عندما نتحدث عن تدريس الفلسفة بالمغرب وما يحيط به من مناخ ثقافي، وعن هوية مدرس الفلسفة فإننا بالضبط نتحدث عن هوية الفلسفة، يتماثل بالنسبة لي الموضوع بين هوية المدرس وهوية الفلسفة ، فعندما تصطدم الفلسفة بالمؤسسة تتلون الهوية بألوان أخرى وتتخذ أشكال متعددة، خصوصا في لحظة انتقالها من الساحة العمومية مع محنة سقراط إلى تنميطها داخل المؤسسة مع أفلاطون. من الأغورا أو ما نسميه بالفضاء العمومي إلى جدران المؤسسة في تجربة الأكاديمية، وبعد أرسطو ستصبح الفلسفة مسألة بيداغوجية. وهذا ما ينتج عنه مفارقة المؤسسي مع الفضاء العمومي وما تتيحه من تنميط لا يسمح فيه بتحويل الفصل إلى أغورا، فتجعل مدرس الفلسفة كمروض يجب أن يروض نفسه والترويض هنا هو شحذ الذهن والجرأة على استخدام العقل بصورة حرة وشخصية حتى يتمكن من معرفة الكلمة وتعليمها. فليس من نافلة القول أن نذكر بأن من لم يكن قادرا على التفلسف لا يسمى معلم الفلسفة ولن يتمكن من تدريس الفلسفة بشكل لائق. بمعنى آخر لأن المدرس مرب، وليس المربي مجرد مدرس، بل لا يمكن لمدرس ما أن يكون مدرسا حقيقيا ما لم يكن مربيا، أي يغذي وينشئ أولئك الذين عهد إليه بهم.
فهل يتم اختيار تدريس الفلسفة عن قناعة و ميل لمحبة الحكمة وعشق الحرية والنقد والمساءلة، قبل القبول والإقرار مع ما تعلمه من ممارسة اتخاذ القرار بحرية واختيار وتحررنا من السذاجة الفكرية والعاطفية والأحكام المسبقة والتعصب ... ألا يتم اختيارها للاسترزاق الخبزي كمهنة مثل أي مهنة ؟ هنا نستحضر :
جورج سانتيانا: التدريس هو ذلك الواجب الكريه
يحاول أن يعطينا صورة عن نفسه في اللحظة التي كان فيها مدرسا للفلسفة في إحدى كراسي الجامعة فقارب الهوية بذلك الواجب الكريه الذي لم يكن له منه بد ليعيش أولا. وفي ذلك يقول:" الحق أني كنت دائما على غير طبيعتي في التدريس وفي المجتمع، ففي كليهما كنت أفتعل ما أقول افتعالا". ليجد المعني بالأمر نفسه أمام مفارقة ما يعتقده وما سيدرسه باعتباره مُلزما بتدرسيه لأنه موظف لدى الجهاز الذي يُكافؤه براتب شهري. فقد روى عنه زكي نجيب محمود في كتابه " من زاوية فلسفية" عندما يتحدث عن رواية خاصة بجورج سانتيانا " فلئن أحب الدراسة لذاتها، فقد كره التدريس " ،والتي يقول فيها أحد أشخاص قصته " انه ينبغي للناس إما أن يتولوا تعليم أنفسهم بأنفسهم، أو أن يظلوا جاهلين ، والكثرة الغالبة منهم تفضل البديل الثاني".
جاك دريدا: هوية مدرس الفلسفة أنه عامل مياوم للفلسفة
فقدره أن يعيد الإنتاج والتكرار، ويعمل على إعادة إنتاج الأشكال، المعايير و المضامين، في مساعدته للتلميذ على قراءة وفهم النصوص وعلى التأويل وادراك ما ينتظر منهم وما يتعين عليهم الإجابة عنه في مختلف مراحل المراقبة والانتقاء، يجب عليه كذلك أن يجعل نفسه أمام الطلبة ممثلا لنظام إعادة الإنتاج، أو أن يجعل من نفسه الخبير العارف جيدا بالمطلب الذي خضع إليه في البداية وشرحه وترجمته و إعادة تقديمه إلى الطلبة.
وهنا تبرز العلاقة بين المدرس والتلميذ حيث يتقاسمان المهام فيما بينهما أو يتدارك الواحد منهما الآخر، فالتلميذ يعرف بأن عليه تقديم خطاب ملائم في غالب الأحيان لخطاب الأستاذ، وإن كان لا يوافق عليه، لا من حيث الشكل والمضمون، كما أن المدرس يقوم بمهمة تصحيح الإنشاء أو إعادة إلقاء دروسه وإعطاء بعض التوجيهات التقنية باسم لجنة وقوانين فاقدة لكل ثقة في أعينه.
في هذا المقام تصبح مهنة التدريس كغيرها ذلك الواجب الممقوت ليس حبا فيها بل من أجل العيش فقط وهنا يفتعل ما يقوم به، فنتحدث عن مدرس للفلسفة لا يحمل إلا إسمها فقط مع الأسف وهو مجرد موظف يمارس مهنة كأي مهنة، بحجة أنها لا تتجسد لا في فكره ولا في سلوكه ولا يهم هل لديه قناعة أم لا، مادام الطريق المؤدي لها ممكن في ظل خصاص مدرسي الفلسفة، و مسايرة المؤسسة باكراهاتها وإعادة إنتاج النسق مع ما يفرضه ذلك من دراية به، فتطفوا أيديولوجية النظام وتصبح تلك المعرفة الإنسانية التي يحملها المدرس عرضة لخطر الضلال الدائم عندما تخلق عوالم ذهنية مفارقة للفلسفة وأسئلتها الحقيقية باسم المؤسسة والنمط خصوصا في النظام المدرسي، وباسم الحياد أو باسم العلم لتبرير الوضع لأنه موظف من طرف الدولة وما تحمله هذه الأخيرة من أنظمة الرقابة وهي الضامنة للعدالة وتكافؤ الفرص.
هذا ما يجعل مدرس الفلسفة يعيش أثناء كل حصة تدريس صراعا من أجل الاعتراف واثبات الجدوى ويواجه عدة معيقات ثقافية منغرسة في المشهد التربوي وشبكة الأحكام المسبقة منها:
- سيطرة وسائل الاتصال على العلاقات الإنسانية وإعاقتها لعملية التواصل وحلول عصر الصورة محل عصر النص المكتوب.
- هيمنة قيم السوق ومنطق النجاعة ومبدأ المردودية وتحول الإنسان إلى آلة راغبة وظهور كوجيطو البضاعة.
- سيطرة ذهنية التحريم على المشهد الفكري وتشغيل الإرث الرمزي للفتاوى المرتجلة وانتشار فهم تقليدي للدين وعودة الخرافة والسحر والتنجيم عن طريق الفضائيات والدعاية الإعلامية.
- العامل السياسي المعطل والرغبة في إعادة إنتاج ما هو سائد والتركيز على خلق نموذج من الإنسان ذو البعد الواحد مطيع ومنسجم مع النسق.
- تأخر العامل البيداغوجي و التعلمات وعدم مواكبة الوسائل التربوية المقترحة للعصر، وعدم توفر الفضاءات والتقنيات والوسائل الناجعة وإفراغ البرامج من محتواها .
و النتيجة أن مدرب الحكمة كلما حاول التقدم إلى الأمام والتدخل في الشأن العام اصطدم بحارس المؤسسة وتقني النظام وموظف الجاهز وصانع القرار وسياسي الحقيقة، وطالب المصلحة.
فيصبح في مثل هذه الشروط كسائر المدرسين يتكلم من موقعه المميز، داخل الفصل كممثل للسلطة، يستعين بإدارة المؤسسة لزجر أحد تلاميذته، فيتحول من مربي إلى رجل أمن. من إعطاء القدوة إلى إعطاء الأوامر، شيئا فشيئا يحس بأن هويته تشبه هوية شرطي داخل مخفر الشرطة، فكيف نريد للفلسفة أن تحيى بما هي روح للحوار ونحن نمارسها بروح التسلط و الوصاية ؟ و نحن نوجه تفكيرنا على الدوام نحو الإنسان، فهل نستطيع أن نقتل الإنسان المستبد الذي يسكننا، والذي يحجب عنا حقيقتنا وحقيقة الإنسان/ المتعلم؟
إن الفلسفة تتوجه بالضرورة إلى متلق تضفي عليه صورة ايجابية هي صورة المحاور، فهي لا تساومه ولا تراوغه ولا تخفي عنه خلفياتها بل تفترض فيه محاورا مشاركا. وهذه الصفة تأتيه من استعماله غير المحدود للعقل. و فعل التفلسف هو في حد ذاته إذن، تبن لموقف أخلاقي أولي يتجسد في نبذ العنف منذ البداية فحيث تحضر الفلسفة يقصى العنف و انخراط الفلسفة في الحياة انخراطا واعيا وحرا، والانخراط الحر هو الذي يمليه العقل، إذ أن الإنسان الحر هو الذي يقوده العقل في الحياة وهو الذي يعيش من أجل خشية الموت فحكمته تأمل في الحياة لا في الموت.
هكذا تنفتح الفلسفة على الإنسان لتصبح نزعة إنسانية أي تفكيرا يجعل من الإنسان منطلقه وغايته، أي احترام، الشخص من خلال احترام الذات واحترام الغير احتراما بغرض الحفاظ على حريته.
وماهو المنتظر من مدرس الفلسفة ليحافظ على هويته المتشظية؟
- لابد من توفير الشروط الضرورية للتواصل مع المتلقين والابتعاد عن المقاولة الفلسفية والانتفاعية والنخبوية الضيقة مع تزويد الفضاء العمومي بالمخزون الفلسفي الحي لإعطاء معنى للحياة والإسهام بالنقد والتفكيك وتشريح مصير الإنسانية ومستقبله، وتحويل الفلسفة إلى فعالية تطرد المبهم والمعتم كما يصرح به فتجنشتاين.
- أن يكون لديه وعي بذاته أولا، ودوره الجسيم الذي تربطه بكل الفاعلين التربويين داخل المؤسسة.
- مقاومة بادئ الرأي ولنا مثال على ذلك سقراط الذي لم يكن يتهم تلامذته وأتباعه عندما يلقن دروسه بعدم الفهم وانخفاض مستواهم، وعدم قدرتهم على إدراك المجردات بل لم يستسلم ودافع عن رأيه حتى مات ولم ينتظر حتى تتحسن شروط أثينا.
إذا تصدر مدرس الفلسفة المشهد ويعمل على انعثاق الشعب من محنته ويغير عقول الأفراد من أجل فتح جبهات الصراع ضد الظلم والفساد والارتداد.
هوية مدرس الفلسفة هي هوية الفلسفة التي عليها أن تقترب من الواقع وتغادر أبراجه، وينطلق من الهوامش ومحاورته، وتتابع علوم العصر ومشكلاته وانجازاته التقنية، و تتخذ موقفا من أزماته الاجتماعية والسياسية ، والاهتمام بقضايا الحقيقة، وجودة وصرامة التفكير، والتمييز بين ما له قيمة حقا و ماهو فاسد وضار ، تعين الإنسان على تعميق فهمه لنفسه ومجتمعه وتاريخه ومصيره.
المراجع:
1- جاك دريدا: عن الحق في الفلسفة، ت عز الدين الخطابي، الطبعة الأولى ،بيروت ،أكتوبر 2010
مساهمة على هامش النشاط الإفتتاحي للجمعية المغربية لمدرسي الفلسفةـ فرع الرحامنة يوم 27يونيو2016.