في جدوى الفلسفة ـ حسن أوزال

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

espace-sature-4“الويل للمفكر الذي بدل أن يغدو بستاني نباتاته، بقي مجرد تربة لها” نتشه
لعل ما يشهده حقلنا الفكري والفلسفي اليوم، من حركة غريبة في مجال النشر، تتمثل في صدور سلسلة من الكتب، بين الفينة والأخرى، بعناوين تلفت النظر من قبيل :“فقه الفلسفة” أو “بلاغة الفلسفة”؛ هو ما اضطرنا إلى استعادة سؤال التفلسف وما تكونه الفلسفة؟ بل وما جدوى الفلسفة ؟إذ، كيف يمكننا، والحالة هاته أن نقبل بكل ارتياح المزاوجة مابين الفلسفة و الفقه حينا،و البلاغة أحيانا أخرى؟ وهل يمكن للفلسفة أن تضحى فقها وأن تكون بلاغة؟ هل بوسع الفكر أن ينقلب إلى خطاب محض لغوي، يتأرجح ما بين الفقه والبلاغة دونما صلة بالواقع، ولا بالعالم المحسوس الذي هو منبث المفاهيم الفلسفية ؟وهل بوسع المفاهيم أن تمكث في غياهب المجرد وتندرج في ثنايا القواميس اللغوية المثالية، أم أنها بالأحرى ذات علاقة وطيدة بالواقع و لها صلة متينة بالفيلسوف وإكراهات معيشه؟ صحيح“ أن الفلسفة هي فن تكوين وإبداع وصنع المفاهيم”(1) لكن المفاهيم مشروطة بعالم محسوس وتفترض لغة واقعية وعالما ممكنا يمنحها الصلابة و قوة التحقق .
من ثمة يستعصي بنظرنا الربط ما بين الفلسفة والفقه أو البلاغة لا لشيء إلا لأن منطق الفقه و البلاغة منطق أبعد مايكون عن منطق الفلسفة . ذلك أن الفلسفة كما أكد كبار الفلاسفة إبداع و خلق للمفاهيم التي هي منغرسة في التاريخ أما الفقه أو البلاغة فمجرد صراعات بزنطية لا صلة لها بالإبداع و لا علاقة لها بالفن، أكثر مما لها صلة بالأحكام الشرعية و مقتضيات الأمر و النهي.

لا شك ،إذن، أن البلاغة إذ تتقاطع مع الفقه حد التشابه و التداخل، فليس إلا تبريرا للإعجاز و دفاعا عن المتعالي، أي ذلك الكائن العمودي الضارب في الإمبريالية و التسلط ؛ وهما جراء ذلك يدخلان في المجال الديني و ينتسبان إلى اللاهوت، خلافا للفلسفة التي تنتصر للمحايثة و الصداقة نازعة إلى منح الكينونة بعدا ماديا و إعطاء الفكر صورة .

من ثمة شتان مابين الفيلسوف و الفقيه . إذ كلما سعى الأول إلى إجراء نوع من الإنزياح في مجال الحكمة واضعا الفكر في خدمة المحايثة المحضة، كلما سعى الثاني إلى إحلال الكلام الفقهي محل اللغوس و البيان النبوي محل المنطق الفلسفي. لكن إذا كانت “المحايثة هي المحك المحرق لكل فلسفة”(2)،فذلك هو ما جعل الفلسفة، فلسفات بالجمع، تتميز هي بدورها بحسب ما تشرَّبَتْهُ من نفحة تيولوجية وإعادة إدخال المتعالي أو بمدى تَمَنُّعها للماورائيات و تَشَبُّتها بالأرض.

على هذا النحو يحق لنا التحفظ من التحديد الدولوزي الذي بموجبه تغدو الفلسفة إبداعا للمفاهيم،لا لشيء إلا لأن هذا التحديد قد يجعلنا نُسَوِّي كليا بين الفلاسفة جميعا دونما أدنى تمييز،منتصرين بالتالي،و حتى عن غير قصد، لـنزعة “واقعية الأفكار”“realisme des idées” ؛التي بمقتضاها تحل الأفكار محل الوقائع الحقيقية،فتضحى معيارا للوجود و مقياسا للحكم على المايحدث، تماما مثلما كان يرى هيجل أن “الفكرة هي مبدعة الواقع،بينما الواقع هو مجرد الصورة الظاهرية للفكرة”. و مما لا شك فيه أن البنيوية هي التي جسدت كتيار فلسفي، هذا النزوع بامتياز،فراحت تضرب عرض الحائط كل ما ينطوي تحت اسم السيرة الذاتية،سواء كان رسائلا أو مذكرات،تاريخا حميميا أو اعترافات،فلم تُبْق من كل ذلك إلا على النص الجاف باعتباره النص المقدس الذي وحده يكفي لفهم فيلسوف معين دونما أدنى حاجة لاستدعاء حياته أو ما يتصل بأثره المادي.
وإذا كان الهاجس الكبير بالنسبة لنظير هذه الفلسفات الطوباوية هو إرادة الحقيقة،فإن الإستقامة الفكرية حتى لا أقول النزاهة،هي التي جعلت فيلسوفا من عيار نتشه يضع الفلسفة أمام رهان مفارق هو :“الإعتراف باللا-حقيقة كشرط للحياة”. ذلك أن نتشه الذي صاغ هذه الفكرة في كتابه ماوراء الخير و الشر،هو من استطاع تجاوز العدمية مانحا الفلسفة أفقا جديدا يقتضي منها:ألا تسعى وراء الكشف عن حقائق بل أن تبدع قيما مُحَفِّزَةً للحياة. هكذا مضى صاحب جنيالوجيا الأخلاق، سابرا أغوار التاريخ الفلسفي، الموسوم بادعاء الموضوعية و التزام الحياد،حد فضحه لتلك العلاقة الخطيرة، التي صارت تربط الفلاسفة بالحقيقة، بحيث شرعت تحضى فيه هذه الأخيرة لا بالإحتارم و التمجيد،فحسب، إنما بالتقديس أيضا. لكن ألا يحيد هذا النزوع التقديسي للحيقيقة، عن مسلك الموضوعية المزوعومة نظريا؟ألا تنطوي التصورات الفلسفية على رغبات فزيولوجية و صراعات سيكولوجية،لا مجال بمعيتها للحديث عن النزاهة ؟ و“لنفترض أننا نريد الحقيقة:فَلِمَ لا نريد بالأحرى اللا-حقيقة؟و اللايقين؟لِمَ لا نريد حتى الجهل؟”(3).

إلى هذا الحد،يذهب نتشه،مفككا خلفيات المذاهب الفلسفية،موضحا أنها تقوم على نوع من التوافق المسبق واللاشعوري، على مواقف ثابتة وأساسية من قبيل:كرهها للمحسوس،بغضها للجسد و حقدها الدفين على الصيرورة و المختلف. ذلك، أن كل فلسفة إنْ كانت في الأصل،هي ما يقوم على اختيارات،وقناعات تشرُط عملية التفكير، فهذه الاختيارت، ذاتها سرعان ما تنتقل من المستوى النظري، لتتحول إلى قيم تُعَبِّر عن الشروط الخاصة بنمط من أنماط العيش، يكون المراد منها إنما هو تحديد ما يكون مفيدا و ضروريا أو خلاف ذلك،مايكون مضرا. مما يعني، أنها على ذات النحو،إنما تغدو مولدة لمنظومة قيمية،تُتَّخذ مرجعا و قانونا منظما لحياة البشر. بناء عليه يتجلى أن كل نسق فكري،أو مذهب نظري،هو في الحقيقة فهم عملي و تفسير ذاتي للواقع على أساس اختيارات أخلاقية قبلية. وعليه فـ“الحقيقة هي هذا النوع من الوهم الذي بدونه يستحيل لبعض من الكائنات الحية أن تحيا” يؤكد نتشه، منبها من عواقب الإعتقاد بها، لأن خلف إرادة الحقيقة يقبع سم “إرادة الموت” .
ولعل، هذا السم الذي أودى بحياة الحكيم سقراط، هو ما يستدعي منا كل الحيطة و الحذر،حتى لا، يلتبس علينا الأمر، و يمتزج لدينا الواقعي بالإفتراضي،الهنا بالهناك،الأرض بالسماء،البحر باليابسة، العقل بالجنون، الجد بالهزل،الفقر بالغنى، لنغرق في ورطة أشبه ما تكون بورطة سجناء كهف أفلاطون. بحيث يضحى كل منا مُكبَّلا،وغير قادر على أن يرى من الحقيقة إلا الظل. لماذا؟ لأن العواطف و الأحاسيس، بحسب أفلاطون، تضللنا، ويلزمنا من ثمة التخلص من إكراهاتها حالما أردنا بلوغ الصفاء و إدراك حقيقة عالم المثل.

جراء هذا التصور، وعلى أنقاض هذا النهج الجدلي، انولدت عبر تاريخ الفكر الفلسفي، سلسلة من المفاهيم المجردة، التي يمكننا اعتبار مفهوم الخير الأفلاطوني أساسها،سيما و أنه، حتى عندما يدعي بعض الفلاسفة المثاليين، تجاوزهم للميتافزيقا، فَهُم لا يبرحون قط القاعدة الأفلاطونية،التي ترنو إلى ملاقاة المطلق، والتقاطع مع الكلي أو الله و لِمَ لا نقول العدم. بناء عليه، فالنتائج لا تتغير مثلما المقاصد تظل هي نفسها، مهما استعضنا عن مفهوم الخير الأفلاطوني بمفهوم النومين الكانطي، أو بالفكرة المطلقة “l’Idée” لهيجل . لامراء، إذن أن المفاهيم وحدها إن كانت لا تكفي لتحديد فعل التفلسف بنظرنا،فذلك ليس إلا لأن النسق الفلسفي،كيفما كان، مرهون بحياة صاحبه، مادام، من ناحية أولى، أن كل فكر، كما سبق لنتشه أن أكد “هو نتاج تأويل للجسد، بل قل هو سوء فهم له أيضا”، ومادام من ناحية ثانية، أن الجسد هو :“العقل الأكبر،وسيد الأنا التي تنفث المفاهيم”. لذلك، فبدل تجار الماورائيات، الذين مافتئوا يُرَوِّجون للروحانيات و المثل في كل المجالات، سواء منها الفكرية أو الفنية أو السياسية، راغبين في نزع الطابع المادي عن الواقع، قاصدين اختزاله مفاهيميا و نومينيا، مصرين على تفكيكه كليا حتى يغرق في العدمية، ثمة فلاسفة و فنانون يحتفون بالجسد الحقيقي، الجسد الشهواني والحسي،المادي والظاهري . فلاسفة يشيدون بالحياة و لايكلون يعترفون بأنهم من لحم ودم، كما من جلد وعروق، ومن عضلات وأعصبة...

يتضح ما نحن بصدده عندما نستحضر من جهة أولى ،“واحد”بارمنيدس و “مُثُل”أفلاطون، “مقولات” أرسطو و“متعاليات” توما الأكويني،“سلاسل” ليبنتز و“نومين” كانط،“افتراضات” فتجنشتاين و“الوجود هنا” لهيدجر ؛لنقابلها، من جهة ثانية بألم الرواقيين و طمأنينة الأبيقوريين،مرض مونتيني بالكلية والبنت المفقودة لديكارت،قلق باسكال وبارانويا روسو،سيفليس نتشه وبشاعة سارتر،بُغض البشر لشوبنهاوروالتهميش الجنسي الذي عاناه فوكو أوعياء دولوز. والملاحظ أن الأوائل إن كانوا، ينطوون على رغبة دفينة في إقصاء الواقع، انتصارا لتصور مثالي يحبدونه وفكرة مجردة ينحازون إليها، فالآخرون ينمون عن آهات أناس بحاجة للعيش بحواس حية. نحن إذن أمام فلسفتين إثنتين: فلسفة متعالية، تتنكر لمعالم كل حياة فلسفية لا لشيء إلا لأنها لا تنسجم و أخلاق الزهد الدينية، وفلسفة محايثة، ترى أن التفلسف نشاط عبره نفكر في حياتنا و نحيا أفكارنا.
وبقدرما تنتصرالأولى للماهية و الماوراء بقدرما هي الثانية ممجدة للحواس و متشبثة بالهنا . الفلسفة المتعالية تنزع إلى مثلنة الحياة بيد أن فلسفة المحايثة تروم خلع الطابع المادي على الحياة. وإذا كانت الأفكار بالنسبة للأولى تشتغل لذاتها بمعزل عن العالم فهي بالنسبة للثانية نتاج إكراهات وجودية، إن لم نقل أنها على حد تعبير نتشه “نشاط غريزي” activités instinctives و “ضرورة فزيولوجية”éxigences physiologiques. الفلسفة إذن، قبل أن تكون إبداعا للمفاهيم فهي نمط وجود، وقبل أن تكون رزنامة أفكار فهي أسلوب حياة. ههنا يتضح لنا الفرق شاسعا، والهوة كبيرة، بين أولئك الذين يتعاطون الفلسفة من أجل الفلسفة، كما لو كانت لعب أطفال لا يلزمهم بأي شيء و أولئك الذين يعيشون كل فكرة فكرة تماما كما لو كانت حدثا بحد ذاته، لِما لها من أثر على مساراتهم و انعكاسات على وجودهم . يتعارض الطرفان تعارض هيجل و كيجور،أو أفلاطون و ديمقريطس، بحيث أن هيجل مثلا هو نموذج الإنسان المؤمن بالعقل المجرد، والصانع للأنساق بينما كيجور هو نموذج المفكر المهووس بإمكانية الفعل، و الفيلسوف المشغول بفن العيش . الأول يعيش مِنَ الفلسفةِ بينما الثاني يعيش الفلسفةَ . تبعا لذلك وعلى أنقاض الطرح الأول،إذن انولدت الفلسفة المثالية و التي كانت الأفلاطونية نسختها الأصلية، بامتياز مقابل الفلسفة المتعوية التي ظلت مهمَّشة وعاشت لقرون طويلة، طي النسيان. ولئن كانت الأولى تنهج نهجا، موسوما بكره تام للجسد* الذي يتغدى ويتنفس، يمرض ويصح،يحس و يتذوق، يرى ويسمع، يتكلم وينصت، فذلك ليس إلا لأنها تقدس الجسد النوميني، أي الجسد المفاهيمي المجرد، البدون مادة و لا رائحة. والحال أنها بذلك،إنما تخشى الجسد الظاهراتي، باعتباره جسد واقعي يمتزج فيه اللون بالرائحة، و الوهن بالقوة و يبدو على قسماته الأصل الطبقي و الإنتماء البشري، لتنتصرَ لاستعارة الكهف، حيث تنفلتُ الحقيقة، جراء زيف التمثلات الحسية و قيام التعارض مابين عالمين:عالم الظلام الدامس و عالم الضوء و النور. الأول بطبيعة الحال رمز الحياة الحالية بينما الثاني أفق غيبي منتظر، فيه تنبجس الأسرار و تتحقق الإرادات بنظر صاحب نظرية المثل.

عالم الظلام هو عالم ترتبط فيه الروح بالجسد المدنس، وتكبل فيه التصورات بالأحاسيس بينما عالم النور هو كناية عن لحظة حاسمة يتخلص فيها الفيلسوف بحسب سقراط، من الحواس و الرغبة، لأنها دوما تحرمنا من إعمال الفكر*. سيرا وراء هذا النهج يتبدى أن النقمة على الجسد مشمولة بحقد دفين للحواس؛حقد يتجلى أكثر ما يتجلى،عند ثلة من الفلاسفة، الذين ظلوا على سبيل المثال، يسجلون تحفظا كبيرا من العطر،رابطين إياه بالمجون و الفسق و الفساد. “فإذا كان مثلا أريستبوس القورينائي باعتباره متعوي النزوع، يعشق الرائحة الزكية فإن سقراط و أفلاطون يعتبرانها علامة مميزة للواطيين”(4)؛ وعلى مقاس رأي صاحب الجمهورية، “كان أهل إسبارطة يرون كذلك أن العطور رمز للفساد و الإنحطاط . بل إن أجمل عطور أسيا، إذا ما صدقنا ما أورده”جان غرونيي“،كانت محط شبهة بالنسبة للهيللينية القديمة”(5).
فلا عجب إذن في أن نجد ضمن مزدردي الشم كل أولئك الممتهنين للإيمان، سواء كانوا مثاليين أو روحانيين، رجال دين أو لاهوت . لكن ما لا يستوعبه هؤلاء إنما هو أن “الإعتقاد شيء بينما الواقع شيء آخر. الأول يؤدي إلى العبودية بيد أن الثاني يستحيل دونما حرية”(6) وعليه، بوسعنا القول بأن نزوعهم التحقيري للأنف، نزوع رجعي، لأنه ينطوي على نوع من التمنع عن فهم العالم حينما يغدو أبخرة، وروائح ؛بل لنقل أنهم من حيث كونهم، لا يجرؤون على مواجهته إما جراء الخوف الذي يطبق عليهم أو التقاليد التي يستحمون في مياهها العفنة، صاروا من حيث لا يدركون، يقلصون فرصة تواجدهم في الكون، ومقدرتهم على الإستلذاذ . ليس هذا فحسب، بل إننا، نلفي عند كانط، (الأنتربولوجيا من وجهة نظر براغماتية **) أيضا، نوعا من التراتبية مابين الحواس، على إثرها يفضل حاسة النظر بينما يرى أن حاسة الشم أقل شأنا من بين الحواس الخمس كلها . إن لائحة الحواس تنقسم، بالنسبة إليه إلى قسمين : قسم الحواس الموضوعية و التي هي اللمس و السمع ثم النظر،وقسم الحواس الذاتية التي هي الشم و الذوق . و يبرر تقسيمه هذا بالتأكيد على أن الذوق والشم حاستين ذاتيتين لأن التمثل الحاصل بفضلهما هو تمثل استلذاذي بالأشياء الخارجية أكثر منه معرفي . إن كانط يعلق أنفراي “يتصور أننا ندرك جيدا حتى لانقول نعرف جيدا، بالقياس إلى مقولات الفيلسوف، ندرك جيدا صحن سمك الغادس الذي كان يفضله، بالإنصات إليه و النظر فيه أو لمسه أكثر مما ندركه بأكله و تذوقه”(7).

ولعل الحط من قدر وقيمة حاسة الشم و اعتبارها أقل يقينا من حاسة النظر لا يعدو أن يكون مجرد افتراض محض يلجأ إليه كانط كعادته و ليس يقوم على أدنى تحليل جدير بأن يدعى كذلك . وسيرا وراء هذا الدرب يسترسل كانط مفترضا على أن الفهم l’entendement هو مَن يَحْكُم بينما الإحساس تابع، ثم يصرح “بأن اللمس هو الحاسة الوحيدة للإدراك الخارجي المباشر”(8). والحالة هاته، فلابد من القول بأن ما يغيب عن المنظور الكانطي، إنما هو عدم استيعابه أن الرائحة مادة، خلافا تماما، للقدامى و على رأسهم ديمقريطس الذي كان يرى أن المادة لها ثلاثة أبعاد : طاقي و ديناميكي ثم انتشاري . وعليه فالرائحة قابلة للإدراك تماما مثلما الشكل و اللون، إذ تجيء، قبل أن تلتقطها أنوفنا،على شكل جزيئات مادية، منتشرة على نحو حر في الهواء . الحاصل فضلا عما سلف أن كانط من فرط انبهاره بالمثال الأعلى الزهدي، هو من كان يعتقد أن الإنسان الذي يفكر لا يحس بينما الإنسان الذي يحس لا يفكر. بل هو من يذهب أفظع من ذلك حد التوكيد على أننا “نصبح كائنات أكثر إنسانية بحسبه، بقدرما نتخلص من الحواس و كل ماهو محسوس”(9).

فضلا عن ذلك، يصل الأمر بفيلسوف الأنوار حد بغضه للسود، لا لشيء إلا للرائحة المنبعثة، منهم، و التي يجد أنها رائحة مقززة خلافا لتلك التي تنبعث من البيض . ولربما ههنا يتمظهر الشر الجدري لدى بعض عمال الفلسفة و الذين ينزعون إلى إفراغ الناس من إنسيتهم و إحلال التراتبيات محل العدل و العلاقات العمودية محل العلاقات الأفقية والإستبداد بدل الحرية و الفقر بدل الغنى والغباء بدل المتعة. نقول الغباء،تيمنا بتعريف رائع لألبير كامي مفاده أن الإنسان الغبي إنما هو الذي يجهل معنى الإستلذاذ . إنه الكائن الحامل للأثقال و المكبل بالإيديولوجيا و المسجون بالتيولوجيا . و أمام هكذا حال، يتبدى الدور المنوط بالفلسفة، وهو دور مافتئ كبار الفلاسفة يؤكدون على أنه يتجلى أكثر ما يتجلى في ما تبدعه من إمكانات عيش جديدة كما في قدرتها على جعلنا نقاوم الغباء والشعبوية . فالفلسفة آلة حربية و أسلوب للمقاومة يمكننا من إخضاع الواقع للإرادة و تحويل الضرورة إلى حرية وجعل كل منا سيد نفسه، خارج الترسيمات القطيعية و اللاهوتية، التي تعمل جاهدة على أسرنا . لكن ذلك كله يكاد يستحيل دونما تَحَلِّينا بما يدعوه نتشه بالحكمة التراجيدية، باعتبارها الحكمة التي جعلت منه فيلسوفا متعويا، عرف بالرغم من كل شيء، وبفضلها، كيف يبني ذاته، و كيف ينفلت من تلك الوضعيات الإجتماعية و السياسية التي تقتل فينا إرادة الحياة . الفلسفة إذن على هذا النحو، منظور وجودي، يُيَسِّر لنا اتخاذ وجهات واعدة بالحرية، ننفلت معها من العدمية و رياح التيوقراطية . لكن ذلك،يستحيل إذا لم ننسلخ عن التقليد الفلسفي المهيمن،ذلك الذي قال عنه “وايتهايد” ذات مرة أنه مجرد ركام من الملاحظات التي تمت إضافتها للنص الأفلاطوني ليس إلا.

الهوامش:
(1) جيل دولوز-فليكس غتاري،ماهي الفلسفة،ترجمة ومراجعة وتقديم مطاع صفدي و فريق مركز الإنماء القومي،ط. 1،1997،مركز الإنماء القومي –المركز الثقافي العربي،ص. 28.
(2) نفسه،ص. 64.
(3) نتشه،ماوراء الخير والشر،الجزء الأول،الشدرة 1،ترجمة باتريك فوتلينغ،طبعة فلاماريون 2000.
*ألم يكن أفلاطون بعبارته الشهيرة:“إن الجسد هو قبر روحنا” يرى أن الجسد هو أكبر معرقل للفكر والحكمة التي لن نبلغ مدارجها إلا بعد الموت؟( للمزيد من التوضيح نورد النص التالي من محاورة فيدون، لأفلاطون،وهو يدور بين سقراط و سيمياس):
- سقراط : وعندما يتعلق الأمر باكتساب العلم،هل يكون الجسد عائقا أم لا،حالما نشركه في هذا المسعى؟ سأضرب لك مثالا للتوضيح: هل تمنح حاستي النظر و السمع للناس،بعضا من اليقين؛أم الحقيقة كما يردد الشعراء باستمرار،هي أننا بالتأكيد،لا نرى و لا نسمع أي شيء؟ والحال،أن هاتين الحاستين الجسديتين، إن كانتا غير يقينيتين و غير موتوق بهما،فما أدراك بالحواس الأخرى؛مادامت كلها أدنى من هاتين الحاستين. أليس هذا هو رأيك؟
- بلى،هو نفسه بالتمام،يقول “سيمياس”.
- متى إذن، يتساءل سقراط،تصل الروح إلى الحقيقة؟ وعلى ما يظهر،فهي كلما انخرطت في نوع من البحث (عن الحقيقة يقصد) بصحبة الجسد،سرعان ما يوقعها هذا الأخير في الخطأ.
- صحيح (. . . ).
- تبعا لكل تلك الإعتبارات،يضيف سقراط،وجب على الفلاسفة الحقيقيين،أن يفكروا و أن يقروا فيما بينهم بأمور من قبيل: إن الموت على ما يبدو،هوأقصر الطرق لبلوغ الهذف،مادام أننا لن نلوذ أبدا،و على نحو تام،بما نرغب فيه، على الرغم من تردادنا بأن موضوع رغبتنا هو الحقيقة،طالما بقي الجسد يشارك العقل على طول مسعانا هذا؛مما يدنس روحنا بفعل هذا الداء. ذلك أن الجسد يسبب لنا آلاف المشاكل، ملزما إيانا على إشباعه،مما يولد سلسلة من الأمراض،لا نستطيع التخلص منها واقعيا. فالجسد بقدرما يملأنا بالأهواء و الرغبات، كما بالمخاوف و ضروب كثيرة من الأوهام،وكدا بما لا يعد و يحصى من الغباء، يحرمنا حقا و فعليا من كل إمكانية إعمال للفكر. (. . . )فنحن على ما يتضح لا نلوذ بالحكمة التي نرغب فيه و نخال أننا نحبها،إلا بعد الموت. (. . . )أما الوسيلة المثلى للإقتراب من المعرفة،طالما أننا أحياء،فهي بنظري ما يقتضي منا، أن نقطع، قدر المستطاع،كل صلة أو علاقة لنا بالجسد،أخدا بعين الإعتبار لتلك الحالات المستعصية،وذلك حتى نبقى أبدا،في منئا عن كل دنس،و نظل أطهارا من ردائل الجسد، في انتظار أن يخلصنا الله منه. إننا عندما نغدو أطهارا،على نحو ما ذكرنا،متخلصين من جنون الجسد،سوف نضحى حقا على صلة بالأشياء الطاهرة مثلما سوف ندرك بأنفسنا كل ما يكون صافيا؛فهاهنا بالضبط يتجلى الحق،لأن المدنس ليس مسموحا له، أن يرقى إلى مدارك الطاهر. هذا بحسباني،“سيمياس”ما ينبغي لأصدقاء المعرفة الحقيقيين أن يفكروا فيه و أن يتداولوه. ألست متفقا معي؟
(4)ميشال أنفراي،فن المتعة،من أجل نزعة مادية متعوية،منشورات غراسي-فاسكيل،1991،ص. 99.
(5)نفسه،ص. 99.
(6)كريشنامورتي،ثورة الصمت،كتاب الجيب، 1970،ص. 208.
**Emmanuel Kant,Anthropologie d’un point de vue pragmatique,trad. Joseph Tissot ,la bibliothéque libre,§XVI :Autre division des sens.
(7)ميشال أنفراي،فن المتعة،ص. 101.
(8)نفسه . ص. 102.
(9)نفسه،ص. 121.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟