يتساءل لوبايور جنسن في بحث صدر له قبل سنوات: "هل تجربة الاعتقال دقيقة عن الوصف؟" قد تبدو خلاصته هاته مفارقة حتى ولو كانت تستند إلى تحليل كبريات الروايات التي أثارتها المعتقلات النازية والستالينية؛ ذلك لكون تجربة المعتقلات بحصر المعنى غير قابلة لأن تحكى، ومع ذلك أظهرت إلى الوجود بضعة أعمال رائعة تنضاف إلى روائع الأدب العالمي المعاصر: "الجنس البشري" لروبير أنتيلم، "لو كان إنسانا" لبريمو ليفي، "عالم المعتقلات" لدفيد روسي أو "عالم من صخر" لتادوش بروفسكي.
القاسم المشترك بين هذه الروايات هو أن أصحابها أبدعوا كتابات جديدة..نفس الشيء ينطبق على "حكايات الكوليما" (Récits de la Kolyma) لفارلام شلاموف، وهي الآن متوفرة بطبعتها الكاملة وبنوع من التأليف الذي أراده كاتبها. كان روبير أنتيلم هو أول من سجل، منذ عودته من بوشنوالد في 1945، الهوة السحيقة التي كانت موجودة بين رغبة الناجين في الكلام وفي الاستماع إليهم وبين "المسافة التي نكتشفها بين اللغة التي نمتلكها وهذه التجربة التي ما زلنا، في الغالب، بصدد مواصلتها بداخل أجسادنا، فما نكاد نشرع في الحكي حتى نصاب بالاختناق..حتى بالنسبة إلينا، فقد بدا لنا ما كنا مقبلين على قوله شيئا غير قابل للتصور."
يلح شلاموف هو الآخر على عجز اللغة - الجارية أو الأدبية - على أن تعرض بشكل أصيل للتجارب المعاشة سلفا: "بأي لغة أتوجه إلى القارئ؟ إذا آثرت الأصالة والصدق، تكون لغتي فقيرة ومحدودة. تظهر الاستعارات وارتباكات الخطاب عند درجة محددة من التطور وتختفي عندما يتم تجاوز هذه الدرجة في اتجاه معاكس. انطلاقا من وجهة النظر هاته، يكون حتما السرد الموالي خاطئا. لم أتوقف مطولا عند فكرة ما ولو في مرة واحدة..محاولة القيام بذلك وحدها فقط تسببت لي في ألم جسدي حقيقي..طيلة كل هذه السنوات، لم تتح لي فرصة واحدة للتملي في مشهد ما: إذا ما بقي شيء ما في ذاكرتي، فهو يعود إلى ذكرى سابقة (...) كيف السبيل إلى استعادة هذه الحالة؟ وبأي لغة يجري حكيها؟ إغناء اللغة هو في حد ذاته إفقار لمظاهر الصدق والواقعية في الرواية."
ما تم حكيه في "Récits de laKolyma" لايقدم نفسه إذن كشهادة أو كتصويرلواقع المعتقلات في أقصى الشمال، ولا كتأمل حول الإنسانية واللاإنسانية. يوجد لدى الناجين "نهم" للحكي قارنه بريمو ليفي صراحة بهاجس الغذاء الذي قاسى من ندرته الضحايا: "هذه الكلمات الغريبة انحفرت على ذاكرتنا كما لو على شريط مغناطيسي فارغ، جديد. إنها نفس الطريقة التي تهضم بها، على عجل، معدة جائعة أكلة عسيرة الهضم.. لم يساعدنا هذا الأمر على استذكار معنى تلك الكلمات التي كانت غير ذات معنى بالنسبة إلينا. كان ذلك المعادل الذهني لحاجتنا الطبيعية إلى الغذاء، تلك الحاجة التي كانت تدفعنا إلى البحث عن قشارات البطاطس على جنبات المطبخ: شيء قليل أكبر من لا شيء، أحسن من لا شيء..الدماغ الذي ساءت تغذيته يحتمل هو الأخر جوعا من نوع خاص."
عند فارلام شلاموف، يكون انبجاس الكلام وإمكان الكلمة مرتبطين بتيمة الخبز المسروق، أي بتيمة الموت الموعود والانهيار النهائي للجسد، كما في السرد الرائع الذي كرسه لاحتضار الشاعر أوسيب مانديلستام المتوفى عام 1938 في معتقل عبور بفلاديفوستوك: "كان الشاعر يستميت منذ وقت طويل بحيث أنه لم يعد يفهم ما يعنيه الموت..أحيانا، تجترح فكرة مؤلمة وواضحة تقريبا: تمت سرقة خبزه الذي كان قد وضعه تحت رأسه..كانت هذه الفكرة المرعبة تلهبه إلى درجة أمسى معها مستعدا ليتخاصم، ليحلف، ليتعارك، ليفتش، ليبرهن..لكن تعوزه القوة للقيام بذلك، وهكذا انمحت فكرة الخبز.."
إنما في القرب من الموت، من الخبز الصائر أخيرا عذيم الفائدة، تتخلص الكلمات من قدرتها على الخداع، على الإغواء، على الإقناع، لكي تلتئم مع ما تقول. فعندما مات مانديلستام - يحكي شلاموف - لم يشطب اسمه من اللوائح إلا بعد يومين. خلال ذينك اليومين، تمكن جيرانه الحاذقين من الحصول على حصة الميت.. أثناء التوزيع اليومي للخبز كان الميت يرفع ذراعه مثل كركوزة. هكذا تمدد "حكايات الكوليما" حركة الشاعر بعد مماته لأجل منحنا - نحن المتخمين - بعض الفتات من الغذاء الحيوي، من الشعر الحقيقي المستمد من عمق التجربة الإنسانية.
تم اعتقال شلاموف، المزداد سنة 1907، لأول مرة عام 1929 بسبب توزيعه ل"وصية لينين" المتضمنة لعض الملاحظات التي يعرب فيها هذا القائد السوفياتي عن قلقه حيال الهيمنة المتزايدة لستالين وأساليبه على آلة الحزب. بعد قضائه سنتين في السجن، تم اعتقاله مجددا سنة 1937 بسبب نزعته التروتسكية وحكم عليه بقضاء خمس سنوات في "المناجم التأديبية" ببلدة "الكوليما"، أي في هذه السجون المرعبة الواقعة على الرأس الشمالي لمنطقة سيبيريا: عشرات الآلاف من المعتقلين الجائعين المجندين لاستخراج المعادن النفيسة، ليل نهار، من باطن الأرض في جو بارد ب40 درجة مئوية تحت الصفر. بعد انصرام السنوات الخمسة حكم عليه مرة أخرة بعشر سنوات من أجل "الدعاية المضادة للسوفيات. أنقد طبيب حياته سنة 1949 عندما تم انتدابه كمساعد-معالج في أحد مستشفيات الكوليما حيث يلفظ عادة الضحايا أنفاسهم الأخيرة. بقي هناك إلى أن مات ستالين، قبل عودته إلى موسكو، واستعادته لأهليته في 1956.
ظل فارلام شلاموف يسائل، عبر كتاباته، واقع الاعتقال التعسفي الرهيب إلى أن وافته المنية سنة 1982؛ وذلك من أجل أن يستنبط منه الدروس السياسية وأن يستكشف - هذا هو الأهم - الواقع الحافي لما أسماه روبير أنتيلم ب"الجنس البشري":" قساوته اللامتناهية، الهادئة، المخطط لها، الفاقدة للشعور على نحو تام، بل كذلك قدرته الخارقة على البقاء، حتى ولو كان لأمل مفقودا. ليست اليد هي التي جعلت من القرد إنسانا، ليست هي نواة العقل، وليست مطلقا هي الروح: ثمة كلاب ودببة تتصرف على نحو أكثر ذكاء وبطريقة أكثر أدبا من الإنسان. في زمن ما، تحت ظروف متماثلة بالنسبة للجميع، انكشف الإنسان أكثر صلابة وجلدا على المستوى الجسدي من سائر الحيوانات".
على خلاف سولجينيتسين، الروحاني على نحو عميق والذي لا يتردد في جعل إعدام الجسد شرطا لحرية الروح، يشدد شلاموف على عدم جدوائية المعرفة المكتسبة خلال هذه الإقامة في الجحيم. هنا يمتزج الفكر بالحاجة إلى الأكل. يبدو أن الإنسان والعالم كما لو تحجرا، تحولا إلى قطع من الجليد ليس بإمكان أي انفراج إذابتها. تظهر الصورة مقلوبة عند تادوش بروفسكي حيث يبدو العالم للناجي من أوشفيتز منذورا لإبادة سائلة: "أعتقد أن الكون ينساب في الفراغ كما الماء بين أناملي، وأنه في يوم ما، في يومنا الراهن، ربما غذا فقط، بعد سنوات ضوئية، سوف يختفي بدون رجعة". ويحلم الراوي بتأليف كتاب يكون مثل صخرة منحوتة ملقاة في هذا العالم السائل.
هذه التجربة اللاإنسانية، المعاشة حتى حدودها القصوى، لا تسمح ببقاء إلا ما هو جوهري، إلا ما لا يمكن - وربما ما لا ينبغي - أن يقال: "إن المهم بالنسبة لي، ذلك القليل المتبقي عندي، لن يستطيعوا فهمه ولا اقتسامه. فما عرفته ما كان ينبغي على أي إنسان أن يعرفه، ولا حتى أن يعلم بوجوده". ثم يكتب شلاموف قائلا: "كيف السبيل إلى حكي ما لا يمكن حكيه؟ يستحيل إيجاد الكلمات (المناسبة)..ربما كان الموت قد يبدو أكثر بساطة".
الكتابة عن "الكوليما"، تعني أولا التخلي عن الزمن الخطي لتسلسل الأحداث، للماقبل والمابعد، للسبب والنتيجة، لسياق القصة المتصل. كل هذه العلامات غير معروفة بالبداهة عند أولائك الذين حكم عليهم بالعيش في دوامة جنون تعاقب اللحظات (العصيبة). تمزج حكايات شلاموف أحداثا طارئة، على مر سنينه العشرين التي قضاها في المعتقل، بأمكنة، بفصول، بوجوه..كما أنه لا يكتب دائما بضمير المتكلم (هو لا يحرر مذكراته). يستعير غالبا الاسم والشخص من معتقلين آخرين: السجناء ليسوا أفرادا متفردين، إنهم في الغالب يتبادلون الأدوار فيما بينهم وكذا مع جلاديهم الذين، من جهة أخرى، يجدون أنفسهم أحيانا من ضمن المعتقلين عندما لا يعدمون بالرصاص أثناء توالي عمليات "التطهير". ال"أنا" أو ال"هو" في الحكايات يكاد لا يحيل على قصة، بل على ركام صغير من العظام المكسوة بجلد آدمي..المعدة فارغة، اليدان محروقتان بالصقيع وبالمجرقة..الجسد عليل امتصه القمل، الرأس خال من أي فكرة ومن أي إحساس وهو ينتظر لحظة الموت في الوقت الذي لا يتمناه.
لهذه الحكايات، القصيرة أحيانا، المؤلفة على شاكلة قصص قصيرة، قصائد نثرية، شذرات من الذاكرة، لم يكتف شلاموف بمنح نجاعة درامية خارقة للعادة، من فرط الاحتجاز والأصالة والحصور الشعري، بل إن عظمة كتابه والضجة التي أحدثها تأتيان من طريقة تأليفه، من الكيفية التي نظم بها لعبة التشطي. فالقارئ ينتابه إحساس بالدوران بلا كلل في دائرة مغلقة وسط صحراء من جليد، داخل سجن للأعمال الشاقة بدون مخرج، بدون أي قانون آخر ما عذا قانون القوة.
طواف جهنمي لم تهدأ حركته ولم تتوقف بإطلاق سراح الكاتب وبعودته إلى موسكو كأيها الناس "العاديين". "الكوليما" دائمة الحضور، في جسده الممزق، في كوابيسه النهارية والليلية، في إرادة الكتابة، في اليد التائهة التي تمسك بالريشة، في لاإدراك من يحيطون به، الذين يتخاون عنه تباعا.
لقد فضل بريمو ليفي الانتحار على هذا العذاب الممتد بلا نهاية.. لكن شلاموف يريد تمرير رسالة..إن مركز حكاياته يتشكل من سلسلة من "الأبحاث حول عالم الجريمة" في المعتقلات. هو شاهد السطو الفعلي على السلطة من قبل مجرمي الحق العام، الذين تم حشرهم بطريقة منهجية ضمن المعتقلين السياسيين؛ هؤلاء الذين يسميهم شلاموف ب"اللصوص"، لم يقتصروا على سرقة الخزائن الهزيلة - ملابس، مأكولات، أدوية - لزملائهم من ذوي الحظوظ العاثرة، بل أصبحوا أسيادا على موظفي الدولة وكذا على العسكريين والحراس والأطباء. فبواسطة التهديدات والفساد والجرئم الدائمة حولوا يلدة "الكوليما" إلى مدرسة كبيرة للإجرام الغالب الذي أعلن شلاموف، قبل سقوط الشيوعية بكثير، عن أنه بصدد تسميم المجتمع الروسي بأكمله.
عن: Le Monde Diplomatique