في عصر ما قبل الإنترنت، هيمنت فكرة رئيسية على مجريات السلوك البشري٬ حيث عزف معظم الأفراد عن التحدث في أمور السياسة وتدبير الشأن العام وحقوق الإنسان٬ سواء في الأماكن العامة أو في النطاق الأسري أو مع زملاء العمل. ولكن في عقب التطور الهائل لشبكة الانترنت٬ وطفرة تكنولوجيا الإعلام والاتصال٬ بما في ذلك شبكات التواصل الاجتماعي من قبيل (فيسبوك-توتير...)٬ والمواقع الالكترونية الإخبارية والتفاعلية والمدونات وغيرها من تمظهرات التكنولوجيا الرقمية٬ أتيحت للأفراد والجماعات فضاءات شاسعة و مساحات حرة للتداول و النقاش في كافة أمور الحياة و في مقدمتها القضايا السياسية، وبالتالي إعطاء الأقليات فرصة للتعبير عن آرائهم السياسية والفكرية بحرية مُطلقة بعيدا عن ضغوطات المجتمع والنظام السياسي الحاكم.
وفي وقت تعصف فيه رياح التغيير بالعالم العربي منذ بداية 2011، أصبح رهان التغيير السياسي٬ ودعم الحريات٬ وتحقيق العدالة الاجتماعية٬ وإرساء أسس الديمقراطية٬ والقطع مع الممارسات القمعية والاستبدادية٬ مسألة وجودية للشعوب العربية، فإما أن تكون أو لا تكون. والأكيد أن ولوج تكنولوجيا المعلومات والاتصال ميدان العمل السياسي، أدى إلى ميلاد آليات وطرق عمل جديدة للتعبير عن الرأي٬ وممارسة الديمقراطية٬ وتحفيز المشاركة السياسية بكل أشكالها (مظاهرات سلمية- حملات انتخابية- مواقف سياسية وحقوقية...) ، فيما يمكن أن نصفه بديمقراطية تكنولوجيا الإعلام والاتصال، أو "الديمقراطية الرقمية".
والديمقراطية الرقمية هي العملية التي يتم من خلالها توظيف منتجات الثورة التكنولوجية الرقمية، إما بغرض تجديد مضمون الممارسة الديمقراطية، أو لجهة توسيع فضائها ومجال عملها، أو على خلفية من ضرورة إعادة تشكيل قواعد اللعبة القائمة عليها، ما يجعلها ترتبط بتكنولوجيا الإعلام والمعلومات والاتصال، على مستوى الأجهزة والأدوات، باعتبارها البنية الحاملة، وعلى البيانات والمعطيات والمعلومات، باعتبارها المادة الخام التي تقتني ذات البنية بغية الرواج والشيوع، والانتقال من الجهة المنتجة والمخزونة والباثة، إلى الجهة المتلقية المعيدة للإنتاج أو المستهلكة له بهذا الشكل أو ذاك. حيث أن الدمج بين تكنولوجيا الاتصال والمعلومات وبين العمل السياسي، أفرز أدوات وطرق عمل جديدة في ممارسة العملية الديمقراطية، و نشر المناخ الملائم لتحفيز وتقوية المشاركة السياسية من قبيل: التسويق السياسي والحملات الانتخابية الالكترونية٬ والانتخاب الالكتروني عبر شبكة الانترنت، و التعليق على القرارات الرسمية، و المشاركة في صنع ورسم السياسات العامة للدول، والاحتجاج الرقمي٬ والمناصرة وحشد التأييد لقضية معينة ( الاغتصاب – الإدمان –الفقر- الفساد-الميز العنصري...) وغيرها من الأمثلة الحية.
والواقع أن ثورة الاتصال والإعلام وعلى رأسها الإنترنت٬ وجدت في الأوضاع المتردية بالوطن العربي بيئة تدعو إلى الاحتجاج؛ حيث الاستبداد السياسي، والبطالة، والتخلف الاقتصادي، وتدهور الخدمات، وتدني مستوى المعيشة في معظم الدول العربية، والبيروقراطية البئيسة، والفساد بكافة صوره وأشكاله، وانعدام العدالة، وتخلف نظم التعليم، وتردي الخدمات الصحية٬ وانتهاك حقوق الإنسان والكرامة البشرية، وتوحش الأجهزة الأمنية واستئسادها علي المواطنين، وغير ذلك من مظاهر التخلف. وكان لذلك أثره البالغ في قيام حركات احتجاجية تطالب بالتغيير وتحشد الجماهير للمطالبة بالإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي. ونظراً لسرعة التحولات المحلية والعالمية، فإن الشباب في المنطقة العربية يعيشون مرحلة انتقالية لم تحسم خياراتها بشكل نهائي بعد، وباعتبارهم من أكثر الفئات الاجتماعية انفتاحاً على الثقافات الأخرى، وأشدها تطلعاً وطموحاً، فإنهم أكثر ميلاً إلى قيم التجدد والتغيير وأكثر تمرداً علي ما يحيط بهم من قيم ومعايير وخيارات اجتماعية وسياسية وحياتية وسيلتهم في هذا النضال المتواصل منجزات ثورة الإعلام والاتصال.
وبالتالي نجد أنفسنا باختصار أمام ظاهرة إنسانية كونية، هي وليدة المصاهرة العميقة بين أدوات ممارسة المواطن لحقوقه السياسية والديمقراطية كما نصت عليها المواثيق الدولية من جهة٬ وبين منجزات ثورة تكنولوجيا الإعلام والاتصال من جهة أخرى. وتلك الظاهرة السياسية الرقمية لا تزال تتبلور يوما بعد يوم - خاصة في المنطقة العربية - ، حيث أن منجزات العصر الرقمية لا تتوقف عند حد. ولكن الأكيد أن الديمقراطية الرقمية تفرض نفسها على الواقع الاجتماعي والسياسي للشعوب والمجتمعات٬ مما يحتم على كل الفاعلين بمختلف أطيافهم السياسية والاجتماعية والحقوقية ٬ ضرورة التعامل معها والحرص على استثمارها خدمة للصالح العام.
فقد ساهمت تكنولوجيا الإعلام والاتصال في لعب دور حيوي في دعم الديمقراطية حول العالم٬ بما أتاحته من أدوات تعبير واستراتيجيات عمل في المجال السياسي العام٬ وبشكل أثر على أداء المؤسسات التقليدية٬ وبما أتاحته من مجال عام مفتوح من الأفكار والمعلومات السياسية على شاكلة ساحة الأغورا اليونانية. بل أصبح للثورة التكنولوجية دور في الإدارة الفنية للعملية الديمقراطية٬ من خلال التصويت الالكتروني والتواصل السياسي الذي تقوم به الحكومات والأحزاب السياسية وفعاليات المجتمع المدني وجماعات الضغط.
ويتوقع خبراء الإعلام والاتصال وعلماء السياسة٬ أن يتعاظم الدور السياسي والحقوقي لتكنولوجيا الإعلام والاتصال مع الوقت٬ لينتقل من تغيير الأدوات والآليات إلى تجديد الأفكار، من خلال إفساح المجال أمام أفكار ورؤى وتصورات لم تجد طريقها إلى النور بعد، ولم تجد البيئة الملائمة لظهورها وتبلورها. و الديمقراطية الرقمية في النهاية لا تعني اختراع نوع جديد من الديمقراطية لم تختبره البشرية من قبل٬ بل ممارسة للديمقراطية المعروفة بأدوات وآليات جديدة تعمل على تعميمها وتطويرها استجابة لمتغيرات ومقتضيات العصر الحالي. أو بعبارة أخرى ، قيام المواطنين والحكومات وجميع الفاعلين السياسيين باستخدام منجزات ثورة المعلومات والاتصالات كوسيلة فعالة في تفعيل جوهر الديمقراطية وتنزيل مضامينها على أرض الواقع.
و الأكيد، أن الحديث عن الديمقراطية الإلكترونية يدخل في سياق الإمكانيات السياسية و التكنولوجية الحديثة التي تتيحها الإنترنت. حيث ترى هذه النظرية أن الديمقراطية على الإنترنت تتشابه مع الديمقراطية في بلاد اليونان القديمة، حيث كان يجتمع أهل المدينة في ساحة كبيرة تسمى الأغور "Agora "، ليناقشوا شئون المدينة بشكل علني . ويتوافق ذلك التجمع القديم مع المنتديات وساحات النقاش، وشبكات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية عبر الإنترنت. إنها فضاءات عمومية يتجمع فيها المواطنون بمختلف مذاهبهم وتياراتهم السياسية والثقافية والحقوقية ليعبروا عن رؤيتهم السياسية بشكل افتراضي غير محدد المكان والزمان، وهي ملاذ فئات الشباب العربي التواق للحرية والديمقراطية وسيادة حقوق الإنسان التي ناضل من أجلها ولا يزال.
فقد وجد الشباب العربي، في الإنترنت متنفسا للتعبير عن آرائه وأفكاره وطروحاته الفكرية والاجتماعية والسياسية، التي تقمعها الحكومات والأنظمة السياسية مدعومة بجماعات الضغط وأصحاب المصالح والنفوذ. إن الإنترنت ساحة للديمقراطية الإلكترونية أو الرقمية تتميز بحرية وسهولة الولوج والتعبير والقدرة على الإفلات من سيف الرقابة وقبضة المنع، فضلا عن كونها متاحة طوال الوقت للجميع. كما غدا أهم وسيلة لتفعيل المشاركة السياسية للشباب العربي : التعليق على القرارات الرسمية بحرية ومسؤولية، والاحتجاج الرقمي الفردي والجماعي٬ والمناصرة وحشد التأييد لقضية معينة تهم المجتمعات المحلية ، والمشاركة في الديناميكية الانتخابية بما لها وما عليها وغيرها من المساهمات المواطنة . بالإضافة إلى قدرته على تفكيك وإنهاء هيمنة وسائل الإعلام التقليدية على صناعة وإنتاج الخبر والمعلومة محليا ووطنيا ودوليا.
والواقع أن الاستفادة من ديناميكية وثمار الديمقراطية الرقمية، لم تقتصر على الأفراد بل استفادت منها حركات المُعارضة بكل تلويناتها وأطيافها المختلفة كأداة إعلامية جديدة لا تخضع للرقابة الحكومية، مع قدرتها على الانتشار والتأثير في الرأي العام بسلاسة وسرعة منقطعة النظير. وهذا ما يُفسر درجة التأثير المُرتفعة للإنترنت في النُظم المُنغلقة والاستبدادية مقارنة مع النظم الديمقراطية، والتي كانت تتسم باحتكار الدولة وحلفائها لوسائل الإعلام التقليدية، والتحكم في هامش حرية التعبير داخل المجتمع، وإضعاف دور و فاعلية الأحزاب السياسية وغيرها من سمات النظم الدكتاتورية.
ولقد أدت عملية التدفق الحر للمعلومات والمعطيات عبر شبكة الإنترنت إلى إزالة الحواجز بين النظم السياسية فالعالم أصبح قرية صغيرة لا مكان فيها للأسرار، وكذلك تم استخدام الإنترنت في الترويج لمنظومة حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها دوليا، وأدى أيضا إلى انفتاح المجتمعات المُنغلقة على ثقافات وممارسات وفلسفات أخرى بشكل ساهم في زيادة الضغط على كثير من النظم السياسية القائمة : حيث اضطرت العديد من الأنظمة الاستبدادية والحكومات القمعية لتطبيق إصلاحات سياسية وحقوقية ولو جزئيا لتلبية بعض المطالب المشروعة لمواطنيها ، في حين كابرت دول أخرى وقاومت رياح التغيير وفجر المطالبة بالإصلاح السياسي العميق. سلوك متهور وغير مسئول أدى لحدوث كوارث إنسانية يندى لها الجبين كما هو الحال بالنسبة لسوريا.
والحقيقة أننا نجد أنفسنا أمام اتجاه عالمي يتنبأ بميلاد ديمقراطية كونية على شاكلة "أغورا " عالمية تتجاوز تعقيدات الحدود الجغرافية و ديبلوماسية السياسة. وقد حدد لويد مورست Lloyd Morrisett ست عناصر للديمقراطية الرقمية على الإنترنت هي:
أولا:الولوج للمعلومات، تتصف شبكة الإنترنت بالعالمية، حيث يمكن للأفراد علي مستوي العالم أن يعبروا عن آرائهم بحرية كاملة دونما قيود على دخولهم على الإنترنت-باستثناء بعض الدول التي لازالت تفرض قيودا شديدة على استخدام الإنترنت.
ثانيا: توافر المعلومات والتعليم، يملك من يدخل شبكة الإنترنت قدرا معقولا من المعلومات والتعليمات تساعده في التعبير عن آرائه وإبداء أفكاره دونما تعصب لرأي ما.
ثالثا:المناقشة، يمكن مناقشة الموضوعات والقضايا السياسية عبر الإنترنت مع أكثر من طرف اتصالي بعيدا عن قيود الزمان والمكان ، مثل مناقشة الموضوعات المتصلة بالوضع السياسي والحياة الحزبية، ومجمل القضايا التي تهم المواطنين العاديين، والقيادات السياسية سواء المعارضة أوالحكومية.
رابعا: التروي والتداول ، تساعد شبكة الإنترنت المستخدمين في التروي في إصدار الأحكام من خلال الإطلاع على تجارب وخبرات الآخرين والتداول بشأن مضامينها وفاعليتها.
خامسا: الاختيار، تمكن عمليتي المناقشة والتروي المستخدمين من اكتساب القدرة على الاختيار حيث تتولد مجموعة من البدائل والخيارات والأفكار والرؤى التي يمكن الاختيار من بينها.
وأخيرا: الفعل،تعد مرحلة الفعل المرحلة النهائية التي يتبني من خلالها المستخدم وجهة نظر معينة، أويقتنع بقوة فكرة محددة تترجم رأيه النهائي.
على العموم، فإن الديمقراطية الرقمية أو الإلكترونية، قد ساهمت في تعظيم التأثيرات السياسية للإنترنت بالوطن العربي –سواء تعلق الأمر بالتوجهات الثورية أو الإصلاحية- فبالإضافة إلى اتساع نطاق النفاذ للإنترنت وارتفاع نسبة وحجم الشرائح الاجتماعية المستخدمة له، فقد تركز هذا التوسع أساسا داخل فئة الشباب ، حيث حدث تحول واضح في أنماط استخدام الشبكة العنكبوتية في العالم العربي خلال السنوات الأخيرة، في اتجاه ارتفاع معدلات استخدامها كوسيلة وكساحة للعمل السياسي الرسمي وغير الرسمي، الأمر الذي يطعن في مقولة أن الإنترنت يمثل عالمًا سياسيًّا افتراضيًّا، بل إنه فضاء سياسي مفتوح للجميع وخاصة فئة الشباب : وذلك لما أتاحته الإنترنت من حرية الحوار والتعبير عن الرأي والمناقشات من خلال منتديات الإنترنت والمدونات وإنشاء المواقع والمجموعات البريدية، واستطلاعات الرأي الإلكترونية والتجمعات الإفتراضية، وعملية الإحتجاج الرقمي والعصيان المدني الإلكتروني...
رضوان قطبي
باحث في العلوم السياسية- المغرب-