ألبير كامي (Albert Camus) هو المؤلف الوحيد من الجزائر الفرنسية الذي يمكن، ببعض التبرير، أن يعتبر أن له مدى عالميا. ومثل جين أوستين (June Austen كاتب بريطاني، 1775-1817)[1]، قبل قرن من الزمان، فإنه روائي تركت مؤلفاته تفلت من يدها واقع الأشياء الإمبراطورية التي كانت تقدم ذاتها بكامل الوضوح إلى انتباهه(…).
يلعب كامي دورا هاما على نحو خاص في الرجات الاستعمارية المشؤومة التي صاحبت المخاض العسير لنهاية الاستعمار الفرنسي في القرن العشرين. إنها صورة إمبريالية متأخرة جدا: فلم يتخلف عن ذروة الإمبراطورية وحسب، وإنما بقي كمؤلف "عالمي" يغرز جذوره في استعمار تم نسيانه الآن (…).
إن المقارنة المدهشة بين كامي وجورج أورويل[2] هي أنهما صارا، كل واحد في ثقافته الخاصة، يمثلان صورتين نموذجيتين تنجم أهميتهما عن قوة السياق الأهلي المباشر الذي يظهران أنهما يتعاليان عليه. ولقد قيل هذا على أكمل وجه في حكم على كامي يبرز تقريبا عند نهاية عملية إزالة الزيف عن الشخص التي يمارسها كونور كريز أو بريان (Conor Cruise O'Brien) في كتاب يشبه كثيرا دراسة رايمون وليامز (Raymond Williams) عن أورويل[3]، يقول أوبريان: "من المحتمل ألا يكون أي مؤلف أوروبي من زمانه قد أثر بعمق، مثلما فعل، على المخيال والوعي الأخلاقي والسياسي لجيله وللجيل الذي تلاه. لقد كان أوروبيا بشكل كثيف لأنه كان ينتمي إلى حدود أوروبا وكان واعيا بتهديد ما. ولقد كان التهديد أيضا يرنو إليه بشغف. ولقد رفض، ولكن ليس دون صراع. ولم يعد أي كاتب آخر، حتى كونراد (Conrad) نفسه، يمثل الاهتمام والوعي الغربي إزاء العالم غير الغربي. ولعل المأساة الداخلية لآثاره هي تطور هذه العلاقة، تحت صعود الضغط والقلق".
(...) ثم إن جوزيف كونراد وكامي ليسا ممثلين لواقع غير موزون مثل "الوعي الغربي"، ولكن للسيطرة الغربية على العالم غير الأوروبي. ويعبر كونراد عن هذا التجريد بقوة لا تخدع في كتابه الجغرافيا وبعض المكتشفين[4]، ففيه يحتفي باستكشاف القطب المتجمد الشمالي من طرف البريطانيين، ثم يختم على مثال من "جغرافيته المناضلة" الخاصة: "وضعت أصبعي وسط البقعة، البيضاء كليا، التي كانت يومئذ هي إفريقيا، وصرحت: "سأذهب إلى هناك، ذات يوم."". ولقد ذهب فعلا، بطبيعة الحال، وأعاد الإشارة في في قلب الظلمات.
إن الاستعمار الغربي، الذي يعاني أوبريان وكونراد من وصفه هو، أولا اختراق خارج الحدود الأوروبية لكيان جغرافي آخر. وهو، ثانيا، لا يحيل إطلاقا على "وعي غربي" خارج التاريخ "إزاء العالم غير الغربي": فالأغلبية الساحقة من الأهالي الأفارقة والهنود لم يكونوا يرجعون مآسيهم إلى "الوعي الغربي"، وإنما إلى ممارسات استعمارية محددة مثل العبودية، ونزع الملكية، وعنف السلاح. إنها علاقة تم بناؤها بعناء أعلنت فيها فرنسا وبريطانيا نفسيهما "الغرب" أمام الشعوب الدونية والخاضعة لـ"غير-الغرب"، الجامد والمتخلف فيما يخص الأساسي(…).
ويستعمل أوبريان أيضا وسيلة أخرى لتخليص كامي من الورطة التي وضعه فيها: فهو يشدد على أن تجربته متميزة. وهذه خطة كفيلة بجعلنا نشعر ببعض المودة تجاهه لأنه، مهما كان السلوك الجماعي للمستوطنين الفرنسيين في الجزائر مؤسفا، فليس هناك أي سبب لتحميل كامي مسؤولية ذلك. فالتربية الفرنسية كليا التي تلقاها هناك –الموصوفة جيدا في سيرة هربر لوثمان (Herbert Lottman)[5]- لم تمنعه، قبل الحرب، من تحرير تقرير شهير حول المآسي المحلية، الراجعة في جلها إلى الاستعمار الفرنسي. هاهو إذن رجل أخلاقي في سياق لا أخلاقي. ولعل مركز اهتمام كامي هو الفرد في إطار اجتماعي: وهذا صحيح بالنسبة لـ الغريب، كما بالنسبة لـ الطاعون والسقطة. وقيمه هي الوعي بالذات، والنضج بلا وهم، والصمود الأخلاقي حين يتأزم كل شيء. ولكن، على الصعيد المنهجي، ثلاث عمليات تفرض نفسها: الأولى، مساءلة وتفكيك الإطار الجغرافي الذي يتخذه كامي سياقا لـ الغريب (1942)، والطاعون (1947) ومجموعته القصصية (الهامة جدا) المنفى والمملكة (1957). فلماذا الجزائر، في حين اعتبر دائما أن المؤلفين الأولين يحيلان خصوصا على فرنسا، وبالأخص على احتلالها من طرف النازيين، على أن أوبريان يمضي أبعد من غالبية النقاد حين يلاحظ بأن الاختيار ليس بريئا: فكثير من عناصر هذه القصص والروايات (كمحاكمة ميرسو (Mersault) مثلا في الغريب تشكل تبريرا خفيا أو لا شعوريا للسيطرة الفرنسية، أو محاولة إيديولوجية لتجميلها. إلا أن البحث عن إقامة اتصال مباشر بين المؤلف كامي المنظور إليه بكيفية فردية وبين الاستعمار الفرنسي في الجزائر، هو أولا التساؤل عما إذا كانت نصوصه مرتبطة بسرديات فرنسية سابقة عليها إمبريالية صراحة وعلانية(…).
أما العملية المنهجية الثانية، فإنها تنصب على نوع المعطيات الضرورية لهذا التوسيع في المنظور، وعلى سؤال مجاور: من يؤول؟
من المحتمل أن ناقدا أوروبيا مهتما بالتاريخ سيقول بأن كامي يمثل العجز المأسوي للوعي الفرنسي أمام أزمة أوروبا، وقرب أحد أكبر انكساراتها. وإذا كان كامي قد بدا أنه اعتبر بأنه من الممكن الحفاظ على وتطوير ساكنة المستوطنين بعد 1960 (وهي سنة وفاته)، فإنه كان ببساطة قد أخطأ تاريخيا، لأن الفرنسيين تخلوا عن الجزائر وعن كل مطلب فيما يخصها عامين فقط بعد ذلك.
عندما تتعرض مؤلفاته بوضوح للجزائر المعاصرة، فإن كامي يهتم بصفة عامة بالعلاقات الفرنسية-الجزائرية كما هي، وليس بالتقلبات التاريخية المثيرة التي تشكل مصيرها في الزمن. وما عدا الاستثناء، فإنه يجهل أو يهمل التاريخ، الشيء الذي لا يمكن أن يفعله جزائري يحس بالحضور الفرنسي كشطط يومي في استخدام السلطة. فبالنسبة لجزائري، من المحتمل أن تمثل سنة 1962 نهاية مرحلة طويلة ومأسوية دشنها قدوم الفرنسيين عام 1830، والبداية الحماسية لعهد جديد. ولكن تأويل روايات كامي، من نفس وجهة النظر، قد يكون هو أن نرى فيها، ليس نصوصا تخبرنا عن الحالات النفسية للمؤلف، وإنما عناصر من تاريخ الجهد الفرنسي للمحافظة على الجزائر الفرنسية.
وإذن، فإنه يجب أن نقارن تأكيدات كامي ومفترضاته حول التاريخ الجزائري مع التواريخ التي كتبها جزائريون بعد الاستقلال حتى نضبط كليا دلالات الخلاف والجدال بين الوطنية الجزائرية والاستعمار الفرنسي. وقد يكون من الصائب ربط آثاره بظاهرتين تاريخيتين: المغامرة الاستعمارية الفرنسية (لأنه يصادر على ثباتها وديمومتها) والكفاح المستميت ضد استقلال الجزائر. إن هذا المنظور الجزائري قد يمكنه أن "يطلق" ما تخفيه أعمال كامي، تنكره أو تعتبره ضمنا بديهيا.
وأخيرا، ولأن نصوص كامي شديدة الكثافة، فإن الانتباه إلى التفاصيل، والصبر والإلحاح أمور أساسية منهجيا. فالقراء يربطون، من أول وهلة، رواياته بالروايات الفرنسية حول فرنسا، ليس بسبب لغتها والأشكال التي تبدو أنها ورثتها عن روايات سابقة كبيرة ومشهورة مثل أدولف والحكايات الثلاث[6] وحسب، وإنما أيضا لأن إطارها الجزائري يظهر عرضيا، بدون علاقة مع المشكلات الأخلاقية الخطيرة التي تطرحها. فبعد نصف قرن على نشرها، فإنها لا زالت تقرأ كأمثال ورموز عن الوضع البشري.
صحيح أن مرسو يقتل عربيا، ولكن هذا العربي لا يسمى، ويظهر بدون تاريخ، وبالطبع بدون أب ولا أم. أكيد أنهم أيضا عرب أولئك الذين يموتون بالطاعون في وهران، ولكنهم لا يسمون كذلك، بينما يتم إبراز ريو (Rieux) وطارو (Tarrou). ويجب أن تقرأ النصوص للغنى الذي يوجد فيها، وليس لما أقصي منها على نحو احتمالي. ولكن بالذات، أود أن أشدد على أننا نجد في روايات كامي ما كان يعتقد سابقا أنه مقصي منها: إشارات إلى الغزو الإمبراطوري الفرنسي المميز، الذي بدأ سنة 1830، وتوبع في حياته، والذي يلقي بظله على تركيب نصوصه.
إن هذه المهمة ليست مستوحاة من الانتقام. وإنني لا أنوي مؤاخذة كامي استعاديا على كونه أخفى في رواياته بعض الأشياء عن الجزائر التي يجهد في تفسيرها طويلا، مثلا، في مختلف نصوص وقائع جزائرية. وإنما هدفي هو فحص آثاره الأدبية من حيث هي عناصر للجغرافيا السياسية للجزائر بنتها فرنسا منهجيا على امتداد أجيال عديدة. وهذا من أجل أن نرى فيها بشكل أفضل انعكاسا حادا للصراع السياسي والنظري الذي كان رهانه هو تمثيل وتوطين وامتلاك هذه الأرض في ذات الحين الذي كان فيه البريطانيون يغادرون الهند. إن كتابة كامي تحركها حساسية استعمارية متأخرة جدا، وفي الواقع بدون قوة، تعيد الإشارة الإمبراطورية باستخدام جنس أدبي، الرواية الواقعية، كانت مرحلته الكبرى في أوروبا قد مضت منذ زمن بعيد(...).
لنتذكر، لقد تم الإعلان رسميا عن الثورة الجزائرية، وانطلاقها يوم الأول من نونبر عام 1954. وتعود مجزرة سطيف للمدنيين الجزائريين من طرف العسكر الفرنسي إلى ماي 1945. أما السنوات السابقة، تلك التي كان فيها كامي يكتب الغريب، فإنها كانت غنية بالأحداث التي رافقت التاريخ الدموي الطويل للمقاومة الجزائرية. وحتى إذا كان كامي، حسب كل كاتبي سيرته، قد كبر في الجزائر كفرنسيي شاب، فإنه كان دائما محاطا بعلامات من الصراع الفرنسي-الجزائري، ويبدو أنه قد تجنبها بصفة عامة أو، في السنوات الأخيرة، قد ترجمها صراحة في لغة وتخيل والرؤية الجغرافية لإرادة فرنسية غريبة تنازع السكان الأهليين المسلمين على بلادهم، الجزائر. وفي سنة 1957، كان فرانسوا ميتران قد قال بصراحة ووضوح في كتابه الحضور الفرنسي والتخلي[7]: "بدون إفريقيا، لن يكون هناك تاريخ لفرنسا في القرن العشرين".
ولتعيين كامي على الأساسي (وليس على قسم صغير) من تاريخه الواقعي، فإنه تجب معرفة السابقين الفرنسيين الحقيقيين عليه، وآثار الروائيين، والمؤرخين، والسوسيولوجيين وعلماء السياسة الجزائريين لما بعد الاستقلال. واليوم، فإن تقليدا متمركزا على أوروبا، واضحا تماما وثابتا يكبت دائما في التأويل ما كان، حول الجزائر، يكتبه كامي (وميتران) وتكتبه شخصيات رواياته، وعندما كان كامي يعارض، في السنوات الأخيرة من حياته، جهارا، بل بعنف حتى، المطلب الوطني باستقلال الجزائر، فإنه كان يفعل ذلك في الخط المباشر للتمثل الذي وضعه للجزائر منذ بداية حياته الأدبية، حتى ولو كان كلامه حينئذ يتجاوب بشكل بئيس مع الخطابة الرسمية الإنجليزية-الفرنسية حول حرب السويس.
فتعليقاته على "العقيد ناصر"، وعلى الإمبريالية العربية والإسلامية، مألوفة لدينا. ولكن الملفوظة السياسية الوحيدة، المتصلبة كليا، التي يخصصها للجزائر في هذا النص تظهر كملخص واضح لكل ما كتبه سابقا: "وفي ما يتعلق بالجزائر، فإن الاستقلال الوطني هو صيغة انفعالية خالصة. إنه لم يكن هناك أبدا بعد أمة جزائرية. فاليهود، والترك، واليونان، والإيطاليون، والبربر قد يكون لهم كلهم حق المطالبة بتوجيه هذه الأمة الافتراضية. إن العرب، راهنا، لا يشكلون لوحدهم كل الجزائر. فأهمية وقدم التعمير الفرنسي بالخصوص يكفيان لخلق مشكلة لا يمكنها أن تقارن بلا شيء في التاريخ، إن فرنسيي الجزائر هم أيضا، وبالمعنى القوي للكلمة، أهالي. ويجب أن نضيف بأن جزائر عربية خالصة لا يمكنها أن تصل إلى الاستقلال الاقتصادي الذي بدونه لن يكون الاستقلال السياسي إلا مجرد وهم خادع(...)".
على أن المفارقة هي أنه أينما تكلم عنه كامي، في رواياته وأوصافه، فإن الحضور الفرنسي في الجزائر يعتبر إما موضوعة سردية خارجية، ماهية تفلت من الزمن والتأويل، وإما القصة الوحيدة التي تستحق أن تحكى من حيث هي قصة. وأي فرق في الموقف واللهجة في كتاب بيير بورديو سوسيولوجيا الجزائر[8]، المنشور، مثل المنفى والمملكة سنة 1958: فتحليلاته تفند الصيغ اللاذعة لكامي وتقدم صراحة الحرب الاستعمارية كأثر لصراع بين مجتمعين. ولعل هذا العناد عند كامي هو الذي يفسر الغياب الكلي لكثافة وأسرة العربي الذي قتله ميرسو؛ وها هو لماذا يعين تدمير وهران للتعبير لا عن الأموات العرب (الذين وحدهم يهمون ديمغرافيا)، وإنما عن الضمير الفرنسي(…).
إننا نتوفر اليوم على إحصاء ممتاز للمصادرات العديدة حول المستعمرات الفرنسية التي يتقاسمها قراء ونقاد كامي، فهناك دراسة هامة جدا لمانويلا سيميدي (Manuela Semidei) حول الكتب المدرسية الفرنسية، من الحرب العالمية الأولى إلى ما بعد الحرب الثانية[9]، تسجل بأن هذه الكتب تقارن إيجابيا الإدارة الاستعمارية الفرنسية بالإدارة البريطانية. ففي الثلاثينات، كانت هذه الموضوعة تتكرر بلا ملل.
أما عندما تتم الإشارة إلى استخدام العنف في الجزائر، مثلا، فإن الصياغة توحي بالاعتقاد أن القوات الفرنسية كانت مضطرة لاتخاذ تدابير مغيظة للرد على اعتداءات الأهالي "المدفوعين بحماسهم الديني وإغراء النهب". ومع ذلك، فالجزائر صارت "فرنسا جديدة"، مزدهرة، مجهزة بمدارس ممتازة، ومستشفيات، وطرق.. وحتى بعد الاستقلال، بقيت صورة التاريخ الاستعماري لفرنسا بناءة بشكل أساسي: فلقد كان يرى بأنها قد وضعت قواعد روابط "أخوية" مع المستعمرات القديمة.
ولكن ليس لأن وجهة نظر واحدة تظهر ملائمة لجمهور فرنسي، أو لأن الدينامية الكاملة للانغراس الاستعماري والمقاومة الأهلية تفسد بأسف الإنسية الجذابة لتقليد أوروبي كبير، لذلك يجب اتباع هذا الاتجاه في التأويل وقبول الأبنية والصور الإيديولوجية عنه.
بل إنني قد أذهب إلى حد القول إنه إذا كانت أشهر روايات كامي تدمج، وتلخص دون تسوية و، في جوانب عديدة، تفترض خطابا فرنسيا كثيفا حول الجزائر ينتمي إلى لغة المواقف والمرجعيات الجغرافية الإمبراطورية لفرنسا، فإن هذا يجعل آثاره أكثر أهمية وليس العكس. فرصانة أسلوبه، والمعضلات الأخلاقية المقلقة التي يفصح عنها، والمصائر الشخصية المؤلمة لشخصياته، التي يعالجها بكثير من الرقة والسخرية المراقبة-كل هذا إنما يتغذى من تاريخ السيطرة الفرنسية في الجزائر ويعيد إحياءها، بدقة عالية مرهفة، وغياب لافت للنظر للندم والرأفة.
ومرة أخرى، فإن العلاقة بين الجغرافيا والصراع السياسي يجب أن يعاد إحياؤها في المكان بالذات الذي، في الروايات، يغطيها فيه كامي ببنية فوقية تقذف بنا، يقول سارتر مادحا، في "مناخ العبث". خصوصا وأن الغريب مثل الطاعون ينصبان على ميتات عرب، ميتات تضيء وتغذي في صمت مشكلات ضمير وأفكار الشخصيات الفرنسية.
البلديات، النظام القضائي، المستشفيات، المطاعم، النوادي، أماكن الترفيه، المدارس-كل بنية المجتمع المدني، المقدمة بكثير من الحياة، فرنسية، رغم أنها تدير بالخصوص ساكنة غير فرنسية. ولذلك، فالتناظر بين ما يكتبه كامي وبين ما تتضمنه الكتب المدرسية ملفت جدا للنظر. فرواياته وقصصه تحكي آثار انتصار تم إحرازه على ساكنة مسلمة، تم إخضاعها وإبادتها، وضيقت حقوقها على الأرض إلى أقصى مدى وبعنف بالغ، وإذن، فإن كامي يثبت ويقوي الأولوية الفرنسية، وهو لا يدين الحرب من أجل السيادة ضد المسلمين الجزائريين منذ أكثر من قرن، ولا يفك تضامنه معها.
وفي قلب المواجهة، هناك الصراع المسلح الذي كان زعماؤه الأول الماريشال تيودور بيجو (Théodore Byjeaud) والأمير عبد القادر. الأول عسكري شرس بدأ في قساوته الأبيسية تجاه الأهالي سنة 1836 بجهد لتنظيمهم وانتهى عشر سنوات من بعد إلى ممارسة سياسية الإبادة والنزع الكثيف للملكية. والثاني صوفي مغوار لا يكل، لا يكف عن إعادة تجميع، وإعادة تكوين وإعادة تجنيد قواته ضد محتل أقوى وأحدث.
وعندما نقرأ وثائق تلك الفترة-الرسائل، تصريحات وبرقيات بيجو (التي جمعت ونشرت تقريبا في نفس الوقت كـالغريب)، أو طبعة للأشعار الصوفية لعبد القادر(…)، أو أيضا إعادة البناء الرائعة لسيكولوجية الغزو التي كتبها مصطفى لشرف، قائد جبهة التحرير الوطني وأستاذ في جامعة الجزائر العاصمة بعد الاستقلال، انطلاقا من الصحف والآداب الفرنسية للسنوات 1830 و1840[10]، فإننا ندرك الدينامية التي تجعل إضعاف الحضور العربي عند كامي أمرا حتميا.
إن قلب السياسة العسكرية الفرنسية كما صاغها وحددها بيجو وضباطه، كانت هي الإغارة والسلب والنهب، الإغارة العقابية على القرى، والبيوت، والمحاصيل الزراعية، وعلى النساء والأطفال الجزائريين. "إنه يجب منع العرب من الزرع، والجني والرعي" كان يأمر بيجو. ولقد قدم لشرف عينة عن حالة الثمالة الشعرية التي لم يكف عن التعبير عنها الضباط الفرنسيون العاملون في الميدان: فأخيرا أتيحت لهم فرصة القيام بـ"حرب إبادة شاملة"، بدون أخلاق، ولا ضرورة، وقد وصف الجنرال شانغارنييه (Changarnier) التسلية الممتعة التي كان يسمح بها لجنوده في الإغارة على قرى هادئة؛ فهذا النوع من النشاط تعلمه الكتابات المقدسة، كان يقول، وقد كان جوسيا وقادة آخرون يقودون "إغارات عديدة ورهيبة" وكان الله إلى جانبهم راضيا عنهم، فالدمار، والخراب الكلي، والقسوة الشرسة مقبولة ليس لأن الله يبررها وحسب، ولكن أيضا لأن –وهذه عبارة تكررت بلا ملل من بيجو إلى صالان (Salan)- "العرب لا يفهمون إلا القوة الوحشية".
ولقد كان البعض يرى، مثل طوكفيل (Toqueville) الذي كان ينتقد بمنتهى القسوة السياسة الأمريكية إزاء السود والهنود، بأن تقدم الحضارة الأوروبية يقتضي إنزال أقسى الفظاعات بالمسلمين. ففي تفكير طوكفيل، يصبح "الغزو الشامل" مرادفا لـ"العظمة الفرنسية". والإسلام هو "تعدد الزوجات، وحبس النساء، وغياب كل حياة عمومية، وحكومة استبدادية منفرة تجبر على إخفاء الحياة وتنبذ كل تعلقات القلب جهة داخل الأسرة". ومعتقدا بأن الأهالي هم بدو رحل، فإنه يقرر بأن "كل الوسائل لتدمير القبائل يجب أن تستخدم. ولا أستثني إلا تلك التي ترفضها الإنسانية وحق الأمم"[11] (…).
إن روايات وقصص كامي تشبع بدقة التقاليد واللغات والاستراتيجيات الخطابية للتملك الفرنسي للجزائر. وهي تمنح تعبيرها النهائي والأرهف لهذه "البنية من العواطف" الكثيفة. ولكن لتبين هذه الأخيرة، فإنه ينبغي اعتبار آثار كامي كتجميل عاصمي (من العاصمة) للمعضلة الاستعمارية: إنه المعمر الذي يكتب لجمهور فرنسي، يرتبط تاريخه الشخصي حتما بهذا الإقليم الفرنسي للجنوب؛ وفي كل إطار آخر، فإن ما يجري غير قابل للفهم مطلقا.
غير أن حفلات الزواج مع الأرض الإقليم –التي أقامها ميرسو في الجزائر، وطارو و ريو المحبوسين بين جدران وهران، وجانين ليلة سهر في الصحراء- تحث، بشكل مفارق، القارئ على التساؤل حول ضرورة إعادة التأكيدات هذه. وعندما يعاد التذكير بعنف الماضي الفرنسي على هذا النحو سهوا، فإن هذه الحفلات تصير، بإيجاز مكثف للغاية، احتفاءات ببقاء جماعة لا أفق لها ولا تملك أين تذهب.
فمأزق ميرسو أكثر جذرية من مأزق الآخرين. لأنه، حتى ولو فرضنا أن هذه المحكمة المزيفة تستمر في الوجود (مكان غريب لمحاكمة فرنسي قتل عربيا، يسجل بحق أوبريان)، فإن ميرسو نفسه يفهم بأن كل شيء قد انتهى؛ إنه الانفراج أخيرا – في التحدي: "لقد كنت على حق، وكنت أيضا على حق، وكنت دائما على حق. لقد عشت بطريقة ما، وكان بإمكاني أن أعيش بطريقة أخرى. ولقد فعلت هذا ولم أفعل ذاك. ولم أفعل هذا الشيء في حين أنني فعلت هذا الآخر. وبعد؟ لقد كان الأمر كما لو أنني كنت قد انتظرت كل الوقت هذه الدقيقة وهذا الفجر الصغير الذي سأكون فيه مبررا".
لا اختيار هنا، ولا خيار. فطريق الشفقة مسدود. والمعمر يجسد في آن واحد الجهد الإنساني الواقعي جدا الذي أسهمت فيه جماعته والرفض المشل للتخلي عن نظام ظالم بنيويا. فالوعي بالذات الانتحاري لميرسو، وقوته، وتنازعيته، لا يمكن لكل هذا أن يأتيه إلا من هذا التاريخ ومن هذه الجماعة بعينها. وفي النهاية، فإنه يقبل نفسه كما هو- ويفهم أيضا لماذا قررت أمه، المحبوسة في ملجأ للعجزة، أن تتزوج مرة أخرى "لقد حاولت أن تبدأ من جديد(…) وهي قريبة جدا من الموت، ولا بد أن أمي قد أحست بأنها قد تحررت بفعل ذلك وأنها مستعدة لإعادة عيش كل شيء". لقد فعلنا هنا ما فعلناه، وإذن لنعد فعله. إن هذا العناد البارد والمأسوي يتحول إلى ملكة بشرية للتوالد دون وهن. وبالنسبة لقارئي كامي، فإن "الغريب" يعبر عن كونية بشرية حرة وجوديا، تعارض برواقية متكبرة لا مبالاة الكون وقسوة البشر.
إن إرجاع الغريب إلى العقدة الجغرافية التي ينشأ فيها مساره السردي، معناه أن نرى في هذه الرواية شكلا مصفى من التجربة التاريخية. وكمثل آثار ووضع أورويل في إنجلترا، فإن الأسلوب البسيط لكامي ووصفه الرصين للأوضاع الاجتماعية إنما يخفيان تناقضات ذات تعقيد رهيب، وتصير غير قابلة للحل إذا جعلنا، ككثير من نقاده، من إخلاصه للجزائر الفرنسية مثلا، وحكمة عن الوضع البشري، وذلك هو أيضا أساس شهرته الاجتماعية والأدبية.
ومع ذلك، فإن هناك طريقا آخر لم ينقطع عن الوجود، أصعب وأكثر إثارة: الحكم، ثم رفض السيطرة على الأرض والسيادة السياسية لفرنسا، اللذين كانا يمنعان من إلقاء نظر متفهم على الوطنية الجزائرية، وفي ظل هذه الشروط، فإنه من الواضح أن حدود كامي كانت مشلة، غير مقبولة. فبالمقارنة مع أدب انهيار الاستعمار في تلك الفترة، الفرنسي أو العربي-جيرمين تيون (Germaine Tillion)، كاتب ياسين، فرانز فانون (Franz Fanon)، جان جوني (Jean Genet)-، فإن لسردياته حيوية سلبية، تنجز فيها الكثافة البشرية المأسوية للمشروع الاستعماري آخر أكبر توضيح لها قبل أن تضمحل نهائيا. ينبعث من ذلك شعور بالخسارة والحزن لا زلنا لم نفهمه كليا بعد، ولم نتخلص منه تماما .
[1] - كاتب بريطاني، أعماله الكاملة ظهرت في مكتبة لابلاياد، غاليمار، 1112 صفحة.
[2] - François Brune, (Rebelle a big Brother), Le Monde Diplomatique ; octobre 2000.
[3] - Conor Cruise O’Brien, Albert Camus, Vicking, NewYord, 1971.
[4] - Joseph Conrad, Last essays, Geographie and some explorers, J.M.Dent, Londres, 1926.
[5] - Herbert Lottman, Camus, Seuil, Paris, 1985.
[6] - Benjamin Constant, Adolphe, Gallimard, Paris, 1973, Gustave Flaubert, Trois contes, Seuil, Paris, 1993.
[7] - François Mitterrand, Présence française et abandon, …, Paris, 1957.
[8] - Pierre Bourdieu, Sociologie de l’Algérie, PUF, Paris, 1985, rééd.
[9] - Manuela Sémidée, (De l’empire à la décolonisation à travers les manuels scolaires), Revue française des sciences politiques, vol. 16, n°1, Février, 1966.
[10] - Mostepha Lachéraf, L’Algérie : nation et société, Maspéro, Paris, 1965.
[11] - Alexis de Toqueville, Oeuvres completes, E.V. Voyages en Angleterre, Irlande, Suisse et Algérie, Gallimard, Paris, 1958.