مــــاهيــــة الشعــــــــر* أو في النزوعات العنصرية لهــايـدغــر - احماد يعقوبي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

heid-anfasseحينما نبحث, حسب هيدغر , في ماهية الشعر , فسيكون بحثنا بحثا خارجيا , وذلك من أجل المقارنة لكي نبين ما هو عام في الشعر . ويتحدث العام في كل ما هو جوهري في الشعر , لكن ما نبحث عنه , يمكن أن نجده في القصيدة , فيكون البحث عن ماهية الشعر بحثا داخليا , وليس بحثا خارجيا , يرصد الخصائص الخارجية والمشتركة بين القصائد . فيمكن أن نجد ما يميز القصيدة , لكن ليس من خارج القصيدة , بل من داخلها . وهو ما يعني أن نتوقف عند قصيدة بعينها , وليس أن تستدعي قصائد الشعر العالمي . وهذا يعني كذلك أن تكون تلك القصيدة تتكلم عن الشعر وعن القصيدة . وقد يبدو هذا الأمر غريبا , بل سيكون أشد غرابة أن تتكلم القصيدة عن القصيدة , وسيكون الشاعر الذي ينظم تلك القصيدة شاعرا غريبا , ومثل هذه القصيدة , ومثل هذا الشاعر يوجدان , وسيكون هذا الشاعر هو هولدرلين , فكيف تتكلم قصيدته عن الشعر؟ وكيف تتحدد ماهية الشعر في قصائد هولدرلين؟
تمثل قصيدة هولدرلين رغبة في الحديث بطريقة شعرية عن ماهية الشعر . وهنا يرغب الفكر الشعري في أن يعالج ماهية الشعر . وتمثل شخصيته شخصية تكون في وضع العارف اليقظ أمام ما يميز قصيدته . يقول هولدرلين :

" لتأت إذن حتى نلقي نظرة على ما هو منفتح
ونبحث عما هو خاص , مهما كان بعيدا عنا
فقد حدد لكل واحد أيضا , ما هو خاص به
وهنا يغدو كل واحد منا  ويروح , وفق ما تسمح به إمكانيته "
ما يميز قصيدة هولدرلين إذن هو أنه يخضع لصوت العزيمة , ويطيع أمر الموهبة , ويمثل هذا الخضوع انفتاحا على الزمان . ويقول هولدرلين :
" طويل هو
الزمان "
يمتد طول الزمان ليصل إلى الحقبة المعاصرة , وهي حقبة فارغة من الآلهة , ويجب أن يكون كلام الشعراء السابق على زمانه طويلا أيضا , ويجب أن يسمى هذا الكلام بالنصيب الأكبر , ويجب على الشاعر أن ينظم ما يتوقع من الآلهة الحاضرة . وما نتوقع مجيئه , يتوجه نحو الشاعر من أجل ملاقاته . وهذه الآلهة المنتظرة ليست آلهة اليونان . يقول هولدرلين :
" ايتها الآلهة الهاربة , أنت أيضا , أنت الحاضرة في هذا الزمان , والمعبرة عن حقيقة أكبر , كان لك زمانك "
وتعتبر الآلهة الحاضرة والحقيقية بشكل أكبر غير منتمية إلى الماضي . وتوقع مجيء الالهة الحاضرة , لا يعني أبدا رجوع الالهة القديمة , ويعتبر هولدرلين هذا التوقع تجربة شعرية , ويقول :
" لكن ما دامت الالهة الحاضرة قريبة إلى هذا الحد
يجب علي أن اكون كما لو كانت بعيدة , ويجب أن يكون إسمها
مظلما في السحاب . وذلك فقط قبل أن يشع نور الصباح
وقبل أن تشتعل المياه وسط النهار
آنذاك اسميها بسلام , حتى يحظى الشاعر بنصيبه
لكن حينما ينزل الضوء السماوي إلى أسفل
استحضر بذهني على الفور دور الماضي وأقول ,أازهر مع ذلك "

لقد وظف هولدرلين الفعل " يجب" في هذه الابيات مرتين : يخص الفعل الاول علاقة الشاعر بحضور الالهة الحاضرة , اما الفعل الثاني فيتعلق بنوع الالقاب التي يطلقها الشاعر على هذه الالهة ,  والاله حسب هولدرلين قريب , لكن يصعب ادراكه . فالاله نتيجة لقربه بشكل اكبر يصعب ادراكه , الالهة القريبة جدا , والمقتربة بشكل كبير , ويتوقع مجيئها باتجاه الشاعر ونحوه للقائه . ومن المتوقع هذا المجيء يدوم طويلا.
ويسمي الشاعر ما هو لديه , فيجب إذن أن تنبثق الكلمة كالازهار , ولكي يوجد الكلام ويزهر , فلا بد أن يعاني الشاعر ما هو صعب وثقيل , وهذا الصعب والثقيل هو الذي يموقع القول الشعري كضرورة , فالكلام ينير ما يجب كي يكون الشاعر ضروريا حتى ينال نصيبه . فالشاعر إذن ضرورة بالنسبة لقول ليس فقط سوى تسمية في صمت , ويشتق الفعل سمى من كلمة اسم الذي يرجع إلى جدر يعني معرفة . فالاسم اذن يسمح بالمعرفة , وكل ما له اسم يعرف من بعيد , والتسمية هي الكشف , ويكون عبر الانفتاح الذي ينفتح في صفة شيء ما . فالتسمية كشف وتحرير . لذلك فان الكشف نداء.
لقد اراد هولدرلين أن يسمي الآلهة التي يتوقع مجيئها بسلام . والسلام هو الهدوء , وووقعت التسمية الهادئة قبل أن يشع نور الصباح . ووقعت التسمية اذن قبل أن نشير إلى استباق الزمان الذي قذف فيه الشعراء قدما مع قولهم الذي يمنح التسمية . فبعد الاله المقترب ينفي الشعراء باتجاه منطقة وجودهم حيث تختفي الارض والعمق والحامل . وغياب العمق هو الذي يسميه هولدرلين " هاوية " . ويتحدث عن الشعراء الذين تصطدم اقدامهم بهاوية الرجال . ويعني الاصطدام الالتقاء باتجاه الهاوية.
توجد مواقع من اشعار هولدرلين تتحدث بصراحة وبوضوح عن ماهية الشعر , فهي مواقع تضع امام اعيننا الماهية الجوهرية للشعر فهو يقول مثلا عن قرض الشعر في احدى القصائد بانه " أوفر الأعما حظا من البراءة ". ويحلل هيدغر هذا البيت ويتامله فيقول بان ما يميز قرض الشعر هو أنه يخترع عالما خاصا من الصور , ويفلت من جدية أي قرار يلزم الانسان . فالشعر مجرد كلام لا فعالية فيه , لكن يتضمن ما يسمح لنا بأن نتحدث عن ماهية الشعر . فهذا البيت الشعري يشير فقط حسب هيدغر إلى المكان الذي توجد فيه الماهية . فهو يشير إلى اللغة.
هنا ينتقل هيدغر إلى الكلام عن اللغة من خلال قول هولدرلين " وإنما في الأكواخ يسكن الوجود الإنساني , ويتدثر بثوب محتشم , لأنه حرص على وجوده الحميم أكثر من حرصه على أي شيء آخر , وفي محافظته على الروح , كما تحافظ الكاهنة على النار المقدسة ’ يكمن ذكاؤه . ولهذا منحت له حرية الاختيار , والقدرة العليا على التنظيم والانجاز , منحت له لأنه شبيه بالآلهة , ولهذا أيضا اعطيت اللغة – وهي أخطر النعم – إلى الوجود الإنساني , لأنه حين يخلق ويحطم , وحين يختفي ويعود إلى تلك التي تحيي حياة أبدية , إلى السيدة العذراء , إلى الأم – حين يفعل ذلك يشهد على ما هو موجود , لأنه ورث عنها , وتعلم منها , أوفر ما فيها من الألوهية , أي الحب الذي يحفظ الكون ".
يكشف هولدرلين هنا على وجود مفارقة : فمن جهة اللغة ميدان " أوفر حظا من البراءة ". ومن جهة ثانية اللغة هي أخطر النعم , فكيف يمكن التوفيق بين القولين " ؟
يقول هيدغر بأن الوجود الانساني يشهد على ما هو موجود , ويعني ذلك أنه يكشف الوجود الانساني , ويعبر عما كشف عنه . وما يكشف عنه الانسان هو إقراره لآنيته الخاصة . وهذا الإقرار يدخل في تركيب آنية الإنسان . وما يكشف عنه الإنسان في هذه الآنية ويقره هو أنه ينتمي إلى الأرض . فيتقدم الوجود الآنساني بكونه وجودا يرث الأشياء . هنا يتكلم هولدرلين حسب هيدغر عن الطابع الجوهري الحميم الذي يربط ويفصل بين الأشياء .

إن ما يقره الإنسان في واقع الأمر هو انتماؤه إلى هذا الطابع الجوهري الحميم . وينشأ هذا الإقرار بواسطة خلق العالم وانهياره.
هذا الإقرار هو الذي يتحقق فيه الإنسان الأصيل . وينشأ هذا الإقرار وهذا التحقق عن حرية اتخاد القرار. وإذا كان الإنسان يرث الأشياء , فمن الواجب عليه أن يسميها . وهذا ما يذكرنا بقول هيدغر بأن كل تسمية معرفة , وبتسمية الأشياء تكتمل شهادة الإنسان بانتماء الوجود الإنساني إلى الأرض وإلى الطابع الجوهري الحميم وهو ما يسميه هيدغر بالحدوث . فشهادة الإنسان هاته هي ما يحدث , وهي ما يتأرخ  على هيئة تأريخ , ولكي يكون هناك تأريخ وحدوث , يجب أن تكون اللغة قد أعطيت للإنسان, فاللغة إذن نعمة بالنسبة للإنسان . لكن كيف تكون اللغة خطرا ؟
يقول هيدغر بأن اللغة تخلق إمكانية الخطر , وهو تهديد يحمله الموجود للوجود. فباللغة يتعرض الإنسان للمنكشف الذي يحاصر الإنسان , ويشغله في آنيته , فاللغة تنشئ إمكانية ضياع الوجود , فمهمة اللغة هي أن تجعل الموجود وجودا منكشفا في حالة فعل . فهي تعبر عن الأشياء الأكثر وضوحا , والأشياء الأكثر غموضا , لكن ما يهم هو أن يكون الكلام الجوهري مفهوما . وهذا هو الخطر , وإذن يجب أن يكون أكثر تداولا. ويستند هيدغر في هذه الحقيقة إلى قول هولدرلين " لقد تحدثت إلى الألوهية , ولكنكم نسيتم جميعا أن بشائر الثمار لم تخلق للفنانين , وإنما تنتسب إلى الآلهة , فلا بد أولا أن تصبح الثمرة أكثر شيوعا , وتتخذ طابعا أشد تداولا , لكي تصبح من خيرات الفنانين ".
خطورة اللغة إذن تكمن في كونها تعرض القول الصادق للخطر , فكيف تكون اللغة وهي التي تخلق إمكانية الخطر نعمة للإنسان ؟
إن الوظيفة التواصلية تجعل اللغة نعمة , لكن هذا لا يعني حصر ماهية اللغة في هذه الوظيفة . لكن هذه الوظيفة لا تعبر عن ماهية اللغة , بل هي على العكس من ذلك من نتائج هذه الوظيفة . هنا يصرح هيدغر بأن اللغة هي ما يضمن إمكانية الوجود وسط موجود , ينبغي أن يكون موجودا منكشفا , وينبغي أن نستنتج من هذا الأمر مع هيدغر ارتباط وجود العالم بوجود اللغة , فحيث توجد اللغة , يوجد عالم , وحيث يوجد العالم , يوجد تأريخ , وهكذا نستخلص أن اللغة تمثل النعمة الأشد أصالة . فباللغة إذن يضمن الإنسان كينونته التأريخية , بل إن هيدغر يحدد اللغة على أنها التأريخي نفسه الذي يتصرف في الإمكانية العليا لوجود الإنسان . وهذا هو ما يحدد ماهية اللغة . وإدراك هذه الماهية هو ما يحدد المجال الذي يتحرك فيه الشعر . لكن كيف تضمن اللغة للإنسان أن يوجد ككائن تأريخي ؟ وكيف تتحدد ماهية اللغة على أنها ما يتأرخ؟
إن الجواب على هذه الأسئلة , هو الذي التمسه هيدغر في هذا المقام الشعري لهولدرلين :
" لقد خبر الإنسان كثيرا من الأمور
ووضع أسماء العديد من السماويات
منذ أن كنا حوارا
واستطاع بعضنا أن يسمع من البعض الآخر "
يحدد هولدرلين الوجود البشري على أنه حوار . إن الإنسان حوار , وهذا ما يجعل أساس وجوده يقوم في اللغة . واللغة بدورها لا تأخد واقعها التأريخي الحقيقي إلا في الحوار , فعلى هيئة حوار , تكون اللغة جوهرية . فاللغة إذن وسيط يوصل الناس بغضهم ببعض . ويتم الحوار بالكلام الذي يتضمن إمكانية القدرة على الإنصات.وهذا ما سيجعل من البشر حوارا واحدا . ووحدة الحوار هاته هي التي تجعل الواحد يتجلى , وهذا ما يشكل سند آنية الإنسان . ويظهر إذن أن الحوار هو الطابع التأريخي والجوهري للغة.
لكن ما سيلاحظه هيدغر , من خلال قراءاته لأشعار هولدرلين , أن الواحد لا يمكن أن يتجلى إلا في ضوء شيء يبقى ويستقر . ولا يظهر البقاء والاستقرار إلا على ضوء شيء يدوم ويحضر . وهذا ما يحدث حين ينفتح الزمان بأبعاده . وهذا الانفتاح يبين أن ما يحضر ويدوم هو التغير . و ما يبقى ويدوم في هذا التغير , ويحضر كذلك هو أن البشر حوار واحد منذ أن وجد الزمان . ومن ذلك الحين , أي منذ أن وجد الزمان , والإنسان يتحدد على أنه كائن تأريخي . هنا نفهم رغبة هيدغر في أن يطابق  بين الحوار والتأريخية.

ويعود هيدغر هنا إلى ما قاله عن تسمية الآلهة وظهور العالم , ويقول بأن هذا الأمر ارتبط باللحظة التي تأرخت فيها اللغة . لكن تسمية الآلهة وصيرورة العالم إلى كلام يمثلان حدثين متزامنين , وفيهما يتألف الحوار الحقيقي الذي هو الإنسان . وما يجعل الإنسان حوارا , ويجعل من اللغة تأريخا هو أن اللغة نداء الآلهة , وسيكون الكلام الذي يسمي الآلهة دائما جوابا عن هذا النداء . وينبثق هذا الجواب من مصير الإنسان . ولقد بدأ الحوار حين ظهر الزمان , وكان ذلك منذ اللحظة التي هدتنا الآلهة إلى الحوار , أي حين استجاب الإنسان لنداء الآلهة . ومنذ تلك اللحظة أصبح أساس آنية الإنسان هو الحوار . فتمثل اللغة إذن أساس بل الحدث الأساسي في آنية الإنسان . لكن هيدغر ينتهي إلى طرح السؤال : كيف نفسر هذه القضية التي تقول بأن اللغة هي الحدث الأساسي في آنية الإنسان؟ هنا يستدعي هيدغر مقاما شعريا لهولدرلين يقول فيه :
" لكن ما يبقى يؤسسه الشعراء "
في هذا المقام وجد هيدغر ماهية الشعر . فالشعر تأسيس بالكلام وفي الكلام , لكن ما يوضع أساسه هو ما يبقى أي ما يدوم ويحضر . ويجب على الانسان أن يجعل ما يبقى يستقر في وجه التيار وهذا يلزم الانسان بأن يكشف عما يسند الوجود , ويحكمه في مجموعه , وهذا يقتضي أن يكشف عن الوجود لكي ينكشف الموجود . ولكن هيدغر سبق له أن بين لنا أن ما يبقى هو التغير , وينبهنا هنا إلى أن التغير والعابر يرتبطان بما هو سماوي . ولا يعهد بالاهتمام وخدمة ما يبقى إلا إلى الشعراء . فالشاعر يسمي الأشياء بما هي عليه , فهذا إذن ينطق بالكلام الجوهري , فالشعر تأسيس للوجود بواسطة الكلام.
حينما وصل هيدغر إلى هذه النتيجة , فإنه أكد أن الوجود وماهية الأشياء لا يمكن أن ينشأ عن حساب , أو أن يشتقا من الموجود المعطى, فهما يجب أن يعطيا وأن يخلقا ويوضعا في حرية . وهذا الاعطاء الحر هو التأسيس . والتأسيس كما يراه هيدغر هو أن يقيم الشاعر آنية الإنسان ويقرها على قاعدتها . وبهذا تتحدد ماهية الشعر , تلك الماهية التي تجعل منه تأسيسا للوجود بواسطة الكلام . وهذا ما يظهر في قول هولدرلين:
" الانسان غني بمزاياه , ومع ذلك فإنه شعريا
يقيم على الارض "
يتوقف هيدغر عند هذا المقام الشعري ليقول بأن كا ما يصنعه الانسان , وما يسعى إليه , يكتسبه ويستحقه بمجهوده الخاص , لكن هذا لا يتصل بماهية إقامة الانسان على الأرض . ولا يبلغ أعماق آنية الانسان , فهذه الآنية حسب هيدغر , هي في أعماقها وفي أساسها شاعرية . ويستمد الانسان هذه الشاعرية من كونه يسمي الأشياء والآلهة , وهذا العمل في عمقه عمل شعري لأن الشعر هو التسمية التي تؤسس الآلهة وماهية الأشياء . وأن تكون الآنية شاعرية يعني أن تكون هذه الآنيةلعبة. لكن الشعر هو الأساس الذي يسند التأريخ . وأن تكون الآنية شاعرية في أساسها يعني أنها لعب لا ضرر فيه . هنا يتساءل هيدغر : كيف يمكن التوفيق بين كون قرض الشعر هو " أوفر الأعمال حظا من البراءة " وماهية الشعر التي تتفتح أمامنا ؟
لكي يجيب هيدغر عن هذا السؤال ينادي بوجوب البحث في ماهية الشعر وماهية الشاعر في نفس الوقت , بالنسبة لماهية الشعر , يجب البحث عنها في اللغة التي هي الميدان التي يعمل فيها الشعر . فالشعر , حسب هيدغر , ينشئ آثاره في اللغة وأن يبحث الانسان عن ماهية الشعر , فهذا يعني أن يبحث عن ماهية اللغة. ويعتبر الشعر , كما سبقت الاشارة إلى ذلك , تأسيسا بالكلام . وتتحدد مهمة الكلام في أن يضع كل ما هو موجود منذ البداية موضع الكشف , لذلك تتحدد مهمة الشعر في قدرته على أن يجعل اللغة ممكنة . وتبعا لهذا التصور , سيكون الشعر هو اللغة الأولية لشعب ما . ويستنتج هيدغر من هذا التحليل أننا نلزم بأن نفهم ماهية اللغة من ماهية الشعر , وهنا تتشابك العلاقة بين الشعر واللغة والحوار وآنية الإنسان , فآنية الانسان هي الحوار , والحوار يعطي اللغة آنيتها التأريخية الحقيقية , واللغة الأولية هي الشعر باعتباره تأسيسا للوجود.

بهذا المعنى تكون اللغة أخطر النعم , وإذن فالشعر هو أخطر الأعمال . هنا نستنتج ما يتناقض مع المقام الشعري الذي يقول فيه هولدرلين بأن قرض الشعر هو " أوفر الأعمال حظا من البراءة " . لكن هيدغر يرى في الجمع بين هذين الحدثين المتناقضين الماهية الكلية للشعر . وقد يكون هذا الجمع هو ما يعرض الشاعر لصواعق الإله , تلك الصواعق التي تتحدث عنها قصيدة  يعتبرها هيدغر أنقى الأشعار التي تتحدث عن ماهية الشعر . ويقول هولدرلين في هذه القصيدة :
" ومع ذلك , فإنه ينبغي علينا معشر الشعراء
أن نظل واقفين حاسري الرؤوس
وأن نمسك برق الأب بأيدينا
بل الأب نفسه , وأن نقدم للناس
الهبة السماوية ملفوفة في نشيد "
ويقول هولدرلين كذلك " وكما يردد الناس عن الأبطال أستطيع أن أقول أنا أيضا إن أبولون قد سدد لي ضربته " ويعلق هيدغر على هذا المقام الشعري ويقول " فالنور الباهر حين زاد عن حده القى بالشاعر في الظلمات , فهل هناك حاجة إلى شواهد أخرى للإقرار بالخطر الأعظم الذي يكتنف عمله ؟ " ويقدم هيدغر جوابا على هذا التساؤل من خلال مقام شعري لهولدرلين يقول فيه :
" ينبغي أن يرحل في الوقت المناسب
ذلك الذي تحدثت بواسطته الروح "
لكن الذي يقصده هولدرلين هنا , حسب هيدغر هو الشعر الذي يقول عنه بأنه " أوفر الأعمال حظا من البراءة " . وهذا الشعر يجعل ماهية الشعر حسب هذا البيت ينتسب إليها ما هو خارجي . فلكي يقوم الشاعر بعمله , ويحافظ على نفسه , يجب أن يكون الشاعر قد ألقي به خارج الحياة اليومية العادية. فالشعر لعب , لكنه ليس ككل لعب , يراد له أن يشغل الناس عن همومهم , لان ما يحدد وجود هؤلاء الناس هو الهم , فوجود الأنسان هو وجود مهموم , بل هو لعب يجعل الانسان يتمركز حول أساس آنيته : الوجود هنا والآن كوجود مهموم.
يستنتج هيدغر من خلال تحليل هذا المقام الشعري أن  الشعر يوصل الانسان إلى الهدوء اللامتناهي , الذي تنشط فيه كل الطاقات والعلاقات , لذلك يعتبر الشعر خطرا في مواجهة الواقع الصاخب النابض بالحياة . ذلك الواقع الذي نعتقد أنه يشكل سكننا الأليف . وهذا ما يبينه هيدغر حين يستدعي مقاما شعريا لهولدرلين , يقول فيه :
" أن يكون المرء ذاته ... هذه هي الحياة
ولسنا نحن الآخرين – غير حلم بها "
يبين هذا المقام حسب هيدغر أن ماهية الشعر تتحدد في الرسوخ , وهذا يعني أنه لكي يكون الشعر تأسيسا . فهذا يعني أنه يضع قاعدة راسخة وثابتة , ويكون التأسيس , بحسب ما يستنتجه هيدغر هبة حرة , فالتأسيس عطاء حر . وهنا يقف هيدغر على إقرار هولدرلين للحرية كضرورة عليا . ويقول الشاعر : " أيها الشعراء , كونوا أحرار كالسنونو" ويستمد الشاعر حريته من كون الشعر هو تسمية للآلهة . وهنا يكون الكلام الذي يرتبط بتسمية الآلهة مبدأ للحرية الانسانية , وفي هذه الحرية تستقر ماهية الشعر : " قرض الشعر هو التسمية الأصلية للآلهة " ولغة الشعر لا تملك القدرة على التسمية إلا لان الآلهة أنفسهم هم الذين يدفعون إلى الكلام .

ما يضمن أن يكون الشعر تأسيسا بالكلام , وأن يكون التأسيس هبة حرة وتتيح هذه الهبة للإنسان . ليس فقط أن يكون وجوده انبثاقا , بل الأكثر من ذلك أن يكون هذا الانبثاق مشمولا بالحرية , هو أن هذا الكلام هو لغة الآلهة , يقول هولدرلين " الإشارة هي منذ العصور الغابرة لغة الآلهة ". وتكون لغة الشاعر حسب هيدغرتصيد هذه الاشارات , وهو موهبة , تمكن الشاعر بعالم يتحقق . فإذا كان الشعر تأسيسا للوجود فلأنه يرتبط بإشارات الآلهة , ولغة الشعر هي تفسير لصوت الشعب , يقف الشاعر إذن حسب هيدغر , في المنزلة بين المنزلتين, بين الآلهة والشعب . وهذا ما يجعله يوجد في منطقة خارج الآلهة وخارج الشعب .
يوجد الشاعر إذن في منزلة ثالثة حتى يتمكن من سماع صوت الشعب , وتصيد إشارات الآلهة , فالشاعر إذن يوجد في منزلة وسط , وفي هذه المنزلة يتحدد من هو الانسان وتقرر آنيته . وبهذه الكيفية " يقيم الانسان شعريا على هذه الارض " . ولقد اهتم هولدرلين بهذه المنطقة الوسطى , وكرس لها لغته الشعرية , فاستحق بذلك أن يسمى شاعر الشعراء , ومن خلال هذا الموقع كشاعر للشعراء , وكمقيم في منطقة خارج الآلهة وخارج الشعب , تمكن هولدرلين من أن يبلغ أساس الوجود وقلبه , لكن هذه الاقامة لهولدرلين في هذه المنطقة الوسطى لا تعني أن الشاعر يوجد خارج الزمان , بل على العكس من ذلك , يجب أن نعتبر تاسيس ماهية الشعر تحديدا جديدا لزمان جديد هو زمان الآلهة السابقين والإله الذي سيأتي .
ولما يقول هيدغر بأن الشاعر لا يوجد خارج الزمان , فلكي يؤكد على أن ماهية الشعر تنتمي إلى زمان محدد , وسينتبه هيدغر إلى ما يميز الزمان الحالي . فهو زمان التعاسة , لأنه زمان الآلهة الذين اختفوا , والإله الذي لم يأت بعد, ويقصد بذلك آلهة اليونان الذين اختفوا أو تواروا خلف مفاهيم ارسطو التي أصيحت متجاوزة , أما الإله الذي لم يأت, فنجد كلاما عنه مثبوثا في" الوجود والزمان" و " ما الفلسفة " وما "الميتافيزيقا " وكل هذا يجعل هيدغر يصرح بأن ماهية  الشعر التي يؤسسها هيدغر, هي ماهية تأريخية إلى أقصى حد . فهي ماهية تتنبأ بزمان تأريخي , وهذا التنبؤ هو ما يشكل الماهية الجوهرية الوحيدة للشعر.
هذه الماهية التنبؤية للشعر , هي التي تجعل الشاعر يقف بثبات , فيكون هو ذلك المتوحد الأعلى الذي يجعل مصيره الخاص شيئا متفردا , وبذلك يصنع الحقيقة للشعب بأن يمثل هذا الشعب . وهذا ما يقوله هولدرلين في قصيدة " خبز وخمر":
" ومن الضلالة والنعاس
يأتي المدد,
ومن الشقاوة والظلام
يأتي الابد
ومن البطون القاسيات
تأتي البطولة,
تأتي كفاءة الخالدين وفي الرعود
وأنا أفضل ذا النعاس على انفراد وانتظار
من غير اصحاب , فلا ادري ما أقول وما أفعل؟
ماذا يفيد الشعر في الزمن الحقير ؟
فكأنما الشعراء كهان لباخوس العظيم
يتنقلون من البلاد إلى البلاد خلال ليل أقدس ؟


يتناول هيدغر , بطبيعة الحال , ماهية الشعر , كتأسيس لما عجز الفلاسفة عن تأسيسه , لكن في أي سياق؟ وحينما نطرح هذا السؤال , فإننا نستدعي موضوعا شائكا بالنسبة للفلسفة بصفة خاصة , إنه موضوع العصر الحالي الذي ينعته هيدغر بأنه عصر سيادة التقنية , وهو عصر يصفه أدورنو وهوركهايمر بعصر هيمنة العقل الأداتي والحسابي (1) وهو العصر الذي نعاني فيه نوعا من النقص على المستوى الروحي.: " تجتاج إلى زاد روحي " (2) . وما يستطيع أن يزودنا بهذا الزاد هو الاله . وهنا يعلن هيدغر يان العصر الحالي يتميز بغياب الاله. ويقول هيدغر بهذا الصدد : " العالم لا يمكن أن يكون مثلما هو وكما هو بالنسبة للانسان , كما أنه لا يمكن أن يكون بدون الانسان أبدا. وهذا يعود برأيي إلى أن هناك كلمة آتية من البعيد البعيد وحاملة لمعان متعددة وقد فقدت معناها اليوم . وإني أرى جوهر التقنية في ما أسميه ب Ge stell  .. تعني : الانسان يخضع لمراقبة وطلب أوامر قوة تتجلى في جوهر التقنية ولا يتمكن من السيطرة على نفسه بنفسه ..."(3).
إن ما يقصده هيدغر بهذه الكلمة هو الوجود الذي تم نسيانه , والتفكير في الوجود يقتضي أن يتخلص الانسان من هيمنة التقنية وسيادتها , ولا يمكن للفلسفة التي بدأت العلوم تتنكر لها , وتنسى فضلها عليها , لانها تتغدى من الاساس الذي توجد فيه جذور الميتافيزيقا , أن تساعد الانسان على أن يحقق خلاصه من هذه الهيمنة , فتوكل هذه المهمة إلى الشعراء , وبالتحديد الشاعر هولدرلين : " إن هولدرلين ليس بالنسبة لي شاعرا عاديا , يمكن أن تكون اعماله مواضيع بحث بالنسبة لمؤرخي الادب . إنه بالنسبة لي هو الشاعر الذي يشير إلى المستقبل , والذي ينتظر الاله " (4) . وإذا كان هولدرلين يتعلق بالمستقبل , وينتظر الاله , فليس بمقدور الفيلسوف والمفكر أن ينجز هذه المهمة : " لا يمكننا أن ناتي به بواسطة الفكر , نحن نستطيع فقط أن نقوم بمحاولة لايقاظ الرغبة في انتظاره " (5).
إن ما نعاينه مع هيدغر هو نوع من قلب في الادوار , تخلت بموجبه الفلسفة عن مهمتها التاريخية , وهذا ما يشكل من جهة استمرار الفشل الذريع الذي تعرضت له الفلسفة على عهد سقراط وأفلاطون , وهذا ليس موضوع هذه الدراسة , ومن جهة ثانية , فسح المجال للشعر , ليتابع مصير الانسان , في ظل زمان تم فيه نسيان الوجود , وتغيب الآلهة , ويحدث هذا بالرغم من أن هيدغر يعترف بأن الاستجابة لنداء الوجود , تلك الاستجابة التي يصفها بأنها تكون مكشوفة لنداء وجود الموجود , والتي تكون اعتناقا صريحا لهذا النداء . وللوجود هي استجابة الفلسفة , لانها وحدها يمكن أن تتناغم مع صوت النداء , نداء وجود الموجود (6) . وحينما يصبح الشاعر ينتظر الاله , فانه يتناغم مع نداء الوجود ومع صوت النداء . ويحدث التناغم في اللغة لان الاستجابة كلام , فيكون النداء كذلك كلاما . فالذي ينادي والذي يستجيب يشتركان معا في الكلمة , وما يشترك فيه النداء والاستجابة , هو ما تعجز الميتافيزيقا من أن تصل إليه , لان الميتافيزيقا التي فكرت في الموجود , عبر تاريخها , ونسيت الوجود , الذي ظل ينادي منذ بارميندس, دون أن تنصت الى النداء, ودون أن تستجيب لصوته الذي ينادي , ونقصد بذلك الكلمة, فشلت في مهمتها , في ان تجعله يتأرخ بأن ينكشف في النداء الذي سيكون بالكلمة.
إن الكلمة التي يقصدها هيدغر هنا هي الكلمة الالمانية , وبصفة عامة , فهو يقصد اللغة الالمانية , التي يعتبرها هيدغر الوريث الشرعي للغة الاغريقية , ولما فكرت فيه هذه اللغة , إنها وحدها تملك شرعية لكي ترث التراث اليوناني . ولنتامل هذا الكلام لهيدغر : " يبحث الفكر في طاعته لنداء الوجود عن "الكلمة " التي يمكن ان يتم من خلالها التعبير عن حقيقة الوجود . ولا ترن لغة الانسان التاريخي رنينا صادقا إلا حين تولد من "الكلمة" . ولكنها ترن رنينا صادقا , فان شهادة النداء الذي لا صوت له المنبعث من ينابيع خفية يقرر بها دائما . وفكرة الوجود تحرس الكلمة , وتؤدي وظيفتها في ظل هذه الحراسة واعني بها العناية باستخدام اللغة , فمن الصوت الطويل , من التطهير الشديد العناية بالميدان الذي تم تطهيره على هذا النحو تخرج أقوال الفكر . ومن مثل هذا الاصل تتم تسمية الشاعر " (7) . فمن يكون هذا الانسان التاريخي, إذا لم يكن هو الالماني ؟ ومن عساه يكون هذا الشاعر الذي تحمل مسؤولية انتظار اشارة من الالهة لينقذ الانسانية من التيه إذا لم يكن هو الشاعر الالماني ؟ والا لماذا اهتم هيدغر بالشعراء الالمان , وخصوصا هولدرلين وريلك؟
قد تبدو هذه الاسئلة على انها نوع من الادعاء , أو نوعا من تزوير الحقائق , وقد تعتبر بالنسبة للبعض على انها مجانبة للصواب بالنسبة لعدد هائل من الباحثين والمفكرين الذين لا يخفون اعجابهم بهيدغر , ويزكون هذا الاعجاب باهتماماتهم وكتاباتهم , فنرى أن محاضرة تترجم مرات عديدة , ومقالات تتناسل حول فكر الفيلسوف , فلا يصدر عدد من مجلة الا وتتضمن مقالا او مقالين حول هيدغر , وتنال كتاباته حول الشعر نصيب الاسد . فهؤلاء لا يقبلون كلاما اعلن فيه بان كون هيدغر قد اهتم بالشعر , لم يكن يتم عن رغبة في الحديث عن ماهية الشعر بذاتها وفي ذاتها , بل توجد وراء هذا الاهتمام نزوعات عنصرية , وفي الحالة الاخرى فلماذا يقترن كلام هيدغر عن الحقيقة بالتيه؟ وما هو التيه؟
كتب هيدغر وهو يتحدث عن ماهية الحقيقة , يقول : " إن التيه يسيطر على الانسان من حيث يدفعه إلى أن يضل , ولكن بالضلال يسهم التيه أيضا في إيجاد تلك الامكانيةالتي يستطيع الانسان استخراجها من وجوده المنفتح والمتمثلة في عدم السقوط في قبضة الضلال , فهو لن يختنق فيها إذا كان قادرا على معاناة التيه كما هو , وعلى سر التعرف على سر الدزاين"(8) . هذا هو التيه , كما يجب أن يعيشه الانسان, وأن يكابده , ولكي لا يتعلق الامر هنا بالانسان بالمطلق , بل يقصد اصلا الانسان الالماني , لانه هو وحده الانسان الميتافيزيقي, والوحيد الذي يستطيع أن يعاني الضلال , ويستخرج منه تلك الامكانية التي يمكن ان تنقده من الضلال نفسه , ولانه وحده يوجد في التيه.
" إن شعبا الموجود في الوسط , يخضع لأعنف ضغط ممارس عليه من طرف  الكماشة. فهذا الشعب المتوفر على أكبر عدد من الجيران , هو ايضا الاكثر عرضة للخطر , أضف إلى ذلك انه بمثابة الشعب الميتافيزيقي {...} , وإذا ما نحن اردنا الا يندثر القرارالعظيم المتعلق باروبا , فإنه يتعين بالضبط أن يتحقق هذا القرار بانتشار قوى روحية جديدة , مندفعة الى الامام , ومنبثقة من هذا الفكر "(9).
يوجد الشعب الالماني تائها بين امكانيتين : ان يتبنى الماركسية اللينينية , وينخرط في المشروع التقدمي الاشتراكي , أو ان ينساق مع المشروع الليبرالي الذي هيمن على اوربا الغربية ولكن على وجه الخصوص في الولايات المتحدة الامريكية التي استفادت من الوضع الذي خلقته مجموعة من الازمات التي تركت اوربا الغربية بكاملها تعيش في التيه , الذي الزمها بالبحث عن مخرج يكون بمثابة نموذج , وبالخصوص الحرب العالمية الأولى. إن الامر يتعلق هنا بوضع عام , كان موضوع نقاش السياسيين ورجال الفكر في تلك المرحلة , وانخرط فيه هيدغر بدوره , لكن من خلال دعوته الى ان تبحث اوربا الغربية عن النمودج الخاص بها , ولو كان ذلك عبر قفزة تؤدي من التيه الى التيه , لانها بمثابة مغامرة , لكن هذه المرة ليست مغامرة من اجل الحياة  او الموت , كما عند هيجل , بل مغامرة بالموجود من اجل الوجود , واذا كان الموجود يتعلق بالنموذج السوفياتي والامريكي , فان الوجود سيكون ارحب , لانه يوجد فيما وراء الموجود , اي في الهاوية , حيث يمكن ان توجد امكانيات , تسمح بانبثاق الموجود , بصفته يمثل نحوا من انحاء الوجود طالما ان " الوجود يدرك على انحاء شتى " , يجب اذن , على الشعب الميتافيزيقي ان يستجيب لنداء جوهريته , او للوجود الجوهري , وهو نداء وصوت ينادي من الهاوية , او هو الهاوية نفسها , لكي يبحث عن امكانيته الخاصة به, لكن لكي تحصل القفزة يحتاج الانسان الجوهري او الوجود الجوهري الى قوة تحركه , وتدفعه الى الهاوية , وهي التي يقول عنها هيدغر بأنها قوة روحية , وهي الآلهة التي يتصيد هولدرلين اشارات من كلامها .
لكن ينبغي الا نغفل نوع التطابق الذي نجده حاصلا بين هذا الموقف الذي عبر عنه راعي الوجود , وسياسة هتلر . ومن يتأمل "كفاحي" (10) , فسيجد ان هتلر يمثل الامكانية التي يمكن ان تنبثق من الوجود الذي يوجد في الهاوية : " نحن الذين نريد تكريم المفكرين, رغم ان مقامنا يوجد وسط العالم , لا يمكن ان نمنع انفسنا من الاقرار بالطابع المدهش , وربما الفاضح لواقع كون افلاطون كما هيدغر , قد لجا الى المستبدين والديكتاتوريين حينما انخرطا في الشؤون الانسانية "(11). ربما لن يكون هذا الكلام في المسنوى الذي سيسمح بالتقاط اشارة واضحة , تدل على النزوعات العنصرية لهيدغر , لذلك فلن يكون هذا الكلام اكثر اقناعا بالنسبة للذين يتشبتون بضرورة ان نفصل بين العمل الفكري والالتزام السياسي للفيلسوف , وهم يستندون في ذلك الى ما يسمونه بالمنعطف الهايدغري . لكن هل يحتاج هؤلاء الى ان نقول لهم هذا الكلام لبوفري : " من الواضح ان هيدغر اعتقد سنه 1933 بان المانيا ستحقق انبعاثا جديدا مع النازية وستستمر هذه الاوهام حتى بداية سنة 1934 , وهي الفترة التي سيستقيل فيها من وظيفة رئيس الجامعة التي طلب منه زملاؤه بالاجماع مزاولتها في ماي 1933"(12)؟
1
سيرد المترجمون على عادتهم., ولانهم اكثر دراية باللغة , بانه ليس الانبعاث كالانبثاق , وقد يتبادلون الاتهامات , وهم يعرفون اسطورة الطائر الذي ينبعث من الرماد الذي يرمز الى الموت , كما سيتفنن بعضهم في تناول كلمة انبثاق , وسيبحثون على عادتهم للكلمتين على ترجمات تحصيلية , وتاويلية وتاصيلية , وسيردون ذلك كله الى المنعطف الهايدغري , الذي يجب على كل من يقرا هيدغر ان ينتبه اليه , ليجعل منه مشجبا يعلق عليه اعجابه بفيلسوف عرض خدماته على هتلر لكن هذا الاخير , ومن موقفه كسياسي , رفض هذه الخدمات , فرمى بهيدغر الى المعارضة " فقد قال هابرماس : " لم توجد انتلخيسيا فاشية باعتبارها كذلك , لسبب بسيط هو ان ضعف الموظفين النازيين المكلفين بالتاطير لم يهيئهم لقبول عروض الخدمات التي قدمها المثقفون , علما بان المفكرين الذين تتطابق تيماتهم وعقليتهم مع مثل الفاشية , كانوا موجودين {...} لقد كانت القوة حاضرة , لكن غياب الادارة لدى الطاقم السياسي , دفع بها الى المعارضة  " وبصيغة اخرى,  فإن هيدغر عرض نفسه على هتلر , لكن هذا الاخير , وبسبب ضعفه , رفض هذا العرض , وبالتالي دفع بهيدغر الى المعارضة " (13).
وفي تقديري الشخصي , يعتبر المترجمون , وكتاب افتتاحيات ومقدمات اغلب ( ان لم اقل اقل كل ) محاولات الترجمة , هذا الانتقال الى المعارضة منعطفا , ولانهم قد تأثروا بالفيلسوف الذي ليس في الواقع سوى راعي الوجود , وبمنهجيته في تفكيك الكلمات , والبحث عن اشتقاق الكلمات , واستخراج معانيها , وعن التقارب الذي يوجد بين معاني الالفاظ باعتبارها عناصر تقود الى الاصل والى النقاء والوجود الخالص , فان ما يجهلونه هو اصل كلمة المنعطف في اللغة العربية , واذا ملأ هيدغر دنياهم وشغلهم عن الاهتمام بالبحث عن اصل الكلمات التي يترجمون اليها , وينقلون اليها اهتمامات هيدغر التي يضعونها في ابحاثهم , فان فيلسوفهم يتولى هذه المهمة نيابة عنهم حين يصرح بأن " الامتياز الوطني الممنوح للالمان , هذه "الانسانية " القادرة على أن " تحقق تاريخيا العدمية المطلقة " , لم يتاثر بتاتا بهذا الوضع لان ذلك هو ما يشكل "تفرد" الوطنية الاشتراكية , في حين "ان السلطات النازية ظلت بمعنى ما , منمطة في أبهتها الناسية للوجود "(14) . ويمكن من الألمان وحدهم, لكن على شرط ان يكتشفوا ويحافظوا على الجرمانية , ان ينبثق الوعي الحاسم بالنسبة  للتاريخ الكوني "(15).
يكشف هذا الكلام عن عمق المنعطف الهيدغري , فلأن هتلر لم يقبل بخدماته , واكتفى بان يحيط نفسه بسياج , يتكون من موظفين ومؤطرين في غاية الضعف من الناحية الفكرية , والتكوين السياسي, فقد انسحب من العمل السياسي . لكنه وبالنظر الى ايمانه الراسخ بالقومية الجرمانية , ويقيم المانيا قومية , فقد بقي وفيا لما يسميه الالمان بروح الشعب . وهي تلك الروح التي ورثها هايدغر عن جده هيجل , مع اختلاف في المواقع والازمنة , وهي روح اوربا التي اراد هيجل ان يضم اليها شمال افريقيا ما دامت اوربا هي الاصل الذي يمكن ان نرجع اليه كل شيء. وتظهر هذه الروح في هذا الكلام : " ففي سنة 1953 نشر هايدغر درس 1935, وعنوانه "مدخل الى الميتافيزيقا " . وكطالب منبهر ...بمؤلف "الوجود والزمان" سأصاب بصدمة اثناء قراءتي لهذا الدرس المنغمس في الفاشية , حتى في ادق تفاصيله الاسلوبية . و...ما صدمني اكثر , هو كون هيدغر نشر دون تعليق درسا ألقي سنة 1935, بحيث يبدو وان النص لم يطرأ عليه اي تغيير , بل ان المقدمة ذاتها لم تكن تتضمن اي تلميح للاحداث التي وقعت في ما بعد . لذلك وجهت الى هيدغر السؤال التالي :" هل يمكننا تاويل القتل الممنهج لملايين الناس الذين اصبحنا نعرف عنهم اليوم الكثير , وكأن الامر يتعلق بخطإ من وجهة نظر تاريخ الوجود المفهوم كمصير ؟ الا يعتبر ذلك جريمة فعلية بالنسبة لاولئك الذين ارتكبوها بكل مسؤولية ووعيا رديئا بالنسبة لشعب برمته "(16).
أقر صاحب هذا الكلام بان هيدغر قد لزم الصمت بشأن هذا السؤال, وحاول بعض الموالين له ان يقدموا اجابة نيابة عنه , والتي لم تكن مقنعة حتى بالنسبة لهيدغر نفسه, الذي سيؤكد هذا الكلام في ما بعد . وهو ما يبين ان هيدغر قد ظل سجين الفكر النازي , وسجين فكرة الشعب الالماني الذي يصفه بانه الشعب الميتافيزيقي طالما انه وحده الشعب الذي توكل اليه مهمة التفكير في مصير العلم , ولانه وحده يحمل هم الانسان , وان يعاني فكر الوجود, وان يفكر في المصير . لكن فشله سيعممه على الفلسفة بصفة عامة . إن الفيلسوف لا يقدر على انجاز المهمة التاريخية التي تتطلبها المرحلة : أن يقبل هتلر خدمات المفكرين , لذلك تلمس هيدغر , في إطار هذه القفزة الى الهاوية طريق الآلهة , الذين ستوكل اليهم مهمة اقناع هتلر بضرورة ان يتخلى عن موظفيه وعن مؤطري القومية الاشتراكية بسبب ضعفهم , وينصت بدلا من ذلك , الى نداءات هايدغر الذي سينصح لهتلر بان يتخلى عن مشروعه السياسي , كما صاغه في السجن , ويقفز الى التيه والى الهاوية.
لقد كانت حنا اردنت حقا على صواب , حينما ابدت ملاحظاتها حول موقف افلاطون وهيدغر. ليس لان الفيلسوفين قد عرضا خدماتهما على الديكتاتوريين فحسب , بل لانهما , الاكثر من ذلك فشلا في مساعهما, ومع ذلك يجب ان نلاحظ انه توجد فروق , قد تبدو مهمة في عناصر التحليل , في مقدمتها كون افلاطون قد افرد فصلا كاملا من كتاب الجمهورية لنقد الفكر الديكتاتوري , وان افلاطون قد حاول ان يدخل غمار الانتخابات , قبل ان يعرض خدماته على الديكتاتور, ولم يكن ذلك الا ما يعبر عن فشل الفيلسوف في الممارسة السياسية , ويجب ان ينتظر سنوات وربما قرونا في انتظار ما سيجود به النظام التربوي الذي حدد افلاطون في الكتاب خطوطه العامة . ولم يكن هذا النظام التربوي الا تطبيقا سابقا لاوانه  للفكرة اللينينية , : " خطوة الى الوراء من اجل خطوتين الى الامام " , والتي لم تكن بدورها الا انعكاسا مباشرا للخط الذي رسمه سقراط  لما رفض الفرار للتخلص من عقوبة الاعدام احتراما للقوانين السائدة , وعلينا ان ننتظر اللحظة التي نرى فيها افكارنا قد طبقت وتجسدت في الواقع : " لا اقصد من خلال ما قلته ان على الانسان ان ينتظر ثلاثمائة عام لكي تكون له فكرة واضحة حول مسالة ما . ولكني اعتقد انه من خلال الخطوط العامة للحاضر يمكننا أن نفكر في المستقبل دون اية ادعاءات تنبؤية. ان نفكر لا يعني اننا لا نفعل شيئا "(17).
ولأنه يتعين على الفيلسوف ان ينتظر سنوات وقرونا , ولانه مستعجل في امره , ويريد فعلا عاجلا , فقد استنجد الفيلسوف بالاله الغائب , ولأنه غائب, فوجب ان نوجه له نداءات حتى يلبي النداء , ويحضر لكي ينقذ الفيلسوف من ورطته, ويخرجه من الأزمة التي " يكابدها" وهو يتحمل هم العصر الحالي لاوربا بصفة عامة . ولالمانيا على وجه الخصوص , وجب ان يكون الكلام شاعريا , ويكون للشعراء , والشعراء الالمانيين بطبيعة الحال , لانهم وحدهم يفهمون اشارات الآلهة , ووحدهم يستطيعون نظم شعر يؤثر في الإله الغائب , ويعجلون , بلغتهم , بمجيئ الاله , لكي يفرج عن المانيا كربتها , ويدفعها إلى التيه والضلال , وينير طريقها لتبحث عن نموذج تقترحه على اوربا , وتسود وتهيمن به على العالم , ولا افهم السبب الذي جعل هيدغر يرمي بالمانيا الى الهاوية والى التيه , لتغامر بشجاعة تمكنها من ان تبحث عن نمودج خاص باروبا خصوصا اذا كان هذا النمودج موجودا في اوربا , وقد وجده نيتشه الذ ي  يشيد هيدغر باعماله, في فرنسا.
ولنتأمل بهذا الصدد هذا الكلام الذي يشيد باعمال المفكرين والادباء الفرنسيين الذين اتهمهم هيدغر بالقصور اللغوي , لانه , بحسب ما يتصوره لا يقدرون على ان يتفلسفوا خارج اللغة الالمانية , وذلك في سياق نقذه للفكرة التي اشاعها المفكرون والفلاسفة الالمان حول انتصار الثقافة الالمانية , وكونها قد تفوقت  بعد ان خرجت منتصرة في حربها مع فرنسا , يقول هذا الفيلسوف "إن اكبر انتصار هو اكبر خطر" (18) . ويتابع كلامه ويقول: " قبل كل شيء حينما نقول بان الصراع بين حضارتين , فيس لدينا الا معيار نسبي , نحكم به على قيمة الحضارة المنتصرة , ولن تكون لهذه للحضارة بالضرورة فرصة لتبتهج عاليا , او تمنح لنفسها كل صفات الاوج , ويجب ان نعرف قيمة الحضارة المنهزمة." (19) وما يريد ان ينتهي اليه نيتشه بهذا الكلام هو كون الحضارة الفرنسية , بالرغم من كونها قد انهزمت , فقد حافظت على وجودها واستمرارها , وضمنت لنفسها وجودا مستقلا , في الوقت الذي ظلت فيه الحضارة الالمانية تابعة , وحينما نعود الى الفيلسوف هيدغر , فسنجده يؤكد هذه التبعية , دون ان يشعر بذلك , فهو يعتبر المانيا تلك الحضارة التي  يجب عليها , بتوظيفها للشجاعة , وللانسان التاريخي , الذي يتأرخ , كما يتصورهما هايدغر , ان ترث التراث اليوناني , وتكمن التبعية , حسب هيدغر دائما , في ان الالمانيين يعتنقون مبادئ غير ممحصة, وهي المبادئ التي ورثتها ألمانيا عن أرسطو.
لا بد ان نقف هنا على ملاحظتين : الاولى هي انني كنت قد انتبهت الى النزوعات العنصرية لهيدغر ايام كنت اتابع دراستي في سلك التبريز , وفاتحت بعض زملائي في الامر , ونبهوني الى ضرورة التخلي عن هذه الفكرة , والثانية , عندما قررت ان اخوض في هذه التجربة , وانا اعرف انني اسبح ضد تيار عام , يهول , حسب تقديري , من قيمة هذا الفيلسوف , نصحني البعض بضرورة  اعادة قراءة هيدغر , وبينما كنت احاول ذلك استوقفني هذا الكلام :"إن كلمة فيلوسوفيا تبدو كما لو كانت مكتوبة على شهادة ميلاد الحقبة المعاصرة من تاريخنا العالم "(20) وليس  هذا فحسب , بل الاخطر من ذلك , اننا نجد لدى هيدغر هذه العبارة , التي تكشف عن رغبة الفيلسوف في ان تصبح المانيا سيدة العالم . فهو يقول بلغته " فعبارة فلسفة هي في جوهرها يونانية لا تقول شيئا سوى ان الغرب واوربا وحدهما فلسفيان اصلا في مجراهما التاريخي الباطن . ويشهد على ذلك نشاة العلوم وسيادتها , لان العلوم لم تنبثق الا من اعماق المجرى التاريخي للغرب الوربي , اي من المجرى الفلسفي , لذلك ففي مقدورها اليوم ان تطبع تاريخ الانسان على وجه الارض الفلسفي بطابع خاص مميز" (21) . وفي الاخير : لقد سبق لي ان اشرت في مناسبة الى خطورة بعض مواقفنا اتجاه المفكرين الغربيين , وهي اننا نحاول قدر الامكان , ونبذل كل ما في وسعنا لننفي عنهم ما يتشبتون به هم انفسهم  ويؤكدون هذا التشبت.
* اعتمدنا هنا اساسا على سلسلة " النصوص الفلسفية" ج II . وهي نصوص لهايدغر خصوصا نص "هولدرلين وماهية الشعر" ترجمة فؤاد كامل. مراجعة وتقديم عبد الرحمان بدوي . دار الطباعة والنشر القاهرة 1974 ط II .
1) ادغار موران: " من اجل عقل متفتح " ترجمة محمد سبيلا, " تساؤلات في الفكر المعاصر" دار الامان للنشر والتوزيع 1987.
2) ينسب هذا الكلام لهوتري برغسون.
3) حوار مع هيادغر, المجلة الالمانية" دير شبيغل" شتنبر 1966, ترجمة حسونة المصباحي , العرب والفكر العالمي ع 4 خريف 1988 ص
4) حوار مع هايدغر (المرجع نفسه) ص
5) حوار مع هايدغر (المرجع نفسه) ص
6) هايدغر "العودة الى اساس الميتافيزيقا", ترجمة محمود رجب, "سلسلة النصوص الفلسفية"  ط2 ج 2 ص 72.
7) هايدغر: "حاشية" ترجمة فؤاد كامل, "سلسلة النصوص الفلسفية" ط 2 ج 2 ص 136.

8) يورغن هابرماس: "هايدغر والنازية: التاويل الفلسفي والالتزام السياسي" ترجمة عز الدين الخطابي وعبد الكريم غريب, منشورات عالم التربية ط1 2005 ص 27.
9) يوغن هابرماس : المرجع نفسه ص 2.
10) ادولف هتلر: " كفاحي" كتاب اصدره هتلر من السجن, قدم فيه وعودا للطبقة العاملة والبورجوازية الالمانية , وهو المشروع الذي اوصل هتلر الى الحكم.
11) يورغن هابرماس:  نفس المرجع ص 6.
12) هابرماس : نفس المرجع ص 10.

13) يورغن هايرماس : نفس المرجع ص 42.
14) يورغن هايرماس : نفس المرجع ص 35.
15) يورغن هايرماس : نفس المرجع ص 32.
16) يورغن هايرماس : نفس المرجع

17) حوار مع هايدغر : سبق ذكره ص 17
18) F.Nietzsche    : Considérations inqctuelles I et II .nrf            
Callimard : traduction francaise 1990 p19             
19) : op.cite p20        F.Niezsche
20)  هايدغر : " ما الفلسفة ؟ " سلسلة النصوص الفاسفية , ترجمة محمود رجب ص55
21)  هايدغر : " ما الفلسفة ؟ " نفس المرجع ص ص 5-55

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟