ضمن إطار المقالات النقدية السابقة لكتاب «الرحاب» يندرج هذا العمل. فكلما توغلنا في عملية إنجاز المقرر المذكور إلا وتعترضنا عوائق تعسر مهمتنا؛ وتزيد من تراكم كم لا يستهان به من الملاحظات، ومن تناسل ترسانة هائلة من الاستفهامات ترتهن في تفاصيلها بحيثيات«الرحاب»؛وأسسه، وقيمته الفلسفية، والبيداغوجبة، و الديداكتيكية على حد سواء، مقارنة مع ما تقدمه من مقررات، وكتب مدرسية، وهذه أمور، فيما نخال، تعمل على طرح رهانات ومستقبل درس الفلسفة في الصف الثانوي التأهيلي بشكل ملح وحاد.
ستنبري هذه المقالة النقدية للنظر في درس «المجتمع»؛ والمقصد تحديدا محاوره الثلاثة، وهي بالتتالي: أساس الاجتماع البشري، ثم الفرد والمجتمع، وأخيرا المجتمع و السلطة.
تقابل مزعوم بين النصوص:
طرح مؤلفو«الرحاب» ضمن المحور الأول سؤالا إشكاليا صاغوه هكذا: ما هو أساس الاجتماع البشري: هل هو طبيعي ضروري أم اتفاقي إرادي؟ وبغية التعاطي معه اقترحوا نصوصا ثلاثة: نص أساسي للتحليل، وهو لابن خلدون، يتمحور حول فكرة مفادها أن العمران البشري هو «اجتماع القدر الكثيرة» ب «الفطرة» التي لا يعتبرها ابن خلدون «مضافا اجتماعيا»؛ ثم نصان «محاوران» له، الأول لأرسطو، يحلل فيه بناء على المنطق الدائري، ومقولة «لا علم إلا بالكليات»، «الدولة» كمؤسسة مقدمة على الفرد الذي لا ينبغي له أن يكتفي بذاته فيعتزل الجمهور(...) وأما الثاني فهو لروسو، يطرح بين ثناياه تصوره لكيفية تشكل السلطة السياسية، بناء على تعاقد اجتماعي حصل بين الناس، لحظة الانتقال من حال الطبيعة إلى الحال المدنية(...)ومثلما هو واضح، أقحم واضعو «الرحاب» النصين« المحاورين» في علاقة منطقية مع نص التحليل؛ زعموا أنها «تأسيسية» بالنسبة للنص الأول، وتضاد بالنسبة للنص الثاني، الشيء الذي أوقعنا في حيزة كانت الداعي إلى بلورة هذه المساءلات طلبا للإيضاح والاستيضاح:
ما معنى علاقة التأسيس؟ وأين تتضح تحديدا هذه العلاقة التي تبقى في تقديرنا مغلفة باللبس والضبابية؟ من يؤسس لمن يا ترى؟ هل ابن خلدون الذي كان يدشن منهجية جديدة لكتابة التاريخ بناء على «طبائع العمران»؛ كان يفكر كالهيلينيين أو الأنواريين؟ ولماذا لم يتم سوق أي نص يحدد بكيفية مضبوطة مفهوم المجتمع؟.
وسم المؤلفون المحور الثاني من هذا الدرس ب « الفرد والمجتمع»؛ والأصل في ذلك حسب الظن، ابتغاء الاقتراب من دلالة الفرد، ومن حيثيات بروز هذا المفهوم في مستوى أول، ثم، وإلى حدما، معرفة علاقة ذات المفهوم بالمجتمع في مستوى ثان. ولأجل ذلك ساق المؤلفون نصا لإميل دوركايم، فعمدوا كدأبهم في صياغة الكتاب إلى محاورته بنصين، واحد لماركس، و الآخر لدوطوكفيل.
وليس من شك أن قراءة فاحصة لهذا المحور أسعفتنا في الكشف عن العديد من المنزلقات التي يتخبط فيها درس « المجتمع»؛ وهي بكل تأكيد منزلقات صيرته درسا مهزوزا في منهجيته؛ وباهتا من حيث طريقة انتقاء النصوص، ومضطربا فيما يتعلق بالترجمة المعتمدة التي لا يظهر أن تصورا نظريا متماسكا وجهها؛ ولا إستراتيجية فكرية حكمتها. لربما كان هذا من السببيات التي جعلتنا، في لحظات كثيرة، نضيع وسط ركام كثيف من علامات الترقيم المبثوثة شدر مدر بين عبارات مشرذمة حالت بيننا وبين تقفي معانيها. من ثمة طفق مثلنا، ونحن نبحث عن معنى ممكن لها، كمثل من يبحث عن إبرة في كومة القش. وكيما نقيم الإشهاد على هذا القول هاك هذه الأمثلة:
جاء ضمن الفقرة الأولى في ترجمة نص لماركس (ص:65) ما يلي:«كلما تقدمنا في التاريخ، برز لنا مفهوم الفرد، وفيما بعد الفرد المنتج، ككائن مرتبط جزئيا بمجموعة أوسع منه؛ ليرتبط أولا، ارتباطا طبيعيا بالعائلة، والعشيرة باعتبارها عائلة ممتدة. ثم يرتبط، بعد ذلك، بمجموعات ذات أشكال مختلفة، تولدت عن [=الصحيح: تولدت من] انقسامات العشائر وصراعاتها»[ملاحظة:حين ذكر المترجم«أولا» لم يورد ثانيا ليستقيم الكلام منطقيا. زد على ذلك، لاحظ التشغيل العشوائي لعلامات الترقيم بين ثنايا العبارات...]
وموازاة مع ذلك نقترح على مؤلفي«الرحاب» أن يفحصوا مدى صلاحية الأسلوب العربي المهلهل المترتب على الترجمة الحرفية؛ وحدو النص الأصلي حدو النعل بالنعل، في هذه الفقرة: «لكن ابتداء من القرن الثامن عشر، داخل «المجتمع البورجوازي» ستظهر الأشكال المختلفة للارتباط الاجتماعي(!!!)،وستبدو للفرد كوسيلة لتحقيق غاياته الشخصية وكضرورة خارجية !!! غير أن الفترة التي عرفت ظهور هذا التصور الجديد للفرد، وهو تصور للفرد ككائن متفرد، وهي الفترة التي عرفت بالضبط تطورا كبيرا للعلاقات الاجتماعية بني طبقات المجتمع.
لم يعد الإنسان كائنا اجتماعيا فحسب، بل إنه حيوان لا تتحقق فردانيته إلا داخل المجتمع....»[نص ماركس المذكور،ص:65]
جاء العنوان الذي تصدر نص دوطوكفيل(ص:65) بهاته الصيغة :«هل الفردانية انحراف؟». يمكن إبداء ملاحظاتنا على هذا النص ضمن هذه النقط:
(أ)- ورود مجموعة من المصطلحات، و المقولات، والمفاهيم، تعمل على تشتيت مقاصد النص ومعانيه من ذلك: الفردانية، والأنانية، والمجتمع الصغير، والمجتمع الكبير، والديمقراطية، والمرء، و الأفراد !!!
(ب)- فشل تحرك المترجم الذريع بين لغة المتن ولغة الهدف. وهذه الحقيقة التي تفقأ العين تجليها اللغة العجفاء، و الأسلوب الجاف المفتقر إلى الجمالية والإبداع؛ فالمترجم كان حاطب ليل بكل المقاييس فعرب كما اتفق بل وبدون مقياس ولا معيار. ولتأكيد هذه الملاحظة نقتطف للقارئ هذه الفقرة:«إن أصل الفردانية هو الديمقراطية،[لاحظ على المستوى المنطقي العبارة الحملية] وهي قابلة لأن تتطور، [لاحظ الضمير المنفصل«هي» الذي لا نعرف على من يمكن إسناده. ولاحظ كذلك ارتباك المعنى] بالقدر الذي تصبح فيه الشروط متساوية(...)فالمرء [لاحظ الانتقال الفجائي من فكرة غامضة إلى فكرة أخرى أكثر غموضا] يلتقي، عندئذ بعدد كبير من الأفراد، ليسوا مفرطي الغنى أو القوة!!!، ليؤثروا في نظرائهم، ولكنهم اكتسبوا أو وفروا ما يكفي من الخيرات لتحقيق الاكتفاء الذاتي...»
(ج)- عدم تمفصل العنوان ومضامين النص. فلئن كان العنوان يطلب «هل الفردانية انحراف؟»؛ فإن الاستنتاج، والعهدة بالطبع على النص المترجم، يطرح مساوئ الديمقراطية!!! مثلما جاء في الأسطر الثلاثة الأخيرة منه التي تقول:« هكذا نجد أن الديمقراطية لا تعمل فقط على جعل الإنسان ينسى أجداده، بل أيضا تخفي عنه سلالته، وتفصله عن معاصريه!!!. إنها ترجعه باستمرار إلى نفسه فقط وتكاد تنتهي به إلى الانغلاق التام داخل عزلته الخاصة.»
فهكذا استخلاص وبالمقارنة الصارخة !! لا يسيء إلى الديمقراطية كمفهوم؛ وإنما يسيء إليها بوصفها ترياقا حضاريا فعالا؛ ومشروعا إنسانيا تكرس الفلسفة نفسها بشكل منتظم للدفاع عنه ضد قوى الظلام المتشبتة بمستقبل سابقun futur antérieur . أفهل يحتاج الأمر إلى إعادة التأكيد على أن الفلسفة كتنوير هي الإستراتيجية الفكرية الضامنة للعلمنة ولعملية البناء الديمقراطي داخل المجتمعات الإنسانية كما شدد على ذلك أناطول دومونزي؟
وبالتأسيس على هذه الملاحظات بودنا أن نسأل: لماذا لم يتم اختيار نصوص تسعف في إقحام الأجيال الطالعة فكريا ونظريا على الأقل؛ في حركية ودينامية المجتمع المعاصر، وتقذف بهم في لجة الأنطولوجيات الراهنة التي تسائل الكينونة في أعماقها؛ نقصد بهذا الفرد كفعالية، واستقلال، وحضور، وإرادة، واختيار، كمواطن أيضا؟
الأسئلة المغيبة في جدلية«السلطة والمجتمع»:
شكلت جدلية «المجتمع والسلطة» المحور الثالث من درس المجتمع. وقد مهد المؤلفون لهذا المحور، في الصفحة 58، بهذه العتبة:«يتوقف وجود المجتمع وبقاؤه على مجموعة من المؤسسات هي التي تضبط الرابطة الاجتماعية بين الأفراد وتروج القيم الأخلاقية والسياسية لذلك المجتمع. وتبدو المؤسسة ككيان أقامه الناس فيما بينهم لضمان وحدة واستمرارية المجتمع. لكن المجتمع مع ذلك ليس ماهية ثابتة، بل هو حدث تاريخي، ومجال للصراع بين الفاعلين. فمن أين يستمد المجتمع سلطته.؟؟ وكيف يتسنى له تدبير الصراع والتحكم في أزماته؟»
لنسجل اعتراضاتنا على هذا «المدخل التأطيري» بهاته الصيغ الاستفهامية: ماهي مبررات السؤال الأول الذي لا يعدو أن يكون تحصيل الحاصل؟. [انظر السطر الأول من العتبة]. أيمكننا الحديث عن المجتمع هكذا بصيغة المفرد؟ وهل اجتهد مؤلفو«الرحاب» بالفعل من أجل تحليل الإشكالية التي يتضمنها التساؤل الثاني؟. أضف إلى هذا، أية أزمات يريدها طارح السؤال؟ وما طبيعتها؟ وهلا حدثونا عن نوعية الصراع الذي يتقصدونه؟ أهو الصراع الطبقي أم الثقافي؟ أم هو صراع أجيال، أو صراع طائفي؟ وقبل هذا وذاك، ما طبيعة العلاقة بين أسئلة «المدخل التأطيري» وسؤال المحور:«كيف يمارس المجتمع سلطته على الأفراد؟ وهل المجتمع قائم على الثبات والاستقرار أو على التطور و الصراع؟ (ص:68- 69).
اشتمل المحور على نصوص ثلاثة. نص لفرويد تم اعتماده نصا أساسيا، ونصان محاوران له. الأول لآلان توران والآخر لرالف لينتن. وهاهنا مرة أخرى ندعو واضعي «الرحاب» إلى التفكير معنا في هذه الأسئلة: هل تنسجم مضامين تلك النصوص ومطالب المحور؟ وما هي مبررات اعتماد نص فرويد كنص للتحليل في محور شائك وملغوم ينغلق بإشكالية العلاقة بين السلطة و المجتمع؟ علما بأن النص المذكور يطبق آليات التحليل النفسي بغية الاقتراب من فهم الدوافع العدوانية في الإنسان التي تغذيها ضغوطات الحضارة. وهل محتويات تلك النصوص تقدرنا على التعاطي مع السلطة كمفهوم يتدثر بلبوسات شتى ويتقنع بأطياف عديدة؟ ما هي دلالات السلطة؟ أهي النفوذ autorité أم القدرة Pouvoir؟ هل هي نسق، أم علاقات، أم رموز؟؟؟ وأخيرا لا آخرا ما هي بعض طرق وآليات اشتغالها...؟.
خاتـمـة
يستفاد مما أوردناه من ملاحظات، أن تسطيح الفلسفة، أو ما يصح نعته ب «الفلسفوية»، هو الميسم الغالب، ليس فقط على درس «المجتمع»، وإنما على «في رحاب الفلسفة» برمته. وبناء عليه لا يبدو أن هذا الكتاب المدرسي يسهم، ولو لماما، في تبرعم روح التفلسف لدى المتعلم نظير بناء المساءلات، وضبط المفاهيم، على اعتبار أن أقصى ما نعثر عليه فيه هو «مقابلة» النصوص فيما بينها بشكل غريب وعجيب من دون مراعاة لا للإبستيميات؛ ولا للسياقات التي أدت إلى تشكلها؛ الأمر الذي يفضي ، بدون غرو، إلى عرقلة سيرورة الارتقاء بدرس الفلسفة،وإعاقة تطوره إلى المستوى المأمول والمرغوب فيه؛ فلماذا لم يتم الانتباه إلى ذلك منت لدن مجيزي «الرحاب»؟
هـوامش:
ابن خلدون (عبد الرحمن):د.ت، مقدمة ابن خلدون، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان، ص:42- 43.
أومليل(علي):1985، الإصلاحية العربية والدولية الوطنية، دار التنوير للطباعة والنشر والمركز الثقافي العربي، الدار البيضاء- المغرب- الطبعة، ص ص:48-49.
أومليل(علي):1990، في التراث و التجاوز، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى، ص:44- 45
نرجو المقارنة بين النص الأصلي لدوركايمو«الترجمة المقترحة» في الكتاب المدرسي في ص :64، على سبيل المثال
سبيلا(محمد):2006، زمن العولمة، فيما وراء الوهم، دار توبقال للنشر،الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى، ص ص :47- 49.
De Monzie(Anatole) :Instructions du 2 Septembre 1925. voir, WWW.
أنظر في هذا الصدد ملاحظاتنا على «الترجمة» الهزيلة والبئيسة التي أعدها أحد مؤلفي «في رحاب الفلسفة» وهو عبد الغني التازي لـتعليمات دومونزي في ناصر السوسي:ملاحظات بصدد تقديم وترجمة عبد الغني التازي لتعليمات أناطول دومونزي. ملاحظات نقدية. أنظر مجلة «أنفاس» على شبكة الأنترنيت.
Cf. : FREUD (Sigmund) : 1971.Malaise dans la civilisation. PUF.Paris .France. p :32 et sq. et MARCUSE(Herbert):1970, Eros et civilisation. Editions de Minuit. Points, pp : 61-79.
بوتومور(توم):1986،علم الاجتماع السياسي،ترجمة وميض نظمي، دار الطليعة،بيروت، لبنان،الطبعة الأولى،انظر المقدمة: ص ص:7- 23.