يعتقد سورين كيركيغارد (1813-1855)، كما اعتقد سلفه إيمانويل كانط، أن المعرفة الأخلاقية بديهة عالمية. وقد غنّى بوب ديلان ذات مرة: "أنت لست بحاجة إلى خبير جوي لمعرفة الطريقة التي تهب بها الرياح"، ولعل كيركيغارد أراد القول إنك لست بحاجة إلى مختص في الأخلاقيات لمعرفة الحق من الباطل.
يرى كيركيغارد أنه عندما يتعلق الأمر بالأخلاقيات، فإنه لا يوجد غرض معرفي، أو بالأحرى مجموعة من القواعد أو المعايير التي يتناقلها شخص عن آخر. لكن لمجرد كون خبير الأخلاقيات هذا غير قادر على منح أي شخص أي جزء من المعرفة الأخلاقية التي لا يعرفها سلفا، فإن ذلك لا يعني أنه لا يوجد شيء يمكن للكاتب القيام به لمساعدة القارئ على أن يعيش حياة أكثر استقامة.
من منظور كيركيغارد، تصبح المسألة هي مسألة استخراج شيء من شخص ما، عوضا عن زرع هذا الشيء فيه، أو كما عبّر عن ذلك في استهلاله لإحدى المجلات، عندما يتعلق الأمر بالشأن بالأخلاقيّ، "...فعلى المرء أن يستخرجه من.."، كم لو أن عرّيفا يرى فتى في مزرعة فيقول: "سأستخرج منه الجندي الكامن فيه". وكان الاعتقاد المتمثّل بعدم وجود شيء محدد يُلقَّن في الشأن الأخلاقي قد حفز كيركيغارد، الذي كان يكتب غالبا تحت أسماء مستعارة، لتطوير "نهج الاتصال غير المباشر"، والذي كان يهدف جزئيا لحث الناس على إقامة علاقة أكثر حيوية وأصالة مع المُثل الأخلاقية والدينية التي هي لديهم سلفا.
واحدة من الخصائص المميزة للوجودية هي التركيز الهائل الذي وضعته على العمل. وأكد الوجودي الأصيل كيركيغارد أننا عندما لا نتصرف وفقا لقناعاتنا، فإننا بالتالي لا نفهمها. ويورد أيضا:"هذا هو الكذب المتأصل في كل التعليم الحديث، على وجه التحديد، إذ لا يوجد أي مفهوم على الإطلاق عن كيفية تأثر الفكر بحقيقة أن الشخص الذي يقدمه لا يجرؤ على التعبير عنه في العمل" (المجلات والأوراق، المجلد 1). "تختفي قوة الفكر" من خلال عدم التعبير عن المُثل العليا من خلال العمل. لذا فإن مشروع [كيركيغارد، الفلسفي] يتضمن حث الناس على العمل الأخلاقي، وليس مجرد التفكير به. هنا أريد أن أنظر إلى كيفية ارتباط هذا بالتسويف.
التسويف والخداع الذاتي:
يحث كيركيغارد الذي يكتب تحت الاسم المستعار "آنتي يوحنا" (Anti-Climacus) في كتابه "المرض طريق الموات" (1849) على الرأي القائل إن المرض حتى الموت يأس. وما اليأس؟ في الجزء الأول، يعرف كيركيغارد اليأس بمصطلحات علمانية، مثلا، الخلل الروحي و/أو نقص الوعي في أن تكون ذاتا. في الجزء الثاني، يخرج مباشرة ويعلن أن اليأس خطيئة. وما الخطيئة؟
يبدأ كيركيغارد بالمفهوم السقراطي القائل إن الخطيئة هي الجهل. ومع ذلك، بالانتقال من سقراط إلى أرسطو، نرى أن الخطيئة لن تكون خطيئة إن كان خطأنا هو جهل لم نكن لنُلام عليه، لأن الخطيئة تنطوي على نوع من الذنب المقترف. ولكن لنفترض أن جهلنا نابع من الذات! ينطلق كيركيغارد عند هذه النقطة نحو أكثر التفسيرات الجلية للخداع الذاتي الموجودة في التقليد الغربي: "إذا كان الشخص لا يفعل الأمر الحق فإنه سيعرف ذلك في اللحظة ذاتها، ثم تهدأ المعرفة. بعد ذلك يأتي سؤال كيف ترى الرغبة ما بتنا نعرفه [الآن]. الرغبة جدلية، وتقبع تحتها كل الطبيعة المنحطة للإنسان. إذا كانت الرغبة تناهض ما بتنا نعرفه وليست على هواه، فإن ذلك لا يعني بالضرورة أن تمضي الرغبة وتفعل عكس هذه المعرفة [لكي تحطمها على الفور]… إنها بدلا من ذلك تتيح بعض الوقت لكي يمر، فترة مؤقتة تسمى: "ينبغي أن تنظر إليه غدا".
[لنفرض أن لديك كومة ملفات، تحتاج إلى تدقيق عاجل والأمر مصيري. أنت تعرف أنه عليك القيام بالتدقيق فورًا، لكن الرغبة وقد تناهت إليها هذه المعرفة، التي تمقتها، ستقول لك، فلننتظر حتى الغد]. خلال كل هذا، يصبح ما عرفناه [أي الأمر الصائب] غامضا أكثر فأكثر، وسرعان ما تستأثر بنا الطبيعة المنحطة أكثر فأكثر، للأسف، لأن الخير يجب القيام به فورا، حالما يُعرف... إذ تكمن قوة الطبيعة المنحطة في إطالة أمد الأمور... وعندما تصبح المعرفة غامضة على النحو المتوقع، يمكن للمعرفة والرغبة فهم بعضهما البعض بشكل أفضل؛ إنهما في النهاية يتفقان تماما، لأن المعرفة الآن انصاعت إلى الرغبة وباتت تعترف بأن ما ترغب به هو صحيح تماما".
يقتنع كيركيغارد بأننا في مستوى ما ندرك أن القيام بالأمر الصائب سيؤدي في كثير من الأحيان إلى تصادمنا مع ما نتصور أنه مصالحنا الذاتية القصيرة والطويلة الأمد. خذ بعين الاعتبار، مثلا، ضابطة شرطة تشهد على إساءة شريكها لعشر سنوات إلى أحد المشتبه بهم. سلم شريكك، ومن المرجح أن يدير الخط الأزرق الرفيع ظهره لك. وبما أنها غاضبة، قد تفكر الضابطة بأن "لدي عائلة لأطعمها وربما أفضل أن أنام على هذا القرار". لقد نامت بالفعل، وباتت بحلول اليوم التالي تقود نفسها للاعتقاد بأن رد فعل شريكها المفرط كان مجرد حالة استثنائية.
يحذر كيركيغارد حينها من أن تأجيل القرارات الأخلاقية هو وسيلة شائعة لعدم تطبيقها. بالنسبة لكيركيغارد، فالوجه البريء نسبيا لخطيئة التسويف، وهو شيء يتصل بكتابة الأوراق أو ضرائب الإيداع، وتجاهلها، هو باب الهلاك. ومع ذلك، فهو يقدم وصفة لتحييدها.
الموت والزمان
يؤكد كيركيغارد في حديثه القوي بمحاذاة المقبرة (1845) الأهمية الوجودية للوصول إلى فهم ذاتي لموتنا. قد يبدو الأمر غير مناسب، ولكن، لكي نستمع إلى كيركيغارد، يجب أن تكون الجدية (alvorlighed) بوصفها نقيض السعادة هي الهدف النهائي للحياة. ويكتب: "الجدية هي أن تفكر في الموت، وتفكر به على أنه قدرك".
ثم يشرح عددا من الطرق التي يخطئ بها الناس في محاولة السير إلى قبورهم، مثلا، عن طريق التفكير في الموت "كراحة"، أو أنه "معادل كبير"، أو عن طريق وضع نفسك خارج الموت مع عبارات محفوظة عن ظهر قلب، مثل "حيث أكون أنا موجودا فالموت غير موجود، وحيث يكون الموت، لا أكون أنا". ومع ذلك، عندما نصل إلى فهم عميق مفاده ألا مناص من الموت في مرحلة غير مؤكدة، فإن هذا الفهم سيعطي قوة للحياة ويساعدنا على تجنب إغراء المماطلة.
الشخص الذي يعطي قيمة عالية لهذا اليوم لأنه محدود، لن يميل إلى المماطلة، لتأجيل اتخاذ القرارات مع مسكنات من قبيل "سوف أنام على ذلك الأمر". كما يكتب كيركيغارد:
إن البشر يعملون شيئا فشيئا على طمس فهمهم الأخلاقي والأخلاقي-الديني، الأمر الذي من شأنه أن يقودهم إلى قرارات لا تأبه لها حتى طبيعتهم الدنيا
"في الواقع، فالوقت جيد أيضا. فإذا كان الشخص قادرا على توليد ندرة الوقت في العالم الخارجي/ المادي، فلا بد أنه سيكون مشغولا. ومثله في ذلك مثل التاجر عند قوله إن السلعة لها سعرها بالتأكيد، لكن السعر لا يزال يعتمد إلى حد كبير على الظروف المواتية في وقت معين، فعندما يكون هناك ندرة في السلع، فإن التاجر يحقق أرباحا... مع فكرة الموت يكون الشخص الجاد قادرا على إنشاء ندرة للوقت/ الحياة حتى يحظى العام واليوم بقيمة لا متناهية".
فيما يتعلق بنزوعنا إلى خداع أنفسنا، يعلن كيركيغارد هذا القرار القاسي: "هكذا يعيش غالبية البشر؛ إنهم يعملون شيئا فشيئا على طمس فهمهم الأخلاقي والأخلاقي-الديني، الأمر الذي من شأنه أن يقودهم إلى قرارات لا تأبه لها حتى طبيعتهم الدنيا". وبعد أن استسلمنا واتخذنا الطريق الأكثر سُفرا مرة أو مرتين أو ثلاث مرات، ربما نفقد الثقة في قدرتنا على الدفاع عما هو صائب.
يحلل مؤلف كتاب المرض اليأس من حيث هو تجاهل لجانب إلهي. ومع ذلك، يظل هذا النص الصارم والعقائدي من ضمن مقتنيات حتى أتباع "موت الإله". ففي نهاية المطاف، يحتاج أولئك الذين توقفوا عن المعالجة ومناقشة مسألة الاعتقاد الديني فقط إلى قراءة تشريح كيركيغارد لليأس باعتباره يشير إلى عملية فقدان الإيمان في قدرة المرء -في القدرات الأخلاقية للمرء- وبالتالي رفع الراية البيضاء نحو تطلعات الفرد الأخلاقية.
غالبا ما يُساء فهم كيركيغارد على أنه يدعونا للتصرف وفقا للشعور أو باندفاعية. لكن تحليله للمماطلة يشدد على أنه يجب علينا أن نتصرف بمجرد أن نعرف ما الصائب والأحق بأن يُتبع. قد تستدعي هذه المعرفة التفكير، ولكن ينبغي أن نكون حذرين من التفكير في أثناء طريقنا للخروج من القرارات الصعبة.
--------------------------------------------------------------
هذا المقال مأخوذ عن Philosophy Now