" في الثقافة الأخلاقية، لابد من السعي في سن مبكرة إلى تمكين الطفل من تصورات للحسن أو القبيح. وإذا أردنا تأسيس الخلقية ينبغي تجنب العقاب. فالخلقية هي أمر في غاية القداسة والسمو..."1[1]
قد لا تحتاج الثقافة إلى التذكير بشكل مستمر بفائدتها بالنسبة إلى الأفراد والجماعات، فأهميتها في تربية النوع وتطوير المجتمعات وتقدم الدول وتحضر الشعوب لا تزال قائمة في كل مكان ومحل اتفاق وقبول.
لم تكن الثقافة في حركة مد وجزر مع الجانب الطبيعي قصد إدخال الإضافات والتنقيحات التي تصل إلى حد التغييرات المفيدة والإصلاحات النافعة فحسب وإنما فاق مستواها كل ذلك نحو بناء المشاريع وإنتاج المعنى وتفجير الثورات وتأسيس المدنية واختراع التقنيات واكتشاف المجهول واستكمال الوجود البشري.
وإذا كان أولا لكل ثقافة خصوصيتها ومنطلقاتها ومنابتها فإن تجذرها في موروث مادي وارتباطها بتقاليد محمولة من الماضي وانشدادها إلى ذاكرة جماعية قد يؤدي إلى انغلاقها على ذاتها وتحوطها بسور تراثها. وإذا كان ثانية لكل ثقافة محاور كونية ونقاط مضيئة وإبداعات عالمية فإن إشعاعها على الآخرين وإفادتها المتواضعة للكون وخدمتها للإنسانية قد تتحول إلى موطن ضعف وسيتسبب في ذوبانها وضياع في العالم.
لم تغادر الثقافة في معناها اللغوي الطبيعة فهي تفيد زراعة الأرض وتسويتها وتهذيب الطبع بالتسلح بالوعي والتثقيف هي حركة يؤديها المرء ويكتسب بها المرء التربية والذوق والحكم ولكنها تتحول إلى حالة يستقر عندها السلوك وكيفية تتأقلم بها العاطفة مع مستلزمات الإرادة وقوانين المجتمع والواجب.
بيد أن الاستعمالات العلمية للثقافة جعلها ترتبط بالتربية بواسطة الكلي وتتنزل ضمن دوائر الروح العلمية والواقعية السياسية والنظريات النقدية للمجتمع والدين والاقتصاد وتوثق صلاتها مع تقدم التقنية الصناعية.
ماهو المفهوم النسقي للثقافة ؟ ومن يحدد الهدف الكامل من التثقيف؟ هل ثمة طريقة لتحقيق هذا الهدف؟
يميز عمونيال كانط بين العام والخاص في تحديد مفهوم الثقافة رابطا إياها بالتربية والتفكير والخلقية. من جهة أولى تهتم الثقافة العامة بتكوين القوى الذهنية والعقلية للإنسان وتنشد الإتقان والمهارة وتنقسم إلى بعد مادي يركز على الانضباط والتمرين وتشترط حسن التقبل والامتثال إلى التوجيهات دون الحاجة إلى معرفة مبادئ المعارف والعلوم والى بعد أخلاقي يؤسس السلوك البشري على الاقتداء بالمثل العليا والمبادئ الحسنة والشخصيات النموذجية ويبتعد عن منطق التهديد والإكراه والتعسف والعقوبة ويعتمد على نشاط المرء الحر ودافعيته نحو الخير واستنتاجه الخاص لمبادئ الفعل والواجب وليس على تقبله وامتثاله للأوامر. من جهة ثانية تحضر الثقافة الخاصة القوى العقلية والملكات الذهنية الباطنية وتنمي قدراتها على الإحساس والتقدير البصري والتخيل والتذكر والتصور والانتباه والهزل والتسلية والحلم.
كما توسع من قدرات القوى العقلية العليا على الفهم والاستدلال وتدفع الفاهمة والحكم والعقل إلى توليد المعارف بصورية ذاتية والتفكير فيما يحدث وتحاول تجنيبها الشرود والتكرار والمماحكة والحفظ الآلي .
تحرص الثقافة الخاصة على توظيف الشعور باللذة أو الألم من أجل تمتع المرء بالترفيه دون الوقوع في الميوعة ولكي يقوي المرء إمكانيات الصبر لديه بالمران والمكابدة والتحلي بالشجاعة دون قهر الإرادة.
تجنب الثقافة وقوع المرء في انعدام الكياسة واللاّإجتماعية وتطهره من مشاعر الحقد والغيرة المرضية والكسل والكذب والوقاحة والتهور والخنوع والعصيان والتوسل والاستجداء والخبث والانقياد والميوعة واللاّخلقية التي تستوجب الردع والتأديب واستعمال العقوبات السلبية وتقوية الإحساس بالكرامة والشرف والصدق في القول والاجتماعية والتأنسن وفرح الاستمتاع بالحياة وخلق المقاومة الطبيعية للاجترار2[2].
في الحقبة المعاصرة أعاد أدغار موران تعريف المسألة الثقافية ضمن إطار ما سماه بالأنسنة الثقافية مبينا أن الثقافة هي أعظم انبثاق يتصل بالمجتمع البشري وبأنها التراث المنظم الذي يتصل بالذاكرة الجماعية والموروث الجيني وأنها تضم داخلها عنصرين هما: - رأسمال معرفي وتقني ويتعلق بالمعارف والقواعد والممارسات والمهارات، - رأسمال ميثولوجي وطقوسي يخص المعتقدات والممنوعات والقيم والمعايير3[3]. على هذا الأساس تحتوي كل ثقافة على شبكة رمزية ومادية مركبة ومتشابكة وتحوز على لغة خاصة بها تسمح بتسجيل الموروث واستذكاره ونقل المعارف والتواصل بين الذوات والمجموعات ولذلك فهي تبعث للحياة في كل زمن يتشكل فيه جيل جديد وتعمل على تغذية هويته. تبعا لذلك " تفرض الثقافة نظامها المنظم على التكاثر البيولوجي وتنشئ قواعد الحياة المشتركة من خلال ذلك النظام"4[4].
غير أن الثقافة تتميز بالطابع المزدوج فهي خصوصية ومغلقة من ناحية ولكنها كونية ومفتوحة من ناحية أخرى وتعمل على إنتاج عالم روحاني مليء بالأساطير والرمزيات ولكنها تساهم في تشكل الابتكارات التقنية وتمنح الشكل والمعيار إلى الأفراد لكي يندمجوا في وجود اجتماعي يتمتع بالتنظيم الذاتي والتجدد.
حينما يتم تأهيل المجتمع ثقافيا فإنه يكتسب هوية مميزة ويبدأ في التفتح والنماء والازدهار وتشتغل فيه آليات الحوارية بين أفراده والتكاملية بين اندفاعاته وآماله من جهة وقدراته وتصوراته ومنجزاته من جهة أخرى وتتشكل مقاومة تآزرية تعمل على درء المخاطر وصون تماسكه واستمراره والتأقلم مع العصر.
لكن ماهو المحصنات التي يجب أن تتوفر حتى لا تفقد الثقافة هويتها عند كل انفتاح ولا تسقط في تمركز عند كل انغلاق؟ وهل من تعارض بين حركة الابداع عن طريق التوليد الذاتي والنواة السردية المنظمة؟
الاحالات والهوامش:
[1] كانط (عمونيال)، تأملات في التربية، ضمن ثلاثة نصوص، تعريب وتعليق محمد بن جماعة ، دار محمد علي الحامي للنشر، صفاقس ، تونس، طبعة أولى ، 2005.ص.59.
[2] كانط (عمونيال)، تأملات في التربية، مرجع مذكور، صص.52-55(بتصرف).
[3] موران (أدغار)، النهج، إنسانية البشرية، الهوية البشرية، ترجمة هناء صبحي، كلمة ، أبو ظبي، طبعة أولى 2009،ص193.
[4] موران (أدغار)، النهج، إنسانية البشرية، الهوية البشرية، مرجع مذكور،ص200.
المصادر والمراجع:
كانط (عمونيال)، تأملات في التربية، ضمن ثلاثة نصوص، تعريب وتعليق محمد بن جماعة ، دار محمد علي الحامي للنشر، صفاقس ، تونس، طبعة أولى ، 2005.
موران (أدغار)، النهج، إنسانية البشرية، الهوية البشرية، ترجمة هناء صبحي، كلمة ، أبو ظبي، طبعة أولى 2009،
كاتب فلسفي