنقاذ نفسها باللعب على حبائل الوقت..
يقول بعض المنظرين في الواقع العربي وشؤونه السياسية، على شعوب المنطقة المطالِبة بالديموقراطية والتعددية الحزبية أن لا تتقاطع مع نفسها، فتلجأ الى اقصاء الأحزاب الحاكمة، وإلغاء تاريخها السياسي الطويل وخبراتها المتراكمة..فمن حق هذه الأحزاب المنافسة السلمية كغيرها..انتهى.
نعم!، من حق هذه الأحزاب المنافسة، ولكن ليس من موقعها في السلطة، وهي ممسكة  بالألة الحربية والأمنية والمخابراتية والإستخباراتية، وأدوات الإعلام والمال العام،  ومسيطرة على كل مؤسسات الدولة واجهزتها. لها أن تنافس من خارج السلطة وبعد كنس حاشياتها وعصبها المتموضعة في شتى مرافق الدولة ومناصبها الريادية.. وليس من صالح أي شعب إلغاء تاريخ أحزابه الحاكمة سواء كان تاريخا نضاليا مشرفا أو تاريخا مشينا، وخير له أن يضع هذا التاريخ أيا كان، نصب أعينه في طريقه الى صناديق الاقتراع.
سؤال الخاتمة: هل سينجح النظام السوري في عصرنة نفسه بنفسه والتحول من الديكتاتورية الى الديموقراطية ومن موقعه المتشبث حد النخاع بالسلطة ؟
آولا يبدو هذا التشبث بحد ذاته، مخالفا للنهج الديموقراطي المزمع التحول إليه.
لو حدث هذا، فنحن أمام معجزة اسطورية الطابع في تاريح الديكتاتوريات العربية الطويل الأمد، تستوجب أكثر من دراسة موسوعية مستفيضة، للوقوف على سر تحول المعدن الخسيس الى معدن نفيس تحولا ذاتيا..
تقول آلهة خيمياء، أن عنصر الكربون يتحول الى ماس تحت الضغط والحرارة العاليتين، وفي ظروف غير معلومة تماما في نواة الأرض وطبقاتها، ويستغرق التحول زمنا طويلا جدا.. لهذا  تعذر على العلماء توفير نفس الظروف الفيزيوكيمائية المعقدة ولحقبة طويلة، من أجل حدوث التبلور الماسي لعنصر الكربون المزمع تحويله.. ولارتفاع التكلفة في أحسن الأحوال.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟