لغز الأخطبوط: لقاء مع صورة أخرى من الوعي - آن دوبروازAnne Debroise - ترجمة: عبد الله كسابي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

أي لغز هذا؟ انظروا، إنه حيوان أقرب إلى بلح البحر منا. لكنه يلعب، ويستخدم أدوات، وله ذاكرة، ويحل مشكلات. إنه يمتلك ذهنا وحياة عقلية، باستثناء أنها مختلفة تماما عن حياتنا العقلية، ومن الصعب تكوين فكرة عنها. هل يتعلق الأمر بكائن فضائي؟ لا! إنه الأخطبوط. هذا الحيوان لا يكف عن إدهاش العلماء بعضويته وقدراته، وبفضله أعيد ابتكار نظرية تطورية في الوعي.

هل أنتم حقا واثقون من إرادة الخوض في هذا الملف؟ هناك مخاطرة في الأمر: ما من أحد من أولئك الذين لم يسبق لهم أن اقتربوا قط من هذه الرخويات المذهلة، وداعبوا أطرافها، وسبروا نظرتها، من خرج من ذلك كما دخل. فبعد الفضول تنبثق الدهشة، ثم الإحساس بتعقيد مزعج... يتحول إلى مساءلة عميقة لما نكونه، نحن، باعتبارنا نوعا. وهذا ما يقر به لودوفيتش ديكل Ludovic Dickel المختص في علم الأعصاب والسلوك المعرفي الحيواني لرأسيات الأرجل céphalopodes بجامعة كاين Caen: "ليس من المطَمْئِن جدا دراسة الأخطبوط".

لماذا دراسة الأخطبوط مزعجة بهذا القدر؟ احتمالا لأننا لا يمكن أن نتخيل حيوانا أكثر اختلافا عنا: سلالته وسلالتنا افترقتا منذ ما يناهز 650 مليون سنة. وينتمي الأخطبوط إلى الصنف الفرعي للرخويات، مثل المحارات أو الحلزونات أو البزاقات. وداخل هذا الصنف الفرعي، توجد فصيلة رأسيات الأرجل، التي يشترك فيها الأخطبوط مع الحبارات seiches والنوتيلوسات nautiles، هذه الحيوانات ذوات الجسم الرخو، والمزودة رؤوسها بأذرع متحركة. والأخطبوط الذي تقدر أنواعه بثلاثمائة نوع، يمتلك ثمانية من هذه الأذرع، كل منها يتضمن مئات من الماصات. وأسفل رأسه يوجد منقار حاد بواسطته يلتهم سلطعونات وصدفيات.

ولاستكمال هذه العدة الأصيلة، الحيوان مزود بثلاثة قلوب، وبعينين بشبكيتين مستطيلتين- عموديتين على الأرض مهما تكن وضعيته- وبدم يميل إلى الزرقة عند تعرضه للهواء، وبقدرة مدهشة على التجدد.

وبالرغم من هذه العضوية الغريبة، وبالرغم من مئات الملايين من السنين من التطور التي تفصل بيننا، فإن الأخطبوط يظهر سلوكا بديعا ومألوفا بصورة مدهشة. يقول عالم الأعصاب البيولوجية الأمريكي دافيد إيدلمان David Edelman: "أتذكر دائما لقائي الأول مع الأخطبوط. فقد قامت طالبة بتقديم وجبة غذاء، سلطعون حي، لأخطبوط أكواريوم مختبر بحث نابولي. وبينما توجه الحيوان نحو وجبته دخلت الغرفة، فأوقف حركته وشرع في ملاحظتي في عيني مباشرة، وظللنا ننظر إلى بعضنا البعض لمدة ربع ساعة! وعندما تظاهرت بأنني أهم بالمغادرة، تمسك بي واضعا ذراعه على ذراعي: فقوته على التركيز، وقدرته على التحكم في شهيته، وتأخير وجبته من أجل الإبقاء على الاتصال بيني وبينه، كل ذلك أذهلني".

مزحة الأخطبوط الخاصة

الباحثون لا يكتفون من سرد حكايات أخطبوطات تنفث الماء أو المداد، بل وتحيك دسائس محكمة. وهكذا عرف الأخطبوط أوتو Otto المقيم بأكواريوم سي-ستار Sea-Star بمدينة كوبوغ Cobourg بألمانيا، بميله إلى قذف الماء على مصابيح القاعة، محدثا دارات صغيرة مغرقة المكان في الظلام. من الممكن أن تكون مجرد مزحة، أو انتقام أخطبوط: سلوكات مشابهة سجلت بجامعة أوتاغو Ottago بزيلاندا الجديدة.

وإذا كانت هذه الطرائف تبعث على الضحك، فإنها تثير أيضا أسئلة محيرة: كيف يشتغل هذا الذكاء؟ وكيف تدرك هذه الحيوانات نفسها؟ وكيف ترى الأفراد الآخرين، من نوعها أو من نوع آخر؟ وماذا يعني أن يكون الكائن أخطبوطا؟ كل أولئك الذين جاوروا الأخطبوطات كانوا على يقين من أن هذه الكائنات لها قدرات معرفية متطورة وتشعر بانفعالات. لنذهب إذن للقاء شكل آخر من الوعي على كوكب الأرض.

 

بورتريه عائلة مذهلة

300: عدد أنواع الأخطبوطات التي تجوب المحيطات

90%: النسبة المكوَّنة من عضلات بدون عظام من أجسامها، وتمكنها من إيجاد طريقها في حفر ضيقة جدا

200: العدد التقريبي للماصات المبثوثة في كل ذراع من أذرعها

3cm – 5m: النوع الأصغر المعروف من الأخطبوط، المسمى أوكتوبوس وولفي Octopus Wolfi، لا يتعدى طوله 3cm ووزنه 1g. بينما النوع الأكبر، الأخطبوط العملاق للمحيط الهادئ، يصل في المتوسط إلى 5m و50kg

12-24: أمد الحياة المتوسط للأخطبوطات بالأشهر، فبعد التزاوج تلد الأنثى ما يقارب 150000 بيضة، وتحضنها لمدة ثلاثة أشهر إلى غاية الفقس، لتموت بعدها. والذكور تنفق بعدها بوقت وجيز

3: عدد القلوب التي تمتلكها الأخطبوطات، قلب رئيسي وقلبين تنفسيين: مما يرفع من فعالية الدورة الدموية

7000: العمق الأقصى في البحر، حيث صُوِّر أخطبوط الدامبو

420000: بالطن، كمية الأخطبوطات المصطادة في العام 2020 عبر العالم، وبالأخص بالمحيط الهادئ

15-16: درجات الحرارة المئوية الأنسب لازدهار أغلب أنواع الأخطبوطات

بشرة من أجل التخفي والتواصل

يمكن لأخطبوط أن يغير مظهره كليا، في جزء من الثانية: بشرته يمكنها تقليد نتوءات صخرة، أو طحلب، أو شعاب مرجاني. يمكنه أن يتزين برداء رخامي، أو مائل إلى الزرقة، ويمكنه أن يشع بالألوان الحمراء، أو البنفسجية، أو الزرقاء، أو البيضاء، أو أطياف الرمل؛ وهذا بكيفية جد سريعة وأكثر إدهاشا مما نلاحظه لدى الحرباء! وتغيرات الألوان هذه ممكنة بفضل أكياس من المادة الملونة المبثوثة في البشرة: الخلايا حاملات الألوان chromatophores. كل كيس يحتوي لونا من الألوان -أصفر، أحمر، بني، أسود- والذي يصير مرئيا عندما تتقلص العضلات وتجعله منبسطا. وتحت طبقة الخلايا حاملات الألوان، تضم البشرة أيضا خلايا عاكسة للألوان iridophores: إنها خلايا قادرة على تفكيك وعكس الضوء، وتعطي طابعا قزحيا لبشرة الأخطبوطات، وتضيف إليها ألوان الماء الزرقاء والخضراء؛ مما يتيح للحيوان الذي لا قوقعة له، والمعرض للمفترسات، التخفي دون الاختباء بالضرورة. لكن هذا التخفي الدينامي يمكن أن تكون له وظيفة أخرى: التواصل. فقد أوضح الباحثون الأمريكيون، سنة 2016، أن اللون الذي يكتسيه أخطبوطين، اثناء اللقاء بينهما، وثيق الصلة بالتصرف الذي سيليه: الهجوم أم الهرب. لكن لا أحد استطاع لحدود اليوم، فك شفرة "لغة" الأخطبوط هذه.

وعيه بجسمه يتيح له الاستكشاف

عندما يوضع أخطبوط بأكواريوم، فإنه لا يكف عن استكشافه من أجل إيجاد مخرج: إذا كان هناك منفذ، فإنه سيجده! والحيوان لا يشعر بالخوف من الخروج إلى الهواء الحر، أو استعارة أنابيب تغذية من حوضه. ولأن جسمه الرخو قابل لكل أشكال التقلص، يمكن للأخطبوط أن يدخل حفرا ضيقة أو على العكس أن يتمدد لإخافة منافس ما. ويكفي إذن أن يكون الأنبوب أكبر قليلا من عينيه لكي ينحشر فيه: ويتحقق من حجمه بواسطة فحص المدخل بواسطة ذراع. وهذا ليس قليل الأهمية، لأنه يعني أن الأخطبوط لديه وعي بجسمه الخاص وبحجمه.

ميل إلى اللعب ولو في سن النضج

بعد النقر على قاع حوضه، ينظر الأخطبوط إلى الاندفاع الذي يحدثه بلوغ المياه إلى السطح. ويمسك آنئذ بقنينة ويضعها أمام التيار، فيسحبها الماء. ثم من خلال النفخ أسفلها بواسطة أنبوب سيفون الخاص به، يتمكن الحيوان، هذه المرة، من جعلها ترتد مع الموجة! هذا ما لاحظته عالمة النفس الكندية جينيفر مادر Jennifer Mather بأكواريوم سياتل بالولايات المتحدة الأمريكية. أهو لعب؟ يتساءل أدريان ميغيرديتشيان Adrien Meguerditchian المختص في الرئيسات بجامعة مارسيليا: "اللعب شائع جدا لدى الحيوانات، ويعد غريزيا وأساسيا بالنسبة للنمو الذهني والحركي. والسؤال الأكبر يتعلق بمعرفة ما إذا كان وثيق الصلة بقدرات معرفية من مستوى أعلى".

إن اللعب يتيح، لدى الثدييات، على الخصوص، بالإضافة إلى تطوير القدرات الحركية، تطوير القدرات الاجتماعية المرتبطة بالتراتبية داخل المجموعة – ولهذا، فالصغار بالأخص هم الذين يلعبون-. نعم، ولكن: الأخطبوط ليس حيوانا اجتماعيا، ويلعب أيضا في سن النضج. ماذا إذن؟ هل يقوم بهذا للمتعة فقط؟ أم بدافع الفضول؟ وفي كل الأحوال، يعبر الأخطبوط عن قدرته على الإبداع.

معارف ينقلها للتعاطي مع مشكلات جديدة

ضعوا سلطعونا في إناء وأديروا الغطاء وقدموا الكل لأخطبوط. ففي غضون بضع دقائق، سيتمكن من فهم كيفية الوصول إلى طريدته: من خلال الإمساك بالإناء بواسطة ماصات ذراع من أذرعه، والغطاء بماصات ذراع آخر، فإنه يتمكن من إدارة الغطاء في الاتجاه المعاكس والحصول على وجبته. إنه سلوك مدهش، لكنه قابل للتفسير، حسب عالم الأعصاب والسلوك الحيواني لودوفيتش ديكل Ludovic Dickel: "الإناء ما هو إلا تحويل بسيط لمشكلة فتح صمامتي صَدَفَة. والأخطبوط وُجِد لكي يتفحص، ويثني، ويمزق، ويستبعد كل موضوع، بمجرد ما يشعر أنه مكون من أجزاء متمايزة." ويبقى أن نقل قدرة غريزية إلى مشكلة جديدة، ليس بالضرورة أمرا بديهيا، ويمكن أن يعد علامة ذكاء.

تصور لأدوات بوظائف محددة

الأخطبوطات تخفي مدخل مخبئها بواسطة حصى، فليكن. لكن غطاسين وعلماء، تحدثوا عن استخدام للأدوات أكثر تقدما. ففي عرض السواحل الأندونيسية، يمكن معاينة أخطبوطات رخامية اللون - من نوع أمفيوكتوبوس مارجيناتوس Amphioctopus marginatus – تستخدم حبات جوز الهند المقسومة إلى اثنين من لدن الإنسان والملقاة في البحر. وبعض الأخطبوطات تصل إلى حد استخراجها من الرمل وتنظيفها بالماء، ثم نقلها لبضع عشرات من الأمتار، والدخول في نصفها واستغلال النصف الآخر كغطاء، وذلك من أجل الاختباء أو الصيد بالتربص. إن الحيوان إذن قادر على تكييف تقنيته في الصيد مع الأشياء التي بحوزته. بل أيضا التخطيط لفعله، والجمع بين عنصرين مختلفين للحصول على أداة لها وظيفة محددة... مما يوجه رصاصة الرحمة لتصور متقادم يرى في استخدام الأدوات خاصية إنسانية. فبعد الرئيسات، صارت دائرة الكائنات المستخدمة للأدوات تضم، من الآن فصاعدا، حيوانا لافقريا.

قدرة على العيش منفردا أو في "مدن"

الأخطبوط الشائع، كما هو حال جل الأخطبوطات، حيوان منعزل. إنه يقترب من أشباهه فقط اثناء التزاوج. وأيضا، لا يقوم الذكر في هذه الحالة إلا بوضع حيوانات منوية، بواسطة تجويف يوجد أسفل ذراع من أذرعه، تحت غطاء الأنثى. ومع هذا، اكتشف غطاس، العام 2009، بخليج جرفيس Jervis باستراليا، تجمعا فعليا للأخطبوطات! يضم هذا التجمع من 10 إلى 15 أخطبوطا، ذكورا وإناثا، تعيش في شقوق معدة لهذا الغرض، وبجوارها ركام من الصدفات الفارغة، بقايا وجباتها. وسمي ذلك المكان "أوكتابوليس" Octapolis. وبعد بضع سنوات من ذلك، وغير بعيد عن هذا المكان، اكتُشِف موقع مشابه، سرعان ما سمي "أوكتلنتيس" Octlantis. وسلوك أعضاء هذين التجمعين يثير الدهشة: إنها تتفاعل فيما بينها، تحيي البعض بحركة ذراع ودودة، أو تظهر عدوانية مع أخرى، تتمدد لكي تظهر كبر حجمها، وتصبغ على نفسها اللون السود. فهل هذه الكائنات قادرة على التكيف مع نمط جديد من الحياة عندما تتطلب بيئتها ذلك؟ وهل هي قابلة للحياة الاجتماعية؟

نوم تتخلله الأحلام

المشهد يبعث على الحيرة: فالأخطبوط يكف تماما عن الحركة، ويميل لونه إلى البياض، ويبدو نائما. إنه لا يتفاعل إلا قليلا، أو بالأحرى لا يتفاعل البتة، مع فيديوهات سلطعون، الشيء الذي يثير في العادة فضوله. ثم، وبدون مقدمات، تهتز أطراف أذرع الأخطبوط، وتدور عيناه، وتتخلل بشرته أمواج من الألوان المتتابعة. وفي العام 2021، قام باحثون من الجامعة الفيدرالية ريو Rio Grande do Norte بالبرازيل، بتصوير أربع أخطبوطات أثناء نومها وسجلوا مرحلتين: مرحلة بطيئة وأخرى نشطة، وهذه الأخيرة شبيهة بصورة مدهشة، بالنوم الإنساني العميق، الذي تحدث فيه جل أحلامنا. ومع هذا، يظل من المستحيل معرفة ما يكونه النشاط الحلمي للأخطبوط.

ذاكرة عن الأفراد الذين سبق اللقاء بهم

الأخطبوطات لا تتعرف على أشباهها فقط، بل أيضا على البشر! والدليل على هذا قدم من خلال تجربتين سنة 2010. التجربة الأولى شملت 24 أخطبوطا، اعتادوا العيش على شكل أزواج في المحطة الحيوانية لنابولي بإيطاليا. قدمت الأخطبوطات، بعد ذلك، لأخطبوط مجهول بالنسبة إليها، وتطلب تفاعلها معه وقتا أطول مقارنة بتفاعلها مع الأخطبوطات التي تعرفها. وفي أكواريوم سياتل بالولايات المتحدة الأمريكية، أراد فريق من الباحثين معرفة ما إذا كان الأمر ينطبق أيضا على علاقة الأخطبوطات بالبشر. فلمدة أسبوعين، قام شخصان بزيارة 8 أخطبوطات، أحدهما يقدم لها الطعام، والآخر يزعجها بواسطة عصا. وبعد فترة، يكفي أن يظهر الأول لتمد لها الأخطبوطات ذراعا، أو أن يحضر الثاني لتبتعد، وأيضا ليتسارع تنفسها. وباختصار، إنها تتعرف عليهما: فالأخطبوطات قادرة بالفعل على تذكر الوجوه.

شخصية خاصة يعبر عنها سلوك مميز

من الأسماء التي يطلقها علماء الأحياء البحرية على الأخطبوطات التي يقومون بدراستها في الطبيعة أو المختبر: كوندانسكي Kandinsky، ماتيس Matisse، لوكريسيا ماكإيفيل Lucretia McEvil. وهذه الأسماء تعبر عن شخصية هذه الكائنات. لأن الأخطبوطات لها بالفعل شخصية: فقد قامت عالمة النفس جينيفر مادر Jennifer Mather بقياس هذه الشخصية بكيفية موضوعية العام 2007. لقد وضعت 44 أخطبوطا، 7 مرات أمام ثلاث وضعيات مختلفة، لمدة أسبوعين، وقامت بتقييم سلوكها حسب ثلاث درجات: النشاط، والتحاشي، والتفاعل. وكل أخطبوط كانت له طريقة شخصية للتصرف إزاء وضعية معطاة: فبعضها كان عدوانيا، وبعضها الاخر متخوفا، أو لا مباليا البتة!

رحلة في ذهن الأخطبوط...

إذا كان الأخطبوط يقوم بمهمات أكثر تعقيدا، فلأنه مزود بجهاز عصبي متقدم، الشيء الذي يحاول الباحثون فك شفرته.

إن الأخطبوط الشائع، بخلايا عصبية تبلغ 500 مليون (أي ما يتعدى ما لدى قرد الوستيتي)، هو اللافقري الأكثر تطورا. فبفضلها يرى الحيوان، ويتذوق، ويلمس، وينفعل، ويفعل، ويفكر على طريقته. لكن، كيف؟ وما أثر هذا على وجود الأخطبوط؟ وهل هذا جدير بالاهتمام؟

أن يطرح المرء هذا السؤال يعني فحص ما إذا كان الأخطبوط يمتلك وعيا، وما طبيعة الإحساسات التي لديه. ويتعلق الأمر بفحص معرفة معقدة، لكنها مختلفة تماما عن معرفتنا: فكلتاهما تطورتا بشكل منفصل لما يتعدى 600 مليون سنة.

وإذا كان بوسعنا محاولة تخيل التجربة المعرفية المعيشة لدى الشمبانزي، على سبيل المثال، فإن تلك الخاصة بالأخطبوط غريبة تماما بالنسبة إلينا. ومحاولة ذلك تعد أكثر جسارة، في ضوء عدم وجود تعريف للوعي يحظى بالإجماع. ف"الوعي الأولي" conscience d’accès، في معناه الأكثر بساطة، هو ما نفقده عندما نغوص في النوم الخالي من الأحلام، أو في حالة الغيبوبة. إنه على حد تعبير عالم الأعصاب البيولوجي الأمريكي دافيد إدلمان David Edelman: "تجربة مشهد واحد، يتشكل من إدراكات مختلفة متآنية، ومن انفعالات وذكريات". فهل الأخطبوط الذي يغادر جحره مثلا، يشعر أن الضوء الخارجي يخطف بصره؟ وبماذا يشعر عندما يعتصره الجوع، ويزعجه الصيد، ويقلقه كونه معرضا لمفترسات محتملة؟ وكيف يحس بكل هذا في الوقت نفسه؟

الأخطبوط مزود بحياة داخلية

تتيح الأبحاث المختلفة تكوين فكرة صغيرة عن ذلك. فبداية، الجهاز العصبي المتقدم للأخطبوط قادر على أن يجعل له حياة داخلية. ففي رأسه، دماغه به من الخلايا العصبية أكثر مما لدى الفأر، كما أن هذه العصبونات تشكل شبكة معقدة. وهذا ما يصفه لور بونو-بونتيشيللي Laure Bonnaud-Ponticelli من المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي، بقوله: "إنه دماغ حقيقي، مشكل من فصوص مترابطة فيما بينها بوساطة أصْوِرَة، ومحمي في غشاء غضروفي، والذي هو بمثابة جمجمة". وفي منتصف هذا الدماغ، يتربع "الفص العمودي"، الذي يبدو أنه يلعب دور قائد الأوركسترا: إنه يتلقى جزءا من الإشارات ويصدر الأوامر. وفي جانبي هذا الفص العمودي، يوجد فصان بصريان يتلقيان ويعالجان المعلومات البصرية.

لكن هذا الدماغ المركزي، رغم كونه منظما، لا يحتوي في نهاية المطاف، إلا على ثلث الخلايا العصبية للأخطبوط... أما الأخرى فمتناثرة في أذرعه، بما يعادل 50 مليونا في كل ذراع. وهذه الخلايا العصبية تعالج جزءا كبيرا من الإشارات الصادرة عن الماصات: الذوق، والرائحة، والملمس؛ لإن الأخطبوط يتذوق في الوقت نفسه الذي يفحص فيه الأشياء باللمس.

وأكثر طرافة أيضا، أذرع الأخطبوط تتصرف بكيفية مستقلة، ولا تتبادل إلا القليل من المعلومات مع الفص العمودي. وعلى سبيل المقارنة، يلاحظ عالم الأعصاب والسلوك الحيواني لودوفيتش ديكل Ludovic Dickel أن "لدى الإنسان أيضا وظائف معينة مستقلة، كما هو الحال بالنسبة للهضم وخفقان القلب، اللذين ليسا خاضعين لرقابة واعية".

ولهذا يقال، في الغالب، إن الأخطبوط يمتلك تسعة أدمغة: فكل واحد من أذرعه يقوم بمهمات آلية -الحركة، والجس هنا وهناك- وبكيفية أكثر انفصالا مما هو عليه الأمر بالنسبة إلينا عندما نتنفس. أما الجهاز العصبي المركزي، فيركز على ما هو أساسي.

ومن المؤكد، أن الأذرع تتواصل مع الدماغ عندما يتطلب الأمر ذلك: إذا تعرض الأخطبوط للعض من طرف سمكة مثلا، فإنه يشعر بالألم ويمكنه القفز والابتعاد في كليته. وقد سبق للباحثة بجامعة كاليفورنيا جين ألوباي Jean Alupay، أن لاحظت بالأخص كيف أن أخطبوطات المحيط الهندي الجريحة في أذرعها تحمي الأجزاء المتضررة منها.

أعين الثدييات

وأخيرا، تهمين حاسة بصورة خاصة على التجربة المعرفية للأخطبوط: حاسة البصر. ويؤكد توماس كورنان Thomas Cornin من جامعة ماريلاند بالولايات المتحدة الأمريكية، أن الأخطبوطات "حيوانات حادة الإبصار hyper-visuels، إذ لها عينان كبيرتان على جانبي الرأس". إنهما شبيهتان بأعين الثدييات بشبكيتها، وبؤبؤها، وقرنيتها، وبجفنيها أيضا.

اللمس والذوق والألم والإبصار: كيف تُدرَك هذه الإحساسات المختلفة من لدن الأخطبوط وما الذي يمكن أن تخبرنا به عن ذهنها؟ في نظريات الوعي، يتطلب إدراك مشهد واحد أن تكون هذه الإحساسات ترد على ما يسميه الباحث برنارد بارس Bernard Baars ب"فضاء العمل الكلي" espace de travail global، ويتعلق الأمر بما يسمى بالتجربة الذاتية لذاكرة العمل، التي تتيح خلق إحساس بالاستمرارية.

هل يوجد فضاء معرفي كهذا لدى الأخطبوط؟ من المستحيل البرهنة على هذا. لكن سلوك الأخطبوط يكشف أن لديه فعلا ذاكرة للعمل، وذاكرة بعيدة المدى (عن الموضوعات والأفراد والأمكنة)، كما لديه أيضا إدراك لاستمرارية تجربته الشخصية. وفي هذا الإطار، لاحظت عالمة النفس الكندية جينيفر مادر Jennifer Mather أن الأخطبوط يعرف تماما محيط جحره.

وعندما يخرج أخطبوط للصيد، فإنه يفضل استكشاف حفر جديدة. وبتعبير آخر، لديه في رأسه الأمكنة التي سبق له زيارتها. والكيفية التي تخرج بها أخطبوطات معينة قوقعات جوز الهند من الرمل، لتنقلها إلى مكان ملائم للصيد والاختباء داخلها، تبرز أن لديها تتابعا أو اتصالا في الأفكار.

وهذا ليس كل شيء: فالأخطبوط يبدو أنه يمتلك "نظرية في الذهن"، أي أنه قد يستطيع تخيل ما يفكر فيه فرد أو كائن آخر. كيف نفسر اختباء أخطبوط خلف صخرة، إذا لم نفسره بكونه يمتلك فكرة عما يبحث عنه مطارده ويراه؟ وللأخطبوطات أيضا قدرة على حل المشكلات وعلى الابتكار. ففي الفيلم الوثائقي الذي أخرجته بيبا إيرليش Pippa Ehrlich وجيمس ريد James Reed بعنوان: "حكمة الأخطبوط" (2019)، يقدم كريغ فوستر Craig Foster المختص في الوثائقيات، مشهد فرار أخطبوط يلاحقه قرش مخطط، وانتهى به المطاف إلى الاحتماء فوق ظهر المفترس، حيث لا يستطيع الفكان الجارحان النيل منه.

وأثناء عشرات التجارب التي تقوم على تقديم طرائد للأخطبوطات ثم إخفاؤها، أوضح علماء أحياء آخرين أن الأخطبوطات لها تجربة إدراك استمرارية الأشياء: الموضوع، حتى وإن كان خفيا، موجود وسيستمرون في البحث عنه. وهذه القدرة لا يكتسبها الإنسان إلا في الفترة العمرية من 18 إلى 24 شهرا. وتشير لور بونو-بونتيشيللي إلى خاصية أخرى: "إذا وضعنا أخطبوطا في حوض بمخرجين أسطوانيين، فإنه سيختار المخرج الملائم لقطر رأسه. فهو إذن على وعي بجسمه".

ويخلص دافيد إدلمان إلى أن الوعي بالجسم، وبالآخرين، وبالأشياء، والتخطيط والذاكرة... كلها خصائص تشير إلى صورة من الوعي. "لكن دراساتنا تأخذ بالحسبان أن الأمر يتعلق بحيوان له مظهر جسمي، وجهاز حسي، وتجربة حياة مختلفة بجلاء عنا. فتجربته الواعية من المحتمل أنها فريدة مطلقا، ومن المرجح أنها مختلفة جذريا عن التجربة الواعية للكائن الإنساني".

ذكريات وانفعالات؟

ويذهب ستيفان لوري Steven Laureys، عالم الأعصاب بجامعة لييج البلجيكية إلى ما أبعد: "من المرجح أن الوعي لا يختزل إلى حضور أو غياب، فأعمالي حول الإنسان تكشف وجود درجات من الوعي، وبالأخص أثناء تجربة غيبوبة. والدراسات حول الحيوانات تشير إلى أن لديها أيضا، أنماطا متباينة منه".

ويمتلك الأخطبوط واحدا من هذه الأنماط، ومن أكثرها تعقيدا على الأرض، بالإضافة إلى وعي الإنسان. فهل يسمح ذلك بالشعور بانفعالات؟

يجيب لودوفيتش ديكل: "موضوعيا، لا يمكنني تأكيد أن الأخطبوط حساس أو عاطفي، ومن الممكن ألا نتمكن أبدا من البرهنة على ذلك. لكن في أعماقي، أنا على قناعة بأنه يختبر داخليا حالات نفس". حالات نفس تتشكل من ذكريات الأماكن السابقة، وصور المشاهد المهمة، والخوف من المفترسات، والأمل في قوقعات حبات الجوز، وخطط لإنشاء الأشياء، مخابئ معلومة من أجل وضعيات الخطر. وكل هذا في الوقت نفسه، بينما الأذرع الثمانية تستكشف وتشعر وتتذوق كل منها من جانبه... فهل يمكن تخيل هذا؟ f

-         الأذرع تشتغل في استقلالية شبه تامة

كل ذراع يحتوي على 50 مليون خلية عصبية! إنها تعالج الإشارات الصادرة عن الماصات: ذوق، ورائحة، وملمس. وهذا يضاف إليه أنها تتقاسم القليل من المعلومات مع الدماغ المركزي وباقي الأذرع: كل ذراع يتولى وظائف معينة في استقلالية شبه تامة.

-         الفصان البصريان يشغلان موضعا مهما

الدماغ المركزي للأخطبوط يحتوي على فصين بصريين كبيرين: فالبصر يشغل موضعا مهما في إدراكه. وعَيْنَا الأخطبوط مشابهة بصورة مدهشة لأعيننا، بشبكيتهما، وقرنيتهما، وجفنيهما...

-         الفص العمودي يلعب دور قائد الأوركسترا

الفص العمودي هو الذي يتلقى ويعالج وينقل كل المعلومات الصادرة عن المحيط، وعن الفصين البصريين والأذرع. وإذا كانت للأخطبوط حياة داخلية، فهاهنا تمارس نشاطها.

ما هي الألوان التي تراها الأخطبوطات؟

تشبه أعين الأخطبوطات أعيننا، باستثناء أن الخلايا مستقبلات الضوء في قرنيتها لا تتلقى إلا نوعا واحدا من الصبغة بدل ثلاث صبغات، التي تمكن البشر من رؤية الألوان. فهل عالم الأخطبوطات رمادي؟ لا شيء أقل يقينا من هذا: فإذا كان الأخطبوط قادرا على إعادة إنتاج ألوان محيطه، فلأنه يدركها... وبحسب دراسة أمريكية نشرت العام 2016، يستطيع الأخطبوط استغلال الانحرافات البصرية. وبالفعل، عندما يمر الضوء عبر القزحية، فإنه ينحرف وتنشأ تداخلات على مستوى الحواف: ولهذا نرى أحيانا "أقواس قزح" حول هالات الضوء. والقزحية الطويلة جدا للأخطبوط بوسعها تقوية هذه الظاهرة، كما يمكن لنظامه البصري تأويله في صورة ألوان.

... تدفعنا لإعادة النظر في نظرية للوعي...

انبثاق الأخطبوط في دائرة الأنواع المتميزة احتمالا بالوعي، يلزم العلماء بإعادة النظر في مناهجهم.

ظهرت الحياة على الكوكب منذ 3.5 إلى 4 مليارات سنة، ومن المرجح أن ذلك كان في خلية واحدة، سرعان ما صارت قادرة على التفاعل مع الخارج، وعلى التكاثر والتطور. لقد كانت تحثها حينها ميكانيكا بسيطة، بدون جهاز عصبي، وبدون ألم ولا حالات نفس. ومنذئذ، قام التطور بعمله، وجعل الكوكب مأهولا بمليارات الكائنات الحية ... بقدرات معقدة بقدر ما هي باعثة على الدهشة.

ونحن، البشر، أحد نواتج هذا التطور. وإذا كان من الأكيد أننا نمتلك ذهنا مع وعي وعالم عقلي، فإننا قد لا نكون الوحيدين: فالدراسات العلمية تلقي الضوء أكثر فأكثر على آثار وجوده لدى العديد من الحيوانات. مما يثير قائمة عريضة من الأسئلة: كم عدد الكائنات الحية الواعية؟ وما أولها؟ وفي أي لحظة، من مسار التطور، أضاء نور الوعي؟

لقد أحدث الأخطبوط ضجة في هذا البحث العلمي الناشئ. وانبثاقه في دائرة الأنواع المرجح أنها واعية، خلط كل الأوراق. ويعلق عالم بيولوجيا الأعصاب جورج شابوتيي Georges Chapouthier: "لو لم تكن رأسيات الأرجل les céphalopodes موجودة، لكان بوسعنا الاعتقاد بأن الفقريات وحدها تمتلك قدرات الوعي. لكن هذه الحيوانات، المنحدرة من الرخويات، طورت ذكاء مشابها لذلك الذي نجده لدى الفقريات." فالنور إذن قد لا يكون أضيء لمرة واحدة في التاريخ... بل في فروع مختلفة من الكائنات الحية، في مثال بديع عن التقارب التطوري. ومنذئذ، ومن أجل اقتفاء أثر انبثاق الوعي، لم يعد كافيا دراسة ظهور البنيات المعرفية مثل القشرة الدماغية، التي هي دعامة الوظائف العصبية التي توصف بالمتطورة -الاستدلال، والتعلم، والوعي- لدى الفقريات. وهذا ما يؤكده عالم الأعصاب ستيفن لوري Steven Laureys: "لقد بحثنا عن القشرات الدماغية néocortex في الشجرة التطورية، أو على الأقل على بنيات مشابهة، مما دفعنا إلى الاعتقاد بأن قدرات الحيوانات محدودة. لقد كان هذا خطأ: فالحيوان يمكن أن تكون له وظائف معرفية متقدمة بدون قشرة دماغية".

لقد أجبر الأخطبوط الباحثين إذن، على إعادة النظر في مناهجهم. وراهنا، من أجل محاولة العودة إلى أصول الوعي، يجري سلك مسلك رئيسيين: الأول منهما يكمن في اختبار سلوكات الحيوانات الحالية، بحثا عن العلامات المميزة للسلوك الواعي. ثم، بالاستناد على التقارب التطوري للأنواع المختلفة، تحديد السلف المشترك الذي قد تكون برزت لديه هذه الظاهرة للمرة الأولى.

بروتينات مرتبطة بالعصبونات...

يتمثل المسلك الثاني في اتباع النهج نفسه، بالانطلاق، هذه المرة، من التسلسل الجيني، الذي من المفترض أنه يلعب دورا مفتاحيا في الوظائف المعرفية التي توجد في أساس الوعي. وهذا ما شرعت فيه عالمة بيولوجيا النمو كارولين ألبرتان Caroline Albertin، بجامعة شيكاغو، سنة 2005، بالولايات المتحدة الأمريكية، مع جينوم الأخطبوط. لقد اكتشفت الباحثة أن هذا الأخير غني خاصة بالجينات المشفِّرة للبروتينات السكرية (ككاديرنات أولية protocadhérines)، والتي تسمح للخلايا العصبية بأن تتنوع، وأن تنتظم أيضا في شبكة معقدة.

كيف تأتى لهذا الغنى المعرفي أن ينشأ؟ في دراسة نشرت في شهر ماي 2022، بمعية فريق بحث دولي، وضعت كارولين ألبرتان Caroline Albertin الأصبع على هذا الحدث العجيب: "لقد تفاجأنا من معاينة أن التسلسل الجيني للأخطبوط أعيد تنظيمه كاملا في لحظة ما من التطور، كما لو أنه وضع في خلاط."

إن إعادة التنظيم المعرفي هذه حدثت تحت وقع "الجينات القافزة"، المسماة أيضا ب"المتنقلات" transposons. وهذه التسلسلات الجينية الخاصة، التي تمثل 45% من الجينوم البشري، هي قطع من الحمض النووي استُنْسِخَت وقُطِعَت من موضعها الأصلي ونُقِلَت إلى موضع آخر في الجينوم. فلدى الإنسان، نجد بالأخص عائلة الجينات القافزة لين Line، النشطة جدا في التلافيف الدماغية، وهي منطقة عصبية مختصة في التعلم والذاكرة. والحال أن جينات قافزة من هذه العائلة نفسها نشطة أيضا في الفصل العمودي للأخطبوط الشائع... وهذه القدرات العجيبة، قد تكون ناشئة عن نسخ هذه الجينات القافزة وإعادة تنظيمها.

تتبقى فقط معرفة متى حدث التحول في سلالة الأخطبوط. فأسلاف رأسيات الأرجل كانت عبارة عن أضرب من الحلزونات البحرية المزودة بقوقعة حامية: منذ 530 مليون سنة، صارت هذه القوقعة بمثابة أداة للعوم، مما أتاح للصدفيات الصعود والنزول في الماء. وبالموازاة مع ذلك، زُودت هذه الكائنات بأذرع، وبأنبوب لضخ الماء وتوجيه الحركة، واحتمالا بدماغ مركزي للتنسيق بين الأذرع والسباحة.

دماغ معقد

ثم، نحو 275 مليون سنة، حدث التحول الأكثر أهمية. فعلى حد وصف لور بونو-بونتيشيللي Laure Bonnaud-Ponticelli: "القوقعة الخارجية صارت داخلية، واختفت تماما. وهو ما كان ليحدث إلا مع تطور معتبر لوسائل أخرى للحماية ضد المفترسات: عينان متقدمتان، وخلايا ذات قابلية متعددة... ودماغ معقد من أجل التحكم في الكل".

في هذه اللحظة بالذات، بدا أن انبثاق الوعي لا يمكن تلافيه: فمن أجل فرز المعلومات الملائمة من بين العدد الكبير التي تجوب الجهاز العصبي، ومعالجتها بكيفية فعالة وخلاقة، يشكل الوعي مكسبا كبيرا. فالفضاء الواعي يتيح تركيز الانتباه على الإشارات التي تستدعي فحصا متقدما – خوف، لذة، صور، إحساسات، ذوق... - مما سمح لرأسيات الأرجل هذه بالبقاء إلى غاية اليوم، رغم جسمها الرخو والهش.

إن وعي الأخطبوط إذن، ربما ظهر بسرعة كبيرة جدا. وإذا كان بعض العلماء قدموا، سنة 2018، فرضية غريبة: الأخطبوط قد يكون نتاج إصابة الحبار بفيروسات فضائية! فإنه توجد فرضية بديلة أكثر معقولية: رأسيات الأرجل الأولى تعرضت لضغط اصطفائي كبير، أتاح تطور قدراتها المعرفية. فالوعي قد يكون أعطى حلا ووجد بكل بساطة مسلكا للبقاء. f

هناك من أشكال الوعي الحيواني بقدر ما هناك من سبل تطورية (مع رسم توضيحي ص.: 81)

-         لدى الأسماك

بعض الأنواع مثل أسماك الراية واللبر أظهرت علامات على وعي بالذات! فهذا الأخير انبثق إذن لمرات متعددة.

-         لدى الطيور

الكثير من الطيور تعبر عن وعي بالذات، وأخرى تستخدم الأدوات. وبعضها يغرد منفردا، مما يحرر هرمون الأندروفين... هل لمجرد المتعة؟

-         لدى "اللافقريات"

الأخطبوطات يمكنها أن تحوز مستوى من الوعي قريبا مما لدى "الفقريات"، حتى وإن كانت لا تستطيع أن تتعرف على نفسها في المرآة. والنحل يبعث على الدهشة: إنها تعرف بالأخص تقييم مستوى المعرفة الذي لديها...

-         لدى الإنسان

ميتامعرفية، وذكاء، ووعي بالذات... الإنسان يمتلك كل قفزات الوعي التي يلاحظها لدى الحيوانات الأخرى. وإذا كانت هذه الأخيرة تمتلك اشكالا لا نمتلكها؟ لن يكون بوسعنا آنئذ فهمها، ولا إذن العثور عليها...

البحث عن أدلة على الوعي

اختبار الوعي بالذات

إنها التجربة الأشهر، ويتعلق الأمر فيها برسم علامة مرئية على جسم فرد دون علمه، ثم وضعه أمام المرآة. فإذا قام الحيوان بلمس ومحاولة إزالة العلامة من خلال فرك المنطقة المعنية من جسمه الخاص، فذلك لأن لديه الوعي بأن ما يراه على المرآة إنما هو صورة له... وهذا دليل على وعيه بجسمه الخاص. وينجح الأطفال في هذا الاختبار في سن 18 شهرا تقريبا. والعديد من الرئيسات (الشمبانزي، البونوبو، الأورانغتان، الغوريلا) والفيلة وحتى الدلافين تنجح في ذلك. وفي سنة 2008، اجتازت طيور العقعق الاختبار بنجاح. وماذا عن الأخطبوط؟ المحاولات، لحد الآن، فشلت. يتبقى أنه عندما يتعلق الأمر بالفرار من حوض، فإن الأخطبوط يعرف بالضبط المخرج الذي يمكن لجسمه وبالأخص لعينيه الكبيرتين الخروج منه.

إلقاء الضوء على الانحرافات المعرفية

الانحرافات المعرفية تعديلات تطرأ على سلوكاتنا تحت تأثير الحالة المزاجية. إنها تكشف عن وقْع انفعالاتنا على معالجة المعلومة، وإذن عن وجود فضاء مشترك للوعي حيث تتساكن وتتضايف مختلف أبعاد واقع ما. وقد أجرى علماء بولنديون، سنة 2012، تجربة لاختبار وجود هذه الانحرافات المعرفية لدى الفأر، فبعض هذه القوارض، وقد تعلمت الضغط على زر للحصول على جزاء عندما تسمع صوتا، والضغط من جديد لتلافي صعقة كهربائية عند سماع صوت آخر، وُضِعت أمام اختبار صعب: صوت بحدة وسطى! فهل ستقوم القوارض بتأويل الصوت الجديد بتفاؤل، كما لو كان يعلن عن جزاء، أم بتشاؤم، كما لو كان بمثابة تحذير؟ القوارض التي قام الباحثون بمداعبتها وملاطفتها وشعرت بالطمأنينة، ضغطت على الزر المعلن عن الجزاء! فكانت أكثر تفاؤلا، واستبقت بان "كل شيء سيكون على ما يرام."

الكشف عن الميتامعرفية

الميتامعرفية هي قدرة الكائن على تقييم فكره الخاص. ولاختبارها لدى الحيوان، وضع الباحثون على سبيل المثال فأرا أمام اختبار أكثر فأكثر تعقيدا، مع منحه بابا للخروج: إذا خرج منه، فلأنه ليس متأكدا من نفسه. وهذا يعني أن الفئران تعرف أنها لا تعرف. وفي سنة 2013، أوضح باحثون من جامعة سيدني بأستراليا، أن النحل قادر بدوره على الميتامعرفية! يتمثل الاختبار في وضع النحل أمام اختيار الدخول إلى غرفتين، وضع إعلان على جدار كل منهما: صليب وخط أسود. في الغرفة الأولى، يوجد إناء به ماء محلى، وعلى الجدار، الصليب يوجد أعلى الخط. وفي الغرفة الأخرى، الإناء به سائل مر، والصليب أسفل الخط. ولوحظ بأن النحل تعلم بسرعة القيام بالاختيار المناسب. غير أنه بقدر ما يجعل الباحثون الصليب قريبا من الحظ، وصولا إلى وضعه لا في أسفله ولا أعلاه، بل على الخط، بقدر ما يتلافى النحل الاختيار! فالنحل عرف إذن أنه لا يعرف، ولم يرد المخاطرة...

... وعن رفاهية الحيوان

التساؤل عن وعي الحيوانات يفضي لزاما على تساؤل آخر، يتعلق بالاحترام الواجب لها. وحالة الأخطبوط تزيد من حدة الجدال.

بعد الغوص عميقا في ذهن الأخطبوط، فإن المشروع الذي سنتطرق إليه الآن قد يكون صادما... ويتعلق الأمر بالمزرعة التجارية الأولى للأخطبوطات، والتي يفترض أن تشرع في العمل سنة 2023 بلاس بالماس، بجزيرة الكناري الكبرى. فهذا المشروع يثير غضب العديد من المنظمات غير الحكومية: فإضافة إلى انعكاساته البيئية، فإن وضعيته الأخلاقية هي التي توضع موضع مساءلة. هل لدينا الحق لمجرد طلب لذة أهدابنا الذوقية، إخضاع هذا الحيوان الطبيعي لتربية مغلقة، مع أنه يحيا في الطبيعة منعزلا، وله قدرات معرفية جد معقدة؟

إن طرح هذا السؤال ينم عن الثورة الكبرى في الذهنيات بخصوص الإتيقا الحيوانية. فقد مكث الغرب طويلا تحت تأثير فكر الفيلسوف الفرنسي روني ديكارت René Descartes، الذي أقام حدا فاصلا بين الكائنات الإنسانية التي لها نفس وقادرة على التفكير، وبين الحيوانات الأخرى الشبيهة بالآلات والمتحركة بواسطة أوتوماتيزمات. يقول عالم بيولوجيا الأعصاب والفيلسوف جورج شابوتيي Georges Chapouthier: "في الغرب بعد ديكارت، سادت فرضية أن الحيوانات لا تتألم. وهذا ينطبق أيضا على حالة الأطفال الرضع، الذين كانوا يخضعون لعمليات جراحية دون تخدير إلى حدود 1960."

في نهاية القرن 19، شرع العلماء في الاهتمام عن قرب بسلوك الحيوانات. فمع السلوكيين، الذين يرفضون الخوض في الحياة الداخلية الإنسانية أو الحيوانية، صار السلوك تتابعا من الإشراطات: تجربة إيجابية تقوي أو تعزز مواقف معينة، بينما العقاب يفضي إلى تلافيها. ويتعين انتظار مجيء التيار الطبيعي naturaliste في النصف الثاني من القرن العشرين، من أجل طرح السؤال المتعلق بإحساس الحيوانات، والشروع في ملاحظتها في وسطها الطبيعي. وشهادة العلماء الذين عاشوا مع الحيوانات، أمثال عالمة السلوك الحيواني البريطانية جين كودال Jane Goodall مع الشمبانزي، أثارت آنئذ الرأي العام.

تجربة معيشة بضمير المتكلم

توضح الفيلسوفة بالمعهد الوطني للبحث الزراعي فلورونس بورغا Florence Burgat: "بقد أدركنا أن الحيوانات لا تتصرف بكيفية عمياء. إنها تتفاعل مع الموضوعات التي لها دلالة بالنسبة إليها. وهذه القصدية مؤشر على حياة نفسية". وإذا كان من المؤكد عدم وجود أي دليل "صوري" على الوعي الحيواني، إلا أن دراسات مختلفة أبانت عن وجود سلوكات تعبر عن تجربة معيشة بضمير المتكلم لدى العديد من الحيوانات.

وهذا الاستدلال هو الذي قاد مجموعة من العلماء، سنة 2012، إلى تحرير إعلان كامبريدج الشهير. هذا الأخير الذي أوضح أن "البشر ليسوا وحدهم الذين يمتلكون الحوامل العصبية التي تنتج الوعي. فالحيوانات غير الإنسان، بما في ذلك كل الثدييات والطيور، ومخلوقات أخرى عديدة، كالأخطبوطات، تمتلك أيضا هذه الحوامل العصبية".

يدعو إعلان كامبريدج المجتمع إلى إعادة نظر معمقة، لأن الإقرار بوجود وعي لدى الحيوانات يعني أيضا طرح إشكال أخلاقي، والالتزام باحترام سلامتها البدنية، والاهتمام برفاهيتها. وهذا التوجه أعطى أكله: ففي الوقت الراهن، يرى 69 % من الفرنسيين أن رفاهية الحيوان رهان مهم، بحسب استطلاع للمعهد الفرنسي للرأي العام IFOP. وفي الوقت نفسه، يشعر المشرعون بضغط اجتماعي، من أجل أن يمتد هذا الاحترام إلى أشكال من الحياة أكثر فأكثر تنوعا. وتوكد صونيا ديمولان كانسوليي Sonia Desmoulin-Canselier المختصة في الحق الحيواني بجامعة نانت الفرنسية: "نأخذ بالاعتبار أكثر فأكثر رفاهية الحيوان. ففي سنة 2010، أضافت المفوضة الأوروبية للتجريب الحيواني رأسيات الأرجل إلى مجموع الحيوانات التي يجب أن تستفيد من حماية خاصة، دامجة غياها ضمن فئة الكائنات الحية الخاضعة للحماية، والتي ظلت مقتصرة إلى حدود اليوم على الفقريات".

لكن الباحثة تلاحظ أن الهوة الفاصلة بين الإحساس الاجتماعي وبين سن التشريعات، تظل كبيرة: "لا نستطيع الآن القول إن الوضع الحيواني تطور كثيرا. والمؤكد هو أن التشريع الأوروبي أكثر حماية من أي وقت مضى. لكن ذلك الذي يهم حيوانات المزارع له طابع تجزيئي، ولا يخص غير الثدييات. أما الأسماك والحشرات فلم يُشَرْ إليها أبدا." ومهما تكن الشروط في مزرعة الأخطبوطات بجزر الكناري، فإن هذه المزرعة لن تخرق إذن أي قاعدة. وهذا فيه إضرار بأحلام الأخطبوطات بالحرية، إن كانت هذه الأحلام موجودة...

تطلب الأمر قرونا لكي تُعد الحيوانات كائنات ذات حساسية من لدن القانون الفرنسي!

-         1804: وضع القانون المدني الحيوانات ضمن فئة "الممتلكات المنقولة".

-         1850: قانون غرامون Grammont أول قانون لحماية الحيوان، يجرم أشكال سوء المعاملة العلنية للحيوانات. والغرامة تراوحت بين 2 و15 فرنكا، يمكن أن تصحب بيوم إلى خمسة أيام من السجن.

-         1963: القانون الجنائي أقر جنحة القسوة إزاء الحيوانات (المنزلية، أو المدجنة، أو التي في الأسر)، فاصلا إياها عن الأشياء، بعكس القانون المدني.

-         2016: الحيوانات خصص لها الفصل 515-4 al. 1 من القانون المدني بوصفها "كائنات حية ذات حساسية". لكنها تظل خاضعة لنظام الممتلكات.

 

 

 

 

 

 

 

[1]- العنوان الأصلي والمصدر:

L’ÉNIGME POULPE (à la rencontre d’une autre forme de conscience), Science&Vie (N° 1260 septembre 2022), p. : 66-85.

[2]- عبد الله كسابي مفتش تربوي للتعليم الثانوي - المغرب

 

 

 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟