لماذا و كيف تمكنت شبكة الأنترنيت، بسرعة مذهلة، من أن تشكل الإطار الحاضن لطموحات الشباب، عبر مختلف ربوع الوطن العربي الكبير، ضمن توجهات مختلفة و متباينة حسب السياقات بكل تأكيد؟ نجيب عن هذا السؤال من خلال النظر في طبيعة الخطاب السياسي و الثقافي العربي الراهن من جهة، ثم في طبيعة شبكة الأنترنيت ذاتها من جانب ثان..
الأمر المؤكد أن الشباب، كما تأكد ذلك من خلال تجربتي تونس و مصر على الأقل، و من خلال العديد من الشهادات الحية، ظل يعاني لعقود من الزمن من نوع من التهميش البين، مثلما ظل يعاني، و هذا الأمر الخطير، من فراغ سياسي و ثقافي مريع، فضلا عن إحساس بالحيف الاجتماعي، لا أجازف إذا قلت إنه لم يكن مقصودا بالضرورة في غالب الأحوال، و لكن آليات العمل المتوفرة كرست على العموم ما يمكن أن نعتبره هوة مريعة بين الشباب، بحيويته و قوته الضاربة، و بين النخب السياسية و الثقافية التي ظلت على العموم متخندقة ضمن لغة إيديولوجية مكرورة و متخشبة، بدت عاجزة تماما عن احتضان هذا الزخم الحياتي المتفجر و المتدفق كما نراه اليوم..
إن الذهنية الجديدة للشباب بصفة خاصة هي ذهنية علائقية مفتوحة على كل الاحتمالات.. هذا ما تتيحه و تفتحه بصفة خاصة هذه الشبكات الاجتماعية و التعاونية العملاقة المتوفرة على شبكة الأنترنيت تحديدا، مثل شبكة الفيس بوك و تويتر و اليوتوب و غيرها.. لم يعد الشباب اليوم يميل إلى التعامل بالمفاهيم المجردة ، بقدر ما غدت لغة الصورة، و لغة الروابط المتشعبة و لغة البروفيلات المتحركة و التعليقات السريعة هي اللغة الأثيرة لديه.. هذه العلائقية أبعد ما تكون عن التقوقعات و التشنجات الإيديولوجية العقيمة للنخب التقليدية.. و لهذا ما زلت ألاحظ بعد انصرام فترة لا بأس بها من نهاية "بن علي"، أن هناك شرخا كبيرا حتى الآن، داخل المجال السياسي التونسي، بين لغة الشارع، لغة الشباب، و بين لغة النخبة، بكل تلويناتها و مشاربها... و يبدو لي، من خلال العديد من الندوات التي تتبعتها في الموضوع بين فاعلين تونسيين، أن هناك نوعا من حوار الصم بين الجانبين، لغة النخبة هي لغة إيديولوجية جامدة تنضح بالحسابات و المؤامرات الضيقة و تصفية الحسابات، بينما تبدو لغة المواطن العادي، و لغة الشباب، لغة طازجة، ساخنة، تنضح بالحياة و الحب و الأمل، بعيدا عن الشعارات الزائفة من أي نوع.. و يبدو لي على هذا المستوى أن على النخبة أن تسارع بتجديد خطابها، و أن تعجل بالخروج من شرنقة الحسابات الضيقة و تصفية الحسابات، و من التخندق في مفاهيم موروثة بتقليد ممل عن أزمنة غابرة لتتمكن فعليا من احتضان و مواكبة هذا الزخم الحياتي الرائع للمواطن العادي...
المنظومة السياسية العربية عموما تقوم على مفهوم جامد و فج للمؤسسة الحزبية.. و لذلك كان من الطبيعي أن تتحرك هذه الجحافل من الشباب جهة شبكة الأنترنيت واجدة فيها سيولة حياتية هائلة تكاد تنعدم في معظم الإطارات السياسية و الثقافية التقليدية..
إزاء غموض النخب السياسية و الثقافية يجد الشباب في الأنترنيت فضاء مفتوحا للتعرف على الذات و لإثبات الذات.. و هم يبدعون و يتواصلون على الشبكة بلغة طازجة هي لغة الحياة اليومية، مثلما هم يبدعون و يتواصلون خارج سلطة الرقيب و بعيدا عن الحسابات الغامضة للنخب و الإطارات السياسية و الثقافية السائدة.. يبنون عوالمهم الوهمية الخاصة، ينشرون حميمياتهم اليومية، باللغة التي يحبون، اللغة الأقرب إلى نفوسهم، و هي في الغالب لغة هجينة أقرب إلى لغتهم في الحياة اليومية، و يتحولو.ن بإمكانياتهم الخاصة إلى مبدعين ينشرون أعمالهم كما يحلو لهم، متحدين بذلك كل أشكال الرقابة الذاتية و الموضوعية في أدوات النشر و التواصل التقليدية..
و بخصوص شبكة الأنترنيت، علينا أن ندرك أن الطفرة التي تحققت نحو ما سمي بالويب 2.0 كانت طفرة بالغة الأهمية في أفق تحرير الفعل و الخطاب الأنترنوتيين، و لكن أساسا في أفق إشراك ملايين المواطنين عبر العالم كله ضمن ديناميات اجتماعية تواصلية هائلة لم يعرف قط نظير لها عبر مجمل التاريخ الإنساني السابق.
خلق "الويب 2.0" دينامية جديدة في مسألة البحث عن المعلومات، و تبادلها و تقاسمها على الشبكة، و تحولت المعلوماتية هنا إلى حياة اجتماعية منفتحة بصفة خاصة على الأنماط الجديدة لحياة الشباب عبر مختلف مناطق العالم الراهن. و صار بالإمكان تلقف المعلومات الطازجة، الخفية، المقموعة و المهمشة، بالصوت و الصورة. بل غدا بالإمكان مناقشة المعلومات للتحقق من قيمتها و التثبت من موضوعيتها و نزاهتها، و خلقت تضامنات جديدة بين الباحثين- و معظمهم من الشباب- قصد تمحيص المعلومات و ضبط سياقاتها ضمن منظورات نقدية متواطئة، تزعم مواجهة كل أشكال التعتيم و الزيف على المستوى المعلومياتي العالمي.
بذلك تصبح لكل إنترنوتي، عبر مواقع الويب 2.0 التشاركية هذه، القدرة على المساهمة في مسألة تبويب المعلومات و تصنيفها و تقاسمها مع الآخرين، من خلال تحديد صفحات و مواقع محددة لديه كل حسب اختصاصاته و اهتماماته، مع تسييجها بكلمات مفاتيح و أوصاف تخصصها من منظوره، و يغدو بإمكانه بالمثل العثور على صفحات و مواقع تهمه لدى الآخرين ممن يحملون نفس همومه و توجهاته، و هكذا دواليك..
لا يقف الأمر عند مسألة تقاسم و تبادل الصفحات و المواقع، ذلك أن الويب 2.0 يمكننا أيضا من تقاسم الصور الفوتوغرافية و الفيديوهات. و إذا كان موقع Flickr الذي ضمه موقع ياهو الشهير إليه، هو الموقع الرائد في مجال تقاسم الصور الفوتوغرافية و الصور عموما على الخط، بما يوفره من ملايين الصور التي ينتجها و ينشرها الإنترنوتيون في مختلف بقاع العالم، و بمحرك بحث خاص لتيسير البحث و العثور على الصور حسب الاختصاصات المحددة، فإن ما يوفره هذا الموقع أيضا هو الارتباط بالأعضاء الآخرين الذين يحملون نفس اهتماماتنا، و تتبع ما ينشرونه من صور على الموقع بشكل متجدد، مع ما يرتبط بذلك طبعا من توطيد صلات البحث و المعرفة و التعارف من أجل روابط أكثر إنتاجية و تفاعلية.
و فيما يخص تقاسم الفيديوهات، نشير إلى العملاق في هذا المجال "يوتوب"، يضاف إليه موقع DayliMotion . يتوفر كل من الموقعين على محرك للبحث يمكن من الوصول إلى مختلف الفيديوهات التي يضعها الإنترنوتيون عليهما، و هي توضع طبعا مع أوصاف لها و عناوين و كلمات مفاتيح، و هكذا بوسع أي كان العثور على مئات الفيديوهات في كل مجال للبحث، و ما يميز هذه الفيديوهات كما أسلفت، أنها تقدم بالصوت و الصورة جوانب أخرى ، خفية من حياتنا المعاصرة، على مستويات متعددة، كما يراها و يلتقطها أناس عاديون عبر مختلف بلدان المعمور، مما يسفر عن فسيفساء بصرية لا تكتفي بالتوثيق فحسب، بل تعتمد أيضا على طاقات من الخيال و الإبداع و الابتكار، كما هو الشأن تحديدا في تلك الأشرطة القصيرة المبتكرة، التي تبرز إلى أي حد يمكن أن تمضي الصورة المتحركة في رصد بعض الأبعاد الملحة في التجربة الإنسانية من منظورات متعددة.
نحن إزاء طفرة علائقية هائلة تتيح لشبيبة اليوم، خصوصا في المجتمعات الشبه مغلقة، من التخلص ضمن منظور تشاركي عالمي من ضغط الخطابات السياسوية و الثقافوية الضيقة. لندع لغة الأرقام تتحدث بنفسها حتى نكشف حقيقة هذا الانفجار الكاسح الذي باتت تحققه الشبكات الاجتماعية على المستوى العالمي.
الفيس بوك.. موقع عملاق شكل بصورة سريعة ملاذا سحريا لملايين المواطنين من مختلف بقاع العالم. ماذا تقول الأرقام؟
أعضاء الفيسبوك:
أزيد من 250 مليون مستخدم نشيط ( أي الأعضاء الذين استعملوا بروفيلاتهم على الأقل مرة واحدة خلال 30 يوما )
أزيد من 120 مليون مستعمل يرتبطون بالموقع على الأقل مرة واحدة في اليوم.
كل عضو يتوفر في المتوسط على 120 صديق على الفيسبوك.
كل يوم، أزيد من 5 ملايير دقيقة يتم قضاؤها على الموقع عبر العالم.
أزيد من 30 مليون مستخدم يحينون وضعياتهم على الموقع على الأقل مرة واحدة في اليوم.
التطبيقات:
أزيد من مليار صورة يتم تحميلها كل شهر.
أزيد من 10 ملايين فيديو تحمل كل شهر.
أزيد من مليار محتوى يتم تقاسمها كل أسبوع ( روابط، حكايات، تعليقات، ملاحظات، صور، إلخ.)
أزيد من 45 مليون مجموعة نشيطة
أزيد من 2.5 مليون حدث يصنع كل شهر.
فيسبوك على المستوى الدولي:
أزيد من 50 ترجمة متوفرة للموقع، و أزيد من 40 ترجمة جديدة في طور التطوير.
أزيد من 70% من مستعملي الفيسبوك يتواجدون خارج الولايات المتحدة..
يبدو أن هذه الأرقام الصادرة عن الفريق المنتج و المسير للفيسبوك كافية لوحدها و ليست بحاجة إلى تعليق. عهد التقوقعات و الانغلاقات انتهى تماما. لذلك نحن مطالبون بأن نكون جديرين فعلا بالانتماء إلى هذه الطفرة، و باستثمار شبكة الأنترنيت من أجل تدشين تواصل حقيقي مع هذه الشرائح العمرية المتوقدة، علما أن على المدرسة المغربية أن تلعب دورها البالغ الأهمية فيما يخص التربية على الأنترنيت إسوة بما هو معمول به في العديد من البلدان الأخرى عبر العالم..