إن بناء عقل فلسفي نقدي وتجاوز أسس الميتافيزيقا المتعالية والمطلقة المؤسسة على مقولة الجوهر، لهما مطمح المثقف العربي الراغب في التنوير لا شرعنة اللاعقل وسلطة التراث. وفي هذا السياق يفرض على الفكر الفلسفي، في مجتمعنا، أن لا يتحول إلى محض تأملات ومتاهات وخواطر، بل عليه الالتحام بالنقد العقلاني في أفق بلورة نظرية فلسفية جديرة بالمتابعة والمساءلة. وهذا لن يتأتى بطبيعة الحال، وبحكم ضرورات إبيستيمولوجية، إلا بالقطع مع العقل المفارق والماهية والجوهر والحقيقة المتعالية، وعودة الأصل. ويمكن أن يشكل هذا أساس كل فعل فلسفي منهجي وعلمي وتاريخي يبدع ويجدد، ويقلق من دون خضوع للانغلاق. ولكن مسار هذا الرهان لن يتأتى إلا بتجذير عقلاني لمفهوم فلسفي وتاريخي داخل مشروع العقل، وهو: الاختلاف (différence). وقد يقود هذا الأمر إلى نقض كل عمليات تصنيم المطلق والفكر الماهوي، وبالتالي فسح المجال أمام حوار نقدي-وتفكيكي مع كل أنماط الخطاب والوجود التي تؤجل ميلاد فلسفة اختلافية عربية معاصرة. إن إنجازات الحداثة الغربية، على المستوى الفلسفي، ومنذ كانط إلى فلسفة الاختلاف، تقدم إمكانات كثيرة لنقد آليات اشتعال المطلق وتمركز المتعالي وتمأسس الأسطورة.
وإذا كان شعار الاختلاف يرفع من حين لآخر لضرورته التاريخية والفلسفية، فإن منطق الفكر العربي ما زال لا يكثف المفهوم لصالح الاستقلالية التامة للإنسان والمعرفة العقلانية، ضد كل ميتافيزيقا تحاول إلغاء الاختلاف ذاته، وبالتالي العقل النقدي. فالاستيعاب العميق للفكر الحداثي والما بعد-حداثي سيساعد على بناء تصور للاختلاف من داخل الواقع التاريخي والاجتماعي. إذ كيف يمكن أن نكون متساويين في المطلق ومختلفين في الثروة والملكية والحقوق وأداة السلطة والمعرفة؟ وكيف يلغى الاختلاف المادي لصالح التماهي والتساوي في المطلق؟ تلك هي ميتافيزيقا الهوية التي تحكم كل فكر مثالي وكل فلسفة متعالية قد تتكلم عن الاختلاف في المطلق من أجل اغتياله ضد العلم التاريخي الناقد لكل ميتافيزيقا تماثلية ما زالت تحاصر الفكر العربي، وتكرس المبدأ الواحد في الوجود والثقافة والسياسة. ولا ننسى أن الكثير من النظريات الفلسفية الرائجة في الوطن العربي مازالت تنهل من منطق الواحد والوحدة الذي نظر له كل من أفلاطون وبارميندس وأفلوطين وابن سينا وغيرهم. وبدون تجاوز منطق الهوية ومبدأ الوحدة وفرض استقلالية العقل النقدي الاختلافي فلن يستطيع الفكر العربي التحرر من سلطة التراث واللامعقول. فلا اختلاف إذن دون وعي بالتناقض المؤسس ماديا لا ذاتويا ودينيا بالمعنى الكير كجاردي (نسبة إلى الفيلسوف سورن كيركجارد).
ويمكن القول بأن المطلقات الميتافيزيقية الحاضرة بكل قوة داخل الفكر العربي تهدر كل إمكانية لفهم التناقض الجدلي والاختلاف النوعي القائمين. مما يعني أنه يجب تفكيك المرجعية التراثية وفق مسلمات العلم المعاصر من أجل هدم كل تمركز عقائدي أو ميثي في أفق ممارسة نقدية تنويرية وتثويرية للتراث العقلاني القابل للصياغة الحداثية بعيدا عن تصنيم الماضي. أو أقنمة الأصول، أو رسم حدود للعقل. لكن لن يتأتى ذلك إلا بالتلاقح بين الفلسفة النقدية ومنهجية التفكيك وعلم التاريخ وإلا ستبقى الميتافيزيقا حاضرة بقوة تزيد من تعميق سلطة المطلق على الاختلاف، والميتا-تاريخ على القانون المادي الذي يحكم التاريخ المؤسس على التمايز. ولا ننسى أن التواصل بين الميتوس ومبدأ المطلق هو الذي هدم الممارسة العقلانية وجعل اللوغوس يعاني مرارة عنف الميتافيزيقا الإسلامية. والخطورة تتمثل في محاولة المثقف العربي المعاصر تجاوز المعضلة بالالتحام بالميتافيزيقا الغربية كما تمثلت لدى كيركجارد أو هيجل أو هايدغر. مع أن ذلك لن يساهم في تقعيد الحداثة. مما يؤكد أن التعامل اللانقدي مع التراث ومع الفكر الحداثي وما بعد-الحداثي لن يزيد إلا من تغييب اللوغوس والممارسة العلمية.
يجب إذن الكشف عن لا عقلانية الفكر العربي والكشف عن أعراضها وامتداداتها في أعماق التراث لإظهار أن ما سمي خطابا عربيا، كان مجرد غطاء لما هو أفظع وهو هيمنة اللاعقل في أشكال متعددة. واختلاف العقل عن اللاعقل هو اختلاف استراتيجيتين معرفيتين متناقضتين تقودان المثقف العربي، الغير متملك للمنهجية العلمية الصارمة، إلى الفصام. إن الوعي، إذن، باختلاف الماضي عن الحاضر والعقل عن اللاعقل وتجربة الحداثة عن التراث هو وعي تاريخي منفتح مؤسس على نظرة علمية للوجود والمجتمع والإنسان. وحتى الاختلاف بين الشعوب هو اختلاف تاريخي لا أنثروبولوجي أو بيولوجي. إذن فبناء ميتافيزيقا اختلافية ليس مشروعا عقلانيا في ذاته مما يتطلب من المثقف العربي القطع مع كل فكر متعال لصالح فكر علمي أكثر تاريخية وأكثر ارتباطا بالرهانات المطروحة والمرتبطة أصلا بالعقلانية والعلمانية والديموقراطية. وكل قراءة لهذه الضرورات الحداثية من داخل التراث يعد سقوطا في منطق الهوية وعودة للقول بالزمان الدائري. وهنا يمكن أن نلاحظ أن كتابات محمد أركون المعتمدة، مثلا لمنهجية تفكيكية والمرتبطة أصلا بفلسفة الاختلاف لم تسقط في التوفيقية والمنطق الثنائي القيمة ولم تخضع قضايا العصر لأطروحة الهوية والأصالة والخصوصية. هنا يكون الإيمان باختلاف الحداثة وأولوية قضاياها التاريخية مدخلا للوعي بضرورة تجاوز ميتافيزيقا الكليات والأصل. و"الكائن" الذي يعيش في الوطن العربي لا يمكن الإجابة عليه إلا تاريخيا فهو أولا: كائن مختلف ومتعدد ولا يتأسس إلا على أرضية الصراع، لكن الميتافيزيقا الإسلامية أو خطاب الهوية يحاول إعطاءه طابع الانسجام والتوافق والوحدة والتعالي. ثانيا: هو كائن يعرف صيرورة تاريخية، بل انكسارا في الزمان والمكان، وما ترتب على ذلك من انحطاط وتخلف ولا عقلانية وتبعية. والإجابة لن تكون إلا بالصرخة التي أطلقها فرانزفانون حول حق المبادرة التاريخية للشعوب المستعبدة، وذلك في كتابه الشهير "معذبو الأرض" ضد كل تبرير لاختلاف أنثروبولوجي بين شعوب العالم. فكل تصور من هذا القبيل قد يقود للقول بالاختلاف، ليس من أجل التحرر بل من أجل الهيمنة. فالانتقال إذن من حقل الميتافيزيقا إلى علم التاريخ وكل العلوم النقدية هو السبيل لتجذير فهم علمي حول الاختلاف القائم بين "الغرب" و"الشرق" بعيدا عن أسطرة العلاقات. والهدف دائما نقد جذور الاستبداد والاستغلال من خلال فكر اختلافي في أفق بلورة مشروع اجتماعي قادر على تكريس قنوات تواصلية فاعلة على أرضية الديموقراطية وباسم العقلانية المتجذرة والقادرة على الإجابة عن أسئلة تاريخية من قبيل: كيف أصبح قانون تفاوت التطور يحكم "الرأسمالية الطرفية" بشكل أكثر مأساوية؟ إنه سؤال علم لا الميتافيزيقا وفلسفات الهوية. ولا يمكن نسيان محاولات الفكر الاستشراقي و"المثالي" تبرير اختلاف الشرق أنثروبولوجيا لصالح إيديولوجيا الهيمنة. مما يعني أن كل عجز قد يصيب فلسفة الاختلاف في الفكر العربي لن يكون إلا على حساب العلم والفكر النقدي. والخلاصة هي إزاحة العقل وعودة الميتوس في أشكال شبه-حداثية. وإذا كان كريزوني Grisoni يقول: "لقد مات اللوغوس كقوة الأمر الذي ستكون له انعكاسات مباشرة في حقل الفلسفة". فإن إعلان موت الميتوس والتصور المنغلق في الفكر العربي لم يتم بعد. فولادة اللوغوس مازالت جد عسيرة زمن الارتداد واللاعقلانية. مما يعني أن إعلان هذا الموت التاريخي للفكر اللاعقلاني لن يكون بدون مشروع تاريخي يحمل عناصر التغيير على مستوى الفكر والوجود. كل مساءلة، إذن، للواقع العربي الراهن، بلغة الفلسفات الذاتوية، والمنطق الهيجلي المطلق، وأصول التراث، لن تزيد إلا من تغييب الوضع الفعلي والعلوم النقدية، ما دام السؤال المطروح هو سؤال تاريخ قبل الأنطولوجيا. رغم كون الخطاب الأنطولوجي الذي أسسه هيدغر يكشف عن مضامين الكثير من الأسئلة التاريخية المؤرقة والتي لا يمكن فهمها بمنطق التعالي والكليات. هكذا يتضح أن مطمح الفكر العربي لن يكون سوى تفجير السؤال العميق حول إشكاليات الوجود الاجتماعي، أي الكائن في مجمل علاقاته ورهاناته، في أفق تأكيد مشروعية الاختلاف المنطقي والمتكافئ من داخل الحقل الاجتماعي وباسم العقل ذاته. إذ أن العقل ليس حكرا على أحد بل هو ممارسة إبداعية-اجتماعية، لها مشروعيتها القصوى. وكل إقصاء للعقل عن فئة محددة لن يخدم إلا المطلقات واللامعقول داخل المعرفة والسياسة معا. وما إرادة المعرفة (la volonté du savoir) لدى دعاة المطلق سوى محاولة احتكار سلطة ما من أجل الهيمنة. وهنا يجب على إرادة المعرفة العقلانية أن تكون مسلحة بآليات علمية قوية وغير مهادنة حتى لا تمارس فقط عملية إعادة إنتاج الأسطورة والخيالي. هنا تبقى منهجية التفكيك (la déconstruction) مطالبة بالتحرر من أسر الميتافيزيقا المتعالية لتنصهر داخل الفكر النقدي الاجتماعي من منطلق ضرورة الربط بين الفلسفة والنظرية الاجتماعية. إن خلخلة الإيديولوجيا السائدة وميتافيزيقا التراث المستعاد، تفرض الابتعاد عن منطق التفكير بالهوية والتماثل، في زمن عودة المكبوت السياسي (القبيلة، والفقه السلطاني) والمكبوت الديني، وأشكال كثيرة من الوعي الأسطوري المرتبط بالأزمة. وهو الأمر الذي يؤكد هيمنة أطر التقليد وفكر الانغلاق، بل هيمنة الأوديب، بشكل يخلق العصاب في الذهنية العربية. والحل يكمن في تقويض أسس هذا الأوديب من خلال نقد وتفكيك البنيات السائدة ماديا ومعرفيا، ونقض آليات الإنتاج لكل نزوع تدميري لمقومات العقل والانفتاح والاختلاف. فممارسة التفكير المضاد لسلطة الأوديب العربي-الإسلامي تمثل "استراتيجية معرفية وتاريخية" لا بد منها. ومن الملاحظ فإن فلسفة الاختلاف، إذا التحمت بالعلوم الإنسانية النقدية، فستكون قادرة على زرع القلق الوجودي والإبستمولوجي في الخطاب المعرفي السائد. فاستثمار فكر الاختلاف، يجب، بالضرورة أن يخضع للروح النقدية والإبداعية، من دون تعامل عفوي مع الآخر. وميتافيزيقاه. إذ أن إنجازات نيتشه وهايدغر ودولوز وديريدا، وخصوصا فيما يتعلق بنقد المركزية الإثنية والعقلية الأوروبية، وتقويض الكوجيطو الديكارتي، وكسر مفهوم النسق، وإعادة بناء نظرية جديدة حول السلطة والمعرفة، كل هذا يمكن اعتباره منطلق تأسيس وعي نقدي، لكن في إطار من الالتزام بالتاريخ والواقع المادي والذات الفاعلة ومشروعية الفلسفة في النقد، وإلا ستصبح فلسفة الاختلاف في الوطن العربي مجرد رد فعل على العلوم النقدي وفلسفة الأنساق والبنيوية والماركسية. إن رهان فلسفة الاختلاف في الوطن العربي أكثر جسامة ما دام كل شيء يهم العقلانية والمجتمع المدني ما زال يعد هامشا. وغياب العقل يعني أن نقطة البدء هي التأسيس الإبستيمولوجي له خصوصا وأن العقلانية الكلاسيكية لا توفي بالمطلوب في زمن الثورات الإبستمولجية والعلمية. فهل ننساق إذن، وبعفوية، مع خطاب ما بعد-الحداثة ونعلن اللاحقيقة، وسقوط الأنساق، والاحتمال فنبني أطروحات فلسفية فوضوية تساهم في قتل الفلسفة من الداخل؟ وكما يقول فرنثيسكو خوسيه مارتينت، عن فلاسفة الاختلاف: "…يمكننا القول بأن القراءة الفاحصة للخبرات العملية والأطروحات النظرية لهؤلاء المفكرين انطلاقا من وجهة نظر مهمومة بتغيير المجتمعات الرأسمالية الراهنة على نحو عميق وجذري، يمكنها أن تكون شديدة الفائدة للتأسيس، النظري والعملي، لكتلة تاريخية جديدة قادرة على توليد هيمنة رغم عدم كونها الدواء لكل الشرور، ورغم أنها لا تؤسس مجتمعا شفافا ومتصالحا تماما، فإنها تكون أكثر احتراما وقابلية للعيش فيها من المجتمع الراهن". إن فكر فلاسفة ما بعد-الحداثة لم يكن عدمية جديدة بل محاولة لتجاوز عدمية الفكر الوجودي والبنيوي. مما يتطلب الاستفادة من هذا الفكر لنقد كل فكر مؤسساتي وكل نزعة مطلقة كل طوباوية تحاول تجسيد المتعالي. وبمطلق الميتافيزيقا الغربية أو الإسلامية لا يمكن إلا تكريس الرفض لكل فكر حداثي مستنير أو فكر ما بعد-حداثي غير مهادن. فالمعركة هي في الأصل تتمثل في إرادة إقرار سلطة التأويل العلمي والعقلاني للنصوص وكل التراث من أجل خدمة الصراع الإبستمولوجي لصالح نزعات التقدم والدمقرطة ما دامت مسألة التغيير والديموقراطية لا تنفصل عن إشكالية بناء نقدي-عقلاني لفلسفة الهوية ومنطقة التاريخ في أفق إعلاء روح التفكير بالاختلاف بعيدا عن منطلق الرفض والذي جسده الغزالي بقوله ضد الاختلاف الفلسفي حيث يؤكد "وأما الإلهيات ففيها أكثر أغاليطهم؛ فما قدروا على الوفاء بالبراهين على ما شرطوه في المنطق، ولذلك كثر الاختلاف بينهم فيها". إن تأصيل مفهوم الاختلاف يمر عبر نقض أطروحة الوحدة والهوية في التراث العربي من أجل تجاوز كل تفكير دائري يكرس النظرة التراجعية للزمان والتاريخ والبعد الهرمي للمجتمع والشكل النكوصي للمعرفة. وهذه المزايا السوسيولوجية للذهن العربي السائد تنعكس على التصور للغة والثقافة والسياسة بشكل يخدم المجتمع المنغلق ويؤجل التصور العلمي-الاختلافي للتاريخ بما هو تاريخ صراع وتجاوز. مع العلم بأن حضور الميتافيزيقا في وطننا العربي ليس حضورا سطحيا بل ماديا أو ما يمكن أن نصطلح عليه بمادية الميتافيزيقي. مما يجعل المشروع المعرفي والاجتماعي البديل يصطدم بشروط قاسية من الصعب تجاوزها. ومن هنا يبقى الوعي العلمي بها وبضرورة تجاوزها شرطا أساسيا لا بد منه. وقد تحضر فلسفة الاختلاف لتجيب عن الوضع لكن ما يغيب هو الربط بين الفلسفة والواقع الاجتماعي والتاريخي، مما يفرض ضرورة إنزال هذه الفلسفة على الأرض وإعطاء الطابع العياني لمفاهيمها الميتافيزيقية والكلية، رغم أن الفلسفة أصلا تبقى مفاهيمية وشمولية وتطمح للكلي. وكما يقول هوربرت ماركوز: "وإذا كان هناك من يعارض المفاهيم الشمولية هذه بحجة أنها ذات مظهر مبهم، غامض، ميتافيزيقي، ومن يلح على المظهر المألوف لما هو يعين، وعلى اليقين، والأمان المتمثلين في الحس السليم المشترك والعلم، فهذا العلم يرجع إلى ذلك القلق الأولي الذي كان له تأثيره على الفكر الفلسفي عندما تطور من الدين إلى الميثولوجيا وعندما انتقل من الميثولوجيا إلى المنطق". إن طبيعة الفلسفة هي التجريد لكل ما هو معطى، لكن كل فيلسوف يتستر وراء التجريد لتبرير الواقع وفرض التأمل المحض بدل النقد هو مجرد موظف لإيديولوجيات سائدة في شكل فلسفي. وهنا يتأكد أن الهوية الصحيحة لكل فلسفة علمية اختلافية هي عملية البناء النقدي العقلاني للواقع القائم، في أفق تجاوزه. ويمكن استلهام النقد الذي قدمه يورغن هابرماس لفلسفة ما بعد-الحداثة في كتابه الهام: "الخطاب الفلسفي للحداثة" وكان الهدف من ذلك النقد هو دفع التواصل بين العلم والفلسفة والممارسة النقدية داخل حقل الصراع الاجتماعي. والملاحظ أن الخطاب العربي مازال سجين أطروحة العقل المفارق ونظرية تراتبية العقول التي عبر عنها الفيلسوف ابن سينا أحسن تعبير. ليس القول بالاختلاف إذن إلا إرادة كسر التماهي مع المطلق وفلسفة الجوهر وجعل العقل تلك الأداة المؤمنة بالتعدد والنسبية والتواصل. والملاحظ أن إشكالية الكثرة والوحدة في مجتمعنا العربي حسمت لصالح منطق التماثل المتعالي وسلطة المفارق. والإشكال ليس في خطاب الكندي أو الغزالي أو الفارابي القائل: "والكثير هو جملة آحاد. وأنحاء ما يقال عليه الكثير هي على عدة أنحاء ما يقال عليه الواحد". إن منطق الوحدة قد يلغي العقل التاريخي على المستوى النظري، ويمكن له أن يدفع في اتجاه دعم أخلاق السيد والسلطوي. إضافة إلى شرعنة النظرة الأحادية للمعرفة والإنسان والوجود، باسم لا مشروعية التأويل والاختلاف. وهذا يؤكد أن العقل التراثوي يخاف التعدد والتنوع مقابل وحدة الأمة. مع أن السؤال الذي يفرض نفسه هو: كيف اختلفت الأمة وبأية وسيلة ووفق أي منطق داخل سياق حضاري كان يسير في اتجاه الانسداد التاريخي؟ إنها عملية رفض للاختلاف والعقل الاختلافي وما يعنيه ذلك من رفض للعقل في أصوله وماهيته وتاريخيته. وقد مثل ذلك بداية النزوع نحو عقلية الفتنة. حتى أصبح الدفاع عن العقل في نظر البعض هو عين الخروج عن الشرعية. وتأويل هذا القول سياسيا لا يعني سوى الاستبداد وأساسه شعار: "طاعة الإمام واجبة". ألم يقل الغزالي: "إن اختلاف الخلق في الأديان والملل ثم اختلاف الأئمة في المذاهب مع كثرة الفرق وتباين الطرق، بحر عميق غرق فيه الأكثرون، وما نجا منه إلا الأقلون، وكل فريق يزعم أنه الناجي". إن كل هذا يؤكد أن تفكيك التراث وإيحاله بالمشروع العقلاني الحداثي يمثل بداية الانفكاك من اللامعقول المستعاد باسم الوحدة العمياء. كما أن الفكر لاختلافي مطالب بالتواصل مع كل النظريات النقدية من دون نزوع مذهبي. وتراث الإنسانية مليء بنماذج الفكر النقدي-التفكيكي اللامتجاوز. فنيتشه عمل على تفكيك الأخلاق أو القيم ونقد أوهام الأصل والذات والبداهة وفرويد فكك الشخصية الإنسانية وأعاد بعض الممارسات المعقلنة إلى اللاعقل. إذ لم يعد العقل الظاهر هو الأصل والحقيقة. كما أن كارل ماركس فكك الرأسمالية التي لم تعد هي معادلات اقتصادية مطبوعة بالإنسانوية، بل تحولت تحت ضربات النقد العميق إلى مجال للاستغلال الذي يحطم باستمرار مشروع العقل. لقد عمل الفلاسفة الثلاثة، على إبراز التناقضات داخل بنيات معقدة هي في حاجة لبناء متواصل. فالأخلاق مثلا لم تعد هي هي، أي القيم المتعالية، بل نتاج علاقات قوي. كما أن الإنسان لم يعد هو هو، بل بنية معقدة يصعب عقلنتها أو تنميطها علمويا. والرأسمالية لم تعد هي كثرة الإنتاج والسعادة والإنسانية، بل مجموعة مفارقات. وكل هذا يوضح أن التفكيك أصبح يكشف عن الأعماق واللامفكر فيه، مما يجعله إستراتيجية معرفية عميقة تعمل على إعادة بناء الموضوع بناء جديدا، وهذا هو الرهان الأساسي الذي يفرض على الفكر الاختلافي في مجتمعنا العربي، وفق قاعدة الالتحام بكل العلوم الإنساني دون تقزيم للعقل أو للمناهج أو تقليص لمضمون الفلسفة في مجتمع مازال يجتر تبعات رفض الفلسفة. ولا يمكن بطبيعة الحال نسيان السجال حول فلسفة الاختلاف، أو حتى الانتقادات التي وجهت إليها من طرف فلاسفة عظام كيورغن هابرماس. والحق أن إنجازات هذا الفيلسوف، في مجال الفلسفة النظرية والعملية، تقدم تصورا عميقا لقضايا العصر مثل الديمقراطية والتواصل والمواطنة والمجتمع المدني. مما يعني أنه ساهم في تجذير مفهوم الاختلاف على أرضية العقلانية النقدية، التي تجعله ينتقد بعنف ما أسماه بلا عقلانية فلسفة الاختلاف أو "نزع القناع عن العلوم الإنسانية عبر نقد العقل: فوكو" إن فلسفة الاختلاف والفلسفة النقدية لا يكرسان الصدام والتناقض داخل العقل الفلسفي المعاصر، بل يخدمان وحدة النقد والبناء النقدي للحداثية من خلال مرجعيات ومناهج مختلفة. صحيح أن فيلسوف الاختلاف يرفض النسقية والإرث الكانطي "ويخلط بين المعارف بشكل إبداعي، لكن ذلك يزيد من تكريس الروح النقدية، وقوة النقد، رغم محاولة رائد فلسفة الاختلاف، جاك دريدا، التمييز بين التفكيك والنقد. يجب إذن معرفة كيفية استثمار السجال القائم الآن بين فلاسفة الاختلاف، والتوجهات الكانطية الجديدة، وذلك وفق مبدأ الحوار المنهجي والمنطقي ونزوع عقلاني إبداعي ومؤسس على أرضية وحدة العقل الاختلافي. إذ أن جوهر الفكر الغربي هو الاختلاف المعقلن. ولا ننسى تمجيد هابرماس لفوكو في الكثير من المقالات. تلك هي الممارسة الفلسفة المتأصلة في عمق التجربة العقلانية والديمقراطية الغربية، حتى ولو اتهمنا الغرب بالتمركز العرقي أو حتى التمركز العقلاني، بلغة فلاسفة الاختلاف أنفسهم، وتحويل العلم إلى سلطة هيمنية-إيديولوجية، حسب أطروحة هابرماس حول العلم كإيديولوجيا (La science comme idéologie). إن مجتمعنا العربي مازال يحاول بناء خطاب فلسفي-حداثي حول التراث، من خلال أطروحات متباينة المضمون مثل: التأصيل، التجديد، القطيعة، النقد، وفي هذا السياق يكون الكلام عن عقلانية نقدية وهو جوهر الممارسة الفلسفية الفاعلة، في أفق تجذير مفهوم الاختلاف والذي لا يتأسس بالبيانات (manifestes)، بل بالنقد لكل ما يكرس الهيمنة والتسلط والمطلقات.تلك هي إرادة الفلسفة في عصر اللاحداثة العربية. وهنا يصعب الانسياق وراء إيديولجيي ما بعد الحداثة ونسيان أن وجودنا العربي مازال في طور-ما قبل-حداثي، مما يعين أنه لا جدوى من وراء ترديد مقولة تقويض العقل. في إطار صيرورة اجتماعية وتاريخية ما زالت تتأسس على إلغاء العقل. وكل هذا يفرض توجيه فكر الاختلاف نحو تقويض كل أشكال اللاعقل وعوائق الفكر النقدي الحر. وتعريف ماهية العقل المنشود، عربيا، لن يكون إلا من خلال التركيز على سلطة المنهج والمرجعية التاريخية، والتعدد المعرفي والفكري.
إن الفكر العربي الراهن ما زال يحاول تجديد موقعه من خلال ثنائية حداثة/ما بعد-حداثة. مع أن المشروع الفلسفي والاجتماعي العربي لن يكون إلا حداثيا، ومراعيا لشروط واقعنا الراهن الذي يفرز المزيد من نزعات اللاعقل. وهذا يفرض ممارسة تقويض لكثير من مسلمات التراث والفكر السائد والمهيمن. وإذا كان الفكر الاختلافي انتقد بعمق العقل الديكارتي (la raison cartésienne)، فالعقل في الواقع العربي القائم مازال يعاني الغياب في الكثير من المواقع والمستويات. ألم يكن رفض عقلانية ابن رشد، ثم المنهج الديكارتي إبان عصر النهضة إيذانا بتمركز اللاعقل من جديد؟ ولعل هذا الجانب يفرض على المفكر العربي أن يوظف فكر الاختلاف بشكل عقلاني-إبداعي وفق الشروط المعطاة. ومن منطلق اعتبار أن العقل هو أساس الاختلاف، بعيدا عن منطق الثنائيات وأطروحة العقل الكوني والفكر الماهوي وسلطة الكليات، وهي القضايا التي كبلت النقد الفلسفي في بعض المراحل، رغم أهميتها في لحظة التمأسس الأول للممارسة الفلسفية. وهنا يكون من الواجب على فكر الاختلاف أن يقرأ تاريخ الفلسفة، من منطلق تاريخي، أي إذا كان ينتقد مبدأ الهوية والتماثل والكلي، فالفلسفة الأولى (أعني فلسفة الماضي) ما كان لها أن تتأسس خارج منطق الهوية والبحث في الجوهر والماهية، والتفكير بمنطق الكليات وقد شكل ذلك ثورة في عالم الأفكار والعقل. فالتعامل التاريخي مع الأنساق الفلسفية يمكن أن يعطي قوة منهجية لكل ممارسة معرفية لا تختزل التواريخ ولا تذعن لسلطة المفهوم أو تخضع لرغبة الإسقاط. فلكل عصر فلسفته ومفاهيمه المركزية وأسئلته الكونية، وهذا يدفع للالتحام بين التفكيك والنقد التاريخي، من خارج اعتبار الفلسفة مجرد رهان لغوي أو لعبة تأمل. فتداخل الماهية والهوية في خطاب أرسطو، أو ابن رشد، أو ديكارت لا يمثل مشكلا، ولكن أن يمثل ذلك أساس العقل المعاصر، في ظل ثورات العلوم والمناهج وسقوط فلسفات المطلق، وظهور رهانات اجتماعية جديدة، فالأمر لا يعدو أن يكون اجترارا أعمى لتاريخ الفلسفة دون اهتمام بمفهوم القطيعة الجدلية. أليس حضور هيجل بشكل مطلق داخل الفكر العربي الراهن، وهو المؤسس لنظرية "التعين الماهوي للهوية"، يمثل مدخلا للكثير من العوائق داخل الممارسة الفلسفية العربية والإسلامية؟ والملاحظ أن ما يجب نقده ليس هو مفهوم الهوية عند أرسطو، أو ابن رشد، أو هيجل (مؤسس علم الجدل وعمدة الفلسفة المعاصرة)، بل الرهان العربي، حول مفهوم الهوية والماهية، من أجل بناء الكثير من القضايا المعاصرة التي تهمنا. فالهوية المطلقة مازالت تكبل العقل العربي الراهن وتدفعه نحو الماضي والتراث. وبدون تجاوز هذه الهوية المطلقة، على مستوى المنهج والمنطق، فلن نستطيع استيعاب الفكر الحداثي ولا تمثل مقولة الاختلاف وفق أشكال معرفية قادرة على تجنبنا ميتافيزيقا الهوية، والاختلاف معا، خصوصا عندما يغيب التاريخ وإرادة العقلنة. من الطبيعي إذن نقد منطق الكليات في التفكير، إلى جانب نقض أطروحة العقل الكوني والعقل المفارق. فالفلسفة لم تعد تهم الكلام عن العقل الأول والتعالي والكلي والمطلق، وهذا لا يعني نهاية التجريد، بل تبدل الرهان الفلسفي من خلال تغير مناهجه وشروطه التاريخية. فقد يحضر المفهوم المثالي والمطلق. لكن من الضروري نقد أبعاده الخفية وتوظيفاته اللاعقلانية. وقد تمارس الميتافيزيقا مفعولها، لكن الأساس هو أن يسود منطق العقل وهاجس النقد وإرادة التجديد، وفق روح جدلية قائمة بين العقلاني والتاريخي. وإذا كان مفهوم الكلي أو الماهية ما زال يهيمن على تاريخ الفلسفة وعالم الأفكار، فالمشكل لا يكمن في ذلك ما دام الأمر يتعلق بطبيعة الفكر، بل في الخضوع للمطلقات ونظرية الجواهر (essences) من دون أي حس نقدي. ويحاول المفكر الاختلافي العربي نقض سلطة الكليات والجواهر، من أجل معرفة أشد عقلانية. ويتضح ذلك، على سبيل المثال، من كلام علي حرب الذي ينتقد بعنف أطروحة نعوم تشومسكي (Naom chomsky) حول النحو التوليدي حيث يقول: "والكليات النحوية هي أشبه ما يكون بنظرية المثل عند أفلاطون، أو الأفكار الفطرية عند ديكارت، أو لوحة المقولات عند كانط، ومن هنا يعود تشومسكي ليس فقط إلى ديكارت الذي ألهمه حدوسه التوليدية، بل إلى أفلاطون بالذات، متخذا من حوار سقراط مع العبد الذي نعلم منه مبادئ الحساب من دون تدريب سابق، نموذجا لبناء نظريته في النحو الكلي الفطري". ورغم جدة النقد الذي يقدمه حرب، فلا يمكن نسيان أن الواقع العربي-الراهن ما زال في تفكيره يعاني إكراهات ما قبل-ديكارتية. فهيمنة الفكر الماقبل-حداثي تمثل تحديا للفكر العربي حتى ولو كان يرفع شعار ما بعد-الحداثة. وبعيدا عن أهمية الأطروحة التي يقدمها علي حرب، يمكن القول بأن نعوم تشومسكي، استثمر بحس علمي وفلسفي تاريخ الفلسفة والعلوم وزاوج بين علم اللغة وفلسفة اللغة، وخاض معارك سجالية مع بياجي حول نظرية التعلم (théorie d’apprentissage) وأنجز أطروحة يمكن اعتبارها بيانه الفلسفي، وهي تحت عنوان "لسانيات ديكارتية" (linguistique cartésienne) وبالتالي انفتح هذا العالم على العلوم الأمبريقية والإنسانية بحس فلسفي عميق. وهو الأمر الذي مازال يعطي مشروعية قوية للفكر الحداثي، وخصوصا في ما يتعلق بوضعنا الفكري والمفتقد للعقل الديكارتي، المنتقد بعنف، في الغرب المعاصر. ومشروعية نقد الفكر الاختلافي لأنظمة المعرفة المعاصرة تنبع من البحث الملح عن تبنين نوعي للعقل لن يكون مغلقا ولا مطلقا. إن العقل النقدي يرفض النظرية المطلقة والنهائية عن العقل. وإذا كان الفكر الاختلافي ساهم في كسر طوق الدوغمائية والأنساق المطلقة فإن ذلك لا يمكن أن يؤدي بنا للقول، وفي شروط الوضع العربي الحالي، بسقوط الأنساق بشكل نهائي، وشرود العقل ولا نظاميته، وموت التخصص، ومعايير المعرفة العلمية، وبالتالي فوضوية الممارسة الفكرية. فللمعرفة نظامها وأسسها وخصائصها، حتى ولو أمنا بتهافت "إبستمولوجيا النموذج" أو قلنا بلا مركزية العقل والبنية. إن تجدير فكر الاختلاف ينطلق أولا من دعم سلطة العقل في المعرفة والسياسة. وحتى الذي يتكلم عن التأصيل، فإن أراد خوض معركة التنوير، فعليه نقد التراث وفق منطق الحداثة، وإعادة بنائه في شقه الفقهي والفلسفي والكلامي بشكل يركز على إشكالية المنهج والتأويل وفن السجال والمناظرة، مما قد يساهم في جعل الموروث أكثر انفتاحا على الرهانات المعاصرة، بعيدا عن أطروحة الأصالة المطلقة، أو النظرة العدائية لفكر الآخر. فالعقل في بلاد الإسلام، تلمس إشكالات عميقة قد تهم فكر الاختلاف. ولا ننسى أن رواد الفلسفة العربية الإسلامية دافعوا عن سلطة العقل و"معقولية النقل"، ومشروعية كل خطاب معرفي بتفاوت، ومارسوا التأويل بإبداع وحس نقدي، ونظروا للحقيقة من خلال العقل من جانب ومن خلال الروح الكونية من جانب آخر. فلم تعد الحقيقة المعقولة ترتبط بملة أو شعب أو عرف بل فقط بنظام العقل. وهذه القضية دافع عنها بقوة الكندي وإخوان الصفا، وفلاسفة التصوف الإسلامي، ومن بعد ابن رشد، والذي يقول بروح كونية غاية في التسامح: "فالمذاهب في العالم ليست تتباعد، حتى يكفر بعضها بعضا ولا يكفر، فإن الآراء التي ] شأنها هذا يجب أن تكون في الغاية من التباعد، أعني أن تكون متقابلة، كما ظن المتكلمون في هذه المسألة…" إن صيرورة المجتمع الطبيعية، سياسيا وثقافيا لا تخرج عن سياق فكر الاختلاف، وبالتالي فقضايا الإنسان المركزية تحتاج لمنظور حداثي مستقبلي، يمارس النقد البناء لكل فكر هيمني سواء نبع من الشرق أو من الغرب، باسم مشروعية التراث أو الخطاب الاستشراقي الهيمني. إن فعالية الفلسفة في مجتمعنا الراهن تكمن بالدرجة الأولى في تأسيس العقل، وبالتالي تقعيد مفهوم الاختلاف ونقد التعالي به، باسم أطروحات من قبيل العقل الكوني والحقيقة الكونية والتي لا تشرعن في الغالب إلا كليانية العقل أو كليانية الدولة تحديدا، وتلك كانت خلاصة المنطق الهيجلي. فلا اختلاف إذن في المطلق. وكل كلام علمي عنه لن يكون إلا من داخل مجال عمومي ديموقراطي منفتح، ومتقبل لكل الرهنات بعيدا عن العنف الرمزي والفيزيائي، في ظل واقع ما زال يدعم آليات إنتاج فكر اللاختلاف أو الهوية المطلقة. إن الانتقال من المدلول الميتافيزيقي للاختلاف إلى الشكل التاريخي لعملية تعينه، لن يكون إلا بتجاوز التمايز الأنطولوجي بين الثقافات واللغات وبين الرجل والمرأة، وبين الأديان، وبين الشرق والغرب. وهذا يعد في حد ذاته نقضا لقاعدة علاقة التابع والمتبوع وإرادة الهيمنة وجدلية العبد والسيد. الاختلاف إذن لا يهم المفهوم فقط، بل قضايا مؤرقة ومعاشة، مثل اللغة والهوية والمشاركة السياسية والثقافة الأبوية، وهي في حاجة لبناء متواصل، بعيد عن شرود المفهوم. في هذا السياق، ووفق سلطة العقل والديمقراطية، يمكن لمفهوم الاختلاف أن يتمأسس بعيدا عن الاستثمار الإيديولوجي لمدلوله. فالدولة الوطنية العربية مثلا، مازالت، وبحكم أزمتها المزمنة، ترفض الاختلاف وتكثف آليات القهر، كلما انفجر الوضع أو تصاعدت عملية المطالبة بضرورة تنظيم المجتمع المدني وتداول السلط، ودمقرطة الثقافة. مما يعين أن عوائق الاختلاف تنتج ويعاد إنتاجها في الغالب، باسم منطق الهوية والاختلاف معا، مما يفرض إعادة النظر في المفهوم، ليس من خلال بيانات فلسفة الاختلاف (دولوز: الاختلاف والتكرار. دريدا: الكتابة والتكرار) بل من خلال تأسيس نظرية عقلانية في الثقافة والسياسة والدين واللغة. إذ أن ميلاد عقل اختلافي عربي هو ذاته ميلاد عقل نقدي عربي متواصل مع ذاته ومع عالمه. والاختلاف بين المعقول والامعقول، قائم داخل العقل ذاته والثقافة كذلك، بحكم البعد الأنثروبولوجي للإنسان والمجتمع (كل مجتمع). لكن عندما يتحول هذا الاختلاف إلى تناحر داخل الحقل السياسي والثقافي فذلك، يدمر العقل، مما يعني أهمية تفكيك ونقض هذا اللامعقول بكل الوسائل العقلانية، وإخضاعه لضرورة النقد. وخصوصا وأن هذا اللامعقول، قد يكون سياسيا وثقافيا، ويحاول فرض وجوده من خلال شعار الحق في الاختلاف، دون أن يعطي للآخرين حق الوجود. كل فكر اختلافي إذن عليه أن ينتقد إرادة الهيمنة، وتحطيم سلطات اللاعقل وخصوصا في بلدان الشرق، وفي هذا السياق لا بد من استثمار كل الفلسفات الكونية من أجل بناء معرفة اختلافي موافقة لكل مشروع وطني-ديموقراطي، أساسه المساءلة العقلانية، لكل شيء، دون أية محاولة في تكثيف اللامفكر فيه أو مراكمة الموروث. ويمكن القول بأن أطروحة العقل الكوني، التي تفرض وجودها في الكثير من النظريات والإيديولوجيات تحطم كل إمكانيات التواصل بين الثقافات والحضارات والشعوب، وتدفع في اتجاه الهيمنة والدمج القسري، أو المثاقفة المشوهة (لا الإيجابية والتفاعلية). فالممارسة الفلسفية في المجتمع العربي الراهن تعاني تحديات اللامعقول، وكل إكراهات الماضي، وهيمنة خطاب الخلاف والتناقض المطلق ومنطق الحدود في التفكير على حساب العقل الاختلافي، الذي ينظر للمعرفة كوحدة متعددة الأبعاد والحقائق، لكن بضوابط منهجية ومفاهيمية، ومن خلال نظرة للمجتمع كتنوع أساسه الوحدة الديموقراطية المعقلنة حتى لا يصبح الاختلاف فوضى، ونزوعا ميتافيزيقيا من نوع آخر. فالبعد الفلسفي النقدي قد يخدم الانتقال من ميتافيزيقا الهوية إلى مفهوم الاختلاف المحايث للكينونة الإنسانية، كتعين، داخل حقل علاقات اجتماعية وثقافية وسياسية تحكمها موازين قوى يجب معرفة كيفية استثمارها لصالح دولة الحداثة. يصعب إذن الكلام عم المجتمع التواصلي والثقافة البرهانية، والمجال العمومي، وذلك بلغة يورغن هابرماس، في ظل مجتمعنا العصبوي. لكن لا مخرج إلا من خلال بناء مشروع حداثة فعلي يحتكم لمشروعية العقل وفلسفة نقدية اختلافية لا تزعم الحياد السياسي. أليس المفكر الاختلافي هو مفكر حداثة منخرط بكل عمق في رهانات سياسية، لا يبشر بها، ولكن يقعد أساسها الفلسفي والثقافي، من دون السقوط في سلطة البداهات، ولغة البساطة وخدعة المفاهيم، حتى ولو كانت مفاهيم فلسفة الاختلاف ذاتها، كالمغايرة، والتمايز، والاختلاف…إلخ. إن التعالي بمفهوم ما لا يقود إلا لهيمنة المطلق والعودة لأصول الميتافيزيقا الأولى. وقد لا نستغرب من عودة فلسفة الاختلاف إلى لغة الهامش ونظريات عميقة همشت من قبل، مثل الفلسفة السوفسطائية التي دافعت عن النسبية والحرية، والحوار المتواصل والخطاب ورفعت شعار الإنسان مقياس كل شيء ضد كل هيمنة للكلي، الذي عاد بقوة مع هيجل العظيم صاحب أطروحة "العقل يسيطر على العالم". والتي تؤول الآن لصالح اللاعقل المهيمن على العالم التابع والمتخلف. إنه هيجل الرافض للاختلاف من داخل سياسات لا عقلانية متجددة على المستوى الكوني. تنزع إذن فلسفة الاختلاف نحو الكونية، سواء في نظرتها للدين أو اللغة أو الإنسان أو الحداثة، بشكل لا يهمل الخصوصيات العربية والإسلامية القائمة، وقد يتضح ذلك من خلال إنجازات أركون وعلي حرب، ومطاع صفدي، عبد الكبير الخطيبي، دون نسيان رواد الفكر العقلاني العربي المعاصر. إن العقل الاختلافي إذن يقف ضد العقلانية الأداتية، والتماهي المطلق بين المعرفة والسلطة. ومشروع فلاسفة الاختلاف بخصوص "تدمير الميتافزيقا"، ساهم في تفكيك وعقلنة الكثير من القضايا الهامة وحطم العقل الدوغمائي العلموي والذاتوي، بشكل يخدم انفتاح المعارف. والطريق الذي انتهجه فلاسفة "ما بعد-الحداثة" عامة ساهم في تأسيس علم الميتافيزيقا، بشكل عميق، يسقط أطروحة "موت الميتافيزيقا" من جانب، ويفكك كل ميتافيزيقا متوارية خلف الخطابات الثقافية والسياسية. وهنا تفرض عملية ربط المعرفة الفلسفية بالمحايثة، مع الحفاظ على تجريدية المفهوم (مفهوما المحايثة والتعالي يمثلان جوهر أطروحة دولوز وغواتاري "ما هي الفلسفة؟") لقد أصبحت وظيفة العقل أكثر فاعلية وعلمية، وهذا ساهم في تقويض العقل الدوغمائي من جانب وأطروحة نهاية الفلسفة، وحدود خطابها، كما روج لذلك التصور الوضعي (Positiviste) من جانب آخر. إنه انبعاث جديد للفلسفة، لكن في قلب رهانات المجتمع وفاعليه، وهو ما يعطيها المشروعية النقدية حتى داخل الحقل السياسي. يمكن إذن إبداع فكر فلسفي عربي اختلافي، قادر على نقد وتفكيك الآخر من الداخل، وبعمق، والالتحام برهانات المجتمع، دون نسيان نقد التراث وإعادة بناء العقل التراثي، بشكل نقدي متجذر من جانب آخر. وعملية نقد العقل التراثي وتفكيكه ضرورة قد تخدم رهانات الحداثة وإمكانية استثمار الموروث العقلاني. في إطار بناء ثقافة عقلانية تساكنية، تدافع عن الاختلاف المقنن والمعقلن، ومن خلال نقد الذات والآخر معا. وكما يقول المفكر عبد الكبير الخطيبي: "ندافع عن النقد المزدوج، وعن الاختلاف الذي تصعب معالجته…". ففلسفة الاختلاف إذن قد تمتلك القدرة على ربط علاقة منفتحة وعقلانية بين التراث والحداثة، خارج منطق الاختزال والثقافة العدمية والدمج والإسقاط، فالروح النقدية-التفكيكية، قد تدفع العقل العربي في اتجاه بعيد عن الثقافة الفصامية. وكثيرا ما يميز المفكر الاختلافي بين التراث والميراث (مطاع صفدي) وبين التراث كقشور. والينابيع الأصلية (هايدغر). دون نسيان عملية كسر الحاجز الدلالي المطلق بين العقل والنقل، وبين المعقول واللامعقول (علي حرب). وفكر الاختلاف، في ممارسته التفكيكية، وحتى التأويلية، يقرب التراث من الحداثة ويحول الموروث إلى إشكال فلسفي حي ومتجدد. وكثيرا ما حاولت الدراسات التفكيكية إلى إعادة بناء أعماق التراث، دون الرهان على القطع الجذري مع الروح التراثية. أليست فلسفة الاختلاف المعاصرة هي استثمار عقلاني وعميق لعلم الميتافيزيقا، بشكل يخدم تداخل المعارف والثقافات وعقلانية الانفتاح. من هنا ضرورة إعادة بناء النص الفلسفي التراثي من خلال إشكالية الواحد والوحدة وعلاقتهما بالكثرة والتعدد. ويمكن لمشروع العقل النقدي أن يعمل على زرع القلق في الثقافة المطلقة والأحادية. وبدون سلطة نقدية-اختلافية قد يتحول النص التراثي آلية إعاقة، في ظل غياب علاقة جذرية معه. إن سلطة الموروث لن تكرس إلا الامتثال الأعمى للأصل والوحدة المطلقة وهوية التعالي. دون إدراك للتحول أو التعدد الثاوي خلف الوحدة والمتكرر، وكما يقول جيل دولوز: "ليس التكرار تشابه الواحد، كما أنه ليس تشابه المتعدد". مشروعية الاختلاف إذن لا تنبع من إشكالية العقل فقط، بل من قضايا المجتمع والتاريخ. مما يتطلب التقعيد الفلسفي للمفهوم والدفع به حول المحايثة لا التعالي. إذ أن التعالي بالمفهوم يقود أصلا للقول بالوحدة المطلقة، وهنا منزلق تيارات إيديولوجية وثقافية محددة. ويمكن القول بأن مشروع العقل العربي والإسلامي المعاصر لن يكون إلا ضد التمركز العقائدي ولصالح الاختلاف كمفهوم ونظرية في أفق القطع مع كل عودة للامعقول الديني والسياسي أو كل خطاب شمولاني يحاول فرض ذاته باسم الدين أو العرق أو السياسة. فالإشكال إذن مرتبط بعملية إبداع عقلانية عربية معاصرة قادرة على تجاوز الفكر الدوغمائي سواء كان دينيا أو علمويا (الماركسية العربية مثلا). فالقول بأن الإسلام دين اختلاف لم يجد بعد أسسه النظرية داخل الممارسة العربية والإسلامية المعاصرة. كما أن جعل الماركسية فكرا أو فلسفة اختلاف ما زال مطلبا بعيدا المنال في ظل الرهانات حول الأصول. ورمزية كلامنا هنا عن الإسلام والماركسية لا تعني أكثر من إدراك طبيعة الصراع الذي دار ومازال، وبشكل مرير بين التيارات الدينية والتيارات اليسارية العلمانية. فمفهوم الاختلاف ليس مجرد شعار بل غاية كل فكر تنويري ينشد التعدد وعقلنة جميع الظواهر الإنسانية دون أسطرة. وكما يقول العلامة السيد محمد حسن الأمين: "لذلك فإن (حق الاختلاف) لا يمكن تأصيله في الاجتماع والاجتماع السياسي الإسلامي إلا بتحرير البنية الفكرية العقائدية التي تنتج نقيضه.. وتحرير هذه البنية من فكرة سلطة الحق الإلاهي لا يتحقق إلا بتفكيك الالتباس بين البشري والإلاهي فيما يعود إلى مسألة السلطة.. ولا بد من الإقرار بصعوبة هذا الالتباس إسلامية بالمقارنة مع المسيحية القائلة بالتمييز بين حق [الله ] وحق القيصر…". الكلام إذن عن عقل عربي-إسلامي اختلافي معاصر صعب للغاية، إذا أدركنا طبيعة المواقف التي جوبه بها الفكر العقلاني الرشدي وكل مضامين العقل التأويلي الإسلامي والذي حاول الانفلات من سلطة النص، دون جدوى. فالعقل الاختلافي المنشود لا يخرج إذن عن ضرورات المجتمع الحداثي المنشود وجوهره طاقة العقل وفاعلية النقد وسلطة المنهج، بعيدا عن إكراهات التراثوية في الفلسفة والفقه والسياسة وأساسها: إلجام العقل عبر النص أو الإجماع النصي من أجل درء الاختلاف والخلاف، أي تقويض العقلانية. فكانت النتيجة هي مركزة اللاعقل باسم "عقل ما"، وإقرار أولوية التصديق على النقد، والحقيقة الواحدة على الفكر النسبوي المتعدد. ومن هنا انهار المشروع الفلسفي العربي، وتبعاته مازالت تؤرق الفكر الراهن في ظل صدمة الحداثة من جانب والعودة الأسطورية للتراث الميت من جانب آخر. ويمكن تحديد بعض خصائص العقل الاختلافي وهي كما يلي: إن العقل الاختلافي ليس عقلا تراثيا لأنه يرفض التماهي مع الأصل. بل هو في الأصل لا يتأسس إلا على أرضية نقد الأصول وعمليات أسطرتها. إنه ليس عقلا إيديولوجيا لأنه يرى الحقيقة بمنظار النقد لا بعين المطلق. فالأدلجة هي عدو العقل الاختلافي. والاختلاف المعقلن هو نهاية الأدلجة القاتلة لهوية الاختلاف. كما أن العقل الاختلافي ليس عقلا سلطويا لأن رهانه هو نقد كل أشكال التسلط. التي تحاول المعرفة إخفاءها أو عقلنتها أو تبريرها. لكنه عقل في نهاية المطاف لا يسقط في أطروحة فوضوية هي: نهاية السلطة. العقل الاختلافي كذلك ليس طوباويا لأنه يرى في الاختلاف منطق تفكير وتجربة معاشة وتراكما يوميا، أي عقلا محايثا للتاريخ الواقعي. كما أن هذا العقل ليس سلسل نزعة ذكورية، لأنه يرفض كل مؤسسة أوديبية تحول اللغة والدين والنص والفن مجالا لتبرير التسلط الأبوي ضد الإرادة أو الحق في التنوع. والعقل الاختلافي يستمد قوته من إنصاته المتواصل لتاريخ العلوم والمعارف مادام يرى في التنوع أصل الوجود. فلولا الاختلاف لما كان هناك تطور أو تراتب للأنواع أو الكائنات. هنا يتخذ الاختلاف دلالة أونطولوجية. ففي البدء كان الاختلاف في الوجود وإلا لما حصلت الصيرورة (صيرورة الكائن). وجنيالوجيا الكائن الحي والعقائد واللغات والمعارف هي في الأصل جنيالوجيا اختلافية، تناقض كل ميتافيزيقا متمركزة حول الجوهر. يتبين إذن أن فلسفة الاختلاف ليست عدمية، فجوهرها هو الدفاع عن قيمة الرمز والإنسان والحقيقة السامية، حتى وإن بشر بعض روادها بنهاية الإنسان. ويبقى الرهان الأساسي أمام الفكر العربي هو نقد المنطق الماهوي وتبني المنظور العلائقي، الذي يشكل أساس أطروحات فلسفية وسوسيولوجية رائدة. فالعقلانية الاختلافية هي إذن عقلانية منفتحة. وكما يقول علي حرب مدافعا عن المنطق العلائقي: "ولذلك فإن العقلانية هي النشاط الفكري الذي يمارس به المرء علاقته المركبة وبذاته وبالعالم، والذي به يغير ذاته بقدر ما يغير العالم بيد أن هذه العلاقة ليست علاقة محكومة بقواعد صارمة مغلقة كما يعتقد المناطقة والعقلانيون (…) وإنما هي مشرعة على المجهول والغائب واللامتوقع". فالاختلاف هو علاقة، والفكر العلائقي لا يتأسس على التضاد أو التقابلات المطلقة، كما أنه لا يطابق بين الحقائق والتواريخ والفلسفات كما حصل للماركسية المبسطة. ومن هنا راعي الفكر الاختلافي اختلاف المفاهيم حتى داخل النسق المعرفي الواحد. ويمكن القول بأن فلسفة الاختلاف هي في الجوهر فلسفة توافقية لكن ترفض تراتبية المعارف والخطابات والنظريات وحتى العقول والسلط. والمفاضلة بين الحقائق لا تكون إلا على أساس معيار درجة العقلنة والروح النقدية، وفي هذا السياق يتداخل مفهوم الاختلاف مع العقل وتجربة النقد، وكما يقول علي حرب : "ليست المسألة "تفكيك نصوص" مجردة، بعيدة عن الواقع كما يعتقد المثقفون الذين باتوا على هامش الأحداث والمجريات وإنما هي مسألة تفكيك لأبنية الفكر وقوالبه، انطلاقا من هذا الميدان الذي تشكل بالاشتغال على الخطابات والنصوص، والذي يؤدي العمل فيه إلى كشف الاستراتيجيات السلطوية…". وإذا كان لزاما على فكر الاختلاف أن يدافع عن النسبوية والتسامح وحرية الاعتقاد، فإنه مطالب كذلك بأن يمارس تفكيك مجمل مفاهيم حداثية تحولت إلى آليات إيديولوجية بعد أن كانت فلسفية-أنوارية. وهذا يفرض على الفكر العبي أن يخرج دائما من السبات الدوغمائي ويجدد نظره للعالم باستمرار، ضد لك تصور ماهوي أو سلطوي. فالنظريات –حتى الأشد عقلانية- كثيرا ما تستبد بالعقول وتكثف أوهاما تعيق صيرورة النقد، وكما لاحظ المفكر مطاع صفدي منزلق الكثير من التصورات، حيث يقول: "ليس غريبا أن تعج أدبيات الحرية بحديث القمع والتسلط أكثر منه بحديث عن الحرية بالذات". فالمنطلق المعرفي الجديد لن يكون إلا القدرة على قلب الحقائق وتجاوز المنطق العقيم والذي هو القياس الأرسطي المستبد إلى حدود الساعة بالعقل العربي والإسلامي، وكما يقول ماكوفلسكي عن نظرية أرسطو: "من الواضح أن الضدين لا يمكن أن يجتمعا معا في الشيء الواحد، فإما الإثبات وحده وإما النفي وحده، يجب أن يكون الشيء، إما موجودا أو غير موجود". فهذا المنطق هو الذي كبل الخطاب العربي، وهو الذي ينتج الاستبداد بعد أن استحال إلى سلطة فقهية لا تراعي شروط التنوير. وكلما سعى المفكر العربي إلى تجاوز المناهج التراثية كلما أسس لحداثة وجوده ومنطق الاختلاف الممنهج، وفي هذا السياق تفرض على الثقافة العربية المعاصر مراجعة تاريخها، وماضيها وفق منظور اختلافي. وهو الأمر الذي يقود إلى الكشف عن منزلقات الكثير من التصورات الفلسفي والمنطقية التي حكمت تاريخ الأفكار، وكما يرى على حرب بأنها وحدها القراءة النقدية لا الاصطلاحية لتاريخ المنطق تعلمنا أنه تاريخ أزمات ومأزق. فالفكر الجديد قوته تتمثل في قدرته على تأزيم ماضيه، وزرع الأزمة في كل ما هو عفوي وبديهي ومتسلط. إنه فكر يحول الأزمات المعرفية إلى حالة ثورات وإبداعات معرفية، كما يحلو لباشلار (G.Bachelard) أن يتكلم عن نظريات العلوم. فعلى الفكر إذن أن يحقق حالة الاستثناء وفق منطق الإبداع، وتلك هي المهمة المنوطة بكل فيلسوف حر ومستقل، وكما يقول ميشيل فوكو: فـ"أن يشخص المرء الحاضر معناه أن يقول ما هو الحاضر، أن يقول فيم يختلف حاضرنا، اختلاف جذريا عن كل ما عداه، أي عن ماضينا. ولربما كانت هذه هي المهمة الموكولة للفلسفة الآن". إن مسألة تبلور فكر اختلافي عربي تبقى رهينة بمدى تكثيف العقلانية وروح النقد والتعددية المنهجية من دون السقوط في الانتقائية، أو الترويج الفوضوي والعفوي لشعارات أو مفاهيم حداثية من قبيل الاختلاف. فهذا الأخير لن يكون –وفق معايير الفلسفة النقدية- إلا نتاجا لممارسة معرفية طويلة الأمد أساسها تفكيك كل أشكال اللامفكر فيه واقتحام مواقع الصمت وأنساق الانغلاق، وكما يقول الباحث عبد السلام بنعبد العالي: إن الأمر لا يتعلق بتسوية أو الانفصال المطلق وإنما بتعيين للهوية كحركة لتوليد الفوارق والاختلافات. إن الذات العارفة العربية لن تنكشف، وضد ذاتها كجوهر، إلا بتعرية الأوهام التي علقت بها عبر التاريخ، وبالتالي تكريس إرادة البحث عن هوية فلسفة جديدة تكسر كل أشكال الفكر الانغلاقي وجميع أوجه التبرير الأخلاقي لعقلية التقليد والمطلق والتراتبية القيمية وتصنيم الحقائق. ومن الواضح أن شرعية هذه الفلسفة تبدأ بتأسيس العقل التفكيكي الممارس لعملية قلب الأوهام والبداهات والمطلقات التي تفر من ذاتها الآن باسم "العقل الأخلاقي العربي" وجواهره المؤدلجة في حقل اللغة والدين والسياسة وإشكالية المرأة والإبداع وحتى السلوك. ألم يقل نيتشه بأن قيمة الحقيقة تحمل الكثير من المغالطات عندما تربط بنظام أخلاقيات استعبادية صارمة. إن "إرادة الحقيقة في حاجة لنقد" (La volonté de vérité a besoin d’une critique). ومن الواضح، فقد شكل فكر فريدريك نيتشه منطلق الكثير من القراءات والتأويلات داخل ما يسمى بفلسفة الاختلاف، والتي ساهمت في إخراج الإبداع الفلسفي النتشوي من إطار التأويلات السياسوية والعرقية لصالح طرح عميق للعقل الاختلافي ومفاهيم كالأصل والحقيقة والمعرفة عامة. وفي هذا السياق نال نقد نيتشه للجدل الهيجلي وللتاريخ قسطا كبيرا من الاهتمام. إذ، مع فلسفة الاختلاف أصبحنا نقرأ قاموسا فلسفيا جديدا يتأسس أصلا على خلخلة فعلية لمفهوم الجدل وأبعاده الهيجلية مثل الهوية والتناقض والتعارض والصراع. فالجدل، إذن، في طرحه التأملي للتناقض والتعارض، يقدم صورة خاطئة عن الاختلاف. ما أن الجدل الهيجلي يقلب مضمون أو قل صورة الاختلاف. لكن دولوز في قراءته هاته يحاول ربط مفهوم النفي (la négation)، كقيمة بإرادة القوة. إنها (la négativité) كإزاحة لكل ما هو إيجابي (positif) (بمنى التبريري) والتي تمثل، حسب دولوز (تلميذ نيتشه) أحد اكتشافات نيتشه ضد-الجدل (anti-dialectique). وهذا يدل على إرادة البحث عن منطق جديد، يلازم الطبيعة الخفية والمعقدة للإنسان، بعيدا عن التبسيط والإسقاط. ويمكن القول بأن الاستثمار المعرفي لفلسفة الاختلاف، وفق روح المعرفة التاريخية هو المدخل العربي الصحيح، والإبداعي، لا الإيديولوجي، لأي حوار ممكن مع فكر ما بعد-الحداثة وإشكالاته. وذلك بعيدا عن أية قراءة رفضوية للفلسفة الحداثية عامة وفكر الاختلاف المعاصر خاصة، كما يتضح من مقاربات العلامة الكبير عبد الوهاب المسيري، والذي يقول: "ثم ظهر جاك دريدا زعيم التفكيكيين بوجهه الكئيب وأعلن عالم ما بعد الحداثة، حيث لا يوجد هدف، أو مركز أو غاية، أو فرح أو ندم أو تفاؤل أو تشاؤم…" إن هذا المفكر المتخصص، وعن جدارة واستحقاق، في الفكر اليهودي والحركة الصهيونية، يتناسى أن جاك دريدا أسس نسقا فلسفيا شاملا، حاول من خلاله بناء مشروع تفكيكي للكثير من الأساطير والإيديولوجيات والأصوليات ومنها بعض النظريات اليهودية والصهيونية. كما أنه قارئ متميز لنصوص التراث الفلسفي المتداول والمنسي. ولم يكن كتابه "أطياف ماركس" (Les spectres du Marx) سوى مشروع قراءة متميزة وتجديدية للفكر الماركسي، بل لمنهجية التفكيك في إطار نقده للرأسمالية المتوحشة. إنها عملية إلحاق جديد للفلسفة بالتاريخ المعاصر، وصهر نوعي للمنهجية التفكيكية ومفهوم الاختلاف داخل الممارسة العقلانية بما هي صيرورة تاريخية واختلافية في آن واحد.