لا شيء أكثر خصوبة من العتمة، والعتمة لا يمكن أن تكتمل علاقتها مع الشخص ان لم يكن هذا الشخص أعشى. يحيط بكتاب الاستاذ هذا النوع من العتمة التي تخصب التجربة القرائية، وتقدم حرية البحت عن او تأسيس المعنى، وإذا مددنا ايدينا الى هذه العتمة فكل ما نمسكه فهو ملك لنا ولنا وحدنا.
وسنحاول وضع انفسنا داخل ما نقرأ قدر الإمكان «فليس بقارئ من لا يضع نفسه داخل ما يقرأ»[1] ونعني هنا أن نكون جزءا من سؤال الاصل الذي ينظم مقالات الكتاب ومكتوباته ، ولن نسعى لعرض مضامين الكتاب، وإنما نجعل منه القاعدة التي ننطلق منها لمحاولة فهم سؤال الأصل كما يعرضه، عابرا اليه من خلال الترجمة/ اشكال الترجمة.
يستحضر الأستاذ عددا كبيرا من الثنائيات ولكن ليس بقصد تقريرها، وإنما قصد تجاوزها ، او نقول قصد نفيها، ونعبر ونحن نَؤول/ نعود من هذه الثنائيات الى فكرة المحو والالغاء او النفي التي تشكل علاقة اللغة بالترجمة.
إن هذه الثنائيات التي تحضر في نص الأستاذ غائبة او ملغية اِن أردنا تحيل في حضورها/ الغياب على ضرورة «التنقيب عن «الدرجة الصفر» والحفر «الأركيولوجي» سواء كان هذا الأركي ( (Archéالذي تحيل عليه الاركيولوجيا مبدأ أولا، تقليدا أولا أو سلطة أولى»[2] هذا القول الذي يلفه الغموض الطافح برائحة الغنوص والعلامات يأتي كخريطة للتساؤل ومساءلة مشروعية الميتافزيقا والهيمنة حيث يكون اي شكل من اشكال الهيمنة ميتافيزيقا لابد لها من مشروعية تستمدها من سلطة أولى.
كذلك العلامات ف«المزدوجتان والاقواس وكل العلامات المتشابهة تكتب بطريقة غير مباشرة وصامتة ما لا يمكن ان يكتبه الخطاب القديم الكتابة العادية أو الترجمة العادية»[3].
يأتي هذا المعنى مطابقا لما تقدمه حدود مقاربة الهيمنة انطلاقا من الترجمة التي تكون هنا إخفاء و كتابة ومحوا في آن لأساس هذه الهيمنة/ الميتافزيقا. في كتابة الاستاذ تفجير لأفق المعنى، وتحضر في ذهننا إحالات كثيرة نترجمها/ننقلها بتساؤلات كالآتي؛ هل تكون الترجمة طريقا لإسقاط هذه الهيمنة او هل تكون على الاقل محاولة لنزع الحجب عنها؟ هذا عندما يتعلق الأمر بالترجمة، ولكن كيف يفهم/يؤول الأمر عندما يتعلق بالكتابة عن الترجمة ، وعندما تكون الغرابة هي التي تحكم العلاقة بين الأنا والاخر، فما يكون مصير فعل الترجمة وما هي مشروعية التفكير حول امكانيتها.
« إن المترجم حينما يفكر فهو يقوم بذلك من خلال لغة او اكثر حيث ينتقل من الأولى إلى الثانية مرورا بالثالثة ربما »[4] إن اللغة قد تقف حاجزا امام عملية الترجمة فكل لغة هي وعي بذاتها لها جهازها الخاص وبنيتها، كما إن اللغة تفكر بنفسها ، ان لغة واحدة هي التي ستكون طواعة لمخيلة المترجم وهي لغته الاصل، الحاملة لوجدانه والمنشئة له في آن معا، وقد يكون النقل في هذه الحالة افراغا لإحدى اللغتين، وقد تكون عملية الافراغ الخطيرة من نصيب لغته الاصل، وقد ينقل جسد اللغة لكن من الصعوبة بمكان نقل روح لغة وهنا المشكلة الحقيقية.
واذا ما عدنا الى حدود مقاربة الهيمنة لابد ان تلغي احدى هذه اللغات احداها الاخرى، إن الاشكالات الثاوية خلف طرح الأستاذ لمسألة الترجمة بهذا الشكل اشكالات وجودية في الاصل مرتبطة بعلاقة اللغة بالوجود.
يحيلنا هذا على تأويل هايدجر Heidegger لهراقليطس وبارمنيدس الذي يورده الاستاذان؛ إدريس كثير و عز الدين الخطابي في كتاب أسئلة الفلسفة المغربية[5]
«وحتى في الحدود التي تكون فيها الترجمة ممكنة فإنها ليست كذلك بما فيه الكفاية»[6] .
يفكر الأستاذ في مفهوم العدل ونفكر معه ، ونرجئ او ننقل محوا مفهماته له ومقارباته المختلفة ونختار المفهمة انطلاقا مما قدمه في التجربة العربية الإسلامية ف « من الغريب أن لا يكون العدل في التقليد الاسلامي [...] ان لا يكون وسطا واعتدالا [...] بل هو ميل وانحراف»[7] يوضح لنا الاستاذ ذلك انطلاقا من مثال ابن عربي « ما ظهر الوجود الا بالميل وهو العدل» ويقول « والعدل والميل ،فالميل عين الإستقامة فيما لا تكون استقامته الا عين الميل فإن الحكم العدل لا يحكم الا بين اثنين فلا بد ان يميل بالحكم مع صاحب الحق، واذا مال الى واحد مال عن الاخر ضرورة فليست الإستقامة ما يتوهمه الناس»[8] نعود الى إشارة الاستاذ الى «صعوبة الموقف الذي وجد فيه سقراط/افلاطون نفسه بعد ان حد الفضيلة بأنها وسط بين افراط وتفريط »[9] ان ذلك الوسط الذي لا يمكن تحديده في تلك الرقعة غير الثابتة يقف المترجم كما يقف الفيلسوف ولن تتحقق الحكمة للفيلسوف الا بالميل ومن المرارة القول ان الترجمة لن تتحقق للمترجم الا بالميل ف « كلاهما وسيط :المترجم وسيط بين معطيين يقف الاول على الثاني ويستمد منه بقائه ، والفيلسوف وسيط بين معطيين امبريقي اختياري حقيقته مستمدة من المتعالي المستوجب»[10] وليست إشكالية الهيمنة[11] تكف على الطفو بين الحين والآخر مثبتة لعلاقة الغرابة بين الطرفين «هكذا يصير المترجم الوسيط ما منه يستمد الاول/الاصل اصالته»[12] تزداد إستحالة/صعوبة الترجمة في استحضار الأستاذ للجاحظ يرسم للترجمة حدودا وعرة ،ذلك كما تم ان المترجم يعبر الى الترجمة من خلال لغات عدة واحدة فقط هي التي تطاوع مخيلته وتنساب فيها المعاني، وحدها الكاملة فيه دون غيرها مهما بلغت درجة الاجادة، واللغة في اخر المطاف تعبير عن ذهنية منفردة ومخصوصة يعقب الجاحظ« ومتى وجدنا المترجم تكلم بلسانين علمنا انه ادخل الضيم عليهما لأن كل واحدة من اللغتين تجذب الاخرى وتأخذ منها وتعترض عليها، وكيف يكون تمكن اللسان منهما مجتمعتين فيه كتمكنه إذا انفرد بالواحدة، وإنما له قوة واحدة فإن تكلم بلغة واحدة استفرغت تلك القوة عليها»[13] إن الحدود المرسومة هنا تكون على مستوى علاقة اللغة بالفكر، ان الفكر ينتج او يفصح عن نفسه من داخل لفته الخاصة التي أنتجته، باللغة هي التي تنتج الفكر، لأنه محكوم بمنظومتها، واللغة ذات لها وجدان وتاريخ استدخلت عبره ما استدخلت من البنيات المختلفة. يشير الاستاذ الى افاق طرقها الجاحظ وطرق مفتوحة أمام الترجمة ؛ مسألة اللفظ والمعنى، اذ تبرم من الترجمات التي اهتمت باللفظ دون المعنى[14] وينبه الجاحظ يشير الاستاذ الى مستويات اللغة les langages وأشار الى افاق الترجمة القائمة على التعلم والممارسة التي تصقل الموهبة/التجربة وتذلل العقبات[15]
تكون الترجمة اذن إشكال حضارة مرتبطا بالهوية والأصل والمصير، الهوية هي ال[نحن] والأصل تأويل هو نفسه المصير، فأصلنا هو ما نعبر اليه وما إليه نصير. عندما نقول نَؤول مع الاستاذ الى الأصل بأن اشكال الترجمة اشكال حضارة نستحضر الأستاذ مالك بن نبي في فصل من كتابه القضايا الكبرى يعنونه ب " إنتاج المستشرقين واثره في الفكر الاسلامي الحديث" في حديث طويل يسوقه في معرض الحديث عن إشكالية خطيرة يطرحها الاستشراق بالنسبة للعالم الاسلامي او ما يمفهمه هو بالصراع الفكري يقول:« وهنا تجب كلمة عن هذا المفهوم الذي نعنيه ب (الصراع الفكري) في العالم الاسلامي يجب ان تقرر مبدئيا هذه القاعدة العامة الا وهي انه عندما يطرح مسلم او يعط المسلمين مشكلة ما تهم مجتمعه فإن هذه المشكلة تكون طرحت او ستطرح عاجلا في اوساط المتخصصين في هذه الدراسات لحساب وتحت اشراف الاستعمار»[16] تفهم لفظة الاستعمار هنا بأنها كل شكل من اشكال الهيمنة ولا تعني الاستعمار العسكري، ويضيف الأستاذ مالك بن نبي في معرض الحديث عن الصراع الفكري « إن الكتب بغاليها وتافهها ،تقع بمجرد خروجها من الطبع وتقع احيانا دون ان يشعر اصحابها في ايدي اخصائيين يسخرونها للصراع الفكري فيصيرونها ادوات. للمشاغبة والتحليل الأخلاقي او مجرد ادوات الفات وتلهية ، ومما نلاحظ أن الكتاب الذي يتعلق بموضوعنا يصدر في عاصمة أوروبية في نفس الوقت مع ترجمته في عاصمة عربية»[17] في قول الاستاذ مالك بن نبي تعميق لوثاقة الصلة بين سؤال المصير والترجمة، ويفتح أعيننا على اشكالات مرتبطة بالهيمنة بالمركز القطب/ وعلاقته بالهامش والتابع فتصبح بذلك الترجمة «فعلا مقاوما للاستعمار، فعلا لا يقل بل يزيد خطورة على المقاومة العسكرية [...] والاقتصادية [...] والسياسية»[18] الترجمة تكون اذن سؤال الهوية والمصير والافاق المفتوحة للمستقبل والمسؤولية المحاسب عليها.
في الإجابة عن سؤال ماذا يقدمه [ الترجمان ] للترجمة.
إن الاستاذ في متن الكتاب لم يعتن او لم تهمه عملية مفهمة الترجمة وتعريفها بقدر ما سعى الى تقرير الممارسة، ممارسة الترجمة كهوية وقسمة أقسمت لنا، اِن الارجاء والاحالة منطق المفهمة الذي اعتمده الكتاب، ذلك لأنه يعطي/يقدم مفهمة [ أخرى ] مغايرة للترجمة. وكما تمت الاشارة فإن بناء الكتاب على حضور الثنائيات ليس تقريرا لها وإنما حضورا/ غيابا والكتاب في جملته هو حمل على اي شكل من اشكال الميتافزيقا/ الهيمنة، ويعيد الاستاذ كل اشكالات هذه المسألة الشائكة الى إشكال واحد هو اشكال اللغة/ اشكال الترجمة.
1 - عز الدين الخطابي- إدريس كثير : في الحاجة إلى ابداع فلسفي. منشورات الزمن عدد 48. 2006. ص 57
2 - د. محمد موهوب. ترجمان الفلسفة. المطبعة و الوراقة الوطنية ،طبعة ثالثة 2018. ص 99
3 - عز الدين الخطابي-إدريس كثير في الحاجة إلى ابداع فلسفي ص56
4 - المصدر نفسه ص 59
5- عز الدين الخطابي-إدريس كثير أسئلة الفلسفة المغربية منشورات الزمن عدد 10 يناير 2000 ص 108-108
6 - عز الدين الخطابي-إدريس كثير في الحاجة إلى ابداع فلسفي ص60
7 - د. محمد موهوب ترجمان الفلسفة ص 50
8 - يورده صاحب الترجمان ص 50
9 - د. محمد موهوب ترجمان الفلسفة ص 34
10- المصدر نفسه ص 35
11 - المصدر نفسه ص 35
12- المصدر نفسه ص 35
13- الجاحظ كتاب الحيوان يورده الاستاذ ص 30
14- ترجمان الفلسفة انظر الصفحة 78
15 - ترجمان الفلسفة انظر الصفحة 80- 81
16 - مالك بن نبي القضايا الكبرى دار الوطن طبعة 2016 ص 166
17 - المصدر نفسه ص 190
18 - ادوارد سعيد الثقافة و الامبريالية يورده د. موهوب ص 53