في سنة 1958 اقترح الدكتور جون أوري مصطلح "البيداغوجيا المؤسسية" La pédagogie institutionnelle معلنا بذلك إمكانية استفادة الحقل البيداغوجي من منجزات علم النفس العلاجي La psychothérapie(1). وفي سنة 1965 أصبح الاقتراح رسميا(2) ليعبر عن تيار ظل على امتداد الستينات وما بعدها توجها جديدا في مسار "التربية الجديدة" في فرنسا خاصة. وقد تحكمت الخلفيات المعرفية في تقسيم هذا التيار إلى توجهين: الأول تبنى المقاربة اللاتوجيهية Nondirective والسيكوسوسيولوجيا، وتزعمه لوبرو Lobrot ولا باساد Lapassad والثاني تبنى المقاربة الفرويدية ومساهمة علم النفس العلاجي المؤسسي "La psychothérapie institutionnelle" وتزعمه فرنوند أوري F.Oury وعايدة فاسكيز A.Vasques(3). في هذا المقال سنتوقف عند التوجه الثاني لمعرفة مكوناته البيداغوجية وخلفياته، المعرفية.
ما هي البيداغوجيا المؤسسية؟
تعني البيداغوجيا المؤسسية مجموعة التقنيات والطرائق، والمؤسسات الداخلية، المنبثقة من الممارسة داخل الأقسام التعاونية Classes coopératives(4) في أفق خلق نشاط تربوي حر وهادف ومشترك، يساهم في إنجازه جميع الأطفال. وبذلك تكون المؤسسة استجابة لحاجات الطفل النفسية والاجتماعية والحياتية، كما تقرب المسافة بين المدرسة والأسرة، المدرسة والمجتمع، بتعويد الطفل على الانخراط في العمل الجماعي المنظم. ولتحقيق هذه الأهداف قامت البيداغوجيا المؤسسية على مكونات ثلاثة هي: الأنشطة، التنظيم، المؤسسات.
1 - الأنشطة:
ويقصد بها مجموع البرامج المنجزة داخل المؤسسة أو خارجها لتحقيق التعلم وهي:
1-1-المراسلة المدرسية:
تدفع التلميذ إلى التعبير بواسطة الموضوع الحر Texte libre عن أفكاره وإحساساته، وتعويده على الكتابة. فالطفل يرغب في الكتابة إما للتعبير عما يثير اهتمامه أو شعوره وإما لكي يقرأه الآخرون. هاهنا يفكر في الآخرين، يعيش معهم (أصدقاؤه في العمل)، يفضي إليهم بما يحسه وما يحلم به. وبذلك يصبح القسم جماعة متعاونة ودينامية.
1-2-المراسلة بين المدارس:
1-2-1-تبادل رسائل خطية فردية: يكتبها الأطفال بأنفسهم يعبرون فيها عن ذاتهم: حياتهم اليومية، وقائع معيشة، أنشطة، أحلام، المنزل، العائلة، ويكتفي المعلم بتصحيحها دون التدخل في مضمونها (ص:37).
1-2-2-تبادل رسائل خطية جماعية: وهي تهم القسم بأكمله، تضم مجموعة من الأسئلة والأجوبة التي يطرحها التلاميذ ويجيبون عنها.
1-2-3-تبادل النصوص المطبوعة ويكون ذلك أسبوعيا بعد سحبها من المطبعة.
1-2-4-تبادل الوثائق الجماعية: ألبومات، شرائط تسجيلية، صور، وأشياء أخرى.
1-2-5-الهدايا الجماعية أو الفردية.
1-2-6-الزيارات المتبادلة.
1-3-الجريدة المدرسية: وهي من أهم أنشطة المؤسسة، لأنها عمل مشترك، ومجهود جماعي يبدأ بكتابة المواضيع وينتهي بالسحب. وتضم الجريدة عشرات نصوص الأطفال المطبوعة على ورق من حجم (13.5×21) وتصدر إما شهريا أو فصليا، يسحب منها مائة نسخة توزع وتتبادل ويباع منها. إن الجريدة رمز للقسم وصورة إيجابية على ديناميته الجماعية.
1-4-الخرجة الاستطلاعية: وهي تكملة للموضوع الحر لا سيما إذا كان الوسط الذي توجد فيه المدرسة فقيرا، فضلا عن أنها تحرر الأطفال وتخرجهم من مشاكلهم الذاتية.
2 - التنظيم:
يلعب التنظيم دورا أساسيا في تأطير العمل التربوي للبيداغوجيا المؤسسية، إلا أنه ليس تنظيما جامدا وصارما، وإنما هو استجابة للشروط الآنية على نحو ما يظهر في النقط التالية:
2-1-تنظيم الفضاء:
ينطلق أوري من اعتبار المدرسة فضاء لحياة جماعية يجب أن يكون "معيشا لا مفروضا" على الطفل. ولهذا وجب أن تنظم جماعة القسم بحرية فضاءها داخل القاعة، دون إرغام خارجي سابق.
2-2-الوقت:
مبدئيا تحدد الإدارة الوقت والمدة، ويعلق استعمال الزمن قانونيا في القسم بحجم (2متر×0.80)، بعد أن يخضع للتجريب خلال شهر أكتوبر. هذا ويمكن تغيير أوقات العمل بقرار من المجلس التعاوني.
2-3-التجمعات: ليس هناك قسم نمطي واحد، وإنما يأخذ كل قسم تشكله انطلاقا من الأسئلة المطروحة والمتجددة. ولهذا نجد القسم المحترف Atelier، القسم الورشة، القسم المعمل. ومن أشكال التنظيم في البيداغوجيا المؤسسية.
2-3-1-أقسام المستويات "Classes de niveaux":
ويقصد بها إمكانية انتماء التلميذ لأقسام متعددة ذات مستويات متفاوتة حسب مستواه الإدراكي. فيدرس الحساب مع قسم، والتاريخ مع قسم آخر وهلم جرا (ص:75).
2-3-2-فرق المحترف "Les équipes d'atelier":
إنها نشاط جماعي دائم، من شأنه أن يجعل من القسم مجموعة متمركزة حول عمل ما. وذلك بنجاح ما يسمى بعمل المقاولة "L’oeuvre entreprise": الذي يتوقف على مستلزمات تقنية تولد تجمعات جديدة للأطفال.
2-3-3-فرق العمل المؤقتة "Equipes de travail occasionnelles":
وتتكون لعمل محدد وصولا إلى نتيجة ملموسة في زمن محدود. وغالبا ما تنشأ لإنجاز بعض الأنشطة كالألعاب المسرحية، والرسوم، والخرجات (ص:78).
2-3-4-الفرق الإدارية "Equipes administratives":
وهي فرق قارة ودائمة تتكون بعد الدخول المدرسي مباشرة، خاصة في الأقسام المكتظة، حيث يتم تقسيمها إلى فرق من ستة إلى عشرة أطفال، توفر للأقسام جوا من الاستقلالية والنشاط، وتساعدها على خلق حياة اجتماعية متطورة.
3 - المؤسسات Institutions:
ماذا تعني المؤسسات؟ هي "مجموع القوانين المحددة لما يجب فعله أو لا يجب فعله، في موقع ما، في لحظة ما، وهذا ما نسميه قوانين القسم"، "نسمي أيضا المؤسسة ما نؤسسه: تحديد المجالات، واللحظات، وضعيات كل واحد حسب سلوكاته (أي حسب إمكاناته)، والوظائف (خدمات، مناصب، مسؤوليات)، والأدوار (رئاسة، سكرتاريا)، والاجتماعات المختلفة (رئيس الفريق، أقسام المستوى) والطقوس التي تضمن الفعالية (ص: 82) وكمثال على ذلك مجلس التعاونية "Le conseil de coopérative" الذي يعد العمود الفقري للبيداغوجيا المؤسسية لقدرته على مأسسة "Institutionnaliser" مجال الحياة المشترك، وخلق مؤسسات أخرى، فضلا عن مناقشة المشاكل اليومية الطارئة، وتأثيث فضاء تواصلي بين جميع الأطراف.
بعد هذا الجرد السريع لمكونات البيداغوجيا المؤسسية نتساءل مع أوري وفاسكيز ما هي مصادرها؟
في النصف الثاني من الكتاب يستعرضان الخلفيات التي أثرت في هذه البيداغوجيا. وهي كالتالي:
ـ التربية الجديدة: في 1911 صرح فرنوند أوري بأن التربية الجديدة لم تأخذ هذا الاسم إلا لأنها تستجيب للحاجات الجديدة اتي يفرضها المجتمع المعاصر، وأنها ظهرت لضرورتين:
*تكييف الوسائل البيداغوجية مع طبيعة الطفل.
ـ إعداد الشبيبة للحياة الاجتماعية والثقافية الراهنة.
وفي سنة 1966 -يقول أوري- جد المربي "الجديد" في تكوين إنسان الغد الذي ابتغته ندوة المستقبل المنعقدة بتاريخ 15-3-1961. إنسان "سعيد لأنه متزن، متعود على الحياة الهادئة في وسط مركب، وغني بالأفراد الحيويين (متعاونون، مراسلون)، والأدوات. متفائل، واثق من نفسه، وديع، متعود على العمل الجماعي، مثقف أيضا لأن المعلم، وهو يوفر البحث الذاتي والتجربة، يعلمه كيف يتعلم" ص197.
ـ بيداغوجية سلستان فريني: تبدو بيداغوجة فريني حاضرة بقوة من خلال استثمار كثير من التقنيات التي اعتمدها كالمطبعة، والجريدة المدرسية، والموضوع الحر.
ـ البيداغوجية الأمريكية: خاصة أعمال جون ديوي الذي اعتبر التربية إعدادا للحياة ودعوة إلى عمل جماعي. وإذا كانت البيداغوجية المؤسسية كما يؤكد الكاتبان قد استفادت من بعض أنشطته وتقنياته فإنها كانت على وعي بالفروق التي تفصلها عن بيداغوجية ديوي التي كانت تعبيرا عن المجتمع الأمريكي الليبرالي والديمقراطي في بداية هذا القرن، في حين أن البيداغوجيا المؤسسية ظهرت بعد الحربين العالميتين في أوساط شعبية (ص:205).
ـ البيداغوجيا السوفياتية: في سنة 1958 زار فرنوند أوري ومدرسون آخرون بعض الأقسام الدراسية في الاتحاد السوفياتي أثناء ذهابهم إلى موسكو، كما تمكنوا من لقاء كريفكوف Krivkov رئيس اللجنة المركزية لنقابة عمال التدريس. هناك لاحظوا الطرائق التقليدية في عمومها التي كانت تحكم المدرسة السوفياتية، لكنهم لم يخفوا استفادتهم من بيداغوجية مكارينكو.
ـ سيكولوجية الجماعة: وذلك بتطبيق تصورات دينامية الجماعة كما حددها كورت لوين K.Lewin وباجيس P.Pagès فضلا عن أعمال روجرس اللاتوجيهية. إن هذه البحوث السيكوسوسيولوجية تقدم أدوات قادرة على مساعدة المعلمين بفعالية، في معرفة جماعة القسم (النزاعات، ردود الأفعال)، في هذه اللحظة أو تلك، فيما مصدره المدرسة، وما مصدره حياة الطفل العائلية والاجتماعية. ص:227.
ـ علم النفس العلاجي المؤسسي:
يصرح الكاتبان بأنهما اعتمدا منجزات علم النفس العلاجي حينما أرادا تطبيق التصورات الفرويدية في قسم ممأسس كالاستيهام والتحويل والإسقاط، على الرغم من وجود مفارقات بين الوسط المدرسي ووسط مستشفى المجانين، وبعد المقارنة بين المرضى عقليا والأطفال، ذلك أن عملية النقل مكنت من ملاحظة بعض الظواهر في جماعات الأطفال داخل المؤسسة وإضاءتها. وهذا ما فرض استعمال مصطلح البيداغوجيا المؤسسية.
هكذا يتضح أن البيداغوجيا المؤسسية وإن اعتمدت على الآنية والتلقائية في أنشطتها فإنها كانت مجهزة بعلوم مكنتها من معرفة أغوار نفسية الطفل ومستوجبات عصره ومستقبله. وهذا ما يفسر انتشارها في الدول الأوروبية، (G.P.I) جماعة التحليل المؤسسي (G.A.T)، جماعة البحوث المؤسسية (G.R.T). فضلا عن مراكز ومدارس أخرى.
-----------------
هوامش:
1 - Education et pédagogie, (Encyclopoche larousse) 1977, p.66.
2 - Vers une pédagogie institutionnelle, Aïda Vasques Fernand Oury, Paris 1979.
3 - Pour une pédagogique ou l’enseignant-praticien, Pierre Gillet, juin 1987, p.161.
4 - Vers une pédagogie institutionnelle, p.245.