أولا- الترجمة ووعي الذات :
الترجمة ضرورة أملتها ظروف علاقة الإنسان بذاته وبغيره . فمنذ وعى الإنسان ذاته وتميزه عن الآخر , بدأ يبحث عن فهم هذا الآخر ليعزز من فهمه لذاته , أو لتميزه عن ذاك الآخر أو تواصله معه
من هذا المنطلق تعمل الترجمة على فتح الآنية على الغيرية ، وتقحم الآخر في الذات وتوسع دائرة التخيل لدى الإنسان ، وتحفظ ذاكرة الشعوب من الاندثار، وتجعل المرء يسافر عبر الأزمنة والأمكنة دون أن يبارح زمنه الخاص أو مكانه الخاص. كتب مترجمو طبعة الملك جيمس من الكتاب المقدس عام 1611 :" إن الترجمة هي أن نشرع النافذة لكي نتيح للنور أن يدخل ، وأن نكسر القوقعة كيما نأكل اللب ، وأن نزيح الستارة فنرى إلى المكان المقدس ، وأن نرفع الغطاء عن البئر حتى نجد الماء ..."
ولكي يكون التفاعل الثقافي مع الآخر فاعلاً ومؤثراً ومنتجاً، ينبغي لنا أن نعرف الذات بالإضافة إلى معرفتنا للآخر. وإذا كانت الترجمة تساعدنا على معرفة الآخر عن طريق نقل فكره إلينا، فإنها تساعدنا أيضاً على إدراك الذات بطريقتين متكاملتين. الأولى، تقوم الترجمة بتسليط الضوء على الآخر لنتعرّف عليه، وتعرُّفنا عليه يساعدنا على معرفة أنفسنا، لأننا لا يمكننا أن ندرك الذات ما لم نعرف الآخر، فبالآخر يتحدد الأنا. والثانية، هي أن ندرك ذاتنا عن طريق إدراك الآخر لنا. وتقوم الترجمة بنقل تصورات الآخر عنا إلينا. وكما بات معروفا فإن وعي الذات هوأحد الشروط الأساسية لتغيير الواقع الذي يحيط بهذه الذات . وكلما كان المرء واثقا من فكره وصحة وواقعية أهدافه كلما استطاع التعاطي مع الآخر المختلف دون خوف من الوقوع تحت هيمنته , ومثالنا على ذلك حلقات الحوار التي كانت تناقش كل شيء دون وجود لخطوط حمر أو خضر، أيام المأمون ، والمترافقة مع اتساع حركة الترجمة وانفتاحها حتى على فكر وخبرة المجتمعات والدول التي ناصبت الدولة العربية العداء من روم وفرس وغيرهم . فالترجمة لا تكون أداة فاعلة في المساهمة في تطوير مجتمعنا إلا عندما يتوفر شرط قبول التفاعل الحضاري مع المجتمعات المترجم عنها، وبالتالي شرط قبول الاقتباس عن "الآخر". وبالرجوع إلى عصر الازدهار العلمي العربي الإسلامي يتبين لنا بأن ظهور الترجمة وتطورها قد تحققا في مناخ شاعت فيه الحرية الفكرية وشهد انتصار أنصار المعارف الحديثة، الذين شّرعوا الاقتباس عن الأمم الأخرى ، على أنصار المعارف التقليدية، الذين وقفوا في وجه العلوم "الدخيلة". لقد انفتح العرب المسلمون على "الآخر" من دون أي تردد في ذلك العصر.....أما بعد تفكك الدولة القوية جراء الصراعات الداخلية والاستبداد والفساد ، فقد بات المجتمع والفكر واللغة والمصالح والحدود عرضة لجميع أنواع الانتهاكات ، وآل بنا الأمر للنوم لأكثر من أربعة قرون، نفترش الخنوع ونلتحف الغيبيات ، بينما كانت المجتمعات الأخرى تبني بأفكار فلاسفتنا وعلم علمائنا، بالإضافة إلى عناصر أخرى ، مجتمعات متطورة باستمرار .
كذلك فإن حركة الترجمة في عصر النهضة الحديثة ازدهرت، هي الأخرى، في مناخات شهدت ولادة فئة حديثة من المثقفين التنويريين، وتوجهاً رسمياً نحو إقامة نظام تعليمي حديث، حيث شكلت الترجمة، إلى جانب المدارس الحديثة والبعثات والرحلات، قناة رئيسية لانتقال الأفكار والنظم الحديثة إلى البلدان العربية. ولم يكن لهذه الأفكار والنظم أن تنتقل لو لم يقبل المثقف التنويري آنذاك مبدأ التفاعل الحضاري، ويشرعن الاقتباس عن الآخر المتقدم، ويتعامل تعاملاً نقدياً مع التراث، ويتحرر من أسر إشكالية العلاقة بين التراث والمعاصرة ، ويتطلع بصورة لا لبس فيها إلى المستقبل ( د.ماهر الشريف ) .
ثانيا –الترجمة وتطوير اللغة العربية وآدابها
عانى رواد النهضة الحديثة معاناة لغوية شديدة في نحت الألفاظ والمصطلحات العربية الجديدة، وفي نقل الأفكار والنظم الحديثة التي تعرفوها من خلال احتكاكهم بأوروبا،.. وعلى سبيل المثال فإن إتقان فارس الشدياق للغات عديدة، مثل السريانية والإنكليزية والفرنسية، وعمله في حقل الترجمة، قد مكناه من إجراء مقارنات بين هذه اللغات الأجنبية وبين اللغة العربية، دفعته إلى إدراك ضرورة تحديث هذه الأخيرة ، وإغنائها بإدخال مصطلحات جديدة إليها، واستحداث معاجم حديثة تتوافق مع متطلبات العصر. وقد اقترح الشدياق عدة وسائل لنقل الألفاظ الجديدة إلى العربية، مثل التعريب الذي يقوم على نقل الألفاظ الأعجمية بصيغتها وحروفها، لكنه اعتبر بأن اللجوء إلى هذه الوسيلة لا يجب أن يتم إلا في حالة الضرورة، مؤكداً "أن هذا الدخيل إنما يغضى عنه إذا لم يوجد في أصل اللغة ما يرادفه ، أو لم يمكن صوغ مثله". وبالإضافة إلى التعريب، اقترح الشدياق اللجوء إلى إيجاد المرادف للفظ الأجنبي ، أو اشتقاق لفظ مثل اللفظ الأجنبي، إذا انتفى المرادف، حيث كتب :"فما الحاجة إلى أن نقول فبريقة أو كارخانة ولا نقول معمل أو مصنع، أو أن نقول بيمارستان ولا نقول مستشفى ، أو أن نقول ديوان ولا نقول مأمر". وبالإضافة إلى حل مسألة المصطلح الجديد، لعب إتقان اللغات الأجنبية والعمل في حقل الترجمة دوراً مهماً في تحسين أساليب الكتابة العربية في ذلك العصر. ففي مواجهة أساليب كتابة ركيكة يسيطر عليها السجع على حساب المحتوى، وتزخر بالعبارات المسكوكة والمحنطة والمحسنات البديعية ، أكد الإمام محمد عبده، في إطار دعوته إلى تحرير الفكر من التقليد، ضرورة إصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير " سواء في المخاطبات الرسمية بين دواوين الحكومة ومصالحها، أو فيما تنشره الجرائد على الكافة منشئاً أو مترجماً من لغات أخرى ، أو في المراسلات بين الناس"، وقد وصف أحمد فارس الشدياق أحد أعلام اللغة العربية آنذاك معاناته في الترجمة فقال :
ومن فاته التعريب لم يدر ما العنا ولم يصل نار الحرب إلا المحـارب
أرى ألف معنى ما له من مجانس لدينا وألفا ما له ما يناســــــب
وألفا من الألفاظ دون مـرادف وفصلا مكان الوصل والوصل واجب
وأسلوب إيجاز إذا الحال تقتضي أساليب إطناب لتوعي المطالــــب
وعكس الذي مّر أكثر فاتـئـد ألا أيهذا اللائـمي والمعاتـــــب
فيا ليت قومي يعلمون بأنني على نكد التعريب جدي ذاهــــب
غير أن انعكاسات حركة الترجمة في عصر النهضة الحديثة على اللغة العربية لم تقتصر على إغنائها بالمصطلحات الجديدة ، وتحسين أساليب تحريرها، بل إن السرعة التي كان يتطلبها النشر في المجلات والصحف اليومية ، اضطرت المترجمين إلى الكتابة بأسلوب أيسر وأسرع يقوم على النثر المرسل الذي تفهمه عامة القراء ، الأمر الذي أعاد إلى اللغة العربية حيويتها وسهولة الكتابة بها، و القدرة علىالتعبير عن أشياء الحياة اليومية ، كما عن مكنونات النفس وتعبيراتها الابداعية .لقد ساهمت الترجمة فعلا في خلق أجناس أدبية جديدة ، حيث أخذ الكتاب والأدباء يحذون حذو الكتب المترجمة ، فبرز أدب الرواية والقصة القصيرة وفن المسرح، وظهرت حركة تجديد الشعر، وتطور فن كتابة المقالة الأدبية والاجتماعية والعلمية.
ثالثا-- الترجمة والرواية :
يجمع الباحثون والمهتمون بشؤون الترجمة جميعهم تقريبا على أن التأخر في ترجمة الأعمال الأدبية / القصة والرواية تحديدا / إلى اللغة العربية أدى إلى تأخر انتشار هذين الجنسين وتطورهما ومواكبتهما لنظيريهما في الأدب العالمي قياسا بتطور الشعر على سبيل المثال .
في المحاولات الأولى , تعرضت الكتب المترجمة إلى شتى أنواع التحوير والتبديل والتغيير . فقد صدرت أكثر من ترجمة للكتاب الواحد ، مثال كتاب بول وفيرجيني فقد ترجمه سليم صعب عام1864 ثم فرح أنطون عام1902 ثم المنفلوطي في عشرينيات القرن الماضي . كذلك رواية مغامرات تيليماك لفرانسوا دي فينلون ، فقد ترجمها الطهطاوي عام 1867 تحت عنوان " وقائع الأفلاك في أحداث تيليماك " ثم ترجمها جرجس شاهين عطية عام 1885 تحت اسم " وقائع تيليماك " وأخيرا ترجمها وديع الخوري تحت اسم " رواية تيليماك "عام 1912 . هذا الأمر أي تكرار ترجمة المترجم ما يزال يمارس حتى الآن ولنا عودة إليه . جرى أيضا تبديل لعناوين الكتب فكتاب les fables حكايات لافونتين صار اسمه " العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ " وقد ترجمه محمد عثمان جلال عام 1857 .
بالطبع لن نلوم الآن مترجمي تلك الأيام ، فقد كتبوا بلغة عصرهم ، وقد أجبرهم الاستبداد العثماني والوسط الاجتماعي المتخلف على اللجوء إلى التحوير والتبديل. فقد قام الطهطاوي أحد مترجمي كتاب تيليماك على سبيل المثال ، و بقصد تصوير الظلم والاضطهاد وأوضاع الشعب المصري وتخلفه في ظل استبداد الخديوي عباس ، بإضافة فصل كامل على لسان الحكيم الإغريقي عن رحلته إلى السودان . أما المنفلوطي الذي لم يكن يعرف أية لغة أجنبية ، فقد ترجم عدة أعمال عن اللغة الفرنسية ، فكان يضيف ويحذف ويبدل ما شاء له ذلك . ويقول حسن الشريف الذي قدم له رواية ( في سبيل التاج ) : " ...أن المنفلوطي تناول هذه المأساة ، ونقل موضوعها إلى اللغة العربية في قالب روائي جميل ، بعد أن أضاف إليها أشياء وحذف منها أخرى ... ثم يضيف : ولم يفته أن ينقل إلى العربية قطعا كاملة من الرواية ، يستطيع القارئ أن يتبين منها قوة المؤلف .... "
لقد اشتهر من المترجمين بطرس البستاني ورفاعة الطهطاوي سليم نقاش وأديب اسحق ويعقوب صروف ونجيب حداد وعثمان جلال وفرح أنطون وكثيرون غيرهم وقد اطلع القراء العرب على أشهر أعمال الكتاب الفرنسيين مثل فولتير و فيكتور هيغو وفينلون ولافونتين وشاتوبريان والفريد دو موسيه ولامارتين والكسندر ديما وجيل فيرن ، وكذلك المسرحيين الكبار أمثال كورني وراسين وموليير.
إننا لننحني بإجلال أمام هؤلاء الرواد الذين اتهموا بشتى الاتهامات من الإلحاد إلى الزندقة إلى التحلل الأخلاقي ، وتحملوا الكثير في سبيل أن يفتحوا أبواب العربية والفكر العربي أمام رياح العلم والمعرفة . وقد جاء في رسالة وجهها توفيق الحكيم إلى مترجم كتاب هكذا تكلم زارادشت :".. نحن في أشد الحاجة إلى نقل أمهات الآثار الأوروبية لإحداث تلك الثورة الذهنية الكاملة التي يعقبها الإنتاج الشرقي الشخصي المبتكر ..."
منذ الخمسينات ، اتسعت دائرة الترجمة ، فشملت لغات وأنواع وموضوعات جديدة ، بسبب انتشار التعليم ، وإنشاء هيئات للترجمة ، حكومية أو خاصة ، وإرسال الطلاب للدراسة في الخارج ، وتطور وسائل الطباعة والتبادل الثقافي . وفي البداية كانت معظم الترجمات تتم عن اللغتين الفرنسية والانكليزية ، وذلك لانتشار هاتين اللغتين في المدارس والجامعات ، أو نتيجة للإستعمارين الفرنسي والبريطاني للمنطقة ، أما بعد توطد العلاقات بين الدول العربية ومنظومة الدول الاشتراكية السابقة والأوروبية الأخرى ، فقد انتشرت الترجمة عن اللغة الروسية والألمانية والاسبانية وغيرها .
وفيما يتعلق بالرواية الفرنسية ، مدار بحثنا ، فقد اتسعت ترجمتها هي أيضا ، وتعرف القارئ العربي إلى أعمال كثير من الكتاب الفرنسيين المعاصرين والسابقين ، واشتهر عدد كبير من المترجمين المرموقين ، وعموما تتميز الترجمة حاليا بالدقة والوضوح والأمانة للنص الأصلي
رابعا-- واقع ترجمة الرواية الفرنسية في سورية حاليا :
تتميز سورية باهتمامها بالترجمة ، فهناك مديرية للترجمة في وزارة الثقافة ساهمت بنشر عدد كبير من الروايات الفرنسية ، ونشر سلاسل الأعمال الكاملة لبعض كبار الكتاب الفرنسيين ( بلزاك مثلا من ترجمة المهندس ميشيل خوري تولستوي عن الفرنسية ترجمة صياح الجهيم ودوستويوفسكي عن الفرنسية أيضا ترجمة سامي الدروبي ،ومارسيل بروست ترجمة إلياس بديوي وغيرهم) ، وتقوم حاليا بنشر سلسلة الكتاب الشهري التي نشر فيها عدد من الروايات الفرنسية. إن وجود أقسام لتدريس اللغة الفرنسية في جامعات القطر، وعمل وزارة الثقافة، وإنشاء جمعية للترجمة في اتحاد الكتاب العرب ، كل ذلك ساعد في تكوين عدد كبير من المترجمين المبدعين يضيق المجال عن ذكرهم الآن .
كذلك تساهم دور النشر الخاصة في نشر الرواية الفرنسية المترجمة إلى جانب غيرها من الروايات ، لكن يمكنني القول ونتيجة للخبرة العملية ، إن بعضا من دور النشر لا تول الأعمال المترجمة ما يكفي من الاهتمام والعناية ، الأمر الذي يعطي الكتب المترجمة التي تصدرها الوزارة مصداقية أكثر . لن يمكنني تأكيد هذا القول نظرا لغياب الإحصاءات والبيانات المتعلقة بكافة جوانب هذا الموضوع وضيق الوقت. ومما يزيد الأمر تعقيدا غياب نقد الترجمة الذي يعتبر الشرط اللازم لتقدم عملية الترجمة وإيصالها إلى غايتها المنشودة ، كذلك غياب أي اهتمام رسمي ومنهجي برفع كفاءة المترجمين وتطويرها أو بتشجيعهم ودعمهم ماديا.
بيد أننا يمكن أن نسجل الملاحظات التالية على الرواية المترجمة عن اللغة الفرنسية عموما :
1- تعدد الترجمات للعمل ذاته :
وهذا ينجم عن شهرة المؤلف أو العمل في المقام الأول ، وعن غياب التنسيق بين الأشخاص أو الجهات المولجة بشؤون الترجمة على صعيد القطر الواحد أو الأقطار العربية مجتمعة، ولن تكون حال الترجمة أفضل من حال سواها فكما يغيب التنسيق أو حتى التكامل بين العرب في قضايا مصيرية ، فإنه سيغيب هنا في الترجمة ، كما أن هناك أسباب أخرى تتعلق بالبحث عن الربح السريع ، وبصعوبة تداول الكتب أو تنقلها بسهولة بين الأقطار العربية . بالطبع ثمة من يرى في تعدد الترجمات قراءات جديدة للنص الواحد ، لكن يغيب عن أصحاب هذا الرأي أن النص يحتمل في لغته قراءات متعددة لكنه لا يجوز أن يحتمل ترجمات متعددة . إن تعدد الترجمات للعمل الواحد ، إذا لم يكن ثمة ما يبررها مثل سوء الترجمة أو استحالة إعادة طبع ما ترجم أو فقده ، تصبح جهدا ضائعا كان ينبغي صرفه في ترجمة أعمال جديدة 2 - العشوائية :
ونقصد بها الترجمة التي لم تخضع لأسس مدروسة تتعلق باختيار الكتاب أو أهميته وأهمية مؤلفه في بلاده , فقد ترجمت أعمال روائية عادية لكتاب مغمورين في بلادهم ، أو لا تمت بصلة إلى الحاجات الثقافية العربية ، وينجم اختيار مثل هذه الأعمال عن جهل بحاجات المجتمع وعن عدم القدرة على تحديدها تحديدا سليما ، ويأسف المرء هنا لتبديد جهد المترجمين والناشرين والقراء على حد سواء ، فكل جهد ينفق على نقل أعمال رديئة هو جهد تحرم منه أعمال جيدة تلبي حاجة ثقافية حقيقية ، وفي المقابل ، فقد أهملت لأسباب مختلفة ترجمة بعض أعمال كبار الكتاب والمفكرين مثل فولتير ومونتسيكيو و ديدرو . كتب المترجم المبدع عبود كاسوحة الذي كرمته الحكومة الفرنسية عبر سفارتها بدمشق بوسام فارس من رتبة السعف الأكاديمية ، تقديرا لما بذله من جهود في سبيل الثقافة الفرنسية ، ومساهمته في نشر إشعاعها ، كتب في مقدمته لكتاب ديدرو ( ابن شقيق رامو ) الذي ترجمه الشاعر الكبير غوته إلى الألمانية منذ أكثر من مئة وتسعين عاما :" قد تكون جرأة ديدرو النادرة في عرض فكرته وفلسفته ، قد يكون موقفه من الدين والكنيسة ورجالاتها ....ساهما في جعل الذين نقلوا قسما من الفكر الفرنسي في عصر الأنوار إلى العربية يوصدون الباب دونه ، ليبقى في الظل ، فيما أعماله تجوب أرجاء الكون فتتلقفها كافة اللغات .....ديدرو عاش ومات قبل الثورة الفرنسية , والكنيسة في عصره لم تكن قادرة فقط على إحراق أعمال مؤلف لم ترقها – مثلما جرى لبعض أعماله – بل كانت قادرة على إحراقها ومؤلفها أيضا . فأية شجاعة إذن كان يتحلى بها هذا الرجل ؟ وأية جرأة امتاز بها وهو رجل الأدب الوحيد الذي مشى في جنازة مونتيسكيو ؟ " بعد هذا ألا يحق لنا التساؤل ، أيها السادة : كم ديدرو يلزمنا حاليا إذا ؟؟!!!
3-الترجمة عن لغة وسيطة
إذا كانت ترجمة بعض المؤلفات العلمية عن لغة وسيطة أمرا مقبولا لأسباب عديدة ، فإنها تغدو أمرا غير مرحب به من حيث المبدأ عند ترجمة الأعمال الأدبية ، ذلك لأن هذا العمل الأدبي " سيتعرض للتشويه ( الخيانة ) مرتين : مرة عند نقله من لغته الأصلية إلى اللغة الوسيطة , ومرة عند ترجمته عن اللغة الأخيرة إلى اللغة العربية . وعلى هذا الشكل قد تتضاعف الخسارة الأسلوبية والجمالية , بل والدلالية- المضمونية ما يؤدي إلى تحول عمل أدبي عالمي ذي نوعية جمالية وفكرية من الطراز الأول إلى عمل أدبي من الدرجة الثالثة ..... " بحسب ما يقول د.عبده عبود . بيد أن ثمة ما كان يبرر الترجمة عن لغة وسيطة في زمن مضى ، ويتمثل ذلك بعدم توفر المترجمين عن بعض اللغات ، وبأهمية هذه الأعمال وبالحاجة الملحة لها ، ويحفل تاريخ الترجمة في الأدب العربي بترجمات عن لغة وسيطة كانت قمة في الإبداع ، وكتاب كليلة ودمنة الرائع ترجم عن لغة وسيطة في زمنه ، ثم هناك آلام فارتر الذي ترجمه أحمد حسن الزيات عن الفرنسية . وفي زماننا هذا لاقت وما تزال بعض هذه الترجمات نجاحا كبيرا مثل ترجمة د.سامي الدروبي والأستاذ صياح الجهيم لأعمال دستويفسكي وتولستوي عن اللغة الفرنسية ، وربما يعود الدور الأكبر في إنجاح هذه الترجمات إلى مترجمين بعينهم . ويستنتج د.عبود ,حسما لهذه الإشكالية , بأن " مترجما أدبيا موهوبا ينقل العمل عن لغة وسيطة أفضل بكثير من مترجم غير موهوب ينقل العمل الأدبي عن لغته الأصلية " لكن يظل الأفضل تكليف مترجم قدير ومشهود له بنقل هذه الكتب عن لغتها الأصلية!!
4-ترجمة روايات لكتاب عرب كتبت أصلا بالفرنسية :
مثل أعمال أمين المعلوف والطاهر بن جلون وإتيل عدنان وحسين زريق وغيرهم وقد نقل علي باشا المترجم السوري بعض أعمال الطاهر بن جلون بلغة يبدو الكتاب معها وكأنه كتب بالعربية مباشرة . بالطبع لن يكون كل الكتاب العرب الذين يكتبون بالفرنسية بمستوى الطاهر بن جلون أو أمين المعلوف ، ولن نعدم من يرى أن بعض هؤلاء الكتاب ، المترجم لهم ، إنما يكتبون بلغة فرنسية بينما ستظل طريقة تعبيرهم على الأغلب عربية ، وبالتالي قد لا تضيف ترجمة أعمالهم إلى القارئ العربي أكثر مما تضيفه رواية مكتوبة بالعربية أصلا ، وبرأيهم أنه لا ينبغي أن ننشغل بترجمة أعمالهم عن ترجمة أعمال الكتاب الفرنسيين الذين استحقوا الشهرة والجوائز ، وعبروا عن مجتمعاتهم وثقافاتها بلغتهم الفرنسية .
5- الترجمة بتصرف
وفي هذه الترجمة يعمد المترجم إلى تبديل في أسماء أو أحداث القصة . وثمة من حافظ على الأسماء ، لكنه بدل طريقة خطاب أشخاص القصة ، كما فعل المترجم الكبير حسيب كيالي في حكايات القط الجاثم لمارسيل إيمي . جاء في صفحة الغلاف عن الترجمة مايلي :" ...أما الترجمة فهي بمستوى النص إذ أنها تجمع بين دقة البيان العربي وبوهيمية النص الفرنسي ..." فما الذي فعله المترجم ؟ لنأخذ الأمثلة التالية :
- فقالت الصغيرتان : صليا على النبي أيها الأبوان ص 29
- لك – والله صحيح ، أنا لم أفكر في هذا , وحياة ديني فكرة طيبة ص 12
- أنا أعرفه , رأس عنيد والعياذ بالله
- أخزيا الشيطان أيها الأبوان
- وإذا هي تعثر على أبن حلال يتزوجها
- ما غضبك إلا لكونك خرجت من العيد بلا حمص .....
ما أريد قوله من هذه الأمثلة ، أن المترجم حّول أبطال الكتاب الذين لهم لغتهم وطرائق تعبيرهم الخاصة النابعة من شروطهم الحياتية والاجتماعية والنفسية والأخلاقية إلى أشخاص جاؤوا من قلب مدينة سورية مثل دمشق أو حلب ، و بكل مفاهيمهم العربية والإسلامية . وهذا برأيي المتواضع ظلم للمؤلف الفرنسي وكتابه أولا ، إذ أفقدهما الخصوصية المحلية أي ألغى الذات الأخرى التي يسعى العمل الإبداعي لإبرازها بشكل أو بآخر، وتسعى الترجمة للدخول إليها لتحقيق شرط وجودها , وثانيا، فإن المترجم تجنّى على القارئ العربي إذ أفقده فرصة الإطلاع على نمط التفكير وطرق التعبير لدى مجموعة من الأشخاص المختلفين عنه ، وسأبيح لنفسي وصف تصرف المترجم هنا بالوصاية على القارئ ،كما أن تعريب أفكار الأشخاص يدل على رغبة كامنة بعدم قبول الآخر كما هو ، وبعدم التعرف على طريقة تفكيره وتعبيره ، لأننا مرتاحون كما يبدو لما نحن عليه . إن القارئ العربي لو كان يريد قراءة مثل هذه الأفكار والتعابير لما اشترى كتابا مترجما أساسا ، ولوجد في الكتب المؤلفة بالعربية الكثير منها . هنا في الكتب الترجمة ، ينبغي لنا نحن المترجمين أن نظل على الحياد فيما يتعلق بمضمون الكتاب , ذلك لأننا إذا كنا نترجم كمبدعين ، فإننا أعلنا خيارنا منذ اخترنا ترجمة هذا الكتاب وليس غيره .
مصادر البحث:
1 - عن الأنترنيت : / د. ماهر الشريف / أنطون مقدسي / د. علي القاسمي / الاستاذ زهير الخويلدي / د محمد أمطوش / ريشار جاكمو / وغيرهم
2– كتب دراسات وأعمال مترجمة :د.عبدو عبود / عبود كاسوحة /توفيق الحكيم / د. ثائر ديب وغيرهم
ثانيا –الترجمة وتطوير اللغة العربية وآدابها
عانى رواد النهضة الحديثة معاناة لغوية شديدة في نحت الألفاظ والمصطلحات العربية الجديدة، وفي نقل الأفكار والنظم الحديثة التي تعرفوها من خلال احتكاكهم بأوروبا،.. وعلى سبيل المثال فإن إتقان فارس الشدياق للغات عديدة، مثل السريانية والإنكليزية والفرنسية، وعمله في حقل الترجمة، قد مكناه من إجراء مقارنات بين هذه اللغات الأجنبية وبين اللغة العربية، دفعته إلى إدراك ضرورة تحديث هذه الأخيرة ، وإغنائها بإدخال مصطلحات جديدة إليها، واستحداث معاجم حديثة تتوافق مع متطلبات العصر. وقد اقترح الشدياق عدة وسائل لنقل الألفاظ الجديدة إلى العربية، مثل التعريب الذي يقوم على نقل الألفاظ الأعجمية بصيغتها وحروفها، لكنه اعتبر بأن اللجوء إلى هذه الوسيلة لا يجب أن يتم إلا في حالة الضرورة، مؤكداً "أن هذا الدخيل إنما يغضى عنه إذا لم يوجد في أصل اللغة ما يرادفه ، أو لم يمكن صوغ مثله". وبالإضافة إلى التعريب، اقترح الشدياق اللجوء إلى إيجاد المرادف للفظ الأجنبي ، أو اشتقاق لفظ مثل اللفظ الأجنبي، إذا انتفى المرادف، حيث كتب :"فما الحاجة إلى أن نقول فبريقة أو كارخانة ولا نقول معمل أو مصنع، أو أن نقول بيمارستان ولا نقول مستشفى ، أو أن نقول ديوان ولا نقول مأمر". وبالإضافة إلى حل مسألة المصطلح الجديد، لعب إتقان اللغات الأجنبية والعمل في حقل الترجمة دوراً مهماً في تحسين أساليب الكتابة العربية في ذلك العصر. ففي مواجهة أساليب كتابة ركيكة يسيطر عليها السجع على حساب المحتوى، وتزخر بالعبارات المسكوكة والمحنطة والمحسنات البديعية ، أكد الإمام محمد عبده، في إطار دعوته إلى تحرير الفكر من التقليد، ضرورة إصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير " سواء في المخاطبات الرسمية بين دواوين الحكومة ومصالحها، أو فيما تنشره الجرائد على الكافة منشئاً أو مترجماً من لغات أخرى ، أو في المراسلات بين الناس"، وقد وصف أحمد فارس الشدياق أحد أعلام اللغة العربية آنذاك معاناته في الترجمة فقال :
ومن فاته التعريب لم يدر ما العنا ولم يصل نار الحرب إلا المحـارب
أرى ألف معنى ما له من مجانس لدينا وألفا ما له ما يناســــــب
وألفا من الألفاظ دون مـرادف وفصلا مكان الوصل والوصل واجب
وأسلوب إيجاز إذا الحال تقتضي أساليب إطناب لتوعي المطالــــب
وعكس الذي مّر أكثر فاتـئـد ألا أيهذا اللائـمي والمعاتـــــب
فيا ليت قومي يعلمون بأنني على نكد التعريب جدي ذاهــــب
غير أن انعكاسات حركة الترجمة في عصر النهضة الحديثة على اللغة العربية لم تقتصر على إغنائها بالمصطلحات الجديدة ، وتحسين أساليب تحريرها، بل إن السرعة التي كان يتطلبها النشر في المجلات والصحف اليومية ، اضطرت المترجمين إلى الكتابة بأسلوب أيسر وأسرع يقوم على النثر المرسل الذي تفهمه عامة القراء ، الأمر الذي أعاد إلى اللغة العربية حيويتها وسهولة الكتابة بها، و القدرة علىالتعبير عن أشياء الحياة اليومية ، كما عن مكنونات النفس وتعبيراتها الابداعية .لقد ساهمت الترجمة فعلا في خلق أجناس أدبية جديدة ، حيث أخذ الكتاب والأدباء يحذون حذو الكتب المترجمة ، فبرز أدب الرواية والقصة القصيرة وفن المسرح، وظهرت حركة تجديد الشعر، وتطور فن كتابة المقالة الأدبية والاجتماعية والعلمية.
ثالثا-- الترجمة والرواية :
يجمع الباحثون والمهتمون بشؤون الترجمة جميعهم تقريبا على أن التأخر في ترجمة الأعمال الأدبية / القصة والرواية تحديدا / إلى اللغة العربية أدى إلى تأخر انتشار هذين الجنسين وتطورهما ومواكبتهما لنظيريهما في الأدب العالمي قياسا بتطور الشعر على سبيل المثال .
في المحاولات الأولى , تعرضت الكتب المترجمة إلى شتى أنواع التحوير والتبديل والتغيير . فقد صدرت أكثر من ترجمة للكتاب الواحد ، مثال كتاب بول وفيرجيني فقد ترجمه سليم صعب عام1864 ثم فرح أنطون عام1902 ثم المنفلوطي في عشرينيات القرن الماضي . كذلك رواية مغامرات تيليماك لفرانسوا دي فينلون ، فقد ترجمها الطهطاوي عام 1867 تحت عنوان " وقائع الأفلاك في أحداث تيليماك " ثم ترجمها جرجس شاهين عطية عام 1885 تحت اسم " وقائع تيليماك " وأخيرا ترجمها وديع الخوري تحت اسم " رواية تيليماك "عام 1912 . هذا الأمر أي تكرار ترجمة المترجم ما يزال يمارس حتى الآن ولنا عودة إليه . جرى أيضا تبديل لعناوين الكتب فكتاب les fables حكايات لافونتين صار اسمه " العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ " وقد ترجمه محمد عثمان جلال عام 1857 .
بالطبع لن نلوم الآن مترجمي تلك الأيام ، فقد كتبوا بلغة عصرهم ، وقد أجبرهم الاستبداد العثماني والوسط الاجتماعي المتخلف على اللجوء إلى التحوير والتبديل. فقد قام الطهطاوي أحد مترجمي كتاب تيليماك على سبيل المثال ، و بقصد تصوير الظلم والاضطهاد وأوضاع الشعب المصري وتخلفه في ظل استبداد الخديوي عباس ، بإضافة فصل كامل على لسان الحكيم الإغريقي عن رحلته إلى السودان . أما المنفلوطي الذي لم يكن يعرف أية لغة أجنبية ، فقد ترجم عدة أعمال عن اللغة الفرنسية ، فكان يضيف ويحذف ويبدل ما شاء له ذلك . ويقول حسن الشريف الذي قدم له رواية ( في سبيل التاج ) : " ...أن المنفلوطي تناول هذه المأساة ، ونقل موضوعها إلى اللغة العربية في قالب روائي جميل ، بعد أن أضاف إليها أشياء وحذف منها أخرى ... ثم يضيف : ولم يفته أن ينقل إلى العربية قطعا كاملة من الرواية ، يستطيع القارئ أن يتبين منها قوة المؤلف .... "
لقد اشتهر من المترجمين بطرس البستاني ورفاعة الطهطاوي سليم نقاش وأديب اسحق ويعقوب صروف ونجيب حداد وعثمان جلال وفرح أنطون وكثيرون غيرهم وقد اطلع القراء العرب على أشهر أعمال الكتاب الفرنسيين مثل فولتير و فيكتور هيغو وفينلون ولافونتين وشاتوبريان والفريد دو موسيه ولامارتين والكسندر ديما وجيل فيرن ، وكذلك المسرحيين الكبار أمثال كورني وراسين وموليير.
إننا لننحني بإجلال أمام هؤلاء الرواد الذين اتهموا بشتى الاتهامات من الإلحاد إلى الزندقة إلى التحلل الأخلاقي ، وتحملوا الكثير في سبيل أن يفتحوا أبواب العربية والفكر العربي أمام رياح العلم والمعرفة . وقد جاء في رسالة وجهها توفيق الحكيم إلى مترجم كتاب هكذا تكلم زارادشت :".. نحن في أشد الحاجة إلى نقل أمهات الآثار الأوروبية لإحداث تلك الثورة الذهنية الكاملة التي يعقبها الإنتاج الشرقي الشخصي المبتكر ..."
منذ الخمسينات ، اتسعت دائرة الترجمة ، فشملت لغات وأنواع وموضوعات جديدة ، بسبب انتشار التعليم ، وإنشاء هيئات للترجمة ، حكومية أو خاصة ، وإرسال الطلاب للدراسة في الخارج ، وتطور وسائل الطباعة والتبادل الثقافي . وفي البداية كانت معظم الترجمات تتم عن اللغتين الفرنسية والانكليزية ، وذلك لانتشار هاتين اللغتين في المدارس والجامعات ، أو نتيجة للإستعمارين الفرنسي والبريطاني للمنطقة ، أما بعد توطد العلاقات بين الدول العربية ومنظومة الدول الاشتراكية السابقة والأوروبية الأخرى ، فقد انتشرت الترجمة عن اللغة الروسية والألمانية والاسبانية وغيرها .
وفيما يتعلق بالرواية الفرنسية ، مدار بحثنا ، فقد اتسعت ترجمتها هي أيضا ، وتعرف القارئ العربي إلى أعمال كثير من الكتاب الفرنسيين المعاصرين والسابقين ، واشتهر عدد كبير من المترجمين المرموقين ، وعموما تتميز الترجمة حاليا بالدقة والوضوح والأمانة للنص الأصلي
رابعا-- واقع ترجمة الرواية الفرنسية في سورية حاليا :
تتميز سورية باهتمامها بالترجمة ، فهناك مديرية للترجمة في وزارة الثقافة ساهمت بنشر عدد كبير من الروايات الفرنسية ، ونشر سلاسل الأعمال الكاملة لبعض كبار الكتاب الفرنسيين ( بلزاك مثلا من ترجمة المهندس ميشيل خوري تولستوي عن الفرنسية ترجمة صياح الجهيم ودوستويوفسكي عن الفرنسية أيضا ترجمة سامي الدروبي ،ومارسيل بروست ترجمة إلياس بديوي وغيرهم) ، وتقوم حاليا بنشر سلسلة الكتاب الشهري التي نشر فيها عدد من الروايات الفرنسية. إن وجود أقسام لتدريس اللغة الفرنسية في جامعات القطر، وعمل وزارة الثقافة، وإنشاء جمعية للترجمة في اتحاد الكتاب العرب ، كل ذلك ساعد في تكوين عدد كبير من المترجمين المبدعين يضيق المجال عن ذكرهم الآن .
كذلك تساهم دور النشر الخاصة في نشر الرواية الفرنسية المترجمة إلى جانب غيرها من الروايات ، لكن يمكنني القول ونتيجة للخبرة العملية ، إن بعضا من دور النشر لا تول الأعمال المترجمة ما يكفي من الاهتمام والعناية ، الأمر الذي يعطي الكتب المترجمة التي تصدرها الوزارة مصداقية أكثر . لن يمكنني تأكيد هذا القول نظرا لغياب الإحصاءات والبيانات المتعلقة بكافة جوانب هذا الموضوع وضيق الوقت. ومما يزيد الأمر تعقيدا غياب نقد الترجمة الذي يعتبر الشرط اللازم لتقدم عملية الترجمة وإيصالها إلى غايتها المنشودة ، كذلك غياب أي اهتمام رسمي ومنهجي برفع كفاءة المترجمين وتطويرها أو بتشجيعهم ودعمهم ماديا.
بيد أننا يمكن أن نسجل الملاحظات التالية على الرواية المترجمة عن اللغة الفرنسية عموما :
1- تعدد الترجمات للعمل ذاته :
وهذا ينجم عن شهرة المؤلف أو العمل في المقام الأول ، وعن غياب التنسيق بين الأشخاص أو الجهات المولجة بشؤون الترجمة على صعيد القطر الواحد أو الأقطار العربية مجتمعة، ولن تكون حال الترجمة أفضل من حال سواها فكما يغيب التنسيق أو حتى التكامل بين العرب في قضايا مصيرية ، فإنه سيغيب هنا في الترجمة ، كما أن هناك أسباب أخرى تتعلق بالبحث عن الربح السريع ، وبصعوبة تداول الكتب أو تنقلها بسهولة بين الأقطار العربية . بالطبع ثمة من يرى في تعدد الترجمات قراءات جديدة للنص الواحد ، لكن يغيب عن أصحاب هذا الرأي أن النص يحتمل في لغته قراءات متعددة لكنه لا يجوز أن يحتمل ترجمات متعددة . إن تعدد الترجمات للعمل الواحد ، إذا لم يكن ثمة ما يبررها مثل سوء الترجمة أو استحالة إعادة طبع ما ترجم أو فقده ، تصبح جهدا ضائعا كان ينبغي صرفه في ترجمة أعمال جديدة 2 - العشوائية :
ونقصد بها الترجمة التي لم تخضع لأسس مدروسة تتعلق باختيار الكتاب أو أهميته وأهمية مؤلفه في بلاده , فقد ترجمت أعمال روائية عادية لكتاب مغمورين في بلادهم ، أو لا تمت بصلة إلى الحاجات الثقافية العربية ، وينجم اختيار مثل هذه الأعمال عن جهل بحاجات المجتمع وعن عدم القدرة على تحديدها تحديدا سليما ، ويأسف المرء هنا لتبديد جهد المترجمين والناشرين والقراء على حد سواء ، فكل جهد ينفق على نقل أعمال رديئة هو جهد تحرم منه أعمال جيدة تلبي حاجة ثقافية حقيقية ، وفي المقابل ، فقد أهملت لأسباب مختلفة ترجمة بعض أعمال كبار الكتاب والمفكرين مثل فولتير ومونتسيكيو و ديدرو . كتب المترجم المبدع عبود كاسوحة الذي كرمته الحكومة الفرنسية عبر سفارتها بدمشق بوسام فارس من رتبة السعف الأكاديمية ، تقديرا لما بذله من جهود في سبيل الثقافة الفرنسية ، ومساهمته في نشر إشعاعها ، كتب في مقدمته لكتاب ديدرو ( ابن شقيق رامو ) الذي ترجمه الشاعر الكبير غوته إلى الألمانية منذ أكثر من مئة وتسعين عاما :" قد تكون جرأة ديدرو النادرة في عرض فكرته وفلسفته ، قد يكون موقفه من الدين والكنيسة ورجالاتها ....ساهما في جعل الذين نقلوا قسما من الفكر الفرنسي في عصر الأنوار إلى العربية يوصدون الباب دونه ، ليبقى في الظل ، فيما أعماله تجوب أرجاء الكون فتتلقفها كافة اللغات .....ديدرو عاش ومات قبل الثورة الفرنسية , والكنيسة في عصره لم تكن قادرة فقط على إحراق أعمال مؤلف لم ترقها – مثلما جرى لبعض أعماله – بل كانت قادرة على إحراقها ومؤلفها أيضا . فأية شجاعة إذن كان يتحلى بها هذا الرجل ؟ وأية جرأة امتاز بها وهو رجل الأدب الوحيد الذي مشى في جنازة مونتيسكيو ؟ " بعد هذا ألا يحق لنا التساؤل ، أيها السادة : كم ديدرو يلزمنا حاليا إذا ؟؟!!!
3-الترجمة عن لغة وسيطة
إذا كانت ترجمة بعض المؤلفات العلمية عن لغة وسيطة أمرا مقبولا لأسباب عديدة ، فإنها تغدو أمرا غير مرحب به من حيث المبدأ عند ترجمة الأعمال الأدبية ، ذلك لأن هذا العمل الأدبي " سيتعرض للتشويه ( الخيانة ) مرتين : مرة عند نقله من لغته الأصلية إلى اللغة الوسيطة , ومرة عند ترجمته عن اللغة الأخيرة إلى اللغة العربية . وعلى هذا الشكل قد تتضاعف الخسارة الأسلوبية والجمالية , بل والدلالية- المضمونية ما يؤدي إلى تحول عمل أدبي عالمي ذي نوعية جمالية وفكرية من الطراز الأول إلى عمل أدبي من الدرجة الثالثة ..... " بحسب ما يقول د.عبده عبود . بيد أن ثمة ما كان يبرر الترجمة عن لغة وسيطة في زمن مضى ، ويتمثل ذلك بعدم توفر المترجمين عن بعض اللغات ، وبأهمية هذه الأعمال وبالحاجة الملحة لها ، ويحفل تاريخ الترجمة في الأدب العربي بترجمات عن لغة وسيطة كانت قمة في الإبداع ، وكتاب كليلة ودمنة الرائع ترجم عن لغة وسيطة في زمنه ، ثم هناك آلام فارتر الذي ترجمه أحمد حسن الزيات عن الفرنسية . وفي زماننا هذا لاقت وما تزال بعض هذه الترجمات نجاحا كبيرا مثل ترجمة د.سامي الدروبي والأستاذ صياح الجهيم لأعمال دستويفسكي وتولستوي عن اللغة الفرنسية ، وربما يعود الدور الأكبر في إنجاح هذه الترجمات إلى مترجمين بعينهم . ويستنتج د.عبود ,حسما لهذه الإشكالية , بأن " مترجما أدبيا موهوبا ينقل العمل عن لغة وسيطة أفضل بكثير من مترجم غير موهوب ينقل العمل الأدبي عن لغته الأصلية " لكن يظل الأفضل تكليف مترجم قدير ومشهود له بنقل هذه الكتب عن لغتها الأصلية!!
4-ترجمة روايات لكتاب عرب كتبت أصلا بالفرنسية :
مثل أعمال أمين المعلوف والطاهر بن جلون وإتيل عدنان وحسين زريق وغيرهم وقد نقل علي باشا المترجم السوري بعض أعمال الطاهر بن جلون بلغة يبدو الكتاب معها وكأنه كتب بالعربية مباشرة . بالطبع لن يكون كل الكتاب العرب الذين يكتبون بالفرنسية بمستوى الطاهر بن جلون أو أمين المعلوف ، ولن نعدم من يرى أن بعض هؤلاء الكتاب ، المترجم لهم ، إنما يكتبون بلغة فرنسية بينما ستظل طريقة تعبيرهم على الأغلب عربية ، وبالتالي قد لا تضيف ترجمة أعمالهم إلى القارئ العربي أكثر مما تضيفه رواية مكتوبة بالعربية أصلا ، وبرأيهم أنه لا ينبغي أن ننشغل بترجمة أعمالهم عن ترجمة أعمال الكتاب الفرنسيين الذين استحقوا الشهرة والجوائز ، وعبروا عن مجتمعاتهم وثقافاتها بلغتهم الفرنسية .
5- الترجمة بتصرف
وفي هذه الترجمة يعمد المترجم إلى تبديل في أسماء أو أحداث القصة . وثمة من حافظ على الأسماء ، لكنه بدل طريقة خطاب أشخاص القصة ، كما فعل المترجم الكبير حسيب كيالي في حكايات القط الجاثم لمارسيل إيمي . جاء في صفحة الغلاف عن الترجمة مايلي :" ...أما الترجمة فهي بمستوى النص إذ أنها تجمع بين دقة البيان العربي وبوهيمية النص الفرنسي ..." فما الذي فعله المترجم ؟ لنأخذ الأمثلة التالية :
- فقالت الصغيرتان : صليا على النبي أيها الأبوان ص 29
- لك – والله صحيح ، أنا لم أفكر في هذا , وحياة ديني فكرة طيبة ص 12
- أنا أعرفه , رأس عنيد والعياذ بالله
- أخزيا الشيطان أيها الأبوان
- وإذا هي تعثر على أبن حلال يتزوجها
- ما غضبك إلا لكونك خرجت من العيد بلا حمص .....
ما أريد قوله من هذه الأمثلة ، أن المترجم حّول أبطال الكتاب الذين لهم لغتهم وطرائق تعبيرهم الخاصة النابعة من شروطهم الحياتية والاجتماعية والنفسية والأخلاقية إلى أشخاص جاؤوا من قلب مدينة سورية مثل دمشق أو حلب ، و بكل مفاهيمهم العربية والإسلامية . وهذا برأيي المتواضع ظلم للمؤلف الفرنسي وكتابه أولا ، إذ أفقدهما الخصوصية المحلية أي ألغى الذات الأخرى التي يسعى العمل الإبداعي لإبرازها بشكل أو بآخر، وتسعى الترجمة للدخول إليها لتحقيق شرط وجودها , وثانيا، فإن المترجم تجنّى على القارئ العربي إذ أفقده فرصة الإطلاع على نمط التفكير وطرق التعبير لدى مجموعة من الأشخاص المختلفين عنه ، وسأبيح لنفسي وصف تصرف المترجم هنا بالوصاية على القارئ ،كما أن تعريب أفكار الأشخاص يدل على رغبة كامنة بعدم قبول الآخر كما هو ، وبعدم التعرف على طريقة تفكيره وتعبيره ، لأننا مرتاحون كما يبدو لما نحن عليه . إن القارئ العربي لو كان يريد قراءة مثل هذه الأفكار والتعابير لما اشترى كتابا مترجما أساسا ، ولوجد في الكتب المؤلفة بالعربية الكثير منها . هنا في الكتب الترجمة ، ينبغي لنا نحن المترجمين أن نظل على الحياد فيما يتعلق بمضمون الكتاب , ذلك لأننا إذا كنا نترجم كمبدعين ، فإننا أعلنا خيارنا منذ اخترنا ترجمة هذا الكتاب وليس غيره .
مصادر البحث:
1 - عن الأنترنيت : / د. ماهر الشريف / أنطون مقدسي / د. علي القاسمي / الاستاذ زهير الخويلدي / د محمد أمطوش / ريشار جاكمو / وغيرهم
2– كتب دراسات وأعمال مترجمة :د.عبدو عبود / عبود كاسوحة /توفيق الحكيم / د. ثائر ديب وغيرهم