باعتباري مهتما بقراءة ما يكتبه فلاسفة الغرب عن جائحة فيروس كرونا منذ بداية انتشارها، أجريت اليوم بحثا في محرك غوغل لأقرأ مقالا فلسفيا جديدا ذا صلة بالوباء. في الصفحة الأولى من نتائج البحث الكبيرة العدد كما تعلمون، وقع ناظري على خطاب من تأليف الفيلسوف الإيطالي سيرجيو بينفينوتو Sergio Benvenuto، رأى النور على صفحات .journal-psychoanalysis.eu يوم 2020/03/02. وبما أن هذا النص منشور هنا باللغة الإنجليزية فلا شك في كونه نتاج ترجمة من اللغة الإيطالية، ولا ضير من ترجمته إلى اللغة العربية انطلاقا من الترجمة الإنجليزية.
"أنا لست اختصاصيا في الفيروسات ولا في علم الأوبئة، ومع ذلك فقد تكونت في ذهني فكرة - رغم أني عشت أكثر من سبعين عاما، وبالتالي أنا من بين الأشخاص الأكثر ضعفا - عن كوني غير خائف من فيروس كرونا على صحتي. بالنسبة لي، قد تكون هناك أسباب احتمالية، مثلا عندما أسافر على متن طائرة: يمكن أن تتحطم، ولكن يبقى ذلك من المستبعد جدا. في الواقع، مات حتى الآن فقط 364.459 شخص في جميع أنحاء العالم نتيجة للفيروس. ولا مجال لمقارنة هذا الرقم بأعداد ضحايا الحربين العالميتين. أولئك الذين ماتوا في إيطاليا بالوباء ربما عددهم أقل من أولئك الذين قتلوا في حوادث السير بالإضافة إلى وفيات حوادث الشغل. باختصار، أنا لست خائفا من العدوى، لكني أكثر قلقا بشأن رد الفعل الاقتصادي لبلد مثل بلدي، الذي هو في تراجع مستمر منذ التسعينيات. بعد كل شيء، الفقر يقتل أيضا.
لكنني أعلم أيضا أن تجاهلي النسبي، على الرغم من كونه يستند إلى عقلانية، أمر يستحق الشجب المدني: إذا كنت مواطنا صالحا، فيجب أن أتصرف كما لو كنت مصابا بالذعر. لأن كل ما يتم القيام به في إيطاليا (إغلاق المدارس، الملاعب، المتاحف، المسارح، وهلم جرا) له وظيفة وقائية بحتة، وهي أنه يبطئ فقط انتشار الفيروس. الأمر يهم أعدادا كبيرة، لكنه يتوجه بالنداء إلى كل كائن خاص على حدة.
إن الذعر الذي أصاب إيطاليا (لكن ليست وحدها، في جميع أنحاء العالم لا يتحدث الناس عن أي شيء آخر) كان في الأساس خيارا سياسيا - أو خيارا سياسيا بيولوجيا، كما أكد روبرتو إسبوزيتو، - وضعت أسسه أولاً وقبل كل شيء منظمة الصحة العالمية. لأنه اليوم، في عصر تنتج فيه الديمقراطيات العظيمة قيادات بشعة، فإن المنظمات فوق القومية الكبرى مثل منظمة الصحة العالمية - ومنظمة التجارة العالمية، صندوق النقد الدولي، البنك المركزي الأوروبي، البنوك المركزية الأخرى، وغيرها - (لحسن الحظ) تتخذ قرارات حقيقية ، وبالتالي تقوم نزوات الفاشية الجديدة في ديمقراطيات اليوم. وقد صرح تيدروس أدهانوم، الإثيوبي الذي يشغل منصب المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، بضرورة الوقاية: فهو يعلم أن كوفيد-19 في الوقت الحالي لا يتسبب في وقوع كوارث وأنه في النهاية قد لا يكون أكثر خطرا من الأنفلونزا الخبيثة. لكنه يمكن أن يتحول أيضا إلى ما أصبح ما يسمى بالإنفلونزا "الإسبانية" التي ظهرت عام 1918: مست الأخيرة ثلث سكان الكوكب، ما تسبب في وفاة ما بين 20 و 50 مليون شخص، وهو عدد من الضحايا أكبر من جميع الخسائر العسكرية خلال الحرب العالمية الأولى. بعبارة أخرى، ما هو مخيف حقا ليس ما نعرفه، ولكن ما لا نعرفه عن الفيروس، وهناك القليل جدا مما نعرفه عنه. نحن نتعرف عليه يوما بعد يوم، ويتسبب بالتالي في الخوف - غير المنطقي بأي حال - من المجهول.
لاحظوا في حالة الإنفلونزا "الإسبانية"، تصرفت السلطة السياسية بالطريقة المعاكسة تماما كما تفعل اليوم: فقد أخفت الوباء، لأنه في معظم الحالات كانت الدول المعنية في حالة حرب. سميت بالإنفلونزا "الإسبانية" ببساطة لأنها في ذلك الوقت لم تظهر سوى في إسبانيا، التي لم تكن في حالة حرب، وتحدثت عنها وسائل الإعلام بهذا الاسم (لكن يبدو أن الإنفلونزا نشأت في الولايات المتحدة). لقد اختارت القوة السياسية اليوم (التي أؤكد مرة أخرى، أنها تتجاوز الحدود الوطنية في الاقتصاد أيضا) استراتيجية الذعر، وذلك لتشجيع الناس على عزل الفيروس. وبالفعل، فإن عزل المصابين لا يزال، بعد قرون، أفضل استراتيجية لصد الأوبئة المستعصية. تم احتواء الجذام في أوروبا - كما أكد فوكو - على وجه التحديد عن طريق عزل المصابين بالبرص قدر الإمكان، وغالبا ما يرحلون إلى جزر بعيدة، مثل مولوكاي في هاواي، حيث تم تصوير أفلام مختلفة.
في أغسطس 2011، كنت في نيويورك عندما كانت على وشك أن يضربها إعصار إيرين، الذي سبق له أن دمر جزر الأنتيل. صدمت بالطريقة التي أرسل بها الخبراء والسياسيون عبر وسائل الإعلام كلها رسائل كارثية تماما للمواطنين دون أن يرف لهم جفن. واتضح أن سكان المدينة اتبعوا الإرشادات بدقة (حتى أنني أخليت حديقتي احتراما للتدابير) وعبر إعصار إيرين نيويورك دون التسبب في أي ضرر. إذن، هل أخطأ هؤلاء الخبراء والسياسيون في كل شيء، أو هل استمتعوا قليلاً برعب سكان نيويورك؟ لا، بل تم تجنب الكارثة. في بعض الحالات، يمكن أن يكون نشر الرعب أكثر حكمة من أخذ الأمور "فلسفيا".
لنتخيل أن إيطاليا ككل - من وسائل الإعلام إلى المسؤولين الحكوميين - اختارت الاستراتيجية "الإسبانية"، وقررت عدم اتخاذ أي احتياطات والسماح لكوفيد-19 بالانتشار في جميع أنحاء البلاد مثل الأنفلونزا العادية. كل دولة أخرى، بما في ذلك دول أوروبية أخرى، كانت ستعزل إيطاليا على الفور، معتبرة البلاد بأكملها مباءة: شيء كان من شأنه أن يتسبب في أضرار اقتصادية أكبر بكثير مما تتحمله إيطاليا الآن. عندما يخاف الآخرون - مثلا، الإسرائيليون والقطريون، الذين منعوا الإيطاليين من دخول بلادهم - من الأفضل أن نخاف أيضا. أحيانا يكون الخوف خوفا من الشجاعة.
لنتخيل أنه تم السماح بانتشار 20 مليون إيطالي ليصابوا بالفيروس: إذا كان ذلك صحيحا، كما تشير الحسابات الأولى، فإن كوفيد-19 يقتل 2٪ من المصابين، لكان هذا قد يؤدى إلى وفاة حوالي 400.000 من الإيطاليين، معظمهم من كبار السن. تلك فرضية لا يعتبرها الكثيرون سلبية تماما، لأنها ستسمح لنظام معاشات الشيخوخة لدينا بالتنفس: لماذا لايتم التخفيض قليلاً من عدد كبار السن في بلد يشيخ في كل دقيقة؟ هذا ما يفكرون فيه دون أن يجرؤوا على التصريح به. لكنني لا أعتقد أن الرأي العام كان سيقبل 400000 حالة وفاة. لو وقع ذلك لكانت أصوات المعارضة قد ارتفعت، وكان يمكن الإطاحة بالحكومة من خلال الاحتجاجات الشعبية، وكان زعيم اليمين المتطرف سالفيني سيفوز في الانتخابات بنسبة 60٪ على الأقل من الأصوات الشعبية. وباختصار، فإن التدابير الاحترازية التي تم اتخاذها، مهما كانت مؤلمة - خاصة بسبب الأضرار الاقتصادية - هي أهون الشرور.
لذلك، فإن الإجراءات التي تم اتخاذها في إيطاليا ليست، كما يجادل أحد الفلاسفة المفضلين لدي، جورجيو أغامبين، نتيجة الغريزة الاستبدادية للطبقات الحاكمة، التي لديها شغف عميق ب"حالة الطوارئ". التفكير في أن التدابير المعتمدة في الصين وكوريا الجنوبية وإيطاليا وغيرها هي نتيجة مؤامرة يعني الوقوع في ما أسماه الفلاسفة الآخرون "نظريات المؤامرة التاريخية". أود أن أسميها تأويلات ارتيابية للتاريخ، مثل الملايين الذين يعتقدون أن 11 سبتمبر كانت مؤامرة لوكالة المخابرات المركزية. خادمتي المنزلية، وهي امرأة جميلة جداً، مقتنعة بأن "الوباء" قد سخر من العرب، وأفترض أنها تعني المسلمين. سواء كنا متأثرين برعيتنا الصغيرة أو بكارل شميت، سواء كنا جاهلين أو متعلمين، يحتاج الكثير منا إلى تشكيل منتجي الطاعون الخاصين بنا.
في كثير من الأحيان أصاب بالدهشة من عدد المرات التي يحتاج فيها الكثير من الفلاسفة إلى تذكيرهم بشيء هو أن هناك في السماء وعلى الارض أشياء أكثر مما تحلم به فلسفتك، على حد تعبير هامليت. عندما أقول إنني مقتنع بأن هذا الوباء سينتج كوارث اقتصادية أكبر بكثير (أزمة مثل عام 2008؟) من الكوارث الصحية، أضع نفسي في منظور متفائل، يمكن دحضه في الأيام القادمة.
اعتبارا من الغد، أنا أيضا، حتى وإن كان هذا مضحكا إلى حد ما، سأحاول أن أكون مواطنا صالحا. سوف أتجنب بعض الأماكن العامة، ولن أصافح الأشخاص الذين سألتقي بهم. أعيش في روما، ولن أقوم بزيارة الأصدقاء في الشمال وسأقوم بثنيهم عن القدوم لرؤيتي.
بعد كل شيء، ستعزز آثار هذا الوباء نزعة كانت سائدة على أي حال، وهي التي يعد "العمل عن بعد" أو العمل من المنزل والاستغناء عن المكتب، جانبا واحدا منها. سيكون أقل شيوعا بالنسبة لنا أن نستيقظ في الصباح ونركب المركبات العامة أو الخاصة للوصول إلى مكان العمل؛ سنعمل من منازلنا أكثر فأكثر على أجهزة الكمبيوتر الخاصة بنا ، والتي ستصبح أيضا مكاتبنا البديلة. وبفضل ثورتي Amazon و Netflix ، لن نحتاج بعد الآن إلى الخروج للقيام بالتسوق أو إلى المسارح لمشاهدة الأفلام ، ولا لشراء الكتب في المكتبات: ستختفي المتاجر والمكتبات (للأسف) وسيتم كل شيء من المنزل. ستختفي المدارس أيضا: باستخدام تطبيقات مثل Skype، سيتمكن الطلاب من حضور دروس معلميهم من المنزل. ستصبح هذه العزلة المعممة التي يسببها الوباء (أو بالأحرى، محاولات منعه) طريقة حياتنا المعتادة."