يعد المغربي محمد عابد الجابري من بين المفكرين العرب ذوي المشاريع النظرية الأكثر لفتا للانتباه، واجتذابا للنقاش والجدل في اللحظة الراهنة.
وإذا أردنا جمع هذه المشاريع حول سؤال مشترك، يمكن القول إن الهاجس الغالب عليها هو التفكير في سؤال النهضة، كما جاء في مقال للباحث الطيب بوعزة بموقع "الجزيرة نيت"، مع اختلاف في كيفيات طرق السؤال والإجابة عنه، بسبب تعدد واختلاف المداخل المنهجية التي توسل بها أصحاب تلك المشاريع.
أما المدخل المنهجي، الذي اختاره الجابري فلم يكن مدخلا سياسيا ولا اقتصاديا بل إبستمولوجيا، إذ يرى أنه لا نهضة دون تحصيل آلة إنتاجها أي العقل الناهض.
ولا يمكن تحصيل هذا الفكر القادر على صناعة النهضة دون نقد للعقل العربي وبحث صيرورته التاريخية وتحديد المفاهيم المتحكمة في بنيته، من أجل بيان الحاجة إلى عصر تدوين جديد يؤسس للعقل نظاما معرفيا قادرا على الاستجابة لتحديات الراهن.
هذا المطلب هو الذي اشتغل المفكر محمد عابد الجابري بقصد إنجازه طيلة ما يقرب من نصف قرن، متوجا ذلك بإنتاج موسوعته "نقد العقل العربي" وهو الإنجاز الذي رأت اليونسكو أنه يستحق أن يكرم في الاحتفال باليوم العالمي للفلسفة سنة 2006.
من الرياضيات إلى الفلسفة
كثيرا ما تلعب أقدار، تبدو صدفا في مسار حياة الناس، دورا رئيسا في تشكيل مستقبلهم، وبالرجوع إلى حياة الجابري يستوقفنا حادث كان هو المنعطف نحو توجهه إلى التخصص في الدراسات الفلسفية، لأن الرجل كان في ميوله الدراسية عاشقا للرياضيات.
وعندما تحدث الجابري في كتابه "مسار كاتب" عن علاقته بهذا العلم الدقيق، وصف ميله إليه وتميزه فيه بلغة لا تخلو من جيشان العاطفة "كنت مولعا بالرياضيات.. كان لدي ما يشبه الموهبة في هذه المادة..".
ففي المدرسة الابتدائية وكذلك في السنتين اللتين قضيتهما في المدرسة الثانوية (والكلام للجابري) كان الأستاذ يملي علينا في نهاية الدرس تمارين الحساب والهندسة ثم الجبر كواجبات منزلية، وكثيرا ما كنت أكتفي بالاستماع إليه وكتابة المعطيات الرقمية بدل كتابة نصوص التمارين بأكملها، حتى إذا انتهى من الإملاء كنت قد هيأت الجواب! وفي المنزل كنت أشتغل على تمارين مماثلة في الكتب الفرنسية! وكانت تستغرق جل أوقات الفراغ عندي".
بهذا العشق لعلم الخوارزمي سافر الجابري إلى سوريا سنة 1957 ليتم دراسته في تخصص الرياضيات، وقد كان عمره آنذاك واحدا وعشرين عاما، بيد أن أمرا طريفا كان سيرغمه على تغيير اختياره التعليمي، فقبل أن يسجل نفسه في كلية العلوم أخذ الكتب المدرسية السورية لاستطلاعها والمقارنة بينها وبين ما تعلمه في المغرب.
وعندها فوجئ الطالب المغربي بما لم يكن قد تهيأ له، حيث يصف الجابري ما حدث قائلا "كانت صدمة كبيرة لي عندما وجدتني أمام (مشاهد) لم أكن قد تعودت عليها: أرقام هندية لا أستطيع قراءتها بسهولة، وأنا قد تعودت في المغرب على الأرقام العربية، العالمية الآن، وكانت مراجعي في مادة الرياضيات والفيزياء كلها مراجع فرنسية..".
وأضاف الجابري "لقد وجدت نفسي في كتب الجامعة السورية في دمشق أمام أرقام ورموز ومعادلات ومصطلحات غريبة عني أو أنا غريب عنها، والرياضيات كلها رموز، وشعرت أنه سيكون علي أن أقوم بدور المترجم لنفسي من العربية إلى الفرنسية، ومنها إلى اصطلاحنا في المغرب، فكان هذا شيئا مثبطا تماما".
وقرر الجابري ترك الرياضيات والتخصصات العلمية على حد سواء، والارتحال هاربا من استغلاق الرموز العلمية، التي تحفل بها كتب الرياضيات والفيزياء إلى حقل معرفي آخر، هو القانون، ولكنه بعد أن راجع كتب القانون لاحظ أنها تعتمد بالدرجة الأساس على الحفظ والذاكرة.
وقرر الطالب التغيير مرة أخرى، فسجل نفسه في كلية الآداب بالسنة الأولى في تخصص كان يسمى "الثقافة العامة" على أن يختار بالسنة الثانية شعبة الفلسفة، ودرس الجابري السنة الأولى في دمشق، ونجح بتفوق، فكان ترتيبه السادس من بين ما ينيف على خمسمائة طالب.
وفي نهاية العام عاد الجابري إلى المغرب ليجد أن كلية الآداب في الرباط استحدثت شعبة الفلسفة، فقرر العدول عن السفر إلى دمشق، ومتابعة دراسته في الرباط.
وهكذا يمكن أن نقول إن الرموز الحسابية الهندية كانت هي السبب في أن يولد الفيلسوف الجابري، فلولا تلك الرموز لاختار الطالب محمد عابد الجابري تخصص الرياضيات لا الفلسفة، وبذلك كنا بلا شك سنخسر مفكرا.
إعادة قراءة ابن خلدون
وإذا كانت مجرد مسألة شكلية تتعلق بالرمز الرياضي قلبت دفة حياة الجابري الطالب من الرياضيات إلى الفلسفة، فإن ابن خلدون كان الدافع إلى توجيه الدفة مرة أخرى، ولكنها هذه المرة داخل التخصص نفسه، أي الفلسفة، إذ جذب الاهتمام بالمقدمة الخلدونية تفكير الجابري إلى دراسة التراث.
وعلاقة الجابري بابن خلدون تعود إلى الباكالوريا (الثانوية العامة)، حين يحكي عن نفسه قائلا "في سنة 1957 كان قد مضى على استقلال المغرب نحو سنة ونصف السنة، وكنت آنذاك أهيئ البكالوريا".
وفي دمشق، أيضا، التقى الجابري مرة ثانية بابن خلدون، إذ يذكر أن أستاذه في مادة علم الاجتماع الدكتور عبد الكريم اليافي، كلفه بإنجاز عرض حول العلامة ابن خلدون، ويذكر أيضا أن عرضه هذا نال إعجاب الأستاذ والطلبة.
وبعد عودته من دمشق، وبعد حصوله على الإجازة في الفلسفة، وتحضيره للتسجيل في دبلوم الدراسات العليا، سيجد الجابري نفسه من جديد أمام ابن خلدون، فيقول "ألح علي الأستاذ المشرف، الدكتور محمد عزيز الحبابي، أن يكون موضوع بحثي "آراء ابن خلدون في كتابة التاريخ" والنظر في الكتابات التاريخية المغربية المعاصرة في ذلك الوقت، إن كانت قد استفادت من نقد ابن خلدون للمؤرخين".
وعندما أنهى الجابري رسالة دبلوم الدراسات العليا أحس أن الدراسة، التي أنجزها عن ابن خلدون لم تكن هي ما يريده، كما أن الوجهة التي نظر من خلالها إلى "مقدمة ابن خلدون" لم تمكنه من استثمار المادة البحثية الكبيرة التي هيأها.
لذا شرع في إعادة النظر في بحثه مع توسيع مجال الرؤية إليه من أجل إعداد كتاب مستقل، فانتهى منه أواخر عام 1968، ثم قدم الكتاب إلى أستاذه الدكتور نجيب بلدي، ليرى إن كان يصلح للنشر وليكتب له مقدمة.
وبعد أسابيع يقول الجابري " فاجأني بأن تحمس له كثيرا وطلب مني أن أسجله أطروحة لدكتوراه الدولة".
التراث ونقد العقل العربي
إن الاهتمام بابن خلدون هو الذي وجه اهتمام الجابري إلى دراسة التراث، وإن أسلوب دراسته لابن خلدون هو الذي بلور المنهج النقدي، الذي سيعتمده الجابري لاحقا في قراءة متون التراث.
يقول الجابري "أذكر أنني حين كنت أكتب أو أقرأ عن ابن خلدون كنت منشغلا بهاجس أساسي وهو أن لتأويلات المعاصرة والمتعددة لابن خلدون تخفيه عنا، لذلك قررت أن (أنسى) كل ما كتب عن صاحب المقدمة.. وألا أتخذ لي مرجعا آخر غير نصوص ابن خلدون نفسه. هكذا قررت أن أكتب عن ابن خلدون وكأن أحدا لم يكتب عنه قبلي".
هذا المنهج في القراءة المرتكز على العودة إلى النص وتخطي مختلف التأويلات المعاصرة، هو ما سيطبقه الجابري في دراساته اللاحقة، حين شارك في العراق سنة 1975 في ندوة عن الفارابي، متعاملا مع هذا الفيلسوف بالطريقة نفسها، أي ألا ينشغل بما كتب عنه.
ثم كانت دراسات أخرى واحدة عن ابن رشد، وأخرى عن ابن سينا، بالمنظور المنهجي نفسه، أي العودة إلى المتون والنصوص ذاتها، وصرف النظر عن قراءات الآخرين لها.
وهذه الدراسات هي التي سيجمعها الجابري ثم يصدرها في كتابه "نحن والتراث". كان كتاب "نحن والتراث" بطبيعته مجموعة متفرقة من الدراسات عن شخصيات فلسفية، إلا أن المقدمة المنهجية، التي كتبها المؤلف خصيصا لهذه الدراسات جعلته ينظر من جديد إلى الموضوع التراثي، مكتشفا وحدة خفية وإطارا عاما ينظم الإنتاج التراثي.
وهذا الإطار هو الذي سيحاول الجابري مقاربته من خلال دراسة العقل العربي في كتابه "تكوين العقل العربي"، الذي يتناول فيه تشكل هذا العقل والشروط المعرفية والتاريخية لبنائه، مع تحديد مكوناته الإبستمولوجية، والتوظيف الإيديولوجي له، منتهيا إلى اختزال النظم المعرفية، التي تؤسس الثقافة العربية الإسلامية، وتشرط العقل العربي في ثلاثة نظم هي: البيان، والعرفان، والبرهان.
وعلى ضوء ذلك فإن مشروع الجابري في قراءة التراث لم يكن من أجل مطلب يتعلق بفهم الماضي حصرا، بل كان أساسا من أجل فهم الحاضر، فهو نفسه في بداية كتابه يقول "يتناول هذا الكتاب موضوعا كان يجب أن ينطلق القول فيه منذ مائة سنة. إن نقد العقل جزء أساسي وأولي من كل مشروع للنهضة".
ويتساءل الجابري "هل يمكن بناء نهضة بعقل غير ناهض، عقل لم يقم بمراجعة شاملة لآلياته ومفاهيمه وتصوراته ورؤاه؟". فمشروع نقد العقل عند الجابري ليس مجرد تاريخ لتكوين العقل العربي، بل هو مشروع لإنهاض هذا العقل "فنحن لا نمارس النقد من أجل النقد، بل من أجل التحرر مما هو ميت أو متخشب في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي".
نجمي: أغلب الذين هاجموا الجابري لم يقرأوه كما ينبغي
أجمع مفكرون، وباحثون مغاربة وعرب على أن وفاة المفكر المغربي الكبير محمد عابد الجابري صاحب المسيرة الفكرية الحافلة بالعطاء، والمثيرة للجدل في الوقت ذاته، خصوصا في دراسة التراث ونقد العقل العربي، خسارة كبيرة للمشهد الفلسفي العربي، إذ يعد الجابري من المفكرين العرب الكبار القلائل، الذين نجحوا في المزج بين التراث والحداثة، لاسيما في ثلاثيته الشهيرة حول العقل العربي. كثيرة هي مؤلفات المفكر المغربي محمد عابد الجابري التي تناول فيها نقد العقل العربي وقضايا التراث والديمقراطية، وهي كتابات جلبت له الشهرة والتقدير في أنحاء العالم العربي، غير أنها جعلته أيضا، هدفا لهجوم البعض، الذين رأوا في كتاباته "تهجماً على الإسلام".
تعرض الجابري عام 2006 لهجوم عنيف، عندما نشر مقالة في صحيفة "الاتحاد" الإماراتية بعنوان "ما قيل إنه رفع أو سقط من القرآن"، وهي مقالة ساق فيها المفكر المغربي بعض الآيات القرآنية، التي قالت المصادر السنية إنها "قد تكون سقطت" ولم تدرج في نص المصحف، وكان ما قاله في المقالة إن "القرآن وقع به بعض التحريف وأن علماء السنة اعترفوا بذلك".
وفي هذا السياق، قال الفيلسوف السوري صادق جلال العظم، الذي عبر عن بالغ حزنه الشخصي لوفاة صنوه المغربي الراحل الجابري، "إن ما قيل عن تهجم الجابري عن الإسلام، كلام فيه كثير من التعنت والافتراء".
واعتبر العظم، في حديثه إلى موقع "قنطرة" الإلكتروني، الذي يهدف إلى خلق حوار بين الغرب والعالم الإسلامي، أن من أهم إنجازات الجابري أنه "أوجد توازنا في الفكر العربي بين المشرق والمغرب، بعد أن ظل المغرب يعتمد فترة طويلة على المشرق العربي، خاصة مصر"، كما أنه أحدث حراكا كبيرا في الفكر العربي.
وذكر العظم المساجلات الحيوية، التي دارت بين الجابري وجورج طرابيشي، التي ذكرته بالمناظرة التاريخية "التي جرت بين الغزالي في المشرق وابن رشد في المغرب".
من جهته، قال الشاعر المغربي حسن نجمي، في حديث مماثل إن "أغلب الذين هاجموا الراحل محمد عابد الجابري لم يقرأوه كما ينبغي، بل اجتزأوا ما قاله ثم هاجموه".
وأضاف نجمي أن الجابري "لم يكن منشغلا بالبعد اللاهوتي في الإسلام، بل كان ينطلق من المسلمات والبدهيات، التي تشكل أساس العقيدة الإسلامية، ليتأمل في أشكال التفكير حول الإسلام".
وأشار نجمي إلى أن الجابري واجه انتقادات من العلمانيين، مثلما لقي هجوما من المتدينين، لأنه "كان ينطلق من داخل الإسلام لا من خارجه، وهذا ما كان يأخذه عليه الشاعر والمفكر العربي الكبير أدونيس، على أساس أنه فقيه، لا تنقصه سوى جبة الفقهاء"، مضيفا أنه كان "يدعو إلى مقاربة عقلانية للنسق الديني الإسلامي"، لكنه كان "ينطلق من داخل المنظومة الإسلامية ذاتها، لا من منطلق مخاصمتها أو من باب الإساءة إليها".
من جانبه، فسر رمضان بسطويسي، أستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس المصرية، الهجوم على الجابري بقوله: "حاول الجابري أن ينظر للتراث نظرة تاريخية، ويعيد قراءته في ضوء مناهج أوروبية معاصرة، وهذا ما أدى إلى اصطدامه بالكثير من العقبات".
وأشار بسطويسي إلى أن إسهامات الجابري تدخل ضمن جهود عدد من المفكرين العرب المعاصرين، الذين حاولوا دراسة القرآن على ضوء ما يسمى بمنهج تأويلي معاصر.
وفي المنحى ذاته، قال وزير الثقافة السابق محمد الأشعري، الذي اعتبر وفاة الجابري خسارة كبيرة للإنتاج الثقافي المغربي والعربي، " كون الجابري استطاع أن يثير كثيرا من ردود الفعل في المغرب والمشرق، هو دليل على حيوية فكره، وعلى قوة اجتهاداته"، مضيفا في حديث إلى "إذاعة هولندا العالمية"، "من المؤكد أن هناك اختلافات عميقة في المناهج، وفي طرق الاشتغال على القضايا الفكرية العربية، لكن هذا لا يهم، المهم هو القدرة على إثارة الجدل الثقافي، وعلى إثارة الانتباه للقضايا، التي يجب أن نوجه إليها اهتمامنا اليوم في حاضرنا ومستقبلنا".
* نشر هذا المقال نقلا عن موقع جريدة "المغربية" تعميما للفائدة