"إن عقلانية باشلار ما فوق عقلانية. وهو يعرف كيف يُعلم العلم والحلم معاً".جان فال
مقدمة:
بدايةً، لا بُد من الاعتراف باستحالة الإحاطة بمشروع باشلار (Gaston Bashlard) المعرفي بجوانبه الإبستمولوجية، والعلمية، والتاريخية، والشاعرية في مقالة أو حتى في كتاب، ولكننا سنحاول في هذه المقالة عرض خيط رفيع من هذا المشروع العابر لجدلية: العلم والفلسفة، الاتصال والانقطاع، العقل والوجدان، الخيال والواقع، الحدس والتجريب، الموضوع والذات، وذلك بهدف تقديم مقاربة مغايرة لموضوع المعرفة العلمية، هذه المعرفة التي يُمكن رؤيتها من خلال منظورين: الأول، منظور عقلي-تجريبي، حيث المعرفة العلمية تخضع للتجربة والقياس المنطقي، وكل ظاهرة قابلة لأن يُعبَّر عنها بمعادلة رياضية دقيقة، وقد أفرز هذا المنظور اتجاهات تقتنع بموضوعية المعرفة العلمية وإمكانية فصل المعرفة عن الذات العارفة، ويُعد جاليليو (Galileo) وديكارت (René Descartes) من الآباء الروحيين لهذا المنظور، والثاني منظور يرى أثر العوامل النفسية والشروط الاجتماعية والمعتقدات الشخصية على النظريات العلمية، حيث أن هناك عناصر من الخيال والحدس تساهم في عملية تكوين المعارف العلمية أو صياغتها، ويُعتبر باشلار أهم دليل على هذا المنظور.إذن، في هذه المقالة سنتطرق إلى المشروع الباشلاري، كمشروع علمي- معرفي-فلسفي، تأسس على عقلانية علمية حاورت تجريبية بيكون (Francis Bacon) ووضعية كانط (Immanuel Kant)، متنقلاً من عقلانية تطبيقية إلى عقلانية صوفية انفتحت هذه الأخيرة على أشعار بودلير (Charles Pierre Baudelaire)، وريلكية (Rainer Maria Rilke)، ورومانتيكية نوفاليس (Novalis). لقد وضع باشلار مشروعه في مراحله الأخيرة تحت راية التحليل النفسي وطاقات الشعر العالية. ومن يعرف باشلار عالماً عقلانياً من خلال قراءات مؤلفاته الأولى: تكوين العقل العلمي، فلسفة اللا، العقلانية التطبيقية،... الخ، قد يستغرب من هذا الرجل العقلاني وضع مشروعه بعيداً عن عقلانية القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بكل يقينياتها، والدخول فيها إلى مختبرات الشعر في كل ما تحمله من لايقين، ولكن نظرة باشلار للعقلانية تختلف عن نظرة عصر التنوير والفلسفة الوضعية، التي اعتقدت بفصل العقل عن اللامعقول، بفصل العلم عن الأدب، وقللت من دور الحدس والخيال في الوصول إلى المعرفة، ولم تعترف بالعلاقة الجدلية بين الوعي واللاوعي، وبين الحلم والواقع، على العكس فباشلار يرى أن تركيبتنا النفسية يشتبك فيها الواقع بالحلم، والوعي باللاوعي، والعقل بالخيال، لذلك فهو كثيراً ما كان يعثر على "نظرة ذات أعماق متكافئة من عنصري العقل والخيال، فالعلم والشعر لدى باشلار هما حدسان كامنان في الإبداع البشري، وهما الرغبة الكامنة لإضفاء معنى وجمال ما على العالم" (محمود، 2005: 7). ولهذا، كان مشروع باشلار في مراحله الأخيرة يهدف لتوجيه العقل نحو المباهج الأخرى للرضا الفكري-مباهج العلم- تأسيساً على تحليل نفساني للمعرفة الموضوعية، حيث يُعتبر العلم بالنسبة له جمالية العقل، فلا فصل بين الواقع والحلم، بين الأدب والعلم، بين العقل والوجدان.
قبل الخوض في أبعاد المشروع الباشلاري، قد يكون من المفيد إلقاء نظرة سريعة وموجزة على تاريخ العلوم والمعارف، ولكن في سياق شاقولي وأفقي: شاقولي يُحايث جدلية القطع والاتصال التاريخي عبر الخط الزمني، وأفقي يعبر الحوار بين العلوم المضبوطة والعلوم الإنسانية ويُجاور جدلية العلاقة بين العقل والوجدان، بين الذات والموضوع.
في التواصل والانقطاع
في مستهل التاريخ البشري لم يكن هناك فصل بين العلم والثقافة، وكانت هناك قضايا تشغل فكر الإنسان فيما يتعلق بالظواهر الطبيعية والكونية، وكانت الأسطورة شكلاً من أشكال المعرفة، إن لم تكن قفزة أولى نحو المعرفة، وكان الإنسان القديم يشعر أنه يخبئ في داخله طاقات عظيمة، وهذه الطاقات كان يحدس أنها متصلة مع الكون، وكانت اتصاليتها هذه ظاهرة له في كل شيء: الغضب، وظاهرة الرعد، أو فيضان النهر، الشعور بالرضا والأمن تحت سماء زرقاء صافية ... الخ. لقد بدأ الإنسان "يعرف" من خلال النفس، وكانت هذه المعرفة تصاغ على شكل أساطير، وتُثقَل بمشاعر الإنسان وعواطفه، ولذلك قام الإنسان مثلاً بأسطرة الظواهر الطبيعية وأنسنتها وربطها بالعواطف المختلفة من غضب، ورضا، وحُب ... الخ، ولكن بقي لهذه الأساطير نظامها الخاص، فهي لا تتضمن ترابطات بين مفاهيم مجردة، وهي بذلك تبتعد عن الفلسفة، ولا تتضمن مبادئ ونظريات وقوانين، وهي بذلك تبتعد عن العلم، بل تتضمن خيالات وعواطف وإرادات ومساحات شاسعة من الشعور.في العصر الإغريقي القديم، برزت الترابطات بين المعارف المختلفة، وتجلى ذلك من خلال المذهب الفيثاغوري الذي أكّد على كليّة الكون وتناغم أجزائه، تلك الأجزاء القائمة على نسق العلاقات العددية المتناسبة، حيث الوجود نغم ورقم، وأيضاً برزت هذه الترابطات من خلال ما كان يراه الرواقيون من أن "الكون وحدة عضوية تقوم بين عناصره علاقة التحام كما تلتحم أعضاء الجسد الواحد، وكذلك الأبيقوريون الذين رأوا أن الكون بمثابة كائن عُضوي تسوده روح كما تسود الروح الجسد، أو يسوده عقل ينظم أجزاءه ويراعي وحدته" (البعزاتي، بناصر، "مفاصل التفاعل بين المعارف"، أخذت من موقع: http://membres.lycos.fr/abedjabri).في المقابل، برزت الحاجة عند الإغريق إلى تمييز الطبيعة عن النشاطات البشرية المختلفة التي تتكئ على المعرفة، وقد اقترح أرسطو (Aristotle) التمييز بين ثلاثة منها: العلوم العملية، العلوم الشعرية، العلوم النظرية. في العصر الوسيط، تجلّتْ النظرة "الكليّانية" من خلال نظرة العلماء المسلمين إلى موضع العقل والتعقل ورؤيتهم للعلاقة بين النفس والعقل، فمثلاً عند تحليل فعل التَعَقُّل عند الكندي، تظهر سيادة تصور الانفصال بين عناصر المعرفة الممهدة لتشكيل المعقول، وهي المحسوس، والمتخيل، والمعقول، وعلى الرغم من ذلك، فإن الكندي يقبل بوحدة معرفية بمعنى المطابقة بين النفس والعقل، لأن الفعل المعرفي ذاته -حسب اعتقاده- يشترط هذا النوع من الوحدة بين الذات والموضوع، باعتبار أن الأخير صورة فقط لحقيقة عقلية موجودة في الخارجي، ولكن لا يقبل الكندي في الوقت نفسه بوحدة أنطولوجية بين النفس والعقل في ذاته، لأنه يعتقد أن هذا من شأنه أن يجعل الإنسان عارفاً على نحو شامل ومطلق (المصباحي، 1990).إن الفروع المعرفية المختلفة توزعت في هذا العصر بين الرباعي العلمي الذي كان يشتمل على الهندسة والحساب والفلك والموسيقى، والثلاثي الأدبي الذي كان يضم النحو والبلاغة والمنطق، وهذا التوزيع كرّس اعتقادي منطقتين متمايزتين كانتا تتشابكان أحياناً وتتصلان، وتنفصلان أحياناً أخرى وتنعزلان، وذلك تبعاً للسياق الثقافي والسياسي في هذا المجتمع أو ذاك. وعلى الرغم من هذا "التمييز" في الفروع المعرفية، فإن تجليات الرؤية الكليّة للمعرفة كانت من خلال رؤية كلّية للوجود، تجسّدت في الكثير من المدارس السّرانية في الشرق كإخوان الصفا، حيث كانت هذه المدارس ترى أن وحدة الكيان تنبع من وجود شامل وكلي يتضمن عناصر بيئية وبشرية تُنتج بدورها معرفة كلية لاواعية أو باطنة، أما تلك المعارف والعلوم التي تظهر على السطح وتتجلى، فما هي إلا الشكل الظاهر للعملية الداخلية التي تدور وتتشكل في العوالم الداخلية للإنسان.مع حلول عصر النهضة، بدأت الصلات بين المجالات المعرفية تنقطع، وعلى الرغم من ذلك، كانت هناك الكليات الجامعية الأولى -كما يشير اسمها- تُدرِّس الكلي: الطب، الفلك، الرياضيات ... وكان هذا الكلي متجسداً في من وُسموا بسمة عملهم في معارف متعددة، فكان كردان (Cartan Paul) مثلاً مخترع الأعداد الخيالية عالماً رياضياً ومنجماً في آن واحد، وواضع الطالع الفلكي، ومؤلف أول عرض منهجي لحساب الاحتمالات، وكبلر (Johannes Kepler) كان فلكياً ومنجما ورياضياً ... .في القرن السابع عشر، تطورت رؤية تقضي بالانفصال الكلي بين الذات العارفة والواقع، وذلك على أساس وجود قوانين شاملة ذات طبيعة رياضية ووجود موضوعي يتم اكتشافه بالتجربة العلمية... . وعلى الرغم من وجود علماء في ذلك العصر كانوا يعتقدون بوجود نظام وترابط بين كائنات الطبيعة مقابلين لنظام وترابط في العقل، فإن ما قام به كل من غاليليو (Galileo) وديكارت من تقسيم للطبيعة إلى عالم المادة وعالم العقل كان من شأنه بسط النظرة الآلية للكون، وأصبحت الطريقة "الديكارتية" التحليلية طريقة لفهم العالم المادي وحتى لفهم الإنسان، وما أدل على ذلك ما كتبه ليبنتز (Leibnitz Gottfried): "تُعد العمليات في جسم الإنسان وفي كل مخلوق حي آلية مثلها مثل العمليات في الساعة" (مورزا، 2005: 20).خلق هذا الوضع الجديد للعلم الذي يرى في الطبيعة ميكانيكية جافة، أساساً لتشييء الإنسان وتوظيفه كأداة في منظومة "مجتمع الساعة" الآلي، ووضع الطبيعة تحت التعذيب بعد أن عُزلت/فُصلت عن الإنسان، وقد عبّر عن ذلك الفيلسوف الألماني شتاينير (Steiner) قائلاً: "في فيزياء نيوتن لامسنا للمرة الأولى تصورات عن الطبيعة، معزولة تماماً عن الإنسان... إن العلم الحديث، في سعيه لإخضاع الظواهر الطبيعية بمساعدة الرياضيات المعزولة عن الإنسان والخالية من أي إحساس داخلي، قادر في تأملاته الرياضية المنفردة ومع مفاهيمه البعيدة عن الإنسان، أن يدرس الأشياء الميتة فقط. ومع سلخ الرياضيات من الحياة، فإنه لا يُمكن تطبيقها إلا على الموتى فقط" (2005: 23).في القرن التاسع عشر، بدأ الانفصال في المذاهب والمناهج يظهر بوضوح على أساس إدراك انفصال المعرفة عن الذات العارفة، وقد طُرحت حلول لتصنيف المناهج من قبل الكثيرين أمثال أندريه أمبير (André-Marie Ampère) وهوبرت سبنسر (Herbert Spencer)، ولكن حل أوغست كانط هو الذي لفت الأنظار أكثر من غيره، فبفضله تمت مَفْصَلة المناهج بعضها عن بعض على نحو خطي، بدءاً من الرياضيات حتى علم الاجتماع، مروراً بالفلك والفيزياء والكيمياء والبيولوجيا وعلم النفس، وفي هذا التصنيف كانت درجة عمومية كل منهاج تتناقص نزولاً من الرياضيات إلى علم الإجماع.في مستهل القرن العشرين، تكرست "التخصصية" والنظرة التجزيئية، فمثلاً أصبح ينظر الطب إلى الجسم البشري كآلة يمكن تحليلها بحسب أجزائها، والداء يُرى بوصفه قصوراً في الآليات البيولوجية التي تدرس من وجهة نظر العلوم البيولوجية، ودور الطبيب أن يتدخل إما فيزيائياً وإما كيميائياً، لتصحيح قصور آلة معينة (قلب، رئة، كبد...)، ولذلك نرى الطبيب أمْيَل إلى معالجة عضو معين، وقد أصبح عاجزاً عن رؤية الداء خللاً في العضوية ككل، فما بالنا باعتبار المظاهر الاجتماعية والنفسانية لداء المريض؟ (جرى الحديث في هذه المرحلة عن علوم مضبوطة كالفيزياء والرياضيات، والأحياء، وعلى علوم غير مضبوطة/رخوة كعلم الاجتماع وعلم النفس، وكأن العلوم الإنسانية غير مضبوطة والعلوم المضبوطة غير/فوق إنسانية!).ومن هنا أصبحت المعارف مجزأة ومتخصصة حتى في داخل الحقل الواحد، واستعانت الأيديولوجية بهيبة العلم ويقينه فكرست تبسيط الأشياء وفصلها: العالم من دون إنسان، المعرفة من دون قيم أخلاقية، الجسد من دون روح، كما أخذت الأيديولوجيا من العلم وسيلته المنهجية، وهي طرح الموضوع على شكل نموذج، وقد أصبح العلم في جوهره كماً وأنساقاً ونماذج، استغلته سلطة رأس المال في تحويل أي مسألة بيئية أو قضية إنسانية إلى نماذج مبسطة للتعبير عنها، إما في قوانين ونظريات ومعادلات، وإما في شعارات وقوالب ومقولات، وكما أكد فوكو عندما "نبش المعاني" التي أسسها الغرب من "أن لغة العلم والأرقام ضرورية جداً من أجل الهيمنة عن طريق الأيديولوجيا" (2005: 9). لقد تمت الاستعانة بهيبة العلوم لفرض تفسيرات للظواهر الاجتماعية مثقلة بالأيديولوجيا، فتمت استعارة صراع البقاء، والانتخاب والاصطفاء، والبقاء للأصلح من المكتبة الداروينية لتبرير الإقصاء وتسويغ منظومات السحق والاستغلال، وكذلك تمت الاستعانة بمفاهيم علمية من القاموس الطبي كالوباء، والآفات لوصف الثورات وتسويغ سحقها والقضاء عليها... .إن علم الاقتصاد السياسي (الذي بدأ بدراسة الظواهر الاقتصادية خارج سياق الأخلاق منذ آدم سميث)، يُعتبر نموذجاً قيّماً في توضيح كيفية استغلال الأيديولوجيا للعلوم، فهذا العلم تأسس على تلك العقلانية التي تحتوي في أساسها الحتمية، والتي ترى المجتمع والناس كذرات تتحرك وفق النموذج الميكانيكي البراوني، وتملك قوى محركة خفية باستمرار. سلوك هذه الذرات أو هؤلاء الناس يخضع لقوانين التوازن البراوني والتصادم النيوتوني، بحيث يُمكن التنبؤ به بدقة والتعبير عنه بلغة الرياضيات. إن حركة الذرات استبدلت بحركة الناس وحركة الكتل استبدلت بحركة البضائع والنقود واليد العاملة، وتلك القوى الخفية وراء حركة الذرات استبدلت بما يُعرف في علم الاقتصاد بسحر السوق ... الخ. هذه الحركة الحرّة للناس في سوق حُرة ومفتوحة أو ذاك التصادم النيوتوني للبضائع أو حتى للمصالح في مجتمع تنافسي صراعي، قد خضعت تفسيراتها تماماً كما تُفسر الحركة البراونية الحرة للذرات، وتصادم الكتل ودرجة الحرارة وضغط الغاز بعيداً عن حرارة الإنسان! فمبدأ التوازن الميكانيكي نُقل إلى اقتصاد السوق، وتأسست ثنائيات التوازن: ربح/خسارة، فقير/غني ... الخ.إن الفرد وفق هذا النموذج يسلك سلوكاً فردياً مثل الذرة المستقلة، وليس سلوكاً جماعياً ضمن بُنى اجتماعية متضامنة تجري فيها عمليات غير بسيطة وغير عقلانية محكومة بإرادة الإنسان وقيمه المتبدلة وألوان نفسه المختلفة. من الحركة العشوائية البراونية الحرة للذرات إلى ميكانيكا نيوتن وتصادم الأجسام، انتظمت نزعة حرة متساوية التأثير ومتعاكسة في الاتجاه في المجتمعات، ولكن هذه الحرية والمساواة متجردة من الأخلاق، ولم تفترض الحب والتضامن، بل الحرب والعشوائية والتدمير. وهكذا يُصبح الناس أشبه بحبات الرمل المتحركة يدورون في آلة كبيرة، وفي آلية لافتة، ولافتقادهم للأبعاد الحية والقيم الأخلاقية ولكثير غيرها من الأسباب، يُمكن استخدامهم على أفضل وجه من قبل مجموعات المصالح وقوى السيطرة والتحكم.في الآونة الأخيرة؛ أي في أواسط القرن العشرين، ومنذ أن تجاوز أينشتينAlbert(Einstein) بنظريته النسبية الصورة السكونية للفيزياء النيوتونية، أصبح بالإمكان إعادة النظرة التواصلية للكيانات المعرفية، أو بالأحرى لتواصلية العالم. فلم يعد المكان والزمان "شيئين" منفصلين وموجودين خارج الوعي الإنساني، بل أصبح كلٌّ من المكان والزمان كيانين متصلين لا معنى لوجود أحدهما دون الآخر، حيث لا "وجود" دون تعيين للمكان والزمان، وبهذا أصبح الوجود المادي يتبادل موقعه مع الطاقة في معادلة بسيطة عرفت بمعادلة تحول المادة إلى طاقة، حيث الطاقة تعادل الكتلة مضروبة بمربع السرعة، كما أن الطاقة تبادلت موقعها مع المادة فيما عرف فيما بعد بالنظرية الكوانتية، ثم جاءت نظرية الشك أو عدم التأكد لهيزنبرغ (Heisenberg) لتزعزع يقين التعيين ولترج الأساس الموضوعي للأشياء ... ولكن ديفيد بوهم (Bohm) (وهو عالم رياضيات وفيزياء ومن أحد تلامذة أينشتين) هو أول من خرج بحدة ووضوح من عالم الفيزياء، واقترح نموذجاً يجيب عن تساؤلات ليست علمية بالمعنى المعروف كالحقيقة، والفهم، واللغة، وحاول أن يبرهن على أن هذه المفاهيم توازي في أهميتها المفاهيم الكلاسيكية كالشحنة، وكمية الحركة، وغيرها ... .إن فكرة بوهم ترتكز على اتصالية العالم، فالكون هولوغرام (Holographic) كبير، ويعني ذلك أن كل جزء فيه يستطيع احتواء الصورة الكلية، كل خلية في جسم الإنسان تتضمن كرموزومات بها جميع الحاملات الوراثية للجسم كله، ليس هذا فحسب، فكل شعاع آتٍ من الشمس يخترق هذه الثمار التي نأكلها، وكل نسمة آتية من البحر تخترق جهازنا التنفسي، وكل ضوء قمري يخترق أحاسيسنا وأعصابنا، وفي كل الأحوال تدخل حرارة الشمس ولون القمر وحركة النسمة الخلايا وتتغلغل في الدم، فقد تتحول الحرارة إلى غضب وطاقة، أو النسمة إلى تسامح وهدوء، أو الضوء إلى رضا أو حزن ... إذن، الإنسان الجزء يحوي الكون الكل، فداخل الإنسان أكوان ممتدة، قد تكون أكثر ثراء وغنى!إن هذه الرؤيا الكليانية قد تعكس نظرة إيمانية بالتوحد، حيث يُنظر إلى الكون والفرد بصفتهما متصلين بالجوهر، وأن أصل هذا الاتصال هو حالة التسامح والتناغم بين الكيان الإنساني من ناحية، والكون الممتد خارج الذات الإنسانية من ناحية ثانية، وأن فكرة الانفصال بين الكيانين تضع أساساً لحالات العداء والفوضى بين الإنسان والطبيعة ... ويقول بوهم في هذا الصدد: "يبدو بوضوح أن الفكرة القائلة إن جميع هذه الأجزاء موجودة بشكل منفصل هي صورة خادعة، وهذا الوهم لا يمكن أن يؤدي إلا إلى صدام وفوضى، وفي الواقع فإن العيش وفق هذه الفكرة القائلة إن الأجزاء منفصلة حقاً، هي في جوهرها التي قادت إلى السلسة المتزايدة من الأزمات التي تواجهنا اليوم..." (كلارك، 1998: 15).أما جاري زوكاف (zukav)، فهو يرى أيضاً الصلة المتبادلة بين الكيانين: الكيان الداخلي والكيان الخارجي في كل ما يشمله الكيانان من أشياء، وقد عبّر زوكاف عن مفهوم الوحدة كما يلي: "... إن الانعكاس الفلسفي لميكانيكا الكم هو أن جميع الأشياء في عالمنا -بما فيه نحن- التي تبدو بشكل مستقل هي بالفعل أجزاء من نمط عضوي شامل، وبأنه لا توجد أية أجزاء من النموذج مستقلة عنه وعن بعضه البعض ... ولذلك، فإن "هذا" و"ذاك" ليسا كيانين مستقلين، إنهما شكلان مختلفان من الشيء نفسه ... . وبهذا لم تعد الحقيقة إما-أو بل كلاً من "و"-"وأيضاً "ويبدو أنها متصلة ببعضها البعض" (1998: 17).في أواخر القرن العشرين ظهرت علامات تقارب بين العلوم الإنسانية والعلوم المضبوطة، ولاسيما في مجال التفاعل بين العلم والأدب والفن، وفي سياق الحوار بين الثقافة العلمية والثقافة الإنسية ... وقد تأسس حوار بين العلوم المضبوطة والعلوم الإنسانية تُوج في العام 1994 بعُقد المؤتمر العالمي الأول في باريس لما يسمى "العبرمناهجية"؛ بهدف إعطاء توجه مشترك للمناهج، ومركزتها حول حاجات الإنسان وتطلعاته، وقد ركّز المشاركون على وحدة الكون والحياة، وقد جاء في مقالة لبورغينيون (Bourguinion) (من تعددية المناهج إلى العبرمناهجية: http://maaber.50megs.com/forth_issue/epistemology_2a.htm) أهم المبادئ الجوهرية التي خرج فيها المؤتمر:
> "العبرمناهجية لا تتوافق مع اختزال للإنسان إلى بنيان صوري، ومع اختزال للواقع إلى مستوى واحد يحكمه منطق واحد.> تقدم العبرمناهجية رؤية جديدة للطبيعة، وتذهب إلى مصالحة العلوم الدقيقة مع العلوم الإنسانية.> العبرمناهجية تضع الإنسان في القلب من الكون، وهي تسلم بأن الاقتصاد يجب أن يكون في خدمة الإنسان ... في وقت أصبح الفرد ضائعاً أمام معرفة هائلة ومجزأة، تجره جراً إلى عبادة المردودية بأي ثمن مبتعداً عن حياته الداخلية".
لقد وضعت هذه الحركة نصب عينيها توحيد المعارف العلمية في منظومة كليّة دون حدود مستقرة بين المناهج، وهي ترى أن العلم اليوم وصل إلى تخوم الميتافيزياء لتعاود طرح الأسئلة التي عجز العلم عن الإجابة عنها.
مفهوم القطيعة الإبستمولوجية عند باشلار
لقد عاصر باشلار جزءاً من هذا المشهد الثوري وتابع تطوراته المتلاحقة، حيث صار من غير الممكن التعامل مع الموضوعات العلمية من خلال وجهات نظر الفيزياء الكلاسيكية، فأسس الفيزياء تغيرت، حيث تحطمت الصورة النيوتونية للكون، وتكونت تصورات جديدة لبنية الأجسام والمواضيع الفيزيائية، وقد طرح الفلاسفة والفيزيائيون في القرن العشرين أسئلة من نوع: ما هو مدلول التقدم في عملية المعرفة العلمية؟ هل الإنسان قادر على معرفة الطبيعة معرفة موضوعية أم أن معرفته نسبية تتغير باستمرار؟ هل يُمكن بلوغ المعرفة بواسطة التجربة الحسية ... أم يُمكن بلوغها بواسطة العقل؟ ... هل المعارف في تطور مستمر أم في تطور متقطع؟ هل المعرفة العلمية تراكمية؟لقد تورط باشلار في تأمل هذه التطورات الثورية وهذه الأسئلة الجديدة، وتوصل إلى أن الواقع العلمي الجديد هو مشروع إنشائي فيه المعارف العلمية مواضيع ليست معطاة، بل يتم بناؤها شيئاً فشيئاً في تدخل فعّال من قبل الذات، والأهم من كل ذلك هو ما خلص إليه باشلار من أنه لا يوجد تواصل في الأفكار العلمية، بل هناك قطع بين الفكر العلمي القديم والحديث، وعلى مدى الخط الزمني لتاريخ العلوم كانت هناك قفزات واستحداثات لا صلة لها بما سبقها، بل أحياناً تُخطّئها لدرجة بدا تاريخ العلم بالنسبة له هو "تاريخ أخطاء العلوم" (مهيبل، 2005: 97).هناك الكثير من الأحداث العلمية التي يُمكن عرضها في سياق التدليل على وجهة نظر باشلار فيما يتعلق بموضوع القطع واللاتواصل، فمثلاً لاحظ جاليليو أن الأجسام الساقطة ذات الأوزان المختلفة يقل الفرق بين سرعة سقوطها عندما يكون الوسط (ماء، هواء) أقل مقاومة، وذلك إلى درجة أن سرعة هذه الأجسام، وعلى الرغم من تباين أوزانها، تكاد تكون واحدة في حالة انعدام مقاومة الوسط. إنه بذلك يقطع مع الفكر العلمي القديم في تعليلات أرسطو وأفلاطون لسقوط الأجسام، حيث أن سقوط الأجسام على الأرض أرجعوه إلى قوّة خفية كامنة في الأجسام نفسها، أو ربما من طبائع الأجسام وخصائصها. وكذلك الهندسة اللاإقليدية قطعت مع هندسة المسطحات الإقليدية، حيث الأولى تستند إلى مفاهيم جديدة تتجاوز مفهوم المسطح بوصفه الأساس في فهم الهندسة الإقليدية، كما أن المفهوم العلمي للجنون في القرن العشرين لم يُبنَ على أفكار العصور الماضية، بل قطع معها، ففي العصر القديم وحتى عصر النهضة كان مفهوم الجنون مرتبطاً بأفكار غيبية (أرواح شريرة، سحر،...)، فيما كان في القرن السابع عشر غامضاً وملتبساً ويقترن بصفة الشذوذ والانحراف، وكان المجانين لا ينتمون إلى عالم العقلاء، فيقصون ويُسجنون (حيث كان العقل عند ديكارت قيمة مطلقة ينبغي كتم صوت الجنون فيه وإقصاؤه)، واكتسب الجنون في العصر الصناعي صفة اللاإنتاجية، ولكن في القرن العشرين اكتسب الجنون صفة المرض، ووضع الجنون أمام سؤال العقل والثقافة، حيث الجنون حسب فوكو "لا يكتسب قيمته وحقيقته كمرض إلا إذا دخل ثقافة ما تعترف به من حيث هو كذلك" (طاهر، 2005: 70).باختصار، يُمكن القول إن مفهوم القطع واللاتواصل عند باشلار يتلخص في أن الأفكار العلمية هي قفزات نوعية وليست استمرارية ميكانيكية؛ أي أن تطور المعارف العلمية -برأيه- لم يكن انتقالاً ميكانيكياً من مستوى إلى آخر عبر الفترات الزمنية المتلاحقة، بل قفزات واستحداثات، ولكن في الوقت نفسه فإن مفهوم القطع المعرفي بالنسبة لباشلار لا يعني في كل الأحوال رفض القديم (وإن كان كذلك في المفهوم القديم لسقوط الأجسام، أو المفهوم القديم للجنون وغيرها)، بل الانطلاق من العلم الجديد ذي العقلية الأكثر مرونة وانفتاحاً في تفسير الأفكار العلمية القديمة ورؤيتها، فتفسير القوانين ومدلولاتها -برأيه- يجب ألا يتم خارج النسق التي وُجدت فيه، فمثلاً ميكانيكا نيوتن ليست خاطئة إذا ما فُسِّرت قوانينها في أنساق الظواهر الكبيرة، ولكن الفيزياء الكوانتية تجاوزتها، وربما احتوتها، حيث هناك معارف جديدة تُفسر في أنساق الأجسام المتناهية في الصغر في نماذج أكثر انفتاحاً ومرونة.لقد أحدث باشلار صدمة عند علماء القرن العشرين وفلاسفته، وذلك بتأكيده على اللاتواصلية في المعارف وانقطاع الأفكار العلمية عبر التاريخ، ووقف أمام أنصار التواصلية أمثال هيدغر (Heidger Marten) وهامبرماس (Habermas Jurgen) التي انبنت رؤيتهم على أساس أن هناك تقارباً بين طبيعة المواضيع العامة ومواضيع المعرفة العلمية، وأن المعارف تتراكم عبر خط زمني، وما يتجلى اليوم من نتائج ملموسة له مقدمات ودعائم في فترات سابقة، فتاريخ العلم -بالنسبة لهم- هو جزء من التاريخ العام، وهو بالتالي حلقة واحدة في سلسلة متواصلة من الحلقات تشكل التاريخ العام بكل تجلياته وخصائصه. لم يكن باشلار وحيداً في رؤيته اللاتواصلية لتاريخ العلوم، بل شاركه في الرؤيا فوكو (Michel Foucault) الذي اجتهد في زحزحة العقل عن النماذج والأنساق القديمة فبعثر وشتت، ورأى أن العصور التاريخية ما هي إلاّ فواصل وانقطاعات يستند كل عصر إلى نمط خاص من الإنتاج المعرفي، ولهذا دعا إلى تأسيس أركيولوجيا تقطع كل صلة لها بالتاريخ وبالإنسان وبالفلسفة أيضاً، وبالنسبة إليه لم يعد لأسئلة مثل: ما الرابط الذي يجمع بين أحداث متسلسلة؟ ما خيط التواصل الذي يربط أطرافها؟ محلاً من الإعراب، بل أصبح التاريخ نفسه عند فوكو هو "عبارة عن بنيان وحقب لروابط لا تواصل بينها، مكتفية بذاتها وبعناصرها المكونة لها" (مهيبل، 2006: 22).برأيي أن باشلار كان لا تواصلياً عمودياً، حيث لا تراكم تاريخي في المعرفة العلمية، بل انقطاعات واستحداثات وقفزات، ولكنه كان تواصلياً أفقياً في اللحظة الواحدة، حيث واصل بين العقل والوجدان، الذات والموضوع، العلم والأدب، ولهذا ذهب إلى دراسات للتحولات الجذرية التي حدثت في تاريخ العلم منهجياً ومعرفياً، ثم باحثاً عن القيم الإبستمولوجية للعلم وعن طبيعة المعرفة العلمية وعلاقتها بالبنى العقلية، موظفاً أدوات علم النفس التحليلي اليونغي، متخطياً جدران العيادة النفسية، متجهاً بالتحليل النفسي إلى الخارج لتحليل المعرفة الموضوعية والقيم الأخلاقية للمعارف العلمية، محاولاً إعادة تنظيم العلاقة بين الموضوع والذات، بين العقل والتجربة، بين العلم والفلسفة، بين العلم والأدب، بين العقل والوجدان.
المشروع الباشلاري في لحظتين
مرّ المشروع الباشلاري بين لحظتين فكريتين كبيرتين:لحظة موضوعية، وقد تبنى فيها باشلار تصورات ذات نزعة علمية متأثرة بديكارت وكونت (Auguste Conte) وكانط، وقد تركز اهتمامه هنا على المادية العقلية والبحث في التفكير العلمي ودراسة العلوم وتعليمها، وقد انعكست هذه اللحظة في ثلاثيته المهمة: "الفكر العلمي الجديد"، "فلسفة اللا"، "تكوين الفكر العلمي" بالإضافة إلى عشرات الأعمال من قبيل: "دراسة في تطور المشكلة الفيزيائية"، "محاولة في المعرفة التقريبية"، "مقالة الروح العلمية الجديدة"، "الأنشطة العقلانية في الفيزياء الحديثة"، "القيمة الاستقرائية للنظرية النسبية"، "جدلية الزمن" ... الخ.ولحظة ذاتية كسر فيها الصرامة العلمية ليصغي إلى نداءات الذات والنفس، وليعمل على تطوير آليات الحاسة الذوقية من خلال انسياب الخيال في تأملات شاردة لأعماق الظواهر الطبيعية كالنار، والماء، والهواء، منتقلاً من الماهية إلى الظاهرة، وموظفاً أدوات حقل التحليل النفسي لتعميق المعرفة الجمالية للمواد والظواهر، وقد تجلت هذه اللحظة في أعماله: التحليل النفسي للنار، الماء والأحلام، الهواء والرؤى، جماليات المكان، شاعرية أحلام اليقظة، لهب الشمعة.
في رحاب اللحظة الأولى... العقلانية التطبيقية والقطيعة الإبستمولوجية
إن منبع المشروع الباشلاري مرده إلى اندهاش باشلار من هذا التطور الهائل في العلوم، وعدم قدرة الفلسفة التقليدية -بمخزونها المعرفي الكبير ومقولاتها الجاهزة- على مواكبة هذا التطور واستيعابه، وهذه الأزمة أوجدت شعوراً عنده بضرورة ردم الهوة الزمانية-المعرفية بين العلم والفلسفة، فراح يتأمل ما أحدثه العلم من قفزات وثورات، وبخاصة في مجال الفيزياء، وأضحت أسماء مثل أينشتين (Einstein)، وبلانك (Max Planck)، وهيزنبرغ (Heisenberg)، وبوهم (Bohm)، وبوبر (Karl Raimund Popper) طرفاً أساسياً في التركيبة المعرفية العلمية التي تأملها باشلار، وانتقل بها إلى التفلسف حول نتائج العلم ومباحثه الجديدة.إذن، بدأ باشلار مشروعه من شعور حاد بالأزمة بين تطور العلوم وسكون الفلسفة، وحاول إشباع الفلسفة بالروح العلمية، وكانت البدايات من خلال رسالته للدكتوراه بعنوان "محاولة في المعرفة التقريبية"، وقد تلتها مؤلفات فلسفية ذات نزعة علمية، وفي جُلّها حاول تأسيس فلسفته المميزة المتمثلة في "العقلانية التطبيقية"، حيث انطلق من رفضه للنزعة العلمية القائمة على التجربة، وكذلك رفضه للربط الآلي بين العلم والواقع، فالعالِم -برأيه- لا يُمكنه إدراك الوجود عن طريق التجربة وحدها، ولا عن طريق العقل وحده، بل عن طريق الحوار بين المحسوس والمعقول، وهذا يعني أن المعرفة العلمية الموضوعية تحتاج إلى تدخل الذات بجانب حاجتها إلى برهان عقلي ... لهذا، أسس باشلار مشروعه للفكر العلمي الجديد على أربعة مبادئ تقطع مع مفاهيم العلم القديم التي تنظر إلى العلوم نظرة آلية وتبسيطية ... هذه المبادئ هي:
1. "ليس ثمة عقل ثابت يحكم جميع أنماط معرفتنا، فالعقل نتيجة من نتائج العلم، وتفكير لاحق غايته تأمل العلوم والإفصاح عن مناهجها. (كانط يقيّم العقل الخالص على أساس من مواضيع العلم الطبيعي والرياضي على اعتبار أن هذين العلمين يُمثلان قمة الوضوح والصرامة).2. ليس ثمة منهج شامل أيضاً. فالمنهج الشامل مثل العقل تفكير لاحق، انطلاقاً من العمل الواقعي للعالم، ولا يستطيع إلا تكرار ما سبق اكتشافه من قبل.3. ليس ثمة واقع بسيط يقتصر العالِم على معاينته وشرحه، بل إنه معقد ومركب من عناصر متعددة تُشكل الظواهر المشاهدة عيّنة واحدة ضمن بنية متكاملة من الظواهر.4. على فلسفة العلم أن تفتح المجال للإبستمولوجيا لكي تتوفر الإمكانات للدراسات النقدية في تكوين المفاهيم العلمية" (مهيبل، 2005: 59).
على أساس هذه المبادئ أعطى باشلار الخيال والحدس مساحة أوسع في تفسير المعارف وبنائها، وقلل من تمجيد دور العقل في الاكتشافات والوصول إلى المعارف، مبرزاً دور ما سماه بـ "المكبوتات العقلية" أو العوائق الإبستمولوجية لدى العلماء في الوصول إلى الاكتشافات العلمية، وقد استعان باشلار بأدوات علم النفس الفرويدي للغوص في أعماق الجوانب الباطنية للعمل العلمي، محاولاً فهم المعرفة الموضوعية حتى في زواياها الغامضة.
العوائق الإبستمولوجية
ينطلق باشلار من اعتقاد أولي مفاده أن المعرفة العلمية عملية تتم ضمن شروط نفسية تترك بصماتها على طبيعة المعرفة ذاتها بشكل أو بآخر، وتتجلى هذه التأثيرات في صيغة عوائق تعترض طريق المعرفة العلمية. يقول باشلار في هذا الصدد: "عندما نبحث في الشروط النفسية لتقدم العلم، سرعان ما نصل إلى الاعتقاد بأنه ينبغي وضع مشكلة المعرفة العلمية في صيغة عوائق، ولا يتعلق الأمر هنا بعوائق خارجية، ولا بالطعن في ضعف الحواس والفكر الإنسانيين، ففي فعل المعرفة ذاته تبرز الاضطرابات كنوع من الضرورة الوظيفية، وبذلك نستبين أسباب الجمود، بل والنكوص، وهنا سنكشف عن علل السكون التي ندعوها عوائق إبستمولوجية" (باشلار، 1996: 61).إذن العوائق الإبستمولوجية تنبع من بنيتها الداخلية، وعلى مر التاريخ كانت هناك مثل هذه العوائق والعقبات: مرحلة الهندسة الإقليدية كان لها عوائقها، وكذلك الفيزياء النيوتونية ... ولكن دائماً ما كان يتم تجاوزها ومن داخلها ... وفي هذا الجزء من المقالة سنسلط الضوء على اثنين من العوائق الإبستمولوجية، حيث نعتقد أن من شأنهما إلقاء الضوء على أهم ركائز المرحلة الأولى في المشروع الباشلاري.في كتاب تكوين العقل العلمي، يُقسم باشلار مراحل تكون التفكير العلمي إلى ثلاث مراحل:
> "المرحلة الأولى: هي الحالة الملموسة، حيث يتلهى العقل بالصورة الأولى للظاهرة ويتغنى بوحدة الطبيعة وثرائها.> المرحلة الثانية: هي الحالة الملموسة-المجردة، حيث يضيف العقل إلى التجربة الفيزيائية الرسوم الهندسية، ويستند إلى فلسفة البساطة، وينظر العقل بثقة ووضوح إلى تجريده.> المرحلة الثالثة: حيث يُباشر العقل بمعالجة المعلومات المأخوذة طوعاً من حدس الميدان الواقعي، والمنفصلة طوعاً عن التجربة المباشرة وحتى المتصارعة علناً مع الواقع الأول، غير النقي دائماً وغير المتشكل دوماً" (1996: 10).
يقابل هذه التقسيمات نوع من قانون الحالات الثلاث للنفس:
> الحالة الأولى: النفس العادية المسيرة بفعل الاندهاش الساذج، التي تتسلى بالفيزياء، لكنها تتذرع بكل موقف جدي ... هذه النفس سلبية حتى في سعادة التفكير.> الحالة الثانية: النفس المعلِّمة وهي فخورة جداً بما تعتقد، متحجرة في تجريدها الأول، تستند مدى الحياة إلى نجاحات شبابها المدرسية، وتكرر معرفتها كل عام ... تؤيد السلطة وتعمل على خدمتها كما فعل ديكارت.> الحالة الثالثة: النفس المتألمة من صعوبة التجريد، وهي على وعي علمي متألم، وتلعب لعبة الفكر الخطرة دون مرتكز تجريبي، لكنها واثقة من كون التجريد واجباً، وأنه واجب علمي (1996: 10).
أمام هذه المراحل والحالات، نُقدم اثنين من العوائق الإبستمولوجية العديدة التي رآها باشلار تعترض تشكيل المعرفة العلمية:
العائق الأول: عائق التجربة الأولى
يُشكك باشلار بخط الفكر التجريبي عموماً في الوصول إلى المعرفة، "وهو يُشارك كانط في أن التجربة بالنسبة إلى المذهب التجريبي ما هي إلا فعل خارجي يستمد منها معلومات عن العالم الخارجي، إلا أنها لم توضح الكيفية ولا الطريقة التي تُستمد منها هذه المعلومات" (حرب، 2001: 15)، فما هو الضمان في أن التصورات التي حصلنا عليها بالتجربة مطابقة لأشياء العالم الخارجي، وعليه يقول باشلار إن الحواس يُمكن أن تخدعنا، فمثلاً وبشأن الحرارة، فإن الماء الفاتر يُمكنه أن يبدو حاراً ليد باردة، ويُمكن ليد حارة أن تجده بارداً في الوقت نفسه؛ حامض الكبريتيك يحرق القماش، ولكنه إذ يُنشر مع الماء يُصبح له مذاق الحامض ولا يشعر اللسان بأي حرارة حارقة ... ومع ذلك لا يشك باشلار في دور التجربة العلمية في عملية المعرفة، ولكنه يقول "إن التجربة الأولى غالباً ما تُثير الدهشة ويتم الإسراع في عقلنتها وقولبتها في أطر عامة تتجاوز حقيقة الظاهرة-التجربة وبساطتها" (باشلار، 1996: 26). يسوق باشلار مثال الجسم المغمور بالماء للتعبير عن مفهوم التجربة الأولى بوصفها عائقاً إبستمولوجياً، حيث أنه حينما ننظر إلى جسم متحرك وقد توقف عن الحركة في الماء، يبدو لنا من الملاحظة البسيطة الأولى أن الجسم هو الذي يعمل على مقاومة الماء، وهذا في الواقع خطأ، لأن عقلنة التجربة الأولى يظهر لنا أن الماء هو الذي يقاوم الجسم.ما يخلص إليه باشلار في موضوع العائق الأول أن المعرفة العلمية الناتجة عن التجربة الأولى غالباً ما تكون مشوهة أو خاطئة مع أنه بفضلها يتم تشكيل الخيال المعرفي الأساسي للوصول إلى معرفة أكثر دقة، التي بدورها تأتي من هدم المعرفة الناتجة عن المعرفة الأولى ومجاوزتها، وبرأيه أن على العالِم التحرر من ضغط نتائج التجربة الأولى وإغراءاتها.
العائق الثاني: التعميم
يرى باشلار أن التعميم الذي ساد منذ أرسطو وحتى بيكون عمل ككابح أمام المعرفة العلمية، وغالباً ما يسقط التعميم في التسرع والتبسيط، ويركن إلى السهولة ويستجيب لإغراء القوانين المجردة التي تُصبح بدورها عائقاً أم فهم الوقائع والظواهر بتشابكاتها وتعقيداتها. يسوق باشلار دليلاً على هذا العائق، ويستند إلى مثال واقعي يُقدمه أساتذة الفلسفة والعلوم في محاولة لتبيان استقراء الوقائع الجزئية على مستوى الملاحظة إلى استخلاص القوانين، فأساتذة العلوم يُرسون قانون الجاذبية على أساس تعميم الجزء على الكل، حيث التأمل في سقوط الأجسام الفردية يدفعهم إلى مثل هذا التعميم، ولكن هذا التعميم من وجهة نظر باشلار فيه الكثير من عدم الدقة والوضوح، حيث الأجسام الخفيفة كالبخار والدخان والنار تعود إلى الأعالي، وفي هذا التعميم جمود فكري وكأنه لا حاجة لدراسة السقوط، فسقوط الأجسام مفهوم كامل الوضوح من وجهة نظر فلاسفة القرون المادية وأساتذة القرن العشرين، ولكنه في الواقع متشابك ومُعقد.(يُقدم مفهوم السقوط في القرن الواحد والعشرين في مدارسنا كمفهوم واضح ودقيق ضمن دروس الميكانيكا تأسيساً على التعريف الأرسطي للسقوط الحر للأجسام، حيث يُقدم خارج سياق الوسط المادي الذي يجري فيه الفعل (ماء، هواء، سوائل)، وكذلك خارج سياق طبيعة الجسم الساقط (خفيف، ثقيل).ما سبق بعض من العوائق الإبستمولوجية التي تصورها باشلار، والتي تقف حائلاً أمام المعرفة العلمية الموضوعية من وجهة نظره، وهذه جرأة من قبل باشلار في مجاوزة الفهم التقليدي لأسس البحث العلمي، وكأن مسيرة العلم هي بحث متواصل عن الحقائق الموضوعية. إن باشلار كان يرى في الموضوعية نوع من النسبية والاحتمالية، مؤكداً على دور الذات في تقرير الحقيقة العلمية، ساخراً من فهم العقلانية الكلاسيكية للحقيقة الموضوعية، حيث الحقيقة-من وجهة نظرهم- هي كل الحقيقة التي يُقدمها الواقع دون تدخل من التجربة الذاتية فيها. ويقول باشلار (1996: 192) عن هذه الحقيقة الموضوعية التي "بسبب حقيقتها لا نتوانى للحظة من فرضها على الآخر: لكي نرى صورة الظاهرة الموضوعية: قُل لي ماذا ترى أقل لك ما هو ... فجأة عالم بأكمله يذهب لونه، وكل وجبتنا تفقد رائحتها، كل بارقتنا النفسية تنكسر، ترتد، تُهمل. وكم نحن بحاجة إلى كليتنا لرؤية العالم!".بهذا المعنى لا تعود الحقيقة خارجة عن ذاتنا، بل تُصبح وفق باشلار ما نخلقه من الوقائع أو ما ننتجه من الحقائق عبر منظومات العقل وتراكيب الذات.
في رحاب اللحظة الثانية... نحو مباهج العلم
اعتقد باشلار أن الفكر التجريبي لا يُمكن أن يكون أداة للإحاطة بمعرفة واضحة ودقيقة بالتطورات العلمية الأخيرة؛ لأنها-أي هذه التطورات العلمية- لا تقع تحت التجربة المباشرة، كما أن العقل، وبسبب حمولة الكبت النفسي عند صاحبه، يتعوق من الوصول إلى المعرفة العلمية الموضوعية، التي لن تكون مكتملة إطلاقاً والبراهين تُضجر الحقيقة. ليس العقل وحده هو الأداة، كما أنها ليست التجربة ... إنها ثنائية العقل والكون، حيث الحوار يدور بين العقل والأشياء وفي مستوى الوجدان الشخصي، حيث المخيلة تعمل أو ربما تعقل أفضل مما يعقله العقل! (كثيراً ما يخطئ العقل في فهم ما يكشفه الخيال إذا كانت المعرفة وليدة التجربة الشخصية).لهذا، لم يكن الهدف الإبستمولوجي للمشروع الباشلاري في "لحظته الثانية" هو الوصول إلى الحقائق الفيزيائية والقوانين الرياضية التي تُفسر الكون من خلال إعمال العقل في التجريب والاستقصاء، بل أمسى الهدف هو توجيه العقل إلى مباهج العلوم من خلال إثارة الحلم والخيال والحدس، والذي هو عند باشلار عكس الاستدلال التجريدي والمنطق التحليلي عند غيره من العلماء العقلانيين. الحدس والخيال بالنسبة إلى باشلار يعملان على المستوى العقلي كعامل غير عقلاني في الفهم وبناء المعارف ضمن آلية الكبت والتصعيد. وعليه، ينتقل باشلار بين اللحظتين من عمل العقل إلى عمل المخيلة ويبدأ الاستقصاء والبحث بتوظيف الخيال في تأملات كونية شاردة.يستسلم باشلار في أعماله الأخيرة إلى تلك القوى التي تخلق المعرفة بواسطة الحدس والخيال -هذه المعرفة التي لا يُمكن تحصيلها بأدوات القياس ومنهج التجريب كما هو الحال في مجال العلم والمنطق واليقين. معرفته تشكلت في حركية التجربة الشخصية وانصهرت بألوان النفس، وتجلت نصوصاً متدفقة على مسرح الذات خارج كل سببية كأنها الحلم. هذه النصوص انبنت رموزاً لا يُمكن استنتاجها على مستوى اختباري أو إثباتها على المستوى المنطقي، وإنما على مستوى الحياة الشخصية والحركة الداخلية الحميمة، في هذه الحالة المطلوب هو الاعتراف أكثر من البرهان.
الأطروحة الرئيسية للمشروع الباشلاري في لحظته الثانية
تناغم بين العلم والقصيدة، تناغم بين العقلاني والخيالي ... الروح الشاعرية العقلانية والمفتوحة هي مدخل لفهم العلوم. والعلوم تنثرها القصيدة نثراً أفقياً خارج الزمان ... والقصيدة تُشكل صوراً عميقة يتأملها الحالم في ساعات النهار ويحكي عنها الشاعر والعالم باللغة نفسها ويكتبها نصاً فيه رسالة ومتعة، منطق ومخيال، مفهوم وهوام، نموذج وطيف ... وعليه تأسس مشروعه في مرحلته الثانية متراوحاً من الشعور إلى اللاشعور، من العقل إلى الخيال، من نص علمي إلى نص أدبي في مسار قلص المسافة الأنطولوجية بين الذات والموضوع، وتصاعد حتى جمع في مؤلفاته الأخيرة وبقدرة لافتة بين الاستعارة العلمية والبرهان الأدبي، بين الشعر والعلم، بين الاعتراف والبرهان.
من ركائز المشروع الباشلاري في لحظته الثانية
لقد أحب باشلار العلم كقيمة خالصة، ولهذا بدا باشلار أقرب للمتصوف العلمي منه إلى العالم أو حتى الفيلسوف، كان يؤلمه قهر المفاهيم العلمية ووضعها في سجن الموضوعية، كان يُفزعه هذا العقل العلمي الذي يفصل الموضوع عن الذات ويضع الإنسان في مواجهة الطبيعة لقهرها، فُحاول إحياء ما أماته العلم أو أهمله: الماء، الهواء، الأشجار ... تأملها وحملها خياله في ذاته الحالمة، وقد وظف أدوات التحليل النفسي للوصول إلى أعماق الظاهرة، مستفيداً من ظاهراتية هوسريل 1(Edmund Husserl)التي مكنته من تناول الصورة وتشكيلها في روح القارئ. كتب الصور الشاردة في سعادة نادرة، كتبها بجمل تتسامى بعقلانية المجازات لعقلاني رومانسي عالم وموجه بطاقات حلمية تنفذ لأعماق النفس الحالمة، وتحاذي تخوم العقول العالمة. مشروعه استند إلى ركائز كثيرة ولكن أهمها: الخيال الخلاق، التأملات الشاردة، الصورة الشعرية.
الخيال الخلاق
إن التاريخ الفعلي للأفكار كان يسير باتجاه الفعل والتفاعل، وهذا يعني أن المعرفة لم يُشكلها فعل العقل وحده بل الخيال الناتج عن التفاعل. بالخيال، تم خلق جدل غير متناه حول شكل الأشياء وتشكّلها، حول معاني الأفكار وتحققها، حول القوانين ومنطقها ... وقد شكل الخيال عبر التاريخ أرضية لا يمكن الاستغناء عنها في إضفاء البعد الجمالي ومصاحبته للبناءات العلمية. من هنا لم يوافق باشلار على المشروع الوضعي الذي ولد حضارة الغرب التكنولوجية الذي كان يُريد القضاء على الخيال، هذا المشروع الذي تأسس على عقلانية أدواتية حسابية باردة، عقلانية فارغة من نبض الوجدان ودفق الخيال ... لقد فهم باشلار أن تركيبتنا النفسية متشكلة من العقل والخيال وفي أعماقنا معين لا ينضب لتوليد الصور الخيالية والأحلام، وأن اختزال الإنسان إلى مجرد عقل يُحوله إلى حسابات وأرقام مصرفية وحسب. ولهذا كان الخيال في مركز أعماله، هذا الخيال الخلاق، الذي منه نسج باشلار خطاً موازياً من الناحية النفسية للواقع في الخارج، وفيه تتعزز النغمات الإنسانية والكونية... والمقتطع من كتاب "شاعرية أحلام اليقظة" يُظهر ذلك:"عندما تُسمع شجرات الليل تُحضر للعواصف، يقول الشاعر: الغابات ترتجف تحت لمسات الهذيان ذي الأصابع". إنها توحد مع كون الخارج كون الداخل فتصبح أعصاب الإنسان أوتار الغابة.
التأملات الشاردة
بالنسبة إلى باشلار فهي ظاهرة روحية مفيدة للاتزان النفساني، وهي تأملات كونية تعطينا عالم العوالم ... إنها انفتاح على عالم جميل وهي بحد ذاتها سعادة ... هي نشاط حلمي لا يزال فيه بصيص من الوعي ... هي شكل من أشكال أحلام اليقظة. التأمل الشارد في النهار يُراكم صوراً نهارية، وإذا هربت الصور من الحالم-المتأمل في النهار تعود له حلماً ليلياً، حيث هامش واسع من حرية الذات قد تخلق ما تشاء من رؤى وأشعار وأسفار. التأمل الشارد يُمكِّن من النفاذ إلى عمق الظاهرة العلمية ونثرها نصاً أدبياً ... في مؤلف لهب الشمعة (ص:37) يقف "المتأمل" على مائدة عليها شمعة وساعة رملية ... يتأملهما ويكتب:"إن اللهب في حقيقته هو ساعة رملية، غير أنه يجري نحو الأعلى ولأنه أكثر خفة من الرمل الذي يتهاوى نحو الأسفل، فإن اللهب سيصنع، كما لو أن للزمن، على الدوام، شيء ما يصنعه. يُعبر اللهب والساعة الرملية عن اتحاد الزمن الخفيف مع الزمن الثقيل. أنا أحب أن أحلم بالزمن الذي يتسرب، وبالزمن الذي يُحلق، وإن كان باستطاعتي أن أجمع في صومعتي الخيالية الشمعة والساعة الرملية".
الصورة الشعرية
وهي مركز الثقل في أعمال باشلار، هي الصور الشعرية الحالمة المُطهرة من ابتذال الحياة العامة والمعبأة بإرادة تعبير جديدة، هي الصورة "المنفتحة على عالم أوسع من الكلمات التي تنتجها، ففي اللحظة التي تقوم بإدراكها، فإننا نتخيلها ونتمثلها وبعد ذلك نحلم فيها ... إن الصورة الشعرية هي تجربة حساسة بالعالم وللخيال قدرة قصوى على إنتاجها" (باشلار، 2005: 13).لقد اشتغل باشلار على علاقة الخيال الإنساني بالعناصر الأربعة: الماء، النار، الهواء، التراب، وقد خلق صور هذه العناصر الأربعة شعراً، محولاً إياها بواسطة الخيال "السعيد" (يقول باشلار عن أعماله الشاعرية بأنها تسعى "لجعل الخيال سعيداً" (جيل، 1996: 31)) إلى صور ثقيلة وعميقة وجميلة، تتشظى وتتجمع أثناء محاولة كتابتها وشعرنتها. هذه واحدة من الصور المائية المتقطعة من كتاب شاعرية أحلام اليقظة وتظهر فيها سيكولوجية الأعماق:"في المياه الهادئة-المطمئنة يتصالح العمق مع السطح، وكلما كانت المياه عميقة، كانت المرآة واضحة، حيث الضوء يخرج من الهاويات. إن الحالم يحلم بعمقه الذاتي ... هذه البحيرة كبيرة وهادئة، حيث الزمن يستريح من الجريان، وهذه البحيرة هي فينا، كمياه بدائية، كحيّز تستقر فيه طفولة غير متحركة".
ما قبل النهاية... ودون الختام
لوقت ما شعرت أن تخصصي في الرياضيات وعملي في مهنة التدريس أوقف عقلي أمام الخط المستقيم، وحصر وجداني في زوايا، خائفاً من الوقوع في فراغات الأشكال الهندسية، وقلِقاً من حواف الزوايا والمعادلات، محروماً من التعبير عن حواسي السمعية للأشكال الهندسية والمعادلات الجبرية ... ومحروماً أيضاً من التعبير عن تلك الحواس الحلمية والبصرية لحركة اللون أو حركة الشجر أو حركة العمق الإنساني ... وقد زاد الطين بلّة التحاقي ببرنامج ماجستير التربية وعلم النفس في جامعة بيرزيت، الذي أوقفني أمام مجموعة من القوانين والنظريات قرَّبتني من عقلانية العلم الباردة، وأبعدتني عن إمكانية اكتشاف حقائق أعمق من حقائق العلم في تلك الأقاليم الغامضة في النفس. لم أتوقع من علماء النفس أن يضعوا قوانينهم ونظرياتهم داخل منظومة آلية مغلقة، وبعيداً عن حركة الحياة وتبدلاتها وتأثيراتها، ودون اعتبار لتلاوين النفس الإنسانية ودواخلها، تلك النفس التي تتشكل في كل لحظة بألف شكل وتتلون في كل ظرف بما لا يُحصى من الانفعالات والعواطف، التي لا علاقة لها بالقوانين والحسابات والنظريات الجاهزة. بقيت هكذا حتى اكتشفتُ أن كل ما يوجد في العقل مصدره وأصله في الشعور، فوقفت أمام خط مقوّس، خط يحكي الحياة ويروي طبيعتها الجمالية ويصل بالفكرة إلى أقصى مدى ... متجاوزاً قيود العقلانية الآلية الخطية النفعية، التي يُقيمها الإنسان مع الطبيعة، مُحوِّلاً الحروف المبعثرة لها إلى قصيدة، مُستجيباً لتموجات الرغبات والحاجات والإشرافات المفاجأة.في الختام ... تصوروا عالماً إقليدياً ثنائي الأبعاد، ... للتعرف عليه وفهمه يجب النظر إليه من فوق، والفوق يشترط البُعد الثالث، وإلاّ لن نرى سوى خطوط مستقيمة وأسطح ملساء. ولكن العالم الواقعي ثلاثي الأبعاد، وحتى نعقله ونصل إلى معرفة تقريبية لحقيقته، يجب أن ننظر إليه من فوق، وهذا الفوق يشترط البُعد الرابع. والعبور في البُعد الرابع يتطلب الانطلاق من الأقاليم الغامضة في الذات والتحليق بكامل العدّة الهندسية للعقل والمشاعر وخصوبة الخيال. هذا هو المشروع الباشلاري: عبور سديمي في البعد الرابع، ثم انطلاق بعدّة هندسية كاملة ... ثم انطلاق هادئ بمحاذاة الذات.
وائل كشك - مركز القطّان
الهوامش
1 فيلسوف ألماني (1938-1859) ومؤسس المنهج الفينومينولوجي/الظاهراتي، وهو علم إستحضار الصور، حيث عمل على تحويل الفلسفة إلى علم دقيق من خلال وصف الماهيات الواقعية والثابتة والمعروفة قبلياً وبصورة مستقلة عن كل تجربة.
المراجع
> باشلار، غاستون (بدون تاريخ). شاعرية أحلام اليقظة، ت: جورج سعد، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر.> باشلار، غاستون (2005). لهب الشمعة، ت: مي عبد الكريم محمود، عمان: دار الأزمنة.> باشلار، غاستون (1996). تكوين العقل العلمي. ت: خليل أحمد خليل، ط5، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر.> بنعبد العالي، عبد السلام، ويفوت، سالم (2001). درس الإبستيمولوجيا، الدار البيضاء: دار توبقال للنشر.> جيل، ديدييه (1996). باشلار والثقافة العلمية، ت: محمد عرب صاصيلا، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر.> حرب، عائد (2001). صوفية الفكر الفلسفي، عمان: الأهلية للنشر والتوزيع.> كلارك، باربرا (1998). تفعيل التعلم-النموذج التربوي المتكامل في غرفة الصف، ت: يعقوب نشوان، غزة: مطبعة المقداد.> طاهر، علاء (2005). نهاية الفضاء الفلسفي .. الفلسفة الغربية بين اللحظة الآنية والمستقبل، القاهرة: مكتبة مدبولي.> المصباحي، محمد (1990). من المعرفة إلى العقل، بيروت: دار الطليعة للأبحاث والنشر.> مهيبل، عمر (2005). إشكالية التواصل في الفلسفة الغربية المعاصرة، الجزائر: منشورات الاختلاف، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، بيروت: الدار العربية للعلوم.> مورزا، سيرغي (2005). جدلية الأيديولوجيا والعلم، ت: نواف القنطار، ط1، سوريا-دمشق: دار علاء الدين.> بورغينيون، أندريه، "من تعددية المناهج إلى العبرمناهجية"، أخذت بتاريخ 17/5/2005 من موقع:
http://maaber.50megs.com/forth_issue/epistemology_2a.htm
> البعزاتي، بناصر. "مفاصل التفاعل بين المعارف"، أخذت بتاريخ 12/5/2005 من موقع:
http://membres.lycos.fr/abedjabri
> الخوري، ديب. "من الفيثاغورية إلى إخوان الصفا"، أخذت بتاريخ 16/2/2006 من موقع:
http://maaber.50megs.com/forth_issue/epistemology_2a.htm
في التواصل والانقطاع
في مستهل التاريخ البشري لم يكن هناك فصل بين العلم والثقافة، وكانت هناك قضايا تشغل فكر الإنسان فيما يتعلق بالظواهر الطبيعية والكونية، وكانت الأسطورة شكلاً من أشكال المعرفة، إن لم تكن قفزة أولى نحو المعرفة، وكان الإنسان القديم يشعر أنه يخبئ في داخله طاقات عظيمة، وهذه الطاقات كان يحدس أنها متصلة مع الكون، وكانت اتصاليتها هذه ظاهرة له في كل شيء: الغضب، وظاهرة الرعد، أو فيضان النهر، الشعور بالرضا والأمن تحت سماء زرقاء صافية ... الخ. لقد بدأ الإنسان "يعرف" من خلال النفس، وكانت هذه المعرفة تصاغ على شكل أساطير، وتُثقَل بمشاعر الإنسان وعواطفه، ولذلك قام الإنسان مثلاً بأسطرة الظواهر الطبيعية وأنسنتها وربطها بالعواطف المختلفة من غضب، ورضا، وحُب ... الخ، ولكن بقي لهذه الأساطير نظامها الخاص، فهي لا تتضمن ترابطات بين مفاهيم مجردة، وهي بذلك تبتعد عن الفلسفة، ولا تتضمن مبادئ ونظريات وقوانين، وهي بذلك تبتعد عن العلم، بل تتضمن خيالات وعواطف وإرادات ومساحات شاسعة من الشعور.في العصر الإغريقي القديم، برزت الترابطات بين المعارف المختلفة، وتجلى ذلك من خلال المذهب الفيثاغوري الذي أكّد على كليّة الكون وتناغم أجزائه، تلك الأجزاء القائمة على نسق العلاقات العددية المتناسبة، حيث الوجود نغم ورقم، وأيضاً برزت هذه الترابطات من خلال ما كان يراه الرواقيون من أن "الكون وحدة عضوية تقوم بين عناصره علاقة التحام كما تلتحم أعضاء الجسد الواحد، وكذلك الأبيقوريون الذين رأوا أن الكون بمثابة كائن عُضوي تسوده روح كما تسود الروح الجسد، أو يسوده عقل ينظم أجزاءه ويراعي وحدته" (البعزاتي، بناصر، "مفاصل التفاعل بين المعارف"، أخذت من موقع: http://membres.lycos.fr/abedjabri).في المقابل، برزت الحاجة عند الإغريق إلى تمييز الطبيعة عن النشاطات البشرية المختلفة التي تتكئ على المعرفة، وقد اقترح أرسطو (Aristotle) التمييز بين ثلاثة منها: العلوم العملية، العلوم الشعرية، العلوم النظرية. في العصر الوسيط، تجلّتْ النظرة "الكليّانية" من خلال نظرة العلماء المسلمين إلى موضع العقل والتعقل ورؤيتهم للعلاقة بين النفس والعقل، فمثلاً عند تحليل فعل التَعَقُّل عند الكندي، تظهر سيادة تصور الانفصال بين عناصر المعرفة الممهدة لتشكيل المعقول، وهي المحسوس، والمتخيل، والمعقول، وعلى الرغم من ذلك، فإن الكندي يقبل بوحدة معرفية بمعنى المطابقة بين النفس والعقل، لأن الفعل المعرفي ذاته -حسب اعتقاده- يشترط هذا النوع من الوحدة بين الذات والموضوع، باعتبار أن الأخير صورة فقط لحقيقة عقلية موجودة في الخارجي، ولكن لا يقبل الكندي في الوقت نفسه بوحدة أنطولوجية بين النفس والعقل في ذاته، لأنه يعتقد أن هذا من شأنه أن يجعل الإنسان عارفاً على نحو شامل ومطلق (المصباحي، 1990).إن الفروع المعرفية المختلفة توزعت في هذا العصر بين الرباعي العلمي الذي كان يشتمل على الهندسة والحساب والفلك والموسيقى، والثلاثي الأدبي الذي كان يضم النحو والبلاغة والمنطق، وهذا التوزيع كرّس اعتقادي منطقتين متمايزتين كانتا تتشابكان أحياناً وتتصلان، وتنفصلان أحياناً أخرى وتنعزلان، وذلك تبعاً للسياق الثقافي والسياسي في هذا المجتمع أو ذاك. وعلى الرغم من هذا "التمييز" في الفروع المعرفية، فإن تجليات الرؤية الكليّة للمعرفة كانت من خلال رؤية كلّية للوجود، تجسّدت في الكثير من المدارس السّرانية في الشرق كإخوان الصفا، حيث كانت هذه المدارس ترى أن وحدة الكيان تنبع من وجود شامل وكلي يتضمن عناصر بيئية وبشرية تُنتج بدورها معرفة كلية لاواعية أو باطنة، أما تلك المعارف والعلوم التي تظهر على السطح وتتجلى، فما هي إلا الشكل الظاهر للعملية الداخلية التي تدور وتتشكل في العوالم الداخلية للإنسان.مع حلول عصر النهضة، بدأت الصلات بين المجالات المعرفية تنقطع، وعلى الرغم من ذلك، كانت هناك الكليات الجامعية الأولى -كما يشير اسمها- تُدرِّس الكلي: الطب، الفلك، الرياضيات ... وكان هذا الكلي متجسداً في من وُسموا بسمة عملهم في معارف متعددة، فكان كردان (Cartan Paul) مثلاً مخترع الأعداد الخيالية عالماً رياضياً ومنجماً في آن واحد، وواضع الطالع الفلكي، ومؤلف أول عرض منهجي لحساب الاحتمالات، وكبلر (Johannes Kepler) كان فلكياً ومنجما ورياضياً ... .في القرن السابع عشر، تطورت رؤية تقضي بالانفصال الكلي بين الذات العارفة والواقع، وذلك على أساس وجود قوانين شاملة ذات طبيعة رياضية ووجود موضوعي يتم اكتشافه بالتجربة العلمية... . وعلى الرغم من وجود علماء في ذلك العصر كانوا يعتقدون بوجود نظام وترابط بين كائنات الطبيعة مقابلين لنظام وترابط في العقل، فإن ما قام به كل من غاليليو (Galileo) وديكارت من تقسيم للطبيعة إلى عالم المادة وعالم العقل كان من شأنه بسط النظرة الآلية للكون، وأصبحت الطريقة "الديكارتية" التحليلية طريقة لفهم العالم المادي وحتى لفهم الإنسان، وما أدل على ذلك ما كتبه ليبنتز (Leibnitz Gottfried): "تُعد العمليات في جسم الإنسان وفي كل مخلوق حي آلية مثلها مثل العمليات في الساعة" (مورزا، 2005: 20).خلق هذا الوضع الجديد للعلم الذي يرى في الطبيعة ميكانيكية جافة، أساساً لتشييء الإنسان وتوظيفه كأداة في منظومة "مجتمع الساعة" الآلي، ووضع الطبيعة تحت التعذيب بعد أن عُزلت/فُصلت عن الإنسان، وقد عبّر عن ذلك الفيلسوف الألماني شتاينير (Steiner) قائلاً: "في فيزياء نيوتن لامسنا للمرة الأولى تصورات عن الطبيعة، معزولة تماماً عن الإنسان... إن العلم الحديث، في سعيه لإخضاع الظواهر الطبيعية بمساعدة الرياضيات المعزولة عن الإنسان والخالية من أي إحساس داخلي، قادر في تأملاته الرياضية المنفردة ومع مفاهيمه البعيدة عن الإنسان، أن يدرس الأشياء الميتة فقط. ومع سلخ الرياضيات من الحياة، فإنه لا يُمكن تطبيقها إلا على الموتى فقط" (2005: 23).في القرن التاسع عشر، بدأ الانفصال في المذاهب والمناهج يظهر بوضوح على أساس إدراك انفصال المعرفة عن الذات العارفة، وقد طُرحت حلول لتصنيف المناهج من قبل الكثيرين أمثال أندريه أمبير (André-Marie Ampère) وهوبرت سبنسر (Herbert Spencer)، ولكن حل أوغست كانط هو الذي لفت الأنظار أكثر من غيره، فبفضله تمت مَفْصَلة المناهج بعضها عن بعض على نحو خطي، بدءاً من الرياضيات حتى علم الاجتماع، مروراً بالفلك والفيزياء والكيمياء والبيولوجيا وعلم النفس، وفي هذا التصنيف كانت درجة عمومية كل منهاج تتناقص نزولاً من الرياضيات إلى علم الإجماع.في مستهل القرن العشرين، تكرست "التخصصية" والنظرة التجزيئية، فمثلاً أصبح ينظر الطب إلى الجسم البشري كآلة يمكن تحليلها بحسب أجزائها، والداء يُرى بوصفه قصوراً في الآليات البيولوجية التي تدرس من وجهة نظر العلوم البيولوجية، ودور الطبيب أن يتدخل إما فيزيائياً وإما كيميائياً، لتصحيح قصور آلة معينة (قلب، رئة، كبد...)، ولذلك نرى الطبيب أمْيَل إلى معالجة عضو معين، وقد أصبح عاجزاً عن رؤية الداء خللاً في العضوية ككل، فما بالنا باعتبار المظاهر الاجتماعية والنفسانية لداء المريض؟ (جرى الحديث في هذه المرحلة عن علوم مضبوطة كالفيزياء والرياضيات، والأحياء، وعلى علوم غير مضبوطة/رخوة كعلم الاجتماع وعلم النفس، وكأن العلوم الإنسانية غير مضبوطة والعلوم المضبوطة غير/فوق إنسانية!).ومن هنا أصبحت المعارف مجزأة ومتخصصة حتى في داخل الحقل الواحد، واستعانت الأيديولوجية بهيبة العلم ويقينه فكرست تبسيط الأشياء وفصلها: العالم من دون إنسان، المعرفة من دون قيم أخلاقية، الجسد من دون روح، كما أخذت الأيديولوجيا من العلم وسيلته المنهجية، وهي طرح الموضوع على شكل نموذج، وقد أصبح العلم في جوهره كماً وأنساقاً ونماذج، استغلته سلطة رأس المال في تحويل أي مسألة بيئية أو قضية إنسانية إلى نماذج مبسطة للتعبير عنها، إما في قوانين ونظريات ومعادلات، وإما في شعارات وقوالب ومقولات، وكما أكد فوكو عندما "نبش المعاني" التي أسسها الغرب من "أن لغة العلم والأرقام ضرورية جداً من أجل الهيمنة عن طريق الأيديولوجيا" (2005: 9). لقد تمت الاستعانة بهيبة العلوم لفرض تفسيرات للظواهر الاجتماعية مثقلة بالأيديولوجيا، فتمت استعارة صراع البقاء، والانتخاب والاصطفاء، والبقاء للأصلح من المكتبة الداروينية لتبرير الإقصاء وتسويغ منظومات السحق والاستغلال، وكذلك تمت الاستعانة بمفاهيم علمية من القاموس الطبي كالوباء، والآفات لوصف الثورات وتسويغ سحقها والقضاء عليها... .إن علم الاقتصاد السياسي (الذي بدأ بدراسة الظواهر الاقتصادية خارج سياق الأخلاق منذ آدم سميث)، يُعتبر نموذجاً قيّماً في توضيح كيفية استغلال الأيديولوجيا للعلوم، فهذا العلم تأسس على تلك العقلانية التي تحتوي في أساسها الحتمية، والتي ترى المجتمع والناس كذرات تتحرك وفق النموذج الميكانيكي البراوني، وتملك قوى محركة خفية باستمرار. سلوك هذه الذرات أو هؤلاء الناس يخضع لقوانين التوازن البراوني والتصادم النيوتوني، بحيث يُمكن التنبؤ به بدقة والتعبير عنه بلغة الرياضيات. إن حركة الذرات استبدلت بحركة الناس وحركة الكتل استبدلت بحركة البضائع والنقود واليد العاملة، وتلك القوى الخفية وراء حركة الذرات استبدلت بما يُعرف في علم الاقتصاد بسحر السوق ... الخ. هذه الحركة الحرّة للناس في سوق حُرة ومفتوحة أو ذاك التصادم النيوتوني للبضائع أو حتى للمصالح في مجتمع تنافسي صراعي، قد خضعت تفسيراتها تماماً كما تُفسر الحركة البراونية الحرة للذرات، وتصادم الكتل ودرجة الحرارة وضغط الغاز بعيداً عن حرارة الإنسان! فمبدأ التوازن الميكانيكي نُقل إلى اقتصاد السوق، وتأسست ثنائيات التوازن: ربح/خسارة، فقير/غني ... الخ.إن الفرد وفق هذا النموذج يسلك سلوكاً فردياً مثل الذرة المستقلة، وليس سلوكاً جماعياً ضمن بُنى اجتماعية متضامنة تجري فيها عمليات غير بسيطة وغير عقلانية محكومة بإرادة الإنسان وقيمه المتبدلة وألوان نفسه المختلفة. من الحركة العشوائية البراونية الحرة للذرات إلى ميكانيكا نيوتن وتصادم الأجسام، انتظمت نزعة حرة متساوية التأثير ومتعاكسة في الاتجاه في المجتمعات، ولكن هذه الحرية والمساواة متجردة من الأخلاق، ولم تفترض الحب والتضامن، بل الحرب والعشوائية والتدمير. وهكذا يُصبح الناس أشبه بحبات الرمل المتحركة يدورون في آلة كبيرة، وفي آلية لافتة، ولافتقادهم للأبعاد الحية والقيم الأخلاقية ولكثير غيرها من الأسباب، يُمكن استخدامهم على أفضل وجه من قبل مجموعات المصالح وقوى السيطرة والتحكم.في الآونة الأخيرة؛ أي في أواسط القرن العشرين، ومنذ أن تجاوز أينشتينAlbert(Einstein) بنظريته النسبية الصورة السكونية للفيزياء النيوتونية، أصبح بالإمكان إعادة النظرة التواصلية للكيانات المعرفية، أو بالأحرى لتواصلية العالم. فلم يعد المكان والزمان "شيئين" منفصلين وموجودين خارج الوعي الإنساني، بل أصبح كلٌّ من المكان والزمان كيانين متصلين لا معنى لوجود أحدهما دون الآخر، حيث لا "وجود" دون تعيين للمكان والزمان، وبهذا أصبح الوجود المادي يتبادل موقعه مع الطاقة في معادلة بسيطة عرفت بمعادلة تحول المادة إلى طاقة، حيث الطاقة تعادل الكتلة مضروبة بمربع السرعة، كما أن الطاقة تبادلت موقعها مع المادة فيما عرف فيما بعد بالنظرية الكوانتية، ثم جاءت نظرية الشك أو عدم التأكد لهيزنبرغ (Heisenberg) لتزعزع يقين التعيين ولترج الأساس الموضوعي للأشياء ... ولكن ديفيد بوهم (Bohm) (وهو عالم رياضيات وفيزياء ومن أحد تلامذة أينشتين) هو أول من خرج بحدة ووضوح من عالم الفيزياء، واقترح نموذجاً يجيب عن تساؤلات ليست علمية بالمعنى المعروف كالحقيقة، والفهم، واللغة، وحاول أن يبرهن على أن هذه المفاهيم توازي في أهميتها المفاهيم الكلاسيكية كالشحنة، وكمية الحركة، وغيرها ... .إن فكرة بوهم ترتكز على اتصالية العالم، فالكون هولوغرام (Holographic) كبير، ويعني ذلك أن كل جزء فيه يستطيع احتواء الصورة الكلية، كل خلية في جسم الإنسان تتضمن كرموزومات بها جميع الحاملات الوراثية للجسم كله، ليس هذا فحسب، فكل شعاع آتٍ من الشمس يخترق هذه الثمار التي نأكلها، وكل نسمة آتية من البحر تخترق جهازنا التنفسي، وكل ضوء قمري يخترق أحاسيسنا وأعصابنا، وفي كل الأحوال تدخل حرارة الشمس ولون القمر وحركة النسمة الخلايا وتتغلغل في الدم، فقد تتحول الحرارة إلى غضب وطاقة، أو النسمة إلى تسامح وهدوء، أو الضوء إلى رضا أو حزن ... إذن، الإنسان الجزء يحوي الكون الكل، فداخل الإنسان أكوان ممتدة، قد تكون أكثر ثراء وغنى!إن هذه الرؤيا الكليانية قد تعكس نظرة إيمانية بالتوحد، حيث يُنظر إلى الكون والفرد بصفتهما متصلين بالجوهر، وأن أصل هذا الاتصال هو حالة التسامح والتناغم بين الكيان الإنساني من ناحية، والكون الممتد خارج الذات الإنسانية من ناحية ثانية، وأن فكرة الانفصال بين الكيانين تضع أساساً لحالات العداء والفوضى بين الإنسان والطبيعة ... ويقول بوهم في هذا الصدد: "يبدو بوضوح أن الفكرة القائلة إن جميع هذه الأجزاء موجودة بشكل منفصل هي صورة خادعة، وهذا الوهم لا يمكن أن يؤدي إلا إلى صدام وفوضى، وفي الواقع فإن العيش وفق هذه الفكرة القائلة إن الأجزاء منفصلة حقاً، هي في جوهرها التي قادت إلى السلسة المتزايدة من الأزمات التي تواجهنا اليوم..." (كلارك، 1998: 15).أما جاري زوكاف (zukav)، فهو يرى أيضاً الصلة المتبادلة بين الكيانين: الكيان الداخلي والكيان الخارجي في كل ما يشمله الكيانان من أشياء، وقد عبّر زوكاف عن مفهوم الوحدة كما يلي: "... إن الانعكاس الفلسفي لميكانيكا الكم هو أن جميع الأشياء في عالمنا -بما فيه نحن- التي تبدو بشكل مستقل هي بالفعل أجزاء من نمط عضوي شامل، وبأنه لا توجد أية أجزاء من النموذج مستقلة عنه وعن بعضه البعض ... ولذلك، فإن "هذا" و"ذاك" ليسا كيانين مستقلين، إنهما شكلان مختلفان من الشيء نفسه ... . وبهذا لم تعد الحقيقة إما-أو بل كلاً من "و"-"وأيضاً "ويبدو أنها متصلة ببعضها البعض" (1998: 17).في أواخر القرن العشرين ظهرت علامات تقارب بين العلوم الإنسانية والعلوم المضبوطة، ولاسيما في مجال التفاعل بين العلم والأدب والفن، وفي سياق الحوار بين الثقافة العلمية والثقافة الإنسية ... وقد تأسس حوار بين العلوم المضبوطة والعلوم الإنسانية تُوج في العام 1994 بعُقد المؤتمر العالمي الأول في باريس لما يسمى "العبرمناهجية"؛ بهدف إعطاء توجه مشترك للمناهج، ومركزتها حول حاجات الإنسان وتطلعاته، وقد ركّز المشاركون على وحدة الكون والحياة، وقد جاء في مقالة لبورغينيون (Bourguinion) (من تعددية المناهج إلى العبرمناهجية: http://maaber.50megs.com/forth_issue/epistemology_2a.htm) أهم المبادئ الجوهرية التي خرج فيها المؤتمر:
> "العبرمناهجية لا تتوافق مع اختزال للإنسان إلى بنيان صوري، ومع اختزال للواقع إلى مستوى واحد يحكمه منطق واحد.> تقدم العبرمناهجية رؤية جديدة للطبيعة، وتذهب إلى مصالحة العلوم الدقيقة مع العلوم الإنسانية.> العبرمناهجية تضع الإنسان في القلب من الكون، وهي تسلم بأن الاقتصاد يجب أن يكون في خدمة الإنسان ... في وقت أصبح الفرد ضائعاً أمام معرفة هائلة ومجزأة، تجره جراً إلى عبادة المردودية بأي ثمن مبتعداً عن حياته الداخلية".
لقد وضعت هذه الحركة نصب عينيها توحيد المعارف العلمية في منظومة كليّة دون حدود مستقرة بين المناهج، وهي ترى أن العلم اليوم وصل إلى تخوم الميتافيزياء لتعاود طرح الأسئلة التي عجز العلم عن الإجابة عنها.
مفهوم القطيعة الإبستمولوجية عند باشلار
لقد عاصر باشلار جزءاً من هذا المشهد الثوري وتابع تطوراته المتلاحقة، حيث صار من غير الممكن التعامل مع الموضوعات العلمية من خلال وجهات نظر الفيزياء الكلاسيكية، فأسس الفيزياء تغيرت، حيث تحطمت الصورة النيوتونية للكون، وتكونت تصورات جديدة لبنية الأجسام والمواضيع الفيزيائية، وقد طرح الفلاسفة والفيزيائيون في القرن العشرين أسئلة من نوع: ما هو مدلول التقدم في عملية المعرفة العلمية؟ هل الإنسان قادر على معرفة الطبيعة معرفة موضوعية أم أن معرفته نسبية تتغير باستمرار؟ هل يُمكن بلوغ المعرفة بواسطة التجربة الحسية ... أم يُمكن بلوغها بواسطة العقل؟ ... هل المعارف في تطور مستمر أم في تطور متقطع؟ هل المعرفة العلمية تراكمية؟لقد تورط باشلار في تأمل هذه التطورات الثورية وهذه الأسئلة الجديدة، وتوصل إلى أن الواقع العلمي الجديد هو مشروع إنشائي فيه المعارف العلمية مواضيع ليست معطاة، بل يتم بناؤها شيئاً فشيئاً في تدخل فعّال من قبل الذات، والأهم من كل ذلك هو ما خلص إليه باشلار من أنه لا يوجد تواصل في الأفكار العلمية، بل هناك قطع بين الفكر العلمي القديم والحديث، وعلى مدى الخط الزمني لتاريخ العلوم كانت هناك قفزات واستحداثات لا صلة لها بما سبقها، بل أحياناً تُخطّئها لدرجة بدا تاريخ العلم بالنسبة له هو "تاريخ أخطاء العلوم" (مهيبل، 2005: 97).هناك الكثير من الأحداث العلمية التي يُمكن عرضها في سياق التدليل على وجهة نظر باشلار فيما يتعلق بموضوع القطع واللاتواصل، فمثلاً لاحظ جاليليو أن الأجسام الساقطة ذات الأوزان المختلفة يقل الفرق بين سرعة سقوطها عندما يكون الوسط (ماء، هواء) أقل مقاومة، وذلك إلى درجة أن سرعة هذه الأجسام، وعلى الرغم من تباين أوزانها، تكاد تكون واحدة في حالة انعدام مقاومة الوسط. إنه بذلك يقطع مع الفكر العلمي القديم في تعليلات أرسطو وأفلاطون لسقوط الأجسام، حيث أن سقوط الأجسام على الأرض أرجعوه إلى قوّة خفية كامنة في الأجسام نفسها، أو ربما من طبائع الأجسام وخصائصها. وكذلك الهندسة اللاإقليدية قطعت مع هندسة المسطحات الإقليدية، حيث الأولى تستند إلى مفاهيم جديدة تتجاوز مفهوم المسطح بوصفه الأساس في فهم الهندسة الإقليدية، كما أن المفهوم العلمي للجنون في القرن العشرين لم يُبنَ على أفكار العصور الماضية، بل قطع معها، ففي العصر القديم وحتى عصر النهضة كان مفهوم الجنون مرتبطاً بأفكار غيبية (أرواح شريرة، سحر،...)، فيما كان في القرن السابع عشر غامضاً وملتبساً ويقترن بصفة الشذوذ والانحراف، وكان المجانين لا ينتمون إلى عالم العقلاء، فيقصون ويُسجنون (حيث كان العقل عند ديكارت قيمة مطلقة ينبغي كتم صوت الجنون فيه وإقصاؤه)، واكتسب الجنون في العصر الصناعي صفة اللاإنتاجية، ولكن في القرن العشرين اكتسب الجنون صفة المرض، ووضع الجنون أمام سؤال العقل والثقافة، حيث الجنون حسب فوكو "لا يكتسب قيمته وحقيقته كمرض إلا إذا دخل ثقافة ما تعترف به من حيث هو كذلك" (طاهر، 2005: 70).باختصار، يُمكن القول إن مفهوم القطع واللاتواصل عند باشلار يتلخص في أن الأفكار العلمية هي قفزات نوعية وليست استمرارية ميكانيكية؛ أي أن تطور المعارف العلمية -برأيه- لم يكن انتقالاً ميكانيكياً من مستوى إلى آخر عبر الفترات الزمنية المتلاحقة، بل قفزات واستحداثات، ولكن في الوقت نفسه فإن مفهوم القطع المعرفي بالنسبة لباشلار لا يعني في كل الأحوال رفض القديم (وإن كان كذلك في المفهوم القديم لسقوط الأجسام، أو المفهوم القديم للجنون وغيرها)، بل الانطلاق من العلم الجديد ذي العقلية الأكثر مرونة وانفتاحاً في تفسير الأفكار العلمية القديمة ورؤيتها، فتفسير القوانين ومدلولاتها -برأيه- يجب ألا يتم خارج النسق التي وُجدت فيه، فمثلاً ميكانيكا نيوتن ليست خاطئة إذا ما فُسِّرت قوانينها في أنساق الظواهر الكبيرة، ولكن الفيزياء الكوانتية تجاوزتها، وربما احتوتها، حيث هناك معارف جديدة تُفسر في أنساق الأجسام المتناهية في الصغر في نماذج أكثر انفتاحاً ومرونة.لقد أحدث باشلار صدمة عند علماء القرن العشرين وفلاسفته، وذلك بتأكيده على اللاتواصلية في المعارف وانقطاع الأفكار العلمية عبر التاريخ، ووقف أمام أنصار التواصلية أمثال هيدغر (Heidger Marten) وهامبرماس (Habermas Jurgen) التي انبنت رؤيتهم على أساس أن هناك تقارباً بين طبيعة المواضيع العامة ومواضيع المعرفة العلمية، وأن المعارف تتراكم عبر خط زمني، وما يتجلى اليوم من نتائج ملموسة له مقدمات ودعائم في فترات سابقة، فتاريخ العلم -بالنسبة لهم- هو جزء من التاريخ العام، وهو بالتالي حلقة واحدة في سلسلة متواصلة من الحلقات تشكل التاريخ العام بكل تجلياته وخصائصه. لم يكن باشلار وحيداً في رؤيته اللاتواصلية لتاريخ العلوم، بل شاركه في الرؤيا فوكو (Michel Foucault) الذي اجتهد في زحزحة العقل عن النماذج والأنساق القديمة فبعثر وشتت، ورأى أن العصور التاريخية ما هي إلاّ فواصل وانقطاعات يستند كل عصر إلى نمط خاص من الإنتاج المعرفي، ولهذا دعا إلى تأسيس أركيولوجيا تقطع كل صلة لها بالتاريخ وبالإنسان وبالفلسفة أيضاً، وبالنسبة إليه لم يعد لأسئلة مثل: ما الرابط الذي يجمع بين أحداث متسلسلة؟ ما خيط التواصل الذي يربط أطرافها؟ محلاً من الإعراب، بل أصبح التاريخ نفسه عند فوكو هو "عبارة عن بنيان وحقب لروابط لا تواصل بينها، مكتفية بذاتها وبعناصرها المكونة لها" (مهيبل، 2006: 22).برأيي أن باشلار كان لا تواصلياً عمودياً، حيث لا تراكم تاريخي في المعرفة العلمية، بل انقطاعات واستحداثات وقفزات، ولكنه كان تواصلياً أفقياً في اللحظة الواحدة، حيث واصل بين العقل والوجدان، الذات والموضوع، العلم والأدب، ولهذا ذهب إلى دراسات للتحولات الجذرية التي حدثت في تاريخ العلم منهجياً ومعرفياً، ثم باحثاً عن القيم الإبستمولوجية للعلم وعن طبيعة المعرفة العلمية وعلاقتها بالبنى العقلية، موظفاً أدوات علم النفس التحليلي اليونغي، متخطياً جدران العيادة النفسية، متجهاً بالتحليل النفسي إلى الخارج لتحليل المعرفة الموضوعية والقيم الأخلاقية للمعارف العلمية، محاولاً إعادة تنظيم العلاقة بين الموضوع والذات، بين العقل والتجربة، بين العلم والفلسفة، بين العلم والأدب، بين العقل والوجدان.
المشروع الباشلاري في لحظتين
مرّ المشروع الباشلاري بين لحظتين فكريتين كبيرتين:لحظة موضوعية، وقد تبنى فيها باشلار تصورات ذات نزعة علمية متأثرة بديكارت وكونت (Auguste Conte) وكانط، وقد تركز اهتمامه هنا على المادية العقلية والبحث في التفكير العلمي ودراسة العلوم وتعليمها، وقد انعكست هذه اللحظة في ثلاثيته المهمة: "الفكر العلمي الجديد"، "فلسفة اللا"، "تكوين الفكر العلمي" بالإضافة إلى عشرات الأعمال من قبيل: "دراسة في تطور المشكلة الفيزيائية"، "محاولة في المعرفة التقريبية"، "مقالة الروح العلمية الجديدة"، "الأنشطة العقلانية في الفيزياء الحديثة"، "القيمة الاستقرائية للنظرية النسبية"، "جدلية الزمن" ... الخ.ولحظة ذاتية كسر فيها الصرامة العلمية ليصغي إلى نداءات الذات والنفس، وليعمل على تطوير آليات الحاسة الذوقية من خلال انسياب الخيال في تأملات شاردة لأعماق الظواهر الطبيعية كالنار، والماء، والهواء، منتقلاً من الماهية إلى الظاهرة، وموظفاً أدوات حقل التحليل النفسي لتعميق المعرفة الجمالية للمواد والظواهر، وقد تجلت هذه اللحظة في أعماله: التحليل النفسي للنار، الماء والأحلام، الهواء والرؤى، جماليات المكان، شاعرية أحلام اليقظة، لهب الشمعة.
في رحاب اللحظة الأولى... العقلانية التطبيقية والقطيعة الإبستمولوجية
إن منبع المشروع الباشلاري مرده إلى اندهاش باشلار من هذا التطور الهائل في العلوم، وعدم قدرة الفلسفة التقليدية -بمخزونها المعرفي الكبير ومقولاتها الجاهزة- على مواكبة هذا التطور واستيعابه، وهذه الأزمة أوجدت شعوراً عنده بضرورة ردم الهوة الزمانية-المعرفية بين العلم والفلسفة، فراح يتأمل ما أحدثه العلم من قفزات وثورات، وبخاصة في مجال الفيزياء، وأضحت أسماء مثل أينشتين (Einstein)، وبلانك (Max Planck)، وهيزنبرغ (Heisenberg)، وبوهم (Bohm)، وبوبر (Karl Raimund Popper) طرفاً أساسياً في التركيبة المعرفية العلمية التي تأملها باشلار، وانتقل بها إلى التفلسف حول نتائج العلم ومباحثه الجديدة.إذن، بدأ باشلار مشروعه من شعور حاد بالأزمة بين تطور العلوم وسكون الفلسفة، وحاول إشباع الفلسفة بالروح العلمية، وكانت البدايات من خلال رسالته للدكتوراه بعنوان "محاولة في المعرفة التقريبية"، وقد تلتها مؤلفات فلسفية ذات نزعة علمية، وفي جُلّها حاول تأسيس فلسفته المميزة المتمثلة في "العقلانية التطبيقية"، حيث انطلق من رفضه للنزعة العلمية القائمة على التجربة، وكذلك رفضه للربط الآلي بين العلم والواقع، فالعالِم -برأيه- لا يُمكنه إدراك الوجود عن طريق التجربة وحدها، ولا عن طريق العقل وحده، بل عن طريق الحوار بين المحسوس والمعقول، وهذا يعني أن المعرفة العلمية الموضوعية تحتاج إلى تدخل الذات بجانب حاجتها إلى برهان عقلي ... لهذا، أسس باشلار مشروعه للفكر العلمي الجديد على أربعة مبادئ تقطع مع مفاهيم العلم القديم التي تنظر إلى العلوم نظرة آلية وتبسيطية ... هذه المبادئ هي:
1. "ليس ثمة عقل ثابت يحكم جميع أنماط معرفتنا، فالعقل نتيجة من نتائج العلم، وتفكير لاحق غايته تأمل العلوم والإفصاح عن مناهجها. (كانط يقيّم العقل الخالص على أساس من مواضيع العلم الطبيعي والرياضي على اعتبار أن هذين العلمين يُمثلان قمة الوضوح والصرامة).2. ليس ثمة منهج شامل أيضاً. فالمنهج الشامل مثل العقل تفكير لاحق، انطلاقاً من العمل الواقعي للعالم، ولا يستطيع إلا تكرار ما سبق اكتشافه من قبل.3. ليس ثمة واقع بسيط يقتصر العالِم على معاينته وشرحه، بل إنه معقد ومركب من عناصر متعددة تُشكل الظواهر المشاهدة عيّنة واحدة ضمن بنية متكاملة من الظواهر.4. على فلسفة العلم أن تفتح المجال للإبستمولوجيا لكي تتوفر الإمكانات للدراسات النقدية في تكوين المفاهيم العلمية" (مهيبل، 2005: 59).
على أساس هذه المبادئ أعطى باشلار الخيال والحدس مساحة أوسع في تفسير المعارف وبنائها، وقلل من تمجيد دور العقل في الاكتشافات والوصول إلى المعارف، مبرزاً دور ما سماه بـ "المكبوتات العقلية" أو العوائق الإبستمولوجية لدى العلماء في الوصول إلى الاكتشافات العلمية، وقد استعان باشلار بأدوات علم النفس الفرويدي للغوص في أعماق الجوانب الباطنية للعمل العلمي، محاولاً فهم المعرفة الموضوعية حتى في زواياها الغامضة.
العوائق الإبستمولوجية
ينطلق باشلار من اعتقاد أولي مفاده أن المعرفة العلمية عملية تتم ضمن شروط نفسية تترك بصماتها على طبيعة المعرفة ذاتها بشكل أو بآخر، وتتجلى هذه التأثيرات في صيغة عوائق تعترض طريق المعرفة العلمية. يقول باشلار في هذا الصدد: "عندما نبحث في الشروط النفسية لتقدم العلم، سرعان ما نصل إلى الاعتقاد بأنه ينبغي وضع مشكلة المعرفة العلمية في صيغة عوائق، ولا يتعلق الأمر هنا بعوائق خارجية، ولا بالطعن في ضعف الحواس والفكر الإنسانيين، ففي فعل المعرفة ذاته تبرز الاضطرابات كنوع من الضرورة الوظيفية، وبذلك نستبين أسباب الجمود، بل والنكوص، وهنا سنكشف عن علل السكون التي ندعوها عوائق إبستمولوجية" (باشلار، 1996: 61).إذن العوائق الإبستمولوجية تنبع من بنيتها الداخلية، وعلى مر التاريخ كانت هناك مثل هذه العوائق والعقبات: مرحلة الهندسة الإقليدية كان لها عوائقها، وكذلك الفيزياء النيوتونية ... ولكن دائماً ما كان يتم تجاوزها ومن داخلها ... وفي هذا الجزء من المقالة سنسلط الضوء على اثنين من العوائق الإبستمولوجية، حيث نعتقد أن من شأنهما إلقاء الضوء على أهم ركائز المرحلة الأولى في المشروع الباشلاري.في كتاب تكوين العقل العلمي، يُقسم باشلار مراحل تكون التفكير العلمي إلى ثلاث مراحل:
> "المرحلة الأولى: هي الحالة الملموسة، حيث يتلهى العقل بالصورة الأولى للظاهرة ويتغنى بوحدة الطبيعة وثرائها.> المرحلة الثانية: هي الحالة الملموسة-المجردة، حيث يضيف العقل إلى التجربة الفيزيائية الرسوم الهندسية، ويستند إلى فلسفة البساطة، وينظر العقل بثقة ووضوح إلى تجريده.> المرحلة الثالثة: حيث يُباشر العقل بمعالجة المعلومات المأخوذة طوعاً من حدس الميدان الواقعي، والمنفصلة طوعاً عن التجربة المباشرة وحتى المتصارعة علناً مع الواقع الأول، غير النقي دائماً وغير المتشكل دوماً" (1996: 10).
يقابل هذه التقسيمات نوع من قانون الحالات الثلاث للنفس:
> الحالة الأولى: النفس العادية المسيرة بفعل الاندهاش الساذج، التي تتسلى بالفيزياء، لكنها تتذرع بكل موقف جدي ... هذه النفس سلبية حتى في سعادة التفكير.> الحالة الثانية: النفس المعلِّمة وهي فخورة جداً بما تعتقد، متحجرة في تجريدها الأول، تستند مدى الحياة إلى نجاحات شبابها المدرسية، وتكرر معرفتها كل عام ... تؤيد السلطة وتعمل على خدمتها كما فعل ديكارت.> الحالة الثالثة: النفس المتألمة من صعوبة التجريد، وهي على وعي علمي متألم، وتلعب لعبة الفكر الخطرة دون مرتكز تجريبي، لكنها واثقة من كون التجريد واجباً، وأنه واجب علمي (1996: 10).
أمام هذه المراحل والحالات، نُقدم اثنين من العوائق الإبستمولوجية العديدة التي رآها باشلار تعترض تشكيل المعرفة العلمية:
العائق الأول: عائق التجربة الأولى
يُشكك باشلار بخط الفكر التجريبي عموماً في الوصول إلى المعرفة، "وهو يُشارك كانط في أن التجربة بالنسبة إلى المذهب التجريبي ما هي إلا فعل خارجي يستمد منها معلومات عن العالم الخارجي، إلا أنها لم توضح الكيفية ولا الطريقة التي تُستمد منها هذه المعلومات" (حرب، 2001: 15)، فما هو الضمان في أن التصورات التي حصلنا عليها بالتجربة مطابقة لأشياء العالم الخارجي، وعليه يقول باشلار إن الحواس يُمكن أن تخدعنا، فمثلاً وبشأن الحرارة، فإن الماء الفاتر يُمكنه أن يبدو حاراً ليد باردة، ويُمكن ليد حارة أن تجده بارداً في الوقت نفسه؛ حامض الكبريتيك يحرق القماش، ولكنه إذ يُنشر مع الماء يُصبح له مذاق الحامض ولا يشعر اللسان بأي حرارة حارقة ... ومع ذلك لا يشك باشلار في دور التجربة العلمية في عملية المعرفة، ولكنه يقول "إن التجربة الأولى غالباً ما تُثير الدهشة ويتم الإسراع في عقلنتها وقولبتها في أطر عامة تتجاوز حقيقة الظاهرة-التجربة وبساطتها" (باشلار، 1996: 26). يسوق باشلار مثال الجسم المغمور بالماء للتعبير عن مفهوم التجربة الأولى بوصفها عائقاً إبستمولوجياً، حيث أنه حينما ننظر إلى جسم متحرك وقد توقف عن الحركة في الماء، يبدو لنا من الملاحظة البسيطة الأولى أن الجسم هو الذي يعمل على مقاومة الماء، وهذا في الواقع خطأ، لأن عقلنة التجربة الأولى يظهر لنا أن الماء هو الذي يقاوم الجسم.ما يخلص إليه باشلار في موضوع العائق الأول أن المعرفة العلمية الناتجة عن التجربة الأولى غالباً ما تكون مشوهة أو خاطئة مع أنه بفضلها يتم تشكيل الخيال المعرفي الأساسي للوصول إلى معرفة أكثر دقة، التي بدورها تأتي من هدم المعرفة الناتجة عن المعرفة الأولى ومجاوزتها، وبرأيه أن على العالِم التحرر من ضغط نتائج التجربة الأولى وإغراءاتها.
العائق الثاني: التعميم
يرى باشلار أن التعميم الذي ساد منذ أرسطو وحتى بيكون عمل ككابح أمام المعرفة العلمية، وغالباً ما يسقط التعميم في التسرع والتبسيط، ويركن إلى السهولة ويستجيب لإغراء القوانين المجردة التي تُصبح بدورها عائقاً أم فهم الوقائع والظواهر بتشابكاتها وتعقيداتها. يسوق باشلار دليلاً على هذا العائق، ويستند إلى مثال واقعي يُقدمه أساتذة الفلسفة والعلوم في محاولة لتبيان استقراء الوقائع الجزئية على مستوى الملاحظة إلى استخلاص القوانين، فأساتذة العلوم يُرسون قانون الجاذبية على أساس تعميم الجزء على الكل، حيث التأمل في سقوط الأجسام الفردية يدفعهم إلى مثل هذا التعميم، ولكن هذا التعميم من وجهة نظر باشلار فيه الكثير من عدم الدقة والوضوح، حيث الأجسام الخفيفة كالبخار والدخان والنار تعود إلى الأعالي، وفي هذا التعميم جمود فكري وكأنه لا حاجة لدراسة السقوط، فسقوط الأجسام مفهوم كامل الوضوح من وجهة نظر فلاسفة القرون المادية وأساتذة القرن العشرين، ولكنه في الواقع متشابك ومُعقد.(يُقدم مفهوم السقوط في القرن الواحد والعشرين في مدارسنا كمفهوم واضح ودقيق ضمن دروس الميكانيكا تأسيساً على التعريف الأرسطي للسقوط الحر للأجسام، حيث يُقدم خارج سياق الوسط المادي الذي يجري فيه الفعل (ماء، هواء، سوائل)، وكذلك خارج سياق طبيعة الجسم الساقط (خفيف، ثقيل).ما سبق بعض من العوائق الإبستمولوجية التي تصورها باشلار، والتي تقف حائلاً أمام المعرفة العلمية الموضوعية من وجهة نظره، وهذه جرأة من قبل باشلار في مجاوزة الفهم التقليدي لأسس البحث العلمي، وكأن مسيرة العلم هي بحث متواصل عن الحقائق الموضوعية. إن باشلار كان يرى في الموضوعية نوع من النسبية والاحتمالية، مؤكداً على دور الذات في تقرير الحقيقة العلمية، ساخراً من فهم العقلانية الكلاسيكية للحقيقة الموضوعية، حيث الحقيقة-من وجهة نظرهم- هي كل الحقيقة التي يُقدمها الواقع دون تدخل من التجربة الذاتية فيها. ويقول باشلار (1996: 192) عن هذه الحقيقة الموضوعية التي "بسبب حقيقتها لا نتوانى للحظة من فرضها على الآخر: لكي نرى صورة الظاهرة الموضوعية: قُل لي ماذا ترى أقل لك ما هو ... فجأة عالم بأكمله يذهب لونه، وكل وجبتنا تفقد رائحتها، كل بارقتنا النفسية تنكسر، ترتد، تُهمل. وكم نحن بحاجة إلى كليتنا لرؤية العالم!".بهذا المعنى لا تعود الحقيقة خارجة عن ذاتنا، بل تُصبح وفق باشلار ما نخلقه من الوقائع أو ما ننتجه من الحقائق عبر منظومات العقل وتراكيب الذات.
في رحاب اللحظة الثانية... نحو مباهج العلم
اعتقد باشلار أن الفكر التجريبي لا يُمكن أن يكون أداة للإحاطة بمعرفة واضحة ودقيقة بالتطورات العلمية الأخيرة؛ لأنها-أي هذه التطورات العلمية- لا تقع تحت التجربة المباشرة، كما أن العقل، وبسبب حمولة الكبت النفسي عند صاحبه، يتعوق من الوصول إلى المعرفة العلمية الموضوعية، التي لن تكون مكتملة إطلاقاً والبراهين تُضجر الحقيقة. ليس العقل وحده هو الأداة، كما أنها ليست التجربة ... إنها ثنائية العقل والكون، حيث الحوار يدور بين العقل والأشياء وفي مستوى الوجدان الشخصي، حيث المخيلة تعمل أو ربما تعقل أفضل مما يعقله العقل! (كثيراً ما يخطئ العقل في فهم ما يكشفه الخيال إذا كانت المعرفة وليدة التجربة الشخصية).لهذا، لم يكن الهدف الإبستمولوجي للمشروع الباشلاري في "لحظته الثانية" هو الوصول إلى الحقائق الفيزيائية والقوانين الرياضية التي تُفسر الكون من خلال إعمال العقل في التجريب والاستقصاء، بل أمسى الهدف هو توجيه العقل إلى مباهج العلوم من خلال إثارة الحلم والخيال والحدس، والذي هو عند باشلار عكس الاستدلال التجريدي والمنطق التحليلي عند غيره من العلماء العقلانيين. الحدس والخيال بالنسبة إلى باشلار يعملان على المستوى العقلي كعامل غير عقلاني في الفهم وبناء المعارف ضمن آلية الكبت والتصعيد. وعليه، ينتقل باشلار بين اللحظتين من عمل العقل إلى عمل المخيلة ويبدأ الاستقصاء والبحث بتوظيف الخيال في تأملات كونية شاردة.يستسلم باشلار في أعماله الأخيرة إلى تلك القوى التي تخلق المعرفة بواسطة الحدس والخيال -هذه المعرفة التي لا يُمكن تحصيلها بأدوات القياس ومنهج التجريب كما هو الحال في مجال العلم والمنطق واليقين. معرفته تشكلت في حركية التجربة الشخصية وانصهرت بألوان النفس، وتجلت نصوصاً متدفقة على مسرح الذات خارج كل سببية كأنها الحلم. هذه النصوص انبنت رموزاً لا يُمكن استنتاجها على مستوى اختباري أو إثباتها على المستوى المنطقي، وإنما على مستوى الحياة الشخصية والحركة الداخلية الحميمة، في هذه الحالة المطلوب هو الاعتراف أكثر من البرهان.
الأطروحة الرئيسية للمشروع الباشلاري في لحظته الثانية
تناغم بين العلم والقصيدة، تناغم بين العقلاني والخيالي ... الروح الشاعرية العقلانية والمفتوحة هي مدخل لفهم العلوم. والعلوم تنثرها القصيدة نثراً أفقياً خارج الزمان ... والقصيدة تُشكل صوراً عميقة يتأملها الحالم في ساعات النهار ويحكي عنها الشاعر والعالم باللغة نفسها ويكتبها نصاً فيه رسالة ومتعة، منطق ومخيال، مفهوم وهوام، نموذج وطيف ... وعليه تأسس مشروعه في مرحلته الثانية متراوحاً من الشعور إلى اللاشعور، من العقل إلى الخيال، من نص علمي إلى نص أدبي في مسار قلص المسافة الأنطولوجية بين الذات والموضوع، وتصاعد حتى جمع في مؤلفاته الأخيرة وبقدرة لافتة بين الاستعارة العلمية والبرهان الأدبي، بين الشعر والعلم، بين الاعتراف والبرهان.
من ركائز المشروع الباشلاري في لحظته الثانية
لقد أحب باشلار العلم كقيمة خالصة، ولهذا بدا باشلار أقرب للمتصوف العلمي منه إلى العالم أو حتى الفيلسوف، كان يؤلمه قهر المفاهيم العلمية ووضعها في سجن الموضوعية، كان يُفزعه هذا العقل العلمي الذي يفصل الموضوع عن الذات ويضع الإنسان في مواجهة الطبيعة لقهرها، فُحاول إحياء ما أماته العلم أو أهمله: الماء، الهواء، الأشجار ... تأملها وحملها خياله في ذاته الحالمة، وقد وظف أدوات التحليل النفسي للوصول إلى أعماق الظاهرة، مستفيداً من ظاهراتية هوسريل 1(Edmund Husserl)التي مكنته من تناول الصورة وتشكيلها في روح القارئ. كتب الصور الشاردة في سعادة نادرة، كتبها بجمل تتسامى بعقلانية المجازات لعقلاني رومانسي عالم وموجه بطاقات حلمية تنفذ لأعماق النفس الحالمة، وتحاذي تخوم العقول العالمة. مشروعه استند إلى ركائز كثيرة ولكن أهمها: الخيال الخلاق، التأملات الشاردة، الصورة الشعرية.
الخيال الخلاق
إن التاريخ الفعلي للأفكار كان يسير باتجاه الفعل والتفاعل، وهذا يعني أن المعرفة لم يُشكلها فعل العقل وحده بل الخيال الناتج عن التفاعل. بالخيال، تم خلق جدل غير متناه حول شكل الأشياء وتشكّلها، حول معاني الأفكار وتحققها، حول القوانين ومنطقها ... وقد شكل الخيال عبر التاريخ أرضية لا يمكن الاستغناء عنها في إضفاء البعد الجمالي ومصاحبته للبناءات العلمية. من هنا لم يوافق باشلار على المشروع الوضعي الذي ولد حضارة الغرب التكنولوجية الذي كان يُريد القضاء على الخيال، هذا المشروع الذي تأسس على عقلانية أدواتية حسابية باردة، عقلانية فارغة من نبض الوجدان ودفق الخيال ... لقد فهم باشلار أن تركيبتنا النفسية متشكلة من العقل والخيال وفي أعماقنا معين لا ينضب لتوليد الصور الخيالية والأحلام، وأن اختزال الإنسان إلى مجرد عقل يُحوله إلى حسابات وأرقام مصرفية وحسب. ولهذا كان الخيال في مركز أعماله، هذا الخيال الخلاق، الذي منه نسج باشلار خطاً موازياً من الناحية النفسية للواقع في الخارج، وفيه تتعزز النغمات الإنسانية والكونية... والمقتطع من كتاب "شاعرية أحلام اليقظة" يُظهر ذلك:"عندما تُسمع شجرات الليل تُحضر للعواصف، يقول الشاعر: الغابات ترتجف تحت لمسات الهذيان ذي الأصابع". إنها توحد مع كون الخارج كون الداخل فتصبح أعصاب الإنسان أوتار الغابة.
التأملات الشاردة
بالنسبة إلى باشلار فهي ظاهرة روحية مفيدة للاتزان النفساني، وهي تأملات كونية تعطينا عالم العوالم ... إنها انفتاح على عالم جميل وهي بحد ذاتها سعادة ... هي نشاط حلمي لا يزال فيه بصيص من الوعي ... هي شكل من أشكال أحلام اليقظة. التأمل الشارد في النهار يُراكم صوراً نهارية، وإذا هربت الصور من الحالم-المتأمل في النهار تعود له حلماً ليلياً، حيث هامش واسع من حرية الذات قد تخلق ما تشاء من رؤى وأشعار وأسفار. التأمل الشارد يُمكِّن من النفاذ إلى عمق الظاهرة العلمية ونثرها نصاً أدبياً ... في مؤلف لهب الشمعة (ص:37) يقف "المتأمل" على مائدة عليها شمعة وساعة رملية ... يتأملهما ويكتب:"إن اللهب في حقيقته هو ساعة رملية، غير أنه يجري نحو الأعلى ولأنه أكثر خفة من الرمل الذي يتهاوى نحو الأسفل، فإن اللهب سيصنع، كما لو أن للزمن، على الدوام، شيء ما يصنعه. يُعبر اللهب والساعة الرملية عن اتحاد الزمن الخفيف مع الزمن الثقيل. أنا أحب أن أحلم بالزمن الذي يتسرب، وبالزمن الذي يُحلق، وإن كان باستطاعتي أن أجمع في صومعتي الخيالية الشمعة والساعة الرملية".
الصورة الشعرية
وهي مركز الثقل في أعمال باشلار، هي الصور الشعرية الحالمة المُطهرة من ابتذال الحياة العامة والمعبأة بإرادة تعبير جديدة، هي الصورة "المنفتحة على عالم أوسع من الكلمات التي تنتجها، ففي اللحظة التي تقوم بإدراكها، فإننا نتخيلها ونتمثلها وبعد ذلك نحلم فيها ... إن الصورة الشعرية هي تجربة حساسة بالعالم وللخيال قدرة قصوى على إنتاجها" (باشلار، 2005: 13).لقد اشتغل باشلار على علاقة الخيال الإنساني بالعناصر الأربعة: الماء، النار، الهواء، التراب، وقد خلق صور هذه العناصر الأربعة شعراً، محولاً إياها بواسطة الخيال "السعيد" (يقول باشلار عن أعماله الشاعرية بأنها تسعى "لجعل الخيال سعيداً" (جيل، 1996: 31)) إلى صور ثقيلة وعميقة وجميلة، تتشظى وتتجمع أثناء محاولة كتابتها وشعرنتها. هذه واحدة من الصور المائية المتقطعة من كتاب شاعرية أحلام اليقظة وتظهر فيها سيكولوجية الأعماق:"في المياه الهادئة-المطمئنة يتصالح العمق مع السطح، وكلما كانت المياه عميقة، كانت المرآة واضحة، حيث الضوء يخرج من الهاويات. إن الحالم يحلم بعمقه الذاتي ... هذه البحيرة كبيرة وهادئة، حيث الزمن يستريح من الجريان، وهذه البحيرة هي فينا، كمياه بدائية، كحيّز تستقر فيه طفولة غير متحركة".
ما قبل النهاية... ودون الختام
لوقت ما شعرت أن تخصصي في الرياضيات وعملي في مهنة التدريس أوقف عقلي أمام الخط المستقيم، وحصر وجداني في زوايا، خائفاً من الوقوع في فراغات الأشكال الهندسية، وقلِقاً من حواف الزوايا والمعادلات، محروماً من التعبير عن حواسي السمعية للأشكال الهندسية والمعادلات الجبرية ... ومحروماً أيضاً من التعبير عن تلك الحواس الحلمية والبصرية لحركة اللون أو حركة الشجر أو حركة العمق الإنساني ... وقد زاد الطين بلّة التحاقي ببرنامج ماجستير التربية وعلم النفس في جامعة بيرزيت، الذي أوقفني أمام مجموعة من القوانين والنظريات قرَّبتني من عقلانية العلم الباردة، وأبعدتني عن إمكانية اكتشاف حقائق أعمق من حقائق العلم في تلك الأقاليم الغامضة في النفس. لم أتوقع من علماء النفس أن يضعوا قوانينهم ونظرياتهم داخل منظومة آلية مغلقة، وبعيداً عن حركة الحياة وتبدلاتها وتأثيراتها، ودون اعتبار لتلاوين النفس الإنسانية ودواخلها، تلك النفس التي تتشكل في كل لحظة بألف شكل وتتلون في كل ظرف بما لا يُحصى من الانفعالات والعواطف، التي لا علاقة لها بالقوانين والحسابات والنظريات الجاهزة. بقيت هكذا حتى اكتشفتُ أن كل ما يوجد في العقل مصدره وأصله في الشعور، فوقفت أمام خط مقوّس، خط يحكي الحياة ويروي طبيعتها الجمالية ويصل بالفكرة إلى أقصى مدى ... متجاوزاً قيود العقلانية الآلية الخطية النفعية، التي يُقيمها الإنسان مع الطبيعة، مُحوِّلاً الحروف المبعثرة لها إلى قصيدة، مُستجيباً لتموجات الرغبات والحاجات والإشرافات المفاجأة.في الختام ... تصوروا عالماً إقليدياً ثنائي الأبعاد، ... للتعرف عليه وفهمه يجب النظر إليه من فوق، والفوق يشترط البُعد الثالث، وإلاّ لن نرى سوى خطوط مستقيمة وأسطح ملساء. ولكن العالم الواقعي ثلاثي الأبعاد، وحتى نعقله ونصل إلى معرفة تقريبية لحقيقته، يجب أن ننظر إليه من فوق، وهذا الفوق يشترط البُعد الرابع. والعبور في البُعد الرابع يتطلب الانطلاق من الأقاليم الغامضة في الذات والتحليق بكامل العدّة الهندسية للعقل والمشاعر وخصوبة الخيال. هذا هو المشروع الباشلاري: عبور سديمي في البعد الرابع، ثم انطلاق بعدّة هندسية كاملة ... ثم انطلاق هادئ بمحاذاة الذات.
وائل كشك - مركز القطّان
الهوامش
1 فيلسوف ألماني (1938-1859) ومؤسس المنهج الفينومينولوجي/الظاهراتي، وهو علم إستحضار الصور، حيث عمل على تحويل الفلسفة إلى علم دقيق من خلال وصف الماهيات الواقعية والثابتة والمعروفة قبلياً وبصورة مستقلة عن كل تجربة.
المراجع
> باشلار، غاستون (بدون تاريخ). شاعرية أحلام اليقظة، ت: جورج سعد، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر.> باشلار، غاستون (2005). لهب الشمعة، ت: مي عبد الكريم محمود، عمان: دار الأزمنة.> باشلار، غاستون (1996). تكوين العقل العلمي. ت: خليل أحمد خليل، ط5، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر.> بنعبد العالي، عبد السلام، ويفوت، سالم (2001). درس الإبستيمولوجيا، الدار البيضاء: دار توبقال للنشر.> جيل، ديدييه (1996). باشلار والثقافة العلمية، ت: محمد عرب صاصيلا، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر.> حرب، عائد (2001). صوفية الفكر الفلسفي، عمان: الأهلية للنشر والتوزيع.> كلارك، باربرا (1998). تفعيل التعلم-النموذج التربوي المتكامل في غرفة الصف، ت: يعقوب نشوان، غزة: مطبعة المقداد.> طاهر، علاء (2005). نهاية الفضاء الفلسفي .. الفلسفة الغربية بين اللحظة الآنية والمستقبل، القاهرة: مكتبة مدبولي.> المصباحي، محمد (1990). من المعرفة إلى العقل، بيروت: دار الطليعة للأبحاث والنشر.> مهيبل، عمر (2005). إشكالية التواصل في الفلسفة الغربية المعاصرة، الجزائر: منشورات الاختلاف، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، بيروت: الدار العربية للعلوم.> مورزا، سيرغي (2005). جدلية الأيديولوجيا والعلم، ت: نواف القنطار، ط1، سوريا-دمشق: دار علاء الدين.> بورغينيون، أندريه، "من تعددية المناهج إلى العبرمناهجية"، أخذت بتاريخ 17/5/2005 من موقع:
http://maaber.50megs.com/forth_issue/epistemology_2a.htm
> البعزاتي، بناصر. "مفاصل التفاعل بين المعارف"، أخذت بتاريخ 12/5/2005 من موقع:
http://membres.lycos.fr/abedjabri
> الخوري، ديب. "من الفيثاغورية إلى إخوان الصفا"، أخذت بتاريخ 16/2/2006 من موقع:
http://maaber.50megs.com/forth_issue/epistemology_2a.htm