في سياق قراءته للحقل الفلسفي والعلمي والإبستمولوجي (المعرفي) المعاصر، يقر الفيلسوف الفرنسي إدغار موران بهيمنة منظومة التبسيط والاختزال إلى الوحدات الأولية لمختلف الحقول المعرفية كالذرة في الفيزياء، والخلية في علوم الحياة، والتركيب (Structure) في قواعد اللغة على أساس أن الوحدة غير قابلة للتفكيك، ووحدها القابلة للضبط والقياس، فقامت منظومة التبسيط بتنظيم الكون عن طريق اختزاله في كيانات وجواهر مغلقة وثابتة، عذرية وخالدة، لا تعرف التناقض والاختلال. وبذلك شكلت لاوعي الفكر الغربي، وحكمت نظرياته وخطاباته.
إن منظومة التبسيط باختيارها ذاك النظام، والعذرية، والثبات، والخلود، والأصل، والهوية، والاستمرارية، قامت بحرب تاريخية وتجاهل هائل لأسئلة لا يجاب عنها بصدد التحوّل، والفوضى، والتجدد، والخلق، والتعقد، والصدفة، والاختلال، واللانهائي، واللايقيني. إن كبح تلك الأسئلة يُعقّد من فهم ومعرفة أدق للعالم والكون بعد الاكتشافات الفيزيائية لكوانتوم الطاقة وللأنظمة المختلة والعلوم النسقية عموماً، التي تتطلب أدوات وأطراً ينظمها الفكر المركب القادر على تمثل الوجه الجديد لعالم دينامي، صدفوي، متنوع، ومتحول، ولا نهائي. إن مهمة الفكر المركب هي تغيير هوية العالم الذي ارتكز فهمنا له على منجزات العلم الكلاسيكي.
يكمن التغيير المنشود في أدوات فهمنا للعالم التي تميزت بأنها مقطّعة ومفصولة في الفيزياء والبيولوجيا والكيمياء وعلم الاجتماع والآداب والإبستمولوجيا.
إن الفكر المركب هو جملة هذه العلوم والمباحث، وقد توحدت في أفق ومشروع واحد هو أفق التعقيد، وإن الفكر المركب يؤمن بإمكانية تجميع المتعدد وتوحيده، وهدفه تفجير المباحث وضمها داخل أفق مركب جديد.
الفكر المركب يتطلع إلى معرفة متعددة الأبعاد، وإن إحدى مسلمات التعقيد هي استحالة المعرفة الكاملة، وإن ذلك يتضمن الاعتراف بمبدأ اللااكتمال واللايقين.
الفكر المركب يحيا بتوتر دائم بين التطلع إلى معرفة غير مجزأة وغير مقطعة وغير مختزنة وبين الاعتراف بنقصان وعدم اكتمال كل معرفة. قال موران:
"حرك هذا التوتر حياتي كلها، لم أستطع أن أستسلم أبداً للمعرفة المجزأة ولا أن أعزل موضوعاً للبحث عن سياقه ومقدماته وصيرورته. تطلعت دائماً إلى فكر متعدد الأبعاد. شعرت دوماً أن حقائق عميقة ينافس بعضها البعض كانت بالنسبة لي متكاملة من دون أن تتوقف عن أن تكون متصارعة".
يتساءل موران: ما هو التعقيد؟ فيجيب: إنه نسيج (Complexus) من مكونات متنافرة مجمعة بشكل يتعذر معه التفريق بينها. إنه يطرح مفارقة الواحد والمتعدد. كما أن التعقيد نسيج من الأحداث والأفعال والتفاعلات والارتدادات والتحديدات والمصادفات التي تشكل عالمنا الظاهراني، لكنه يحمل بشكل مقلق سمات الخليط وغير قابل للفصل والاختلال والغموض واللايقين. من ثمة، تظهر ضرورة تنظيم المعرفة للظواهر بمركب الاختلال، وإزاحة اللايقين، والغموض للوصول إلى التوضيح والتمييز والترتيب.
إن تطور العلم الفيزيائي الحديث أفضى إلى تعقيد الواقع، فبدلاً من البساطة الفيزيائية والمنطقية المفترضة، تمّ اكتشاف التعقيد المايكروفيزيائي في أقصى حدوده: فالذرة ليست الحجرة الأولى، بل هي تجمع لمكونات عديدة معقدة غير قابلة للتمثل.
كما أن الكون سيرورة في طور التفكك والتنظيم في آن واحد. إننا ما زلنا في العصر البربري في فكرنا المشوه والناقص، والفكر المركب وحده الذي سيمكننا من تحضير معرفتنا. كان جورج لوكاش يقول في شيخوخته: "يجب تصور المركب كعنصر أولي موجود"، ويستنتج من ذلك، أنه يجب أولاً معالجة المركب بوصفه مركباً، ثم الانتقال إلى عناصره وسيرورته الأولية.
النسق تجميع تركيبي لعناصر مختلفة، ولا يمكن فهم النسق إلا بتضحية المحيط الذي هو، بالنسبة له، حميمي وغريب في آن، ويشكل جزءاً منه مع كونه خارجاً عنه، وأن نتمثل كل موضوع وكيان بوصفهما نسقين مغلقين، يفضي إلى رؤية للعالم تصنيفية وتحليلية واختزالية وسببية وخطية وهذه الرؤية قد هيمنت داخل الفيزياء من القرن السابع عشر إلى القرن التاسع عشر. ويرى موران أن الواقع هو في آن الرابط والفاصل بين النسق المفتوح ومحيطه، وهذا الرابط هو حتماً أساسي جداً على المستويات الإبستمولجية والمنهجية والنظرية والإمبريقية. منطقياً، لا يمكن فهم النسق إلا بتضمينه المحيط الذي هو بالنسبة له حميمي وغريب في آن، ويشكل جزءاً منه مع كونه خارجاً عنه.
يورد موران مثلاً من العلوم الإنسانية وهو علم الاقتصاد، وهو يقوم على الحساب، وهذا العلم الدقيق يواجه مشاكل في تنبؤاته ونماذجه التفسيرية. إن علم الاقتصاد تتداخل فيه عوامل اجتماعيه ونفسية وسياسية... الخ، وعزله عن محيطه يقلل من معرفته، إلا إذا تبنينا فكراً علائقياً. إننا في حاجة إلى فكر يربط ويؤطّر المعلومات ويضعها في سياقها ويربط هذا السياق بأنظمته الكبرى.
يرى موران في التعقيد ظاهرة كمية للتفاعلات والتداخلات بين عدد كبير من الوحدات، كما هو الحال في الخلية، والذرة، حيث تشتمل الواحدة على عدد من اللايقينيات واللاتحديدات والظواهر الصدفوية.
إن التعقيد هو ذاته اللايقين، وهذا تضاد الحتمية في العلم الكلاسيكي. بفضل تطور علم الفلك على المستوى الماكروفيزيائي والمايكروفيزيائي، نعرف أننا نحمل في أجسامنا جزيئات يرجع تاريخها إلى الثواني الأولى من ميلاد الكون، فكياننا المادي يحمل ذرات من الكربون تكونت في قلب نجوم سابقة على شمس منظومتنا، إننا نحمل في داخلنا الخلايا الحية الأولى لظهور الحياة على الكوكب الأرضي.
ظهر التعقيد في العلم الحديث، ذلك أن المايكروفيزياء لم تفتح الطريق أمام علاقة مركبة بين الملاحظ والملحوظ فحسب، ولكن أيضاً على مقولة مركبة ومضللة جداً، وهي الجزئية الأولية التي تقدم نفسها للملاحظ تارة كموجة، وتارة كجسيم. إن للتعقيد دائماً صلة بالصدفة، إنه اللايقين بعينه المترسخ داخل الأنساق المنظمة بشكل ثريّ، إنه مرتبط بنوع من الخليط العميق بين الاستقرار والاختلال.
يضع موران الذات والموضوع في علاقة تبادل وثيق، ولا وجود لموضوع إلا بالموازاة مع ذات (تلاحِظ، تَعزل، تَعرف، تُفكر). إن نمط تفكيرنا يقصي الواحد بواسطة الآخر. لقد تمّ شق طريقنا من جهة بواسطة الماكروفيزياء، حيث أصبحت الذات والموضوع متعالقين، لكنهما غير ملائمين لبعضهما البعض. وإذا انطلق المرء من ذاته المفكرة من أجل العثور على أصلها، فإنه يعثر على مجتمعه وعلى تاريخ هذا الموضوع داخل تطور البشرية، وعلى الإنسان المنظم بذاته في علاقته مع محيطه. وبناء على ذلك، يوجد العالم داخل فكرنا الذي يوجد داخل العالم.
ولكي نفهم مشكلة التعقيد، يجب أن نعلم أن هناك منظومة خاصة بالبساطة، وهي منظومة تقوم بتنظيم الكون بإقصاء الاختلال من داخله، وهنا يتم اختزال النظام في قانون ومبدأ معينين. إن البساطة ترى إما الواحد وإما المتعدد، ولكنها لا ترى أن الواحد قد يكون في الوقت ذاته متعدداً. لنأخذ الإنسان مثالاً، فهو كائن بيولوجي، وهو في الوقت ذاته ثقافي يعيش داخل كون من اللغة والأفكار والوعي.
لقد كانت مهمة المعرفة العلمية مدعومة بهذه الإرادة في التبسيط، وهي الكشف عن البساطة المختفية وراء التعددية الظاهرة والاختلال الظاهر للظواهر.
اعتقد العلماء أن الجزيئة هي الوحدة الأولية، ثم تبين أنها عبارة عن نسق معقد جداً يتعذر عزلها عن محيطها، إضافة لذلك تبين انبعاث الاختلال داخل الكون الفيزيائي، وأن ما تدعوه الحرارة هي في الواقع إثارة فوضوية لجزيئات أو لذرات. فعند تسخين الماء تبدأ الجزيئات في التزوبع لتتبخر وتتشتت.
إن التطور يؤدي إلى نشوء أنواع في الطبيعة وموتها... وإن التبدد والاختلال يتعاقبان بشكل ما مع أن كل واحد عدوّ للآخر. قال هيراقليطس: "إننا نحيا بواسطة الموت، ونموت بواسطة الحياة".
"إننا نحيا بموت خلايانا، تماماً كما يحيا مجتمع بموت أفراده".
إن الفكر المركب لا يرفض إطلاقاً الوضوح والثبات والحتمية، إلا أنه يعلم أنها غير كافية، وهو دوماً يُذكِّرُنا: "لا تنسى أن الواقع متحول، وأن بإمكان الجديد أن ينبعث، وأن علينا أن نتذكر أنواع الخراب التي أحدثتها الرؤى التبسيطية". فكثير من المعاناة التي يخضع لها ملايين البشر سببها المفكر المقطع والأحادي البعد.
وعلينا أن نفهم أن اللايقين والمحتمل يشكلان جزءاً صحيحاً من حياة كل واحد منا منذ ولادته، فلا أحد يعرف مسبقاً الأمراض التي ستصيبه أو مصيره في الحياة، وهل سيكون زواجه سعيداً أم غير ذلك، إنه يعرف أنه سيموت لا محالة، ولكنه لا يعرف تاريخ موته.
إن تاريخ الحياة قام على المصادفة واللامؤكد والمفاجئ، وإننا نرى أن الفعل لا ينتهي إلى قصده الأول، بل غالباً ما ينحرف عنه ويخون هدفه الأول، وأن كل قرار هو نوع من المراهنة.
من هنا يقر موران ما قاله شاعرنا العظيم محمد مهدي الجواهري:
"إنا رهائن دنيا لا قرار لها لا السمع يدرك معناها ولا البصر"
وختاماً، أود أن أشير إلى أن كتاب موران يؤكد لنا أن جملة معارفنا البشرية السائدة مشوهة ومبتورة ومنتقصة، وإننا حيث نعتقد أننا امتلكنا الحقيقة نكون في أحسن الأحوال، قد اقتربنا منها لتبتعد عنا، وما محاولاتنا السابقة في تبسيط الظواهر إلا عين الزيغ والضلال.
زياد الترتير
خبير تربوي، محاضر في علوم اللغة والفلسفة
الهوامش
موران، إدغار (2004). الفكر والمستقبل/مدخل إلى الفكر المركب. ترجمة: أحمد القصوار ومنير الحجوجي. الدار البيضاء-المغرب: دار توبقال للنشر.