توطئــــــــــــــــــــــــــــــــــــة:
يقتضي منطق الاهتمام بالعلاقة بين النّظم التربويّة وموادها التعليميّة وبين البناء المؤسسيّ الديمقراطيّ الانطلاق من استشكال طبيعة هذه العلاقة ومشروعيتها، فلئن كان من البديهيّ- أي في مستوى المتصوّر العام- اعتبار غائيّة الفعل التربويّ تمرير المعارف ودحر الجهل وتوفير الكوادر التي يحتاجها المجتمع في شتّى مناحي الحياة ،فإن مثل هكذا تصوّرا غدا لا معنى له في خضمّ التحوّلات التي ترافق الوجود البشريّ وتخصيصا ما كان منها موصولا بالقيم وطرائق السّلوك والعلاقة بالآخر المحلّي والعالمي. وعليه فإن المؤسّسة التربويّة اليوم و في ظلّ الثورة المعلوماتية وتنوّع تكنولوجيات الاتّصال الحديثة والمتجدّدة تبدو فضاء ينشد فيه المتعلم صورة للمربّي لا يصادفها إلا نادرا ،وفضاء يبحث فيه المربّي عن متعلّم لا يكون غريبا عنه فلا يعثر عليه .المتعلم لم يعد - كما كان طويلا – منتوجا مدرسيّا خالصا والمدرّس كذلك ما عاد المحتكر الوحيد للعلم والمعرفة، بل إنّ حاجات أجيال المتعلمين اليوم مشدودة إلى ما هو كونيّ مشترك لا مجال لإنكاره أو تجاهله يتمثل في حقّها في أن تساهم في صياغة مواطنة وطنيّة وعالمية تتأسّس على منظومة حقوقية يكون الإنسان وسيلتها وغايتها. فلقد أضحى من المتأكد وجود علاقة وثيقة بين حقوق الانسان من جهة ، وبين التنمية بأبعادها المتنوّعة من جهة ثانية .ذلك أن حقوق الانسان كلّ مركب لا يحتمل التجزئة ،وهي تستدعي التعامل معها في شموليتها: السياسية والتربويّة والمدنيّة والاقتصاديّة والثقافيّة وأيضا الحقوق الجماعية باعتبارها آخر أجيال هذه الحقوق ،ونعني بها الحقّ في الأمن والسّلم والتضامن وفي البيئة السليمة.
التلازم وثيق إذن بين التربية على المواطنة وبين أسس الدّيمقراطية أعني بين الحقل المعرفيّ والبيداغوجي(المدرسيّ-التربوي) وبين الحقل السّياسيّ والمدنيّ (نظم الحكم) فكيف تتجلّى هذه العلاقة ؟ وما هي مرتكزاتها؟
الإطار الاستراتيجيّ للتربية على الديمقراطيّة:
إنّ الضمانة الأساسيّة لتحقيق مواطنة ديمقراطية في المؤسّسة التربويّة وفي خارجها أيضا على المدى المنظور والبعيد هي المعرفة، "فالعلم قوة" والرّهان على المؤسسة التربوية متأكد والمدرسة أضحت اليوم مجال تنافس بين الأمم والشعوب ، فلقد" ذاعت في أقطار الأرض كلّها وفي الأقطار المتحضّرة فيها بنوع خاصّ حقوق الإنسان ومنها الحرية والعدل والمساواة ...فالخير أن نتدبّر الخير بأنفسنا وأن نسعى إليه طائعين قبل أن ندفع إليه كارهين" (1) وبهذا التصوّر"الحسينيّ" الاستباقي لعلاقة التربية بحقوق الإنسان وبالممارسة الديمقراطيّة يتضح أنّ التربية على المواطنة إنما هي تربية على القيم، وأنه يمكن اعتبارها أحد أسس جوهر رسالتها.
إنّ دور المدرسة حاضرا ومستقبلا لن يكون في كلّ الأحوال دورها الذي اعتادت أن تؤديه على مرّ الأجيال، فهي مدعوّة إلى التفاعل مع التحوّلات العميقة التي تطرأ على تركيبة المجتمعات وعلى بنية المعرفة وأساليب العمل ووسائل الإنتاج.صحيح أنّ الجهود المجتمعيّة والسياسيّة كانت منصبّة بدرجة أولى على إعادة البناء ولملمة جراح عقود المرحلة الاستعمارية المباشرة في مستوى مؤسسي وهيكلي (العمل على نشر نواتات المعرفة والتثقيف الصحّي وإحداث مواطن الشغل...) بحيث أن المهمّة الرئيسية للنظام التربويّ حينها تمثّلت في محاربة الأميّة وتحقيق نسب تمدرس معقولة .إلا أن التعلّم للمعرفة اليوم لا معنى له إذا لم يرتبط بالتعلّم للعمل، وبالوعي باستحقاقات العيش مع الآخرين، وبهذا المعنى غدت المعرفة ليست غاية في حدّ ذاتها وإنما هي وسيلة لبناء الإنسان في أبعاده المختلفة. إنّ النظم التربويّة تجد نفسها اليوم أمام تحدّ هيكليّ في تقديرنا وهي، متى أخذته بعين الاعتبار وسعت إلى توفير شتىّ مستلزمات تجاوزه وضمانات تذليله أمكن حينها الحديث عن مقاربة عقلانية للفعل التربوي، يتمثّل هذا التحدّي في مدى وعي استرتيجيّي الشأن التربوي بالأبعاد التالية للوظيفة التربويّة والتعليميّة للمدرسة:
_" أن يقوم التعلم على الشمول، أي أن يتحاشى نزعة تفتيت المعارف وتجزئتها إلى تخصّصات تنحو إلى استقلال المواد التعليمية عن بعضها البعض بل وأحيانا تغفل عمّا بين دروس المادة التعليمية الواحدة من ترابط، ولهذا يكون من المفيد جدّا الاستفادة من المدد الذي توفره المواد التعليمية المختلفة وتوظيف المكتسبات المتأتّية من جميع التعلّمات والتنسيق بينها.
_ أن يقوم التعلّم على النفع فيستجيب لحاجات المتعلمين ومتطلّبات الحياة المهنيّة والاجتماعيّة، ولهذا ينبغي أن ينتقي المدرّس من المعارف والمحتويات ما يناسب قدرات المتعلّم ويلائم رغباته ،ويتجنّب المسائل التي لاتنفع في الحياة المهنية والاجتماعيّة.
_ أن يقوم التعلّم على الفعل فيجعل من المتعلّم فاعلا يقدر على تملّك المعرفة ذاتيّا ، ويكتسب المهارات فرديّا وجماعيّا من أجل إيجاد الحلول لما يعترضه من صعوبات ومشكلات في حياته اليوميّة."(2)
إنّ تصوّرا استراتيجيا كهذا من شأنه أن ينأى بكل ممارسة تعليمية عن الارتجال والضبابيّة ويرسم للمربيّ وللمتعلّم أيضا" خارطة طريق " تحدّد التمشّيات البيداغوجيّة المتأكّدة ومجمل العمليّات والأنشطة والتقنيات المتفاعلة التي تقوم عليها عمليّات التعلّم.فمبدأ فاعليّة المتعلم يبدو مشغلا تعليميّا، وهو كذلك فعلا ، وهو ينطوي على عديد القيم المدنية التي تستهدف الجانب الموقفيّ والنقديّ والسّلوكيّ في شخصيّة المتعلم باعتباره مواطنا نذكر من هذه القيم المترتبة عن تفعيل هذا المبدإ:
*المبادرةl’initiative) (، وتعني ان يتوصّل المتعلّم الى اقتراح أنشطة ومشاريع وأفكار تنبع من تصوّراته وتعبّر عن مواقفه.
*الحريّةla liberté) ) ، حين تتاح للمتعلّم فرص اختيار ما يلائم قدراته وكفاياته ويهتدي إلى تقديم منتوجه الخاصّ في مناخ من الأمان التربويّ بعيدا عن كل تسلّط أو خوف،"فالخوف هو العدوّ الأكبر للإنسان" على حدّ تعبير غاندي.
*تحمّل المسؤولية( la responsabilisation)، بمعنى إقدار المتعلّم على بناء معارفه بنفسه والمشاركة في إنجاز مراحلها وعلى إعادة تنظيم مقارباته وتعديلها على ضوء الأخطاء التي تعتبر من صميم تمشيات التعلّم.
*التعاون(la coopération) ، من خلال التركيز على المواقف والاستعدادات فيدرك المتعلّم أن وجاهة الأداء الفردي لا تجد معناها خارج سياق التفعيل الجماعيّ، فضلا على أنّ التواصل مع الآخر من مقوّمات العيش المشترك.
*التواصل(la communication) ، وهو المظهر الأوّلي للتفاعل البشريّ الذي يعرّفه "شارل كولي" بكونه"الآلية التي بواسطتها تنشأ العلاقات الإنسانية وتتطوّر" .إنه ليس مجرّد نشاط شفويّ أو حركيّ بل هو فعل اجتماعي(action sociale) يكشف عن مكانة صاحبه الاجتماعية ويموضعه.فهو مدخل هامّ لمعرفة شخصية الفرد ومؤشر على مدى نضجه وموضوعيّته.
يبدو الارتباط دقيقا إذن بين فلسفة النظم التربوية وبين التربية على المواطنة والبناء الديمقراطيّ. فالنظام التربويّ لا ينبغي النظر إليه باعتباره مجرّد ميكانيزم أو إطار شكليّ وإنما هو في حقيقة الأمر بناء اجتماعي وإنساني يشبع حاجات مواطنيّ المستقبل ويحدّد ملامحهم، وعلى هذا الأساس فإن علاقة الفاعلين- المربين والمتعلمين- بهذا البناء هي وجه من وجوه علاقة الشعب بنظامه السياسيّ وبحاكميه.
إن التربية على المواطنة في الفضاء المدرسيّ إعداد للناشئة لتدبّر استحقاقات العيش معا (le vivre ensemble) وإسهام في إنتاج وعي يكرّس قيم الحريّة والإنصاف والمشاركة والمساواة بحيث ينمو لدى مواطنيّ الغد إدراك بالتلازم بين الحريّة والمسؤولية، وبين الحقّ والواجب...
الديمقراطية مفهوم سحريّ دون شك، أنتجه الفكر البشريّ خلال مراحل طويلة وإن كان ذلك بمسمّيات ومضامين متباينة أحيانا. هي مناخ وتدابير وضمانات لممارسة السلطة باعتبار هذه الأخيرة- أي السلطة - "مفهوما يختزل ثلاثة مرتكزات: أوّلها أنه لا سلطة بلا موارد، وثانيها أنه لا سلطة بلا قدرة على استخدام هذه الموارد، وآخرها أنه لا سلطة بلا تدبير استراتيجيّ"(3).
( أ ) موارد السّلطة مختلفة وهي ماديّة ولكنّها بالأساس معنويّة أعني مضامين وبرامج ومعارف، غير أنّ معظم هذه المحتويات المعرفية تتّسم بهيمنة المنحى الكميّ الموسوعيّ بما يجعل من الصّعوبة بمكان التمييز بين ما هو ضروريّ وجوهريّ وبين ما هو ثانويّ وعرضيّ. فضلا عن أنّ هذه البرامج التعليميّة غالبا ما تكون مصبغة بالتلوين الإيديولوجيّ السلطويّ.
(ب) القدرة على استخدام الموارد تختلف من منظومة تربويّة إلى أخرى،سواء من زاوية تسيير المؤسّسة التربويّة حيث أدّت عديد الممارسات القائمة على مركزية القرار إلى ظهور سلوكيّات رتيبة وتقاليد تركن إلى تنفيذ التعليمات دون مبادرة ذاتيّة فانتفى بذلك الاجتهاد وتعطّل التجديد، أو من زاوية التمشيات البيداغوجيّة المغيّبة لكلّ تحليل وتعليل ومساءلة نقدية متبصّرة في مقابل سيطرة نسق يشجّع على الحفظ والاسترجاع والتطبيق الآليّ للقواعد.
(ج) التدبير الاستراتيجيّ :السّلطة يمكن أن تكون سياسيّة كما يمكنها أن تكون كذلك معرفية تعليميّة والعلاقة بين السّلطتين وثيقة وليست بالضرورة منسجمة .هي علاقة بين الماكرو macro) (le والميكرو(le micro) أي بين المؤسّسة السياسيّة وبين المؤسّسة التربوية،وإن كلّ رهان ديمقراطيّ يظلّ محكوما بإرادة سياسيّة ذات بعد استرتيجي جوهره بناء الإنسان المواطن .
إن المواطنة في أبسط معانيها لا تعدو أن تكون الكيفيّة التي يتصوّر بها الفرد انتسابه إلى تجمّع اجتماعيّ-سياسيّ. فالمواطن هو الفرد المنخرط في قواعد المدنيّة ،وفي كلّ ما يتيح له التمتّع بحقوقه والقيام بواجباته، والفرد لا يولد مواطنا وإنما ينشأ على قيم المواطنة والمبادئ الديمقراطية عبر عمليّة التنشئة الاجتماعية التي تمثل المؤسسة التربوية أحد فضاءاتها."لأنه كلما أنتجت المدرسة فشلا فإنها تكون بذلك لا تربيّ على المواطنة" على حدّ تعبير أحد خبراء الشأن التربوي(فيليب بيرينو). “ chaque fois qu’elle fabrique de l’échec, l’école n’éduque pas à la citoyenneté »
لماذا التربية على حقوق الإنسان في النّظم التربويّة ؟
عدة أسباب تحتّم تنزيل هذا المبحث الحقوقيّ في البرامج الدراسيّة منها على سبيل الذكر لا الحصر:
- نسبة الأميّة المرتفعة بمفهومها الحديث المتمثّل في الجهل باستثمار الوسائل التكنولوجية والتي تصل في بعضها إلى أكثر من نصف السّكان.
- هيمنة النماذج التقليديّة وعادات السّلوك المتعارضة مع حقوق الإنسان في الحياة اليوميّة للكثير من الأسر والجماعات.
- استمرار البنى والعلاقات التقليديّة سواء داخل الأسرة أو المجتمع.(4)
- تحدّيات العولمة ذات الوجوه المتعدّدة وخصوصا ما كان متّصلا بالمعرفة والثورة الاتّصالية والمعلوماتيّة وكذلك بالمسألة الحقوقية التي أضحت سبيلا للإملاءات الاستعماريّة وتغيير أنظمة الحكم.
إن الديمقراطية ضرورة مجتمعيّة، وهي ليست حقنة يحقن بها المجتمع فيصبح سريعا ديمقراطيّا، مثلما أنها ليست عمليّة فوقيّة مسقطة على الشعوب سواء من الخارج أو من الدّاخل، هي "ليست عملية استزراعية. فالديمقراطية لا تُنقَل والبناء الديمقراطيّ لا يُستورَد. فالديمقراطية مُمارسةٌ مَحلّيةٌ وتَخلّقٌ ذاتيٌّ "(5) فأن تكون الديمقراطية ممارسة محلّية يعني أن التصوّر التربويّ والبيداغوجيّ ينبغي أن ينزع نحو التأكيد على أنّه ليس من المتيسّر بناء مجال ديمقراطيّ (مدرسيّ أو سياسيّ) بمجرّد إدراج مدارات اهتمام دراسيّة تتطرّق إلى هذا المشغل، وإنمّا الأهمّ من كلّ ذلك أن يَصْحَبَ هذا التعلّم والتعليم تصرّفٌ ديمقراطيٌّ وسلوكٌ رشيدٌ يَصل التربية على الديمقراطية بالتزام شخصيّ من جانب الفاعلين من ناحية الأداء والتواصل ، وبهذه الكيفية تكون الممارسة التربويّة مساعدة للأجيال المتعلّمة على فهم قواعد اللّعب الجماعيّ بمختلف ضغوطاته ومقتضياته ومناسباته وفُرصه من خلال سلوكات ديمقراطيّة مرافقة لها في الحوار والتفكير والمساءلة والنقد وإبداء الرأي والمشاركة.
إنّ مقولة المواطنة كمفهوم مركّب تُحيل على عدة عناوين منها أنها :
- قيم ومبادىء ومضامين ذات أبعاد قانونية وإداريّة وسياسيّة واجتماعية.
- وهي كذلك سلوك وممارسة تستند إلى قيم الحرّية والمسؤولية والحقّ والواجب في الفضاءات المتعدّدة (المجتمع والعائلة والمدرسة..) ولهذا الاعتبار فإنّ الارتباط وثيق بين الثقافة المؤسّسيّة السائدة في المجتمع وبين طبيعة النظام السياسيّ القائم في ذلك المجتمع.
التربية المدرسيّة والثقافة المدنيّة:
التربية المدرسيّة محتويات معرفيّة متنّوعة وطرائق في التّواصل وتبليغ المعارف، وهي أيضا تنشئة للأجيال على القيم الوطنية والإنسانية المشتركة.هذه التربية تستهدف إعداد الناشئة لحياة فاعلة تجعل انخراطها فيها ايجابيّا ومنسجما مع ما توفّر لديها من التّحصيل العلميّ والعمليّ والسلوكيّ.
غير أنّ عديد التقييمات الداخليّة المنجَزة للأنظمة التربويّة ( ذات الصّلة بمبحثنا) تنتهي إلى استنتاجات لا تسهّل عمليّة البناء الدّيقراطيّ المنشود منها:
" - غلبة البعد المعرفيّ والنظريّ على التعلّمات.
- غياب شبه كلّي للتدرّب على مناهج العمل.
- طغيان المنحى الكمّي والتراكميّ على البرامج.
- صرامة البرامج وعدم قابليتها للاجتهاد والتّطويع من قبل المدرّس.
- تواضع قدرات التّلاميذ على البحث عن المعلومة والتحليل والتأليف. - ضعف التلاميذ في التعبير الكتابيّ في اللّغتين العربيّة والفرنسيّة (6) "
إنّ مثل هذه الاستنتاجات الدّقيقة تجرّنا إلى القول أنّ تأهيل النّظم التربويّة ضرورةٌ تحتّمها التحوّلات السريعة والمتسارعة في الاقتصاد والمعرفة والمجتمع ، والمتمثّلة في بروز أنماط جديدة في أساليب التعلّم والتفكير والعمل والإنتاج والترفيه. فمجتمعاتنا اليوم تواجه "صدمة المستقبل" بل لنقل بتواضع " صدمة الحاضر" لأن ما عليه أحوالها التربويّة والحقوقيّة يدفع إلى الاعتقاد أنّ ما لم يُنجز أكثرُ بكثير ممّا قد يكون أُنجز.
"الإنسانية إنشاء تربويّ " مثلما عرّفها الفيلسوف كانط ، فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي ينتج رموزه الثقافية "وأنّ عالم الرّموز الثقافية يمثّل مركز الثّقل في تركيبة الإنسان ومجتمعه...فهي جوهر الإنسان وأهمّ ما تنطوي عليه ذاته"(7) ولهذا الاعتبار فإنّ النظم التربوية هي المسؤولة بدرجة أولى على إنتاج إمّا مواطنة مسؤولة أو قطيع تابع ومستعبد تمارس عليه شتى أشكال التسلّط.
إن من مؤشّرات السّلطوية في النّظم التربويّة" قلّة أهميّة الإقناع والمكافأة، والتركيز على العقاب الجسديّ... وإضعاف قدرة الفرد على الابتكار والتّجديد والتعلّم الذاتيّ ..والتّشجيع على الاتّكاليّة والانتظار بدل التفرّد والحضور وإثبات الذات...وإهمال حاجات المتعلّمين واهتماماتهم وتجاهل الفروق الفرديّة بينهم" (8).فإذا كان مناخ المدرسة بمثل هذه الصّورة المغيّبة لكل مبادرة وتصرّف إراديّ فلا غرابة أن تنشأ الأجيال مسكونة بهاجس الشكّ والحذر والسلبيّة، فيفتُر اهتمامها بالشأن العام ّوتتعمّق الهوّة بينها وبين امكانية الانتظام والتنظّم سواء كان مدنيّا أو سياسيّا. وعديدة هي الدراسات والبحوث التي ترصد عزوف الشباب خاصّة عن كلّ إمكانيّة فعلٍ سياسيّ رغم الإحساس الداخليّ الدفين بالحاجة إليه ،إلا أنها تبقى تتصيّد الظرف للتعبير عنه في شكل تحرّكات احتجاجيّة غير مؤطّرة ومنظمّة.
ومن هنا تتأكّد حاجة الشّبيبة المدرسيّة إلى الثقافة السّياسيّة والمدنيّة وضرورة إدراجها في البرامج الدراسيّة بحيث تصبح من المسائل المألوفة والمؤثّرة في المواقف والقناعات والسلوكيات. لقد "تربّت" أجيال كثيرة على اعتبار الاشتغال في المجال السّياسيّ والمدنيّ هو من اهتمامات الكهول، وأن الحديث عن الدّيمقراطية وحقوق الإنسان والتّوزيع العادل للثّروات والتضامن مع قضايا الشّعوب والأقليّات المضطهدة هي موضوعات تخصّ تنظيمات دون غيرها، بل حتى هذه التنظيمات (الأحزاب والمنظمات) مطالبة بعدم تخطّي حدود معينة مضبوطة سلفا من قبل السلطة.إن المسائل الحقوقيّة في مؤسّساتنا التربويّة مازالت لم تحظ بالعناية المطلوبة ومازال تجاهلها من جانب ذوي القرار السياسيّ يبرّر بأنها من "الشواغل الترفيّة والكماليّة "، وإن الشّعوب محتاجة إلى التنمية الاجتماعية والاقتصادية (إحداث مواطن الشغل وتوفير أساسيّات العيش مثل الغذاء والصحة والتعليم...).
إنّ هكذا دعاوى لا تحجب عنّا رغبة سياسيّة في حصْر مطالب الناشئة في غذاء الفم والبطن، وهي بذلك لا فرق بينها وبين السّوائم، بينما تؤكد التجارب الحديثة والمعاصرة (الثورات العربية المتعاقبة مثلا..) أنّ ديمقراطية مجتمع ما هي محكّ ديمقراطيّة نظامه السياسي وإنّ ديمقراطيّة نظامه السّياسيّ هي ضمانة ديمقراطيّة مجتمعه، وهكذا" فإن الدّيمقراطية ليست تعبيرا عن حقيقة بنائيّة ومؤسّسيّة فقط ، ولكنّها أيضا مجموعة قيم واتجاهات ومشاعر تشجّع على الممارسة الديمقراطيّة الفاعلة من جانب الحكّام والمحكومين "(9).
وفي هذا السّياق يكون مضمون الثقافة السياسيّة الديمقراطيّة متمثّلا في" الشعور بالاقتدار السياسيّ والاستعداد للمشاركة السياسيّة والتسامح الفكريّ المتبادل وتوفّر روح المبادرة واللاّشخصانية والثقة السياسيّة المتبادلة بين المواطن والنظام السياسيّ " (10)
نكاد نجزم أنه كيفما تكن مضامين أنظمتنا التربوية ومحتوياتها تكن ملامح الأجيال المتخرّجة من مؤسّساتنا التربويّة. فلا غرابة أن تؤكّد الدّراسات السّوسيولوجيّة الحديثة على خطورة النّظم التربويّة في إعادة انتاج منظومة الاستبداد والسّلطوية وتكفي الإشارة الى مساهمات "بيير بورديو وكلود باسرونPierre Bourdieu/Claude Passeron " في هذا الصّدد .
البناء الديمقراطيّ في المؤسّسة التربويّة كيف يكون؟
لا شكّ أنّ المدرسة مجال من مجالات التّربية والتثقيف، وهي ليست بمعزل عن باقي فضاءات المحيط المجتمعيّ، غير أنّ طبيعة الأدوار الموكولة إليها ونوعيّة حرفائها يجعلانها محلّ توظيف قد يعيق تحقّق رسالتها . فهي المؤتمنة على تنفيذ السّياسة التربويّة للسّلطة الحاكمة، لهذا فإنّ انتظارات المجموعة الوطنيّة من مردودها مشروعة، فالرّهانات كبيرة والكلفة الماديّة والمعنويّة باهضة. غير أنّ الحاجة اليوم تدعو إلى إعادة النّظر في وظائف المدرسة على ضوء التحوّلات المعرفيّة والقيميّة المستجدّة على المستوى الكونيّ. ويكون ذلك بالارتقاء بوظائفها التربويّة والتعليميّة والتأهيليّة إلى المساهمة الفاعلة في الاعتراف بالمتعلّمين كذوات لها حقوق وعليها واجبات .إنّ الأنشطة التعليميّة ينبغي أن تهتمّ لا فقط بإبستيمولوجيا الموادّ المدرّسة بل أيضا بسيكولوجيّة المتعلّمين وشواغلهم واحتياجاتهم بحيث يتمّ التخلّي عن التّواصل العموديّ الذي حكم ولا زال يحكم العلاقات التربويّة ، فليس المهمّ في كلّ الأحوال التحصيل المعرفيّ الذي يكتسبه المتعلّم وإنّما الأهمّ طريقة تحصيله وسياقاته وكيفيّاته.
في التربية على المواطنة:
يمكن الوقوف عند جملة من المتغيّرات نعتبرها متأكّدة لمباشرة اشكاليّة التربية على المواطنة سواء في الفضاء المدرسيّ أو الفضاء المجتمعيّ العامّ:
(أ)تغييرات سوسيو-سياسيّة: ضرورة تثبيت تنزيل سنّ الرّشد إلى ثمان عشرة سنة كعلامة على نضج ليس سيكولوجيًا فحسب ولكن ايضا سياسيّا . فالتّلميذ ليس مجرّد مشروع مواطن يتمّ إعداده من قبل الكهول، وإنّما هو مواطن حقوقه في نفس درجة واجباته. وبذلك يتمّ التخلّص من منطق الوصاية الذي يحكم علاقة المعلّم بالمتعلّم إلى تفعيل عقد تربويّ ومدنيّ يراعي حاجات كلّ طرف.
(ب) تغييرات مؤسّساتيّة: ويكون ذلك بالتخلّي عن المركزيّة المفرطة في تسيير النظام التربويّ ، وفتح المجال أمام المعنيين المباشرين بإنجازه واستنباط الحلول الملائمة لمشاكلهم، فتتحرّر المبادرة وتضعف ميكانيزمات الرّقابة ويتحسّن مردود المؤسّسة التربويّة.( بعث مجالس المؤسّسات مثلا..) فإجراء كهذا يضمن مناخا سليما من التواصل الأفقي بين مكوّنات المؤسّسة، ويتيح للجميع المشاركة في تدبير الشأن التربويّ مباشرة ودون مراتبية بيروقراطيّة سلطويّة.
(ج) تغييرات بيداغوجيّة: إنّ البحوث التربويّة في علمي البيداغوجيا والتعلّميّة (البيداغوجيا الفارقيّة، الصّراعات المعرفيّة ، بيداغوجيا الكفايات...) تنتظر من التمشّيات البيداغوجيّة المطلوبة أن لا تحصر مجال اهتمامها في تعليم مبادىء الديمقراطيّة والمواطنة وإنما أيضا بالوعي بضرورة التصرّف الديمقراطيّ في التعلّمات. فالكفاية المهنيّة للمدرّسين تقنيّة وديداكتيكيّة بطبيعة الحال ، و هي كذلك إيتيقيّة أخلاقيّة تصل تربية النّاشئة على قيم المواطنة بانخراط شخصيّ من لدنهم.
(د) تغييرات ثقافيّة وعلائقيّة: فالأولياء شركاء المدرسة، والشراكة بين الأسرة والمؤسّسة التربويّة في التربية على الديمقراطيّة متأكّدة . الأسرة باعتبارها البيئة الأولى المنشّئة للمتعلّمين والمدرسة من حيث كونها البيئة الثانية التي تكمّل تأدية هذا الدّور. لذا فإنّ تجسيم الأهداف التربويّة الوطنيّة يتمّ بمجهود مشترك وفي تفاعل إيجابيّ مع الأولياء والمحيط أي مع ما اصطلح عليه بالحوض البيداغوجيّ.
(ه) تغييرات سياسيّة وهيكليّة: وتحديدا في علاقة الدّولة بالمواطن، "فالدّولة مربّية المربّين" بتعبير المفكّر" عبداللّه العروي" و" لكي يصبح المرء مواطنا واعيا بكينونة مواطنته يحتاج إلى " مؤسّسة المؤسّسات" أي الدّولة، بتعبير "أندريه هوريو".ففي كنفها نتعلّم أوّليّات الانتماء إلى الجماعة السّياسيّة والمدنيّة...فالدّولة المشروعة (légitime)هي القادرة وحدها على استنبات قيم المواطنة، والإحساس بالجماعة، والاقتناع بالعيش المشترك"(11) فالقانون يحدّد ضوابط العيش المشترك وقواعده ، والديمقراطيّة نظام قيم وشكل من أشكال التنظّم السياسيّ وأسلوب في إدارة المجتمع، غير أنّ هذه الثقافة السياسيّة والحقوقيّة لا معنى لها لدى الشبيبة إن لم تكن مؤسّسة الدولة ،من خلال أجهزتها وعبر دواليبها المتعدّدة ،الأحرص على تجسيمها والالتزام بها " فشرعيّة الدّولة تتأسّس بالضرورة على عنصري الرّضى والقبول الطّوعي، والاستعداد الواعي والإراديّ للمساهمة والمشاركة في مؤسّساتها..." وإلاّ ستستمرّ " في المخيال الجماعيّl’imaginaire collectif كيانا قهريّا ليس إلاّ "(12)
ضمانات البناء الديمقراطيّ في المجال التربويّ:
نورد بعض هذه الضمانات وهي باختزال شديد:
- اقتناع جميع الأطراف المعنيّة بالتربية على الدّيمقراطيّة بأنّ الأنظمة التّربويّة قادرة على تأهيل برامج تعليميّة تمكّن الأجيال المتعلّمة من وعي أفضل بواقعها، يحصّنها من التّسطيح الفكري ويقيها الانخرط العفويّ في السّائد ويكسبها حسّا نقديّا وسلوكا مدنيّا مسؤولا .
- اقتناع الطبقة السياسيّة الحاكمة بأنّ دور المعرفة في زمن العولمة والتحدّيات المتسارعة هو تحرير المؤسّسة التربويّة ، وبالتالي المجتمع، من منطق النّجاعة والمردوديّة (نسب النجاح المرتفعة والمضخّمة في الامتحانات الوطنيّة..) والذي لا يعترف في الجودة إلاّ بوجهها الكمّي، وذلك بتفعيل تعاقد اجتماعيّ ومدنيّ يعترف بحقوق الأفراد/المواطنين في الكرامة والحرّية." فالوعي هو الوسيلة إلى التحرّر وبالتّالي لضمان الحقوق: الوعي أوّلا بأنّ للإنسان حقوقا لأنّه إنسان، ثانيا أنّه يجب أن يكون حرّا ويتساوى في الحقوق مع الآخرين ، ثالثا بأنّ الحقوق التي صيغت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والتي ضمنتها الشرائع والمواثيق هي حقوق الإنسان وليست حقوقا للإنسان "(13) .
الإحـالات:
(1) طه حسين، مستقبل الثقافة في مصر، دار الكتاب اللّبنانيّ 1982، ص(156). (2) برامج التّربية المدنيّة بالمرحلة الثانويّة، الإدارة العامّة للبرامج والتكوين المستمرّ، تونس، سبتمبر 2008 ص(4).
(3) د.خليل أحمد خليل، المفاهيم الأساسيّة في علم الاجتماع، دار الحداثة للطّباعة والنشر والتوزيع، لبنان، الطبعة الأولى 1984.
(4) دليل المدرّس في التّربية على حقوق الإنسان، منشورات المعهد العربيّ لحقوق الإنسان، تونس 2001 ص(12).
(5) الاقتباس عن مجلّة الوحدة، المجلس القوميّ للثقافة العربيّة، السنة الرّابعة، العدد 45 حزيران يونيو 1988 ص(5).
(6) الإصلاح التّربويّ الجديد ، وزارة التّربية ،الجمهوريّة التونسيّة،جوان 2002 ص(48).
(7) د.محمود الذوّادي ،التخلّف الآخر:عولمة أزمة الهويّات الثقافيّة في الوطن العربيّ والعالم الثالث،الأطلسيّة للنشر،ط (1) ،جانفي 2002 ص(14).
(8) د. يزيد عيسى السّورطيّ ،السّلطويّة في التربية العربيّة ،سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطنيّ للثقافة والفنون والآداب ،الكويت،العدد362 ،أبريل2009،ص.ص(16-19).
(9) د. عبدالسّلام علي نوير، الاتجاهات المعاصرة في دراسة الثقافة السياسيّة، عالم الفكر،العدد الأوّل،المجلّد(40) يوليو-سبتمبر 2011ص(23).
(10) نفس المصدر، عن كمال المنوفي، ص(25).
(11) د. محمد مالكي، هل انحسر الانتماء الوطنيّ والقوميّ لصالح الانتماء الدّينيّ؟ تأمّلات في ترتيب أولويّات الانتماء.مجلّة شؤون عربيّة ،الأمانة العامّة لجامعة الدّول العربيّة، العدد128 ، شتاء2006 ص(53).
(12) نفس المصدر ،ص (58).
(13) د.عبدالرّحمان التليلي، الحقّ كإقصاء للعنف،عالم الفكر ،العدد (4) أبريل-يونيو 2003 ص(82).