توطئة:
تشهد الأنظمة التربويّة تحوّلات كبيرة في العديد من مرتكزاتها و أسسها سواﺀ ما تعلّق بمحتويات برامجها أو خياراتها البيداغوجيّة أو أنماطهـا التقييميّة. و لعــلّ تلك المراجعات و التحوّلات مردّها النقلة المجتمعــيّة التي أحدثها التطوّر العــلميّ وخاصّة في جانــبه التكنولوجيّ و تخصيصا تكنولوجيا المعلومات و الاتصال. و فـي هذا الصدد يبدو البعض محقّّا حـــين اعتبر "أنّ النقلة المجتمعيّة التي ستحدثها تكنولوجيا المعلومات ماهي في جوهرها إلّا نقلة تربويّة في المقام الأوّل"(1) .و بهذا المعنى فـإنّ البحث في العلاقة بين هذا المنتج العلمي و آثاره التربويّة و البيداغوجيّة هو في صميم رهانات النظم التربويّة اليوم و مشاريع المؤسّسات التعليميّة .
فحــين نــلقي نظرة على المحيط البيداغوجيّ المؤثّر في كلّ ممارسة تربويّة و خاصّة داخل الفصول يتّــضـح بجلاﺀ أنّ حضور الصّورة كثيف، و أن لا معنى لنشاط لا يستند إلى هذه الوسيلة البيداغوجيّة الهامّة " فالتعليم بوصفه فنّ اقتناﺀ المعرفة و ملاحقتها و توصيلها و توظيفها" (2) يجــد في الصّورة سندا تربويّا لا غِـنى له عــنه لأنّ عمــليّة الرؤية تختصّ بوضــعيّة مــزدوجة وفــق المنظور الفلسفي فهي تُحِيل من جهة أولى على مصدر تنجم عنه، و ترتبط من جهة ثانية بمشهد أو موضوع تستهدفه. فالصّورة جهاز من الرّموز تستـدعي التفكيك و التأويل، و علــيه فـــإنّ الاشتغال البيداغوجيّ عليها لا يقلّ شأنا عن إنتاجها. إنّ تـنزيل الصورة في الحقل البيداغوجي تنزيل وظيفيّ و ليس اعتباطيّا ، فحــضورها الكــاسح في مخـتلف المحاميـــل البيداغوجيّة يؤشّر على أنّها ليست تأثـيثــا جمــاليّا أو تسلـــية بصريّــــة بقدر مــاهي ضــرورة بيداغوجيّة (nécessité Pédagogique).
1 - محاولة في تعريف الصورة:
الصـّورة لغة هي“ شكل الشيء و هيــئـته/ وهـــي مثال الشيء المرسوم عــلى صفحة مــن الورق أو النسيج، وصورة الأمر كـذا أي صفــته، ج صُوَرٌ و صِوَرٌ و صُوْرٌ ”(3) / يعــرّف ابن مــنظور الصورة:“ تصوّرت الشيء توهّــمت صورته فتصوّر لي و التصاوير التماثــيل. " وهــي كذلك تَشكُّلُُُ ُمرئيّ قد يكــون على درجة كبيرة من التشابه مع الواقع ". وهي تـَمثّلُُ ُذهنيّ وحينـــها نكون إزاء صــور ذهنيّة، الصّورة من هذه الزاوية تجريد ذهنيّ للواقع.
الصّورة أيـضا وفــق المقاربة النفـسيّة- الاجتماعيّة تتّصل بالمكانة، أي بــصورة "الأنا" لـدى“ الآخر و كذلك بصورة“ الآخر” لدى“ الأنا”، هي ما يحمله “الآخر” عن“ الأنا” من الانطباعات و الأحكام بل و من المواقف.
إنّ هذه التعاريف تكاد تلتقي حول معنى مشترك يتمثّل في الرّسم و الارتسام، الرّسم كمعطى مادّي و الارتسام كحالة ذهنيّة أو وجدانيّة، وهو معنى له امتداد بدوره في الحقل البيداغوجيّ، ذلك أنّ الصّورة وسيلة تعليميّة "يستحيل التفكير دونها" كما قال أرسطو، و "الصّورة لم تعد أفضل من ألف مقال بل صارت أفضل من مليون مقال." يرتبط التفكير بالصّورة بما يسمّّى التفكير البصريّ و التفكير البصريّ كما يعرّفه آرنهايم "محاولة لفهم العالم من خلال لغة الشكل و الصّورة، و التفكير بالصّورة يرتبط بالخيال، و الخيال يرتبط بالإبداع" (4)، ذلك أنّ "90٪ من مدخلاتنا الحسيّة هي مدخلات بصريّة كما تقول بعض الدراسات الحديثة" (5). ويذهب البعض من الأخصائيين في هذا المبحث إلى اعتبار أصل كلمة الصّورة يونانيّا يعود إلى الجذر القديم "أيقونة" ، و التي تشير إلى التشابه و المحاكاة ، الأيقونة في معجم لاروس "هي صورة المسيح و العذراء و القديسين في الكنائس الشرقيّة".
2- مبادىﺀ التعلّم بالصّورة:
لئن سلّمنا بأنّ الواقع لا معنى له دون صور و أنّ وعينا به تحدّده في الكثير من الأحـيان الصّــور التي تُغرق حياتنا و تنمّط سلوكاتنا و تفرض علينا مسالـك فــي التـواصل محكومة بهذه الثورة الإعـلاميّة و التكنولوجيــّة فإنّنا مع ذلك نحتاج في المجال التربوي إلى بيان بيداغوجي ينهض على مجموعة مــن المبادئ التي تــيسّر للمدرّس/ المتعلّم اســـتثمار الصّورة الاستثمار الناجع و الواعي و تمثّل إطــارا نظريّا مرجعيّا يتحرّك ضمنه.(أ) – المبدأ الأوّل يتمثّل في كون التعلّم مسارا ديناميّا و بنــائيّا: أي أنّ المتعلّم فــي تعامله مــع مختلف الوســائل التعليــــميّة، و الصّورة إحــداها، يبني المعرفة بإسهام ذاتيّ و متدرّج. المعرفة بـــهذه الصـورة بناء والتعلّم اكتشاف للمعرفة و بحث عن المعنى من خلال الصّورة و فيها.(ب)- المبدأ الثاني يتمثّل في أنّ التعلّم هو أساسا إقامة صلات بيـن معطيات جديدة و معـارف سابقة. ذلــك أنّ معالجة المعلومة التي قد توفّرها الصورة تتمّ بالاستعانة بما يختزنه المتعلّم في ذاكرته من المعارف القبليّة و المهارات. فهذه المكتسبات توجّه اشتغاله غلى الصورة و تؤثّر في قراءته لها و استنطاقها. (ج)- المـــبدأ الثالث ينهض عــلى اعــتبار الـــتعلّم مـن خلال الصورة يســتدعي التنظيم الواعي للمعارف و البحث في هيكلتها و أنساقها بعيدا عن التداخل و الغـموض. فالمتعامل مع الصّورة يرتقي فــي هذه النقطة بالذات إلى مرتبة الفنان في حرصه على رشاقة المعلومة و وجاهة الفكرة و جماليّة البناء. (د)- المبدأ الرابع أساسه أنّ التعلّم بالصّورة يمسّ المعارف المعلـــنة و الصريحة (الخبريّة) مــثلما يمسّ أيضا المعارف الإجرائية و الأداتيّة. ذلك أنّ الاشتـغال عــلى الصّورة فــي الشأن التربويّ و خاصّة في علم النفس- العرفاني يتطلّب التمييز بين المعارف: فهي قد تكون معلنة و صريحة و مفتاحها ســؤال "ماذا؟" مثلما قد تكون أيضا إجرائيّة تتّصل بالكيفيّة “ كيف؟” أو كذلك الإشراطيّة باعتماد تقنية السؤال الآتية“ متى و لماذا ” نعتمد المعرفة المعلنة- الخبريّة أو الإجرائيّة ؟
إذن الــمعرفة تســـتحيل لــدى المتعلّم وفق هـــذا المنظور متمثّلة عبر ممارسات موجّهة و تشاركيّة تارة و فرديّة مستقلّة تارة أخرى.
(ه)- المبدأ الخامس البيداغوجيّ الذي يوفّر للمتعلّم إمكانات القراءة المتفهّمة و المتبصّرة للصّورة يــقـوم على مدى اهتمامه و انجذابه إلى هذا النشاط المهاريّ و نعني بذلك الدّافعيّة فهــي الــتي تحدّد درجة انخراطه في الأنشطة و مشاركـــته في شــتىّ مراحلها. إنّ المتغيّرات الوجــــدانيّة ( صورة الذات لدى المتعلّم/ شعوره بالأمان و القدرة على الفـــعل/ سلامة العــقد البيداغـــوجيّ ووضوح بنوده...). إنّ لكلّ ذلك التأثير الحاسم في تصرّفات المتعلّم فــي وضعــيات التعلّم و فــي مباشرة الصّـور كسندات ديداكتيكيةّ. إنّ التــعلّم هــو تغيير في السلوك بفعل الممارسة و التجربة، و إنّ الضّجر و الملل اللذين يشعر بهما المتعلّم ينـتجان عــن النمطيّة مــن ناحية و عن الطرق البيداغوجيّة التقليديّة التي لا تعترف بالمتعلّم كـذات لـها انتظاراتها و نسقها المناســب في التعلّم.
إنّ الدافعيّة هي أساس كلّ تعلّم، فهي في صميم الفعل التربويّ، هي الرّغبة في الحضور الفاعل وهـي تختلف باختلاف المتعلّمين لعدّة اعتبارات:
- المعنى الذي يعثر عليه المتعلّم أثناء عمله .
- الاتجاهات النفعيّة التي تحكم أنشطته.
- الحاجة التي تدفعه إلى أن ينجز نشاطا دون غيره.
- المتعة / اللّذة التي يستشعرها أثناء النشاط.
- صورة الذات و الآخر التي استنبطها طوال مراحل تعلّمه. -
(3)-الصّورة و الصّورُ الذهنيّة : إنّ تنــوّع التصرّف في الصور الذهنيّة ( العقليّة) يوفّر إضاءة معمّقة لمسالك اشتغال المتعلّمين على الصّورة، فالانتباه و التخييل و التخزين و الفهم و التحويل تندرج جميعها ضمن مــسار التعلّم، وهــي حركات ذهنيّة تتمّ دائما في شكل صور ذهنيّة قد تثير عديد الإشكاليّات للمتعلّمين و للمدرّسين أيضا.
(أ)- للمتعلّمين: نشــير إلى تعــدّد الأسباب، منها مــا يتعلّق بالصّــور الذهــنيّة الغـــامضة و غــير الدقــيقة واللاّيقينيّة. بحيث أنّ المعاني التي تولّدها لا تكون منتــجا مشتــركا لــكلّ الحواس [ المتعلّم ضعيف البصر/أو السمع مثلا يتفاعل بنقص مع المعلومة المتاحة] ، و منها أيـضا ما يتعلـّق بالتحويل الداخلي للمــعلومة المرئيّة إلى معلومة منطوقة و العكس صحيح، خـــاصّة في مستوى التعامل مع عـــديد العبارات الــتي تنطق بغير ما تكتب أو تكتب بخلاف ما تنطق.
(ب)- للمدرّسين: يحـدث أن يتواصل المــدرّسون مــع متعلّميهم بــقناة تواصليّة محدّدة مرتبطة بنمط مفضّل للصّورة الذهنيّة لديهم، كأن تتضمّن رسالة التواصل خطابا يبدو بديهيّا للمدرّس :[ "نلاحظ مــن خـــلال هــذه الصورة أنّ..."،" ترون أنّ أعلى الصورة أقرب إلى التعبير عن..".] فـمثل هذه الملاحظات تدلّ عــلى أنّ ما ماهو مهيمن في العلاقة البيداغوجيّة بين المدرّس و المتعلّمين هــو الصورة الذهنيّة البصريّة و حــينــها يجـد المتعلّم السمعي صعوبة فــي اســـتيعاب مثل هذا الخطاب، فهو يتابع بصريّا ما يــوجّه المدرّس إليه الاهــتمام ولكنّه لا يقــدر على إثارته مــرئيّا و عينيّا بحــكم أنّه يتصرّف أنجع استنادا إلى الصورة الذهنيّة السمعيّة. في حين أنّه لو حاول مدرّسه أن يعبّر بصوت مرتفع عمّا يكــتبه و يلاحــظه أثــناء كــلّ عمليّة قراءة لـلصّور أو غيرها من وضعيّات التعلّم فإنّ المتعلّم يكون حينئذ قادرا على معالجـة المعطيات المعرفيّة الجديدة مــن خلال صورته الذهنيّة السمعيّة و استعانة بالبصريّ لديه.
*- أشكال الصّور الذهنيّة (العقليّة): إنّ الصّور العــقليّة تنشأ في معظـــمها من الـــمداخل الحسيّة و على هذا الأساس نجد أنواعا مختلفة مــن هذه الصّور الذهنيّة :
- السمعيّة و تنشأ من حاسّة السمع .
- البصريّة (الرؤية/ العين).
- الشميّة (حاسة الشمّ/ الأنف) .
- الذوقيّة ( الذوق/ اللّسان)
وفي السائد الثقافيّ و المعرفيّ نجد أنّ أكثر الصّور الذهنيّة اعتمادا هي الصّور البصــريّة و السمعيّة. الصّور الذهنيّة البصريّة تتمثّل فـي إعادة النظر ،فــي مستوى الــرأس، فـــي المعلومة المطلوب حفظها أو فــهمها أو موضعتها. فــي حين أنّ التصرّف في الصّورة الذهنيّة السمعيّة يعني إعادة قول المُعطىَ المعرفيّ في مستوى الرأس أيضا لتمثّله و استيعابه. وعليه فإنّه يتحتّم من منظور تواصليّ بيداغوجيّ الأخذ بعين الاعتــبار تنــوّع هذه الأشكال من الصّور الذهنيّة و إحكام توظيفها و الاســتئناس بــها عــند كلّ تعليمــة بيداغوجيّة و اشتــغال تعلّمي، وهو ما يعني في الأدبيّات البيداغوجيّة اعتماد مسارات تعليم و تعلّم مختلفة و مراعاة الفروق الفرديّـة بين المتعلّمين ( البيداغوجيا الفارقية) . إنّ كلّ اقتراح بيداغوجي و كلّ موقف ديداكتيكي- تعلّمي يرتكز عــلى تصوّر مشدود - سواﺀ كان ضمنيّا أو معلنا- إلى ما نعنيه بالـمعرفة، و بــجذورها الابستيمولوجــية و بعــمليّة تمريرها إلى المتعلّمين. و في هذا المستوى تكون الممارسـة البيداغــوجيّة مــؤشّرا عــلــى مــدى الوعي بهذا المتصوَّر الثقافي للمعرفة و بآليّات نقلها و تبليغـها. الصّورة تـــحمل مضاميــن معرفيّة لهــا سياقــاتها الثقافيّة والحضاريّة و المشتغل عليها بدوره مسنود برأسمال رمزيّ – أيّا كانت درجــة قوّته و أهـمّيته- و بــذلك فإنّ كلّ مباشرة لها تستبطن رؤية و تصوّرا بــل موقفا فـــي الكثير مــن الأحـيــان، هذا إلى جانب كونها تشهد له أو عليه بالاقتدار و الحِرَفية خاصّة في مستوى مهاريّ و تقنيّ.
(4)- تمثلات المعرفة بالصورة:
نجدـّد التأكيـــد على أنّ مفــهوم الصّورة لا يتعدّى كونها " كلّ مضمون مرئيّا كان أو مسموعا. و مهما تعدّت أنواعها و مصادرها فالصورة تظلّ شهادة على واقع أو انعكاســا أو تصويرا أو تأويــلا لــه أيــضا من خلال نظرة مبدع. فهي تنبع من رغبة في تبليغ واقع ملحوظ أو مظهــر لعالــم مــحســوس" (6). غــير أنّ تمثّلات المعرفة بالصورة متعدّدة بحيث أنّ المشاهد - والمتعلّم مشاهد - لا يكــتــفي ببساطة بمشاهدة مــوضوع قد قام الضوء بتشكيله لكنّه يحرص على بلــوغ استنــتاجات معيّنة بالاشتــغال عــلى العمليّات العقلــيّة التّي حدّدتــها كارولين بلومر وهي أنشـطة معرفيّة في جوهرها يمكـــنها أن تؤثّر فــي الإدراك البــصري و تتمثّل في:(7)
*- الذاكرة: وهي أكثر الأنشطة العقليّة أهميّة في الإدراك البصري الدقيق وهي الصّلة التي تربطنا بكلّ الصّور. و لقد استخدم الناس الصّور كمعينات للذاكرة أو كوسائل لتقويتها.
*- الإسقاط: الصّور و الرّسوم أشكال تتكوّن من الاحتكاك بالطبيعة و الواقـع و الذات وهــي بذلــك مستلهَمَة منها معبّرة عنها... و هكـــذا يتمّ إسقــاط الحالة العقــليّة عـلى مــوضوع ما، أو جملة أو كلمة أحيانا نستخرج المعاني الخاصّة منها. إنّ السبيل إلــى هذه المعاني هـي العمليّات العقليّة و الخــبرات السّابقة و الــمعاني التي نخصّ بها الصّور التي نراها و ندركها.
*- التوقّع: ويعني بإيجاز أنّ الصّورة موضوع القراءة و التحليل لا تُفصِح في الغالب عـن معانيها مكــشوفة وعارية بل إنّ ادراكاتنا البصريّة لها قد تكون زائفة أو مضلّلة أحيانا. لذلـك تــلجأ الفنون البصريّة في أحيان كثيرة إلى عملّيّة تكــوين التوقّّــعات هــذه و كسرها بأشكال مفاجئة بحيــث ينــكشــف ما لم يحسب له حساب. *- الانتقائية: ذلك أنّ الكـــثير مـــن عمــــليّات الإدراك البصري تـكــون عمليّـات لاواقعيّة أي أنّـــها تلقائيّة و ليست متعمّدة تدخل من خلالها أعداد كبيرة من الصّور. وقد لا تترك آثارا تذكر بعد ذلك لدينا... مثل هــذه الصّور العفويّة المستلهمة من الحياة اليوميّة وقع تمثيلها داخل المنظومة الخاصّة بالصّور في المخّ و كلّ مـــا على المرء أنّ يقوم به بعد ذلك هو أن يحدّد الطريقة المناسبة للتعامل مع هذه الـموضوعــات أو الأحــداث أو الأشخاص في هذا الوقت أو ذاك و في هذا الموقف أو غيره من المواقف. *- الثقافة: للثقافة تأثير حاسم في إنتاج الصّورة و كذلك في توليد معانيها بل لا منــدوحة مــن القــول أنّ "الصّورة ثقافة " و أنّ الرّصيد الثقافيّ شرط لإنـتاج الصّورة و لتفكيك رموزهــا و مكوّناتــها. فالثقافة تحــدّد الأهميّة المعطاة للعلامات و الرّموز و التي تؤثّر في الأفراد المنتسبين لهــا و لغــيرها مــن الثقافات فينتجون معرفة لا تخرج عادة عن سياقها الثقافيّ.
تقوم الصورة بدور هامّ في تنظيم المعارف و بناء المحتوى، فهي تنفرد بخصائص تجعلها أقرب إلــى المتعلّم من النصّ أو الوضعيّة. فالصّورة في البيداغوجيا الحديثة تستميل المتعلّم و تــشوّقه بحكــم قدرتــها على إثارة ذهنه و تحريك مشاعره ذلك أنّها تضمن فعل المعــايشة و تــزيد من تعميق فهم الناشئة للمعنى و ترسيخه في ذاكرتها جنبا إلى جنب مع اللفظة الداّلة عليه. و على هذا الأساس يفترض أن تكون المشاهد الصوريّـة دقــيقة في تصوير المعنى و تحديده، واضحة بسيطة و بارزة الملامح، يسهل من خلالها إدراك المعنى و تشخـيصه، أو المدلول المراد تجسيده في الذهـــن. فــإذا كانــت " القراءة هــي فنّ اليقظة إلى الكلمات" (8) و المقــصود بالقراءة ههنا قراءة النصّ، فإنّ قراءة الصّورة هــي بدورها فنّ اليقظة إلــى الأشكــــال و الألــوان و الرّموز والدّلالات سواء في معناها الخارجيّ المرتبط بالإدراك والرؤية أي ما يحدث في الواقع و كذلــك مـــن خلال مختلف المشاهد التي تتجلىّ فيها الصّور و تتــوالى، أو فــي معناها الدّاخــلي الباطنــي الذي يــتطلّب جــهــدا لاستجلائه و العثور عليه. " إنّ الصّورة هي بالتأكيد آمرة أكثر من الكتابة، إنّها تفرض الدلالـة دفــعــة واحدة دون تحليلها أو تفتيتها. إلّا أنّ هذا لم يعد اختلافا تكوينيّا. فالصّورة تصبح كتابة في اللّحظة التـي تكون فــيــها دالّة، إنّها مثل الكتابة تدعو إلى حكم القوّة" (9). هذا القول يعترف بسلطة الصّورة تماما مثلما يعترف بسلطة شارح الصّورة و قارئها، و علـه فــإنّ مستويات التعامل معها مختلفة بحيث لا يستقيم الحكم، بيداغوجيّا، على قراءة ما دون الأخذ بعـيـن الاعــتـبار الــدرجــة العلميّة للمتعلّمين و السياقات المعرفيّة و المحوريّة التي تنضوي ضمنها. فكأنّنا بهـذا المعنى أمــام " فــعــاليّة رمزيّة بالغة التأثير للصّورة". فالصورة رمزيّة غير أنّهـــا لا تملــك الخصــائص الدلاليّة للّغة. "إنّـــها طفولة العلامـــة" على حــدّ تعبير ريجيس ديبراي(10)، وهـــو مــا يقتضي حقيقة أن يحرص المدرّس على تنويع تمشّياته البيداغوجيّة و تثمين المبادرة الفرديّة و استثمار منتوج المتعلّمين استنادا إلى مبدإ بيداغوجي مركزيّ يتخذ من قاعدة العمل المستقلّ أساسا للتربية الحديثة. " إنّ التربية لابدّ أن تسعى لإكساب الفرد أقصى درجات المرونة و سرعة التفكيـر و قــابليّة التنــقّل بمعــناه الواسع، التنقّل الجغرافي لتغيّر أماكن العمل و المعيشة، و التنقّل الاجتماعيّ تحت فـعــل الحــراك الاجتماعيّ المتوقّع، و التنقّل الفكريّ كنتيجة لانفجار المعرفة و سرعة تغيّر المفاهيم (11). فالمدرسة لا معنى لوجودها إن لم تستهدف تشكيل تعلّمات المتعلّمين. فالمتعلّم هو أهمّ منتوج لمؤسسة المدرسة بقطع النظر عــن محتوى/ مضمون هذا التعلّم. التعلّم كفاية من حيث كونه:*محصّلة بناء ذاتي للمعرفة: فلــكـــي يتعــلّم وجــب أن يتملّك التلميذ آلــيّات هذا النشاط و مفاتيحه. و يمثّل استثمار الصّورة في العمليّة التربويّة أحد مناشط هذا الاقــتــدار الــبيداغوجي، لأنّ الــصّورة تخــتــرق جميع مجالات التعلّم المختلفة ( اللغويّة و الاجتماعيّة و العلميّة و التقنيّة). *تطوير استراتيجيّات: فحين يَعِي المتعلّم بكيفيّة اشتغال الذاكرة و بميكانيزمات التفكير لديه يــكون قــد وفّر لنفسه هامشا كبيرا من الاستقلاليّة و النجاعة، هذا يعني أنّ تطوير الاستراتيجيّات المعـرفيّة و إن كــان متأكّدا باعتباره مطلبا تعليميّا فإنّه غير كاف لبناﺀ شخصيّة متوازنة فالدّراسات الحديثة تُولـي اهــتـمامــا مــتزايدا بما يعرف بالميتا-معرفي في التعلّم أعني بـأن يتعلّم المـتعلّم كـيــف يتعلّم و نــذكــر في هــذا الســّياق مساهمات "فيقوتسكي" و"برونر" و "ميريو" التي اهتمّت كثيرا باستراتيجيّات التعلّم أكثر من اهتمامها بمضامــين التعلّم لأّنّ هذه الأخيرة – المضامين- متحوّلة و متغيّرة في حين أنّ الاستراتيجيّات و الكفايات تكون فــي معـظمــها ثابتة و متّصلة بذات المتعلّم و بشخصيّته و باقتداراته و استعداداته و منها قطعا ما تكـون الصّورة مَشغَلا لها. * غائيّا: فحتّى ينخرط المتعلّمون في أنشطة التعلّم، ومنها الاشتغال على الصّورة و بالصّورة أيضا، يتعيّن أن يتوفّر لهم الإحساس بأنّ ما يُقترح عليهم من سنـدات تعلّم و محتويــــات مصاحـــبة لــهـا ذات بعــد نفعيّ آنيّا و مستقبليّا. ومن هنا فإنّ تنويع الوسائل التعليميّة بقــــدر ماهو دعم للتنشيط في الدروس و استدعاﺀ للمتعلّمين بأن يكونوا فاعلين فيها بقدر ماهو أيضا وجه من وجوه التجديد البيداغوجيّ الذي تنشده النظم التربويّة اليــوم. و في هذا المعنى يكون التجديد " تمشّيا يهــدف إلى إحداث تغيير و ذلك بإقحام عنصر في نسق محكم البناﺀ " (12).
خاتمـــــــــــــة:
هكذا تختصّ الصّورة بحضور متأكّد في المقاربات البيداغوجيّة و في طرائق التدريس النّشيطة ، فهي تضمن احتكاكا يكاد يكون مباشرا بالمعنى من خلال تجسيد المفاهيم وربطها بالواقع بمـا يسهّل عــلى المتعلّم اجــتياز الحدّ الفاصل بين التفكير الذي يتعامل مع الأشياﺀ الماديّة و شواهد العالم المدرَكة حسيّا، و بين التفكير المجرّد الذي يتعامل مع المجرّدات و الرّموز. غير أنّ الوسائل التعليميّة المؤثِّثة للأنشطة البيداغوجيّة متــنـوّعة فهـي "وسائل إيضاح" و "معينات"، وهي جزﺀ من تقنيات التعليم أو ما اصطلح عليه حديثا بالتكنولوجيـا التربــويّة و التي تشمل الصّورة و النصّ و الوضعيّة الدالّة و الرّسوم البيانيّة و الجــداول الإحصائيّـة الــخ.... كلّ هذه الوسائل تـوفّر الخـــبرات الحسيّة للمتعلّمين و تثير انتباههم و تركيزهم و تزيد فاعليّتهــم و نشاطــهـــم الذاتي و مشاركتهم في العمليّة التربويّة "فمثلما هناك صور في الكلمات، هناك أيضا كلمات في الصور" (13).
الهوامش:
(1)- د. نبيل علي / العرب و عصر المعلومات/ عالم المعرفة عدد 184 أفريل 1994 ص 361 .
(2)- المصدر السابق ص362.
(3)- قاموس المعتمد/ دار صادر بيروت لبنان ط(6) 2008 ن، (ص351).
(4) – د. شاكر عبد الحميد: عصر الصّورة (ص8). عالم المعرفة، يناير 2005.
(5)- المصدر السابق، نفس الصفحة.
(6)- التربية بالصورة، التربية على الصورة/ يوسف الحشايشي ( التجديدات البيداغوجيّة)منشورات التفقّديّة العامة للتربية ،الملتقى (14) مارس 1999 .
(7)- شاكر عبد الحميد، عصر الصّورة/ عالم المعرفة ( يناير 2005) (ص162/163).
(8)- د. مصطفى ناصف: اللغة و التفسير و التواصل/ عالم المعرفة عدد193 يناير 1995 (ص41).
(9)- رولان بارط " الميثولوجيا" ، ورد في كتاب الفلسفة (4 آداب). م. و.ب الجزء الأول،ص141.
(10)- ريجيس ديبراي: حياة الصورة و موتها ، نشر غاليمار باريس 1992، ترجمة فريد الزاهي، ورد في كتاب الفلسفة (س4 آداب)،الجزء الأوّل، المركز الوطني البيداغوجي، (ص 141/142).
(11)- د. نبيل علي: العرب و عصر المعلومات/ عالم المعرفة عدد 184/ أفريل 1994.
(12)- التجديدات البيداغوجيّة/ منشورات التفقديّة العامّة للتربية / الملتقى الرابع عشر مارس 1999، وزارة التربية. (13)- د. شاكر عبد الحميد، عصر الصّورة (مصدر سابق) (ص195).
عبد الله عطيّة ( متفقد أوّل للتعليم الثانويّ تونس )