عند عرض الكلمتين اللاتينيتين (Mundus imaginalis) كعنوان لهذا النقاش نويت أن أعالج نظاما دقيقا من التناظر الواقعي للدقة السائدة للإدراك الحسي , لأن علم المصطلح اللاتيني يعطي الأفضلية من خلال وضعنا مع التعبير التقني والنقطة المثبتة في المصدر والتي نستطيع من خلالها مقارنة التنويعات بشكل اقل أو اكبر للمرادفات المحيرة التي تقترحها لغتنا المعاصرة لنا.
سأثبت حالا هذه الحقيقة وهي أن الاختيار لهاتين الكلمتين قد فرض نفسه علي فيما مضى لأنه كان من المستحيل - في ما ترجمت وقلت – أن أكون مقتنعا بكلمة خيال (Imaginary) .
مما لا جدال فيه إن هذا نقد موجه إلينا نحن الذين نعرف أن استخدام اللغة يعيق الاستعانة بهذه الكلمة ذلك أننا نحاول تقييمها بحس ايجابي وبغض النظر عن جهودنا , يبدو, أننا لا نستطيع منع استخدام هذا المصطلح (الخيال) عن الاستعمال الدارج , لأنه ليس متعمدا , أن يكون استخدامه مساويا لمغزى ما هو غير حقيقي لأنه شيء ما هناك وسيبقى خارج كينونته ووجود مختصر كشيء طوباوي ( utopian ( وأنا بالتأكيد ملزم بإيجاد مصطلح آخر لأنني ولعدة سنوات كنت وبحكم مهنتي وحرفتي مترجم للنصوص العربية والفارسية وهو الغرض الذي عتبر(نفسي) فيه خائنا لو أنني كنت ببساطة مقتنعا كليا أو حتى بشكل مساو أو بشيء من الحذر بمصطلح الخيال .
بكلمة أخرى , لو أننا عادة تحدثنا عن مصطلح الخيال ( Imaginary ) كشيء مساو لما هو غير حقيقي فان اليوتوبيا لذلك يجب أن تحتوي على علامة لشيء ما , وعلى عكس ذلك الشيء يجب علينا أن نختبر معا باختصار طبيعة الحقيقة التي تمت تسميتها ب(الخيال والمتخيل) وكيف وصفها متصوفونا في الإسلام ب (الإقليم الثامن ) ومن ثم سنختبر الوسيلة التي ستدرك هذه الحقيقة ,أعني, الوعي المتخيل أو الوعي الادراكي وفي النهاية سنقدم عدة أمثلة ومن خلالها بالطبع ستقترح لنا (طوبوغرافيا) لتلك العوالم المتداخلة كما تراءت للذين كانوا في الحقيقة هناك.
الإقليم الثامن* Eight Climate :-
لقد أشرت إلى كلمة (يوتوبيا) انه لشيء غريب أو مثال حاسم لأن مؤلفينا يستعملون المصطلح باللغة الفارسية ) Na-kojd-Abad ( والذي يبدو أنه أصله اللغوي والذي يعني( أرض اللامكان) وهذا يعني على أية حال شيئا مختلفا كليا عن كلمة يوتوبيا .
لنأخذ القصص الجميلة جدا , القصص الرؤيوية الروحية المتزامنة والتي كتبها السهروردي بالفارسية .
في كل مرة يجد الرائي نفسه في بداية القصة في حضرة شخصية خارقة الجمال حيث يسأله الرائي عن نفسه ومن أي مكان أتى . مثل هذه القصص توضح بالدرجة الأساس الخبرة الروحية التي عاشت كتاريخ شخصي لإنسان غريب والذي يطمح بالعودة إلى موطنه .
في بداية القصة التي عنونها السهروردي ب(الملاك القرمزي) نرى الأسير الذي هرب توا من رقابة سجانيه , هكذا, ترك ولو مؤقتا عالم الخبرة الحسية وقد وجد نفسه في صحراء في حضرة الشخصية المذكورة آنفا وهو يرى فيه كل سحر الشباب ويسأله ( أيها الشاب من أتيت؟ ) فيتلقى هذا الجواب ....ماذا ؟ أنا أول من ولد من خلق الخالق وأنت تناديني بالشاب ؟ (في المصطلح الغنوصي يعني المخلوق الأول) ...هنا في هذا الأصل يكمن سر اللون القرمزي الذي يتلبس سحنته وهو ما يكون النور النقي الذي ينير العالم المحسوس طاغيا على قرمزية السحر.
( لقد أتيت من وراء جبل قاف...انه هناك في البدء حيث تكون نفسك وهناك حيث تعود لتتخلص من قيودك).
جبل قاف هو جبل كوني تكون من ذروة إلى ذروة ومن واد إلى واد عبر المنازل الفلكية التي تستدير من جهة لأخرى ..إذن أين الطريق الذي يقود إلى خارجها وكم طوله؟ وقد قيل له ( لا يهم مقدار المسافة التي تسيرها لأنها هي نقطة المغادرة التي ستعود إليها مرة ثانية كنقطة الفرجال العائدة إلى نفس المكان ).
هل يشمل هذا ببساطة أن تغادر نفسك لكي تعود إليها؟ ليس بالضبط فما بين الاثنين حدث عظيم سيغير كل شيء , فالنفس التي ستوجد هناك هي النفس التي خلف جبل قاف وهي نفس سامية في شخص آخر ..ستكون بالضرورة كالخضر (النبي العارف والباحث الأبدي) الذي يستحم في ربيع الحياة الأبدية وهو الذي وجد معنى الحقيقة الموصلة لذلك الربيع حينما يبزغ منها وهو الذي حاز الأهلية التي ستجعله كالبلسم ...قطرة منه تنزل في راحة يدك ستبدو كالشمس المشعة , فلو كنت كالخضر ستمر بلا صعوبات عبر جبل قاف.
هناك ايضا قصتان صوفيتان أخريتان تدعى " مابعد جبل قاف " وهو الاسم نفسه الذي يؤشر التحول من جبل كوني الى جبل نفسي كوني وهذا ما يمثل التغير في الكون الفيزياوي الذي يتضمن المستوى الاول للكون الروحي .
في قصة السهروردي التي تدعى " حفيف اجنحة جبرائيل " تتكرر الشخصية التي وردت في اعمال ابن سينا وهي شخصية حي ابن يقظان الذي تم اختياره كملاك قرمزي كبير والاسئلة التي يجب ان تطرح قد تم طرحها والجواب كان لقد قدمت من اليوتوبيا ) Na-kojd-Abad ( واخيرا في الحكاية التي تدعى (مؤنس العشاق ) والتي تدور على مسرح كوني لثلاثة مفاهيم أو ثلاث شخصيات درامية هي الجمال والحب والحزن حيث يظهر الحزن في شخصية يعقوب الذي يبكي من اجل يوسف في ارض كنعان وردا على السوأل الموجه " أي افق قد اخترقت كي تصل الى هنا ؟ " ويعود نفس الجواب " لقد قدمت من ارض Na-kojd-Abad (اليوتوبيا) .
كلمة Na-kojd-Abad تمثل مصطلحا غريبا وهو غير موجود في اي قاموس للغة الفارسية لكن تم اشتقاقه ، على حد علمي ، من قبل السهروردي نفسه من المصادر الاصلية للغة الفارسية بشكل حرفي كما بينت ذلك قبل قليل ، انه يؤشر مدينة او بلادا او ارضا حيث لا مكان ولهذا تظهر هذه الكلمة كمكافي مضبوط لمصطلح لتعبير اليوتوبيا الذي من الناحية الأخرى لايوجد في قواميس اللغة اليونانية وقام باشتقاقه توماس مور كأسم نظري لتعيين غياب اي موضع لأي مكان قائم يمكن اكتشافه وقابل للأثبات من خلال احاسيسنا فقط .
اشتقاقيا بشكل حرفي يمكن اعتبار كلمة Na-kojd-Abad هي ترجمة مضبوطة لكلمة اليوتوبيا ومع اخذ الفكرة بنظر الاعتبار فان النية والمعنى الحقيقي قد اكون فيه مذنبا بسبب الترجمة السيئة له كما اعتقد ويبدو لي بانه من الاهمية الاساسية بالنسبة لي أن احاول توضيح لماذا كانت تلك الترجمة سيئة بالنسبة لي .
على مستوى الدقة التي لا غنى عنها اذا اردنا ان نفهم المعنى والنتيجة الحقيقية لمختلف المعلومات فهي تتعلق بطوبوغرافيا استكشاف الحالة النبوئية وهي حالة تتوسط بين اليقظة والنوم وضمن الشخصية الروحية فان مسألة الدقة تلك تجعل منا يقظين لمختلف التأثيرات على كامل منطقة الروح وكامل الثقافة الروحية وهي تقودنا للتساؤل ، اية شروط تجعل من الممكن أن ندعوها يوتوبيا بشكل اساسي ، وندعو الانسان طوباويا ؟ وكيف وماالذي يجعلها تظهر ؟ وأنا اتساءل اذا كان يوجد مكافيء لهذه الكلمة يمكن أن يوجد في مكان في الفكر الاسلامي التقليدي فان لا أومن مثلا اين وصف الفارابي في القرن العاشر " المدينة الفاضلة " او الفيلسوف الاندلسي ابن باجة في القرن الثاني عشر اخذ نفس الموضوع في " حكم الوحدة " ولا اؤمن أن احدا قد تأمل في اليوتوبيا الاجتماعية والسياسية .ولفهمهم بهذه الطريقة اخشى أن اسحبهم من
افتراضاتهم الخاصة ومنظوراتهم لكي نفرض عليهم ابعادنا الخاصة وفوق كل ذلك فانا اخشى ان نستلزم اقالة انفسنا بتشويه المدينة الروحية وتحويلها الى مدينة خيالية .
فكلمة Na-kojd-Abad لاتعين شيئا موجودا غير ممتدا في حالة كونها بلا ابعاد فالكلمة الفارسية Abad بالتأكيد تشير الى مدينة سكانية وزراعية وهكذا فهي شيء ممتد وما عناه السهروردي بقولة " ما بعد جبل قاف " هو نفسه وكل التقاليد الصوفية الايرانية والتي تكون نوعين من المدن الباطنية هما جبلقا او جبراسا وهرقليا ، وطوبغرافيا هو يضع بالضبط هذه المنطقة عند السطح المحدب للفلك التاسع وهو مدار المدارات او المدار الذي يضم الكون كله وهذا يعني بالضبط اللحظة التي يترك فيها المرء الفلك الأعلى والذي يعرف كل التوجيه المحتمل في عالمنا ( او هذا الجانب من العالم ) وهو المجال الذي تعود اليه الجهات السماوية الاربع ومن الواضح انه يعبر حدود السؤال أين ؟ .
(ubi, koja) تفقد معناها او على الأقل المعنى الذي يتم السؤال به عنها في فضاء تجربتنا الحسية وهكذا فان اسم Na-koja-Abad يعني مكان خارج المكان أو مكان لا يحتوي على مكان والذي يسمح بالرد من خلال الايماء فقط الى السؤال اين ؟ لكن حينما نقول لمغادرة الاين فماذا يعني ذلك .انه بالتأكيد لا يمكن ربطه بتغيير الموقع وهو انتقال جسدي من مكان الى مكان آخر كما لو انه يتضمن الاماكن التي يحتويها فضاء متجانس وحيد .
وكما هو مقترح في نهاية حكاية السهروردي وبواسطة الرمز قطرة البلسم التي تعرض في راحة اليد الى الشمس فهي اذن قضية عبور الى الداخل وفي مرحلة الدخول يجد المرء نفسه على النقيض من الخارج او بلغة السهروردي نفسه " على الفلك المحدب التاسع " او بكلمة اخرى خلف جبل قاف وهذه العلاقة تستلزم الخارج بشكل اساسي ، اي المرئي " الظاهر " والداخل يعني اللامرئي اي " الباطن " او العالم الطبيعي والروحي .
لمغادرة الاين فان فئة ال "ubi" عليهم ترك الخارج او المظهر الطبيعي الذي ينغلق على العلاقات الداخلية الخفية كما يختفي اللؤلؤ تحت قشرة المحار وهذه الخطوة قد تم عملها لكي يتمكن الغريب العرفاني من ان يعود الى وطنه او على الاقل ان يقاد الى تلك العودة .
لكن ما يجب أن نبدأ بتحطيمه الى المدى الذي نكون قادرين فيه على فعل ذلك هو ما يدعى " الانعكاس اللا ادري " لاننا يجب ان نوافق على الطلاق بين الفكر والوجود فكم من النظريات الحديثة التي تنشأ ضمنيا من هذا الانعكاس ، فشكرا لما نأمله من الهرب من الحقيقة الأخرى قبل ان تضعنا مجموعة من التجارب ومجموعة من الادلة لكي نهرب منها مجددا في الحالة التي نذعن فيها لجاذبيتها باعطائها كل التفسيرات المبدعة ماعدا واحد ، ذلك الواحد الذي يسمح لها بصدق ان تعني شيئا لنا بوجودها ، وما هو ذلك ؟ ان تعني شيئا لنا هو أنه يجب علينا في كل الأحوال أن نمتلك هذا الفهم الكوسمولوجي المتاح لهذا النوع المذهل من المعلومات الاكثر دهشة من العلم الحديث بخصوص الكون حيث يمثل الكون الطبيعي مرتبة ادنى منه .
طالما ان المسألة تتعلق بهذا النوع من المعلومات فنحن سنبقى نتأرجح ما بين ما يوجد على هذا الجانب من جبل قاف وما الذي يميز دراسة الكون التقليدية عن معرفة العارفين في الاسلام ؟ فمثلا هل هو بناء العوالم ودواخلها " خلف جبل قاف " ؟ هذي المعرفة تكمن خلف الكون الطبيعي وقد تم ترتيبها في مستويات عقلية فقط من اجل ان يكون الوجود الذي تحرك فيه الكينونة حضورها بشكل متبادل في تلك العوالم وهي تتطابق مع هذه الحركة للكينونة التي تمثلها هذه العوالم .
ففي اي بعد ، اذن ، يجب ان تكون هذه الحركة للكينونة ان توجد وان تصبح سبيلا لاعادة ولادتها مستقبلا ، فمكان تلك العوالم هو خارج مكان وجودنا الطبيعي ؟ وفي البدء ، ما هي تلك العوالم ؟
في كتاب المطارحات كتب السهروردي قائلا " عندما تتعلم في الطروحات المريمية القديمة ان هناك عالم مجهز بالابعاد والامتداد غير ذلك الذي يوجد في عالم العقل وغير ذلك العالم المحكوم بارواح الافلاك ، فهو عالم مليء بمدن لا يمكن عدها ، فلا تعجل بدعوتها كذبا فان حجاج الروح وحدهم من تامل ذلك العالم وقد وجدوا هناك كل شيء يجسد اشواقهم ". هذه السطور القليلة تحيلنا الى النظام الذي يوافق عليه كل العرفانيين الصوفيين ، النظام الذي يرتبط بثلاثة عوالم أو ثلاثة اصناف من الكون .
عالمنا الحسي الطبيعي الذي يتضمن عالمنا الارضي المحكوم بالروح الانسانية ، والكون الفلكي المحكوم بارواح الافلاك وهذا من العوالم المحسوسة وهناك ايضا عالم الظواهر وهو عالم الملك ويمثل عالم ما فوق الحس وهو عالم الارواح او ارواح الملائكة وهو الملكوت الذي توجد فيه المدن الصوفية التي اشرنا اليها سابقا ،والتي تبدا على السطح المحدب للفلك التاسع حيث عقول الملائكة الصافية وهذه العوالم الثلاثة تنطبق على ثلاثة من انواع المعرفة وهي الحس والخيال والفكر وهو الثالوث الذي يرتبط بثالوث علم الاجناس البشرية وهو النفس والجسد والروح ذلك الثالوث الذي ينتظم نمو ونضج الانسان والذي يمتد من هذا العالم الى العوالم الاخرى .
وهنا نلاحظ فورا اننا لا يمكن ان نرفض مشكلة الفكر والامتداد لصالح نظام كوني يحدد العالم التجريبي وعالم الفهم المجرد .
فما بين العالمين يتوسط عالم آخر وقد عينه السهرودي باسم عالم المثال وهو عالم الصور " mundus imaginalis"وهو عالم معرفة حقيقي كعالم الحس وعالم العقل ، وهو العالم الذي يستلزم ملكة الفهم التي تعود اليه ، وهي الملكة ذات الوظيفة الادراكية والقيمة العقلية وهي حقيقية تماما مثل كملكة الفهم الحسي او الحدس المعرفي ، هذه الملكة قوة الخيال وهنا علينا ان نتجنب التشويش الذي ينشأ من كلمة خيال لدى الانسان المعاصر والتي ترداف لديه كلمة الفنطازيا ، ذلك الخيال لدى السهروردي ينتج الصور فقط فما هو هذا العالم الذي يتوسط بين العالم التجريبي وعالم الفهم المجرد ؟
انه كما اشرنا قبل عدة فقرات بكونه يمثل الاقليم الثامن فلكل مفكرينا ، في الحقيقة ، يمتد العالم الذي يمكن ادراكة بالنسبة لهم الى الاحاسيس ويتضمن سبعة اقاليم تقليديا ، لكن يبقى هناك اقليم آخر يمثل بذلك العالم الذي يمتلك الامتداد والابعاد والاشكال والالوان وبدون وجودها بالنسبة للحس مثلما هو وجودها بالنسبة للأجسام الطبيعية فانها ايضا ضرورية لموضوع الخيال والاحاسيس الروحية النفسية وذلك العالم هو موضوعي وحقيقي بالكامل حيث كل شيء في العالم الحسي له ما يناظره لكنه لا يدرك بواسطة الحس وهذا العالم يمثل الاقليم الثامن فهو اقليم خارج الاقليم ومكان خارج المكان وخارج الاين هو اليتوبيا او ما يمكن وصفه تقنيا بالعربية بعالم المثال .