ا- توضيحان أساسيان و قناعة:
أ- التوضيح الأول:
يتعلق الأمر بالالتباس الذي قد يستشعره البعض أمام تصنيفنا لبورديو فيلسوفا في الوقت الذي اشتهر فيه سوسيولوجيا لامعا. وهنا نشير إلى الهزة العنيفة التي عرفتها الفلسفة في القرن العشرين و بالضبط بعد سارتر، إذ بات من العسير التمييز بين الفيلسوف و المؤرخ و الناقد الأدبي و الأنتروبولوجي و عالم النفس و السوسيولوجي... و إلا ففي أية خانة نضع ميشيل فوكو و جيل دولوز و فيليكس غاتاري و رولان بارت و بيير بورديو... و معظم الفلاسفة المعاصرين...إننا نجدهم في كل الحقول السابقة.
ب- التوضيح الثاني:
يتعلق الأمر بالمعنى الذي نعطيه ل"الفلسفة الإنسانية" ضمن هذا العرض. فهي فلسفة عقلانية و موقف تقدمي في الحياة (progressive lifstance). بعيدا عن المافوق- طبيعي، تعلن قدرتنا نحن معشر البشر على سلك حياة أخلاقية ذات معنى، حياة قادرة على إضافة خير للإنسانية.
وبإعلانها كرامة كل كائن إنساني قيمة قصوى، فإن النزعة الإنسانية تأخذ على عاتقها إعلان الحريات الفردية و المسؤولية الاجتماعية، بل و الكونية إلى أقصى درجة ممكنة. إنها بهذا
المعنى عمل من أجل الديمقراطية و حقوق الإنسان و العدالة الاجتماعية...و الحب...و الخير و الجمال...، و كل ما من شانه أن يرفع من منسوب إنسانية الإنسان.
إن النزعة الإنسانية بهذا المعنى الذي نقصده أسلوب حياة و نمط وجود.
ج- قناعة:
يتعلق الأمر بقناعة باتت راسخة بعد مشوار طويل يناهز الأربعة عقود مع الفلسفة و السوسيولوجيا مفادها ان الأولى هي فن إبداع المفاهيم و التورّط بها، أي الارتطام بها بالعالم و قضاياه الشائكة. و القارئ المتفحص و "المتفلسف" لأعمال الفلاسفة العظام لن يجد عسرا في "تذوق" هذا المعنى الذي نعطيه للفلسفة ضمن هذا العرض. فمع نيتشه نجد أنفسنا أمام جهاز مفاهيمي خاص، و مع جيل دولوز ( الذي استلهمنا منه قناعتنا) يبهر القارئ بجهاز مفاهيمي باذخ و غاية في إسماعنا ما لم نألف سماعه، و جعل معان ترفرف فوق رؤوسنا ما كان لها لتفعل و ما كان لنا أن "نستمتع" بها لولا مطرقة "المفهوم". و فلسفة غادامير ترسانة مفاهيمية غاية في الإنسانية و الجمالية و العقلانية.
أما ماكس فيبر، فهو المشهور بجهازه المفاهيمي الرائع الذي بات يستلهم ضمن حقول معرفية متعددة.
و أما بيير بورديو ( موضوع مداخلتنا)، فيمكن النظر إلى مشواره الحافل الخلاق كورشة لا متوقفة لنحت و إبداع المفاهيم و التورط بها.
اا- نماذج من مفاهيم بورديو الخالدة:
*تذكير:
لنستحضر كون روح الفلسفة الإنسانية هو القيم و إنسانية الإنسان.
* ملاحظة:
غزارة إبداع بورديو للمفاهيم باذخة، إلى الحد الذي يجعل من العسير حصرها، و ممّا له الكثير من المعنى في هذا السياق أن يجد القارئ اليوم معاجم خاصة بهذه المفاهيم اشتغل عليها
أصحابها- ربما لسنين-. كما لا يمكن إغفال انتقالها (مفاهيم بورديو) الجارف إلى معظم لغات العالم، أدوات فعالة للكشف و السّبر و إضاءة العتمات و إزاحة الأقنعة و جعلنا نرى و نسمع و نلمس ما لم يكن ممكنا قبل نحتها.
(1) العنف الرمزي:( la violence symbolique) (symbolic violence)...:
العنف الرمزي عند بورديو باختزال دالّ يستجيب للحيز الزمني الضيق المخصص لنا لتقديم هذا العرض، هو آليات إكساب البشر وعيا مغلوطا زائفا، مما يتعارض مع قيم الحرية و الديمقراطية التي يرفع شعارها ممارسو العنف الرمزي في الغالب. إننا هنا مع بورديو و هو ينحت هذا المفهوم المفجّر - المعرّي أمام "روح" فلسفية إنسانية غاية في السمو، اختارت الدّود عن إعلاء قيم الحرية و العدالة و الديمقراطية الحقة، و هي نفس الروح التي نصادفها عند الشاعر القادر على إبداع شعر قابل لأن "يصلّى" به، ثمالة كثيفة الجمال، روحانية. و هي نفس الروح تماما تلك التي نصادفها عند الفنان الذي يسمو إلى علا طرب الذوق الرفيع و الجمال و الترنسندنتالي..لأن كلا منهما ( الشاعر و الفنان) في هذه الحالة هو فيلسوف أيضا، فالفلسفة بمعناها الجديد باتت تزهر في حقول أكثر خصوبة خارج إطارها التقليدي التخصصاني الضيق، بل في هذا الاتجاه، يلزم الفلاسفة (بمعنى الفلسفة الجديد الذي يحتضن السوسيولوجيا و التاريخ و الجغرافيا البشرية و الانتروبولوجيا و علوم السياسة و علم النفس و الأدب باعتباره علما، و يغرف من زاد منجزات العلوم المعرفية الغاية في الدقة، الجديدة، و من علوم الثقافات بمعناها الجديد) و المشتغلين بها العمل للإفلات من الدائرة المغلقة التي يراهن على محاصرتها فيها في زمن "الإقناع السري" الجماهيري الفاحش.
و تجدر الإشارة إلى كون نحت بورديو لمفهوم "العنف الرمزي" ذي "النكهة" السقراطية المحرّضة على التأمل الحافر النابش، و الكشف عن منطق اشتغال "ظاهرة" (هي بالتحديد ظاهرة المؤسسة التعليمية بالمجتمع الحديث)، كل ذلك جاء في الأصل ضمن مشروع علمي (سوسيولوجي) و بأدوات علمية، ممارسة على هذه المؤسسة التي تقدم نفسها و يقدمها المتحكمون فيها و في منطق اشتغالها باعتبارها مؤسسة تربوية تعليمية تنشيئية تكوينية تأهيلية...وكل صفات البراءة و الحياد و الإيجاب و الملائكية... !! ، ليسلط عليها بورديومفهومه
الكاشف و ينفضح أمرها مؤسسة في يد محتكري السلطة أو السائدين لممارسة العنف الرمزي، و لرهانات أخرى لا تقل مسّا بإنسانية الإنسان من الأول (التوزيع غير العادل للخيرات الرمزية، التعسف الثقافي، إعادة الإنتاج الاجتماعي أو إعادة إنتاج نفس علاقات القوة داخل المجتمع...)، و هي مفاهيم أخرى خالدة لبورديو لا يتسع الوقت لنا لتفصيلها ضمن هذا العرض.
و للإشارة الضرورية، شديدة الأهمية، كون القوة الاستكشافية لمفهوم "العنف الرمزي" (كما لباقي المفاهيم التي نحتها بورديو)، لا تفلت رصد "إنجازات" في غاية الأهمية لهذه المؤسسة التعليمية (طبعا إلى جانب العنف الرمزي و التعسف الثقافي و التوزيع غير العادل للخيرات الرمزية و إعادة الإنتاج الاجتماعي)، متى كان السائدون من "النمط" الذي لا يجد خطرا في امتلاك مواطنيهم لحد أدنى من الخيرات الرمزية ( معارف و علوم و فنون...و مهارات عقلية أساسا) كفيل بضمان إنسانيتهم.
و ما يهمنا أساسا في هذا السياق في مفهوم "العنف الرمزي" هو الحضور الكثيف و النبيل للروح الإنسانية "التقدمية" الجريئة و النقية، موقفا "سقراطيا" خالدا هو الآخر لا ريب، ضد التضليل و التمويه والتزييف و "الإقناع السري"...و التبليد، موقفا كاشفا معرّيا فاضحا...متورطا بهذا المفهوم شديد التكثيف و القوة التفجيرية لإسماعنا "تقاسيم" حزينة- مبهجة عن كون "المؤسسة التربوية-التعليمية" ليست تربوية "صرفة" و لا هي "تعليمية" بالمعنى الذي اختاره جان جاك روسولإميل...(تعلم ما يرغب فيه و بالطرق و الأساليب التي تخدمه..و إلى المدى الممكن في تطوير المهارات المعرفية و العقلية...(الديمقراطية)).
وبالمضي بالتأويل - بالمعنى الفلسفي الضارب في العمق الذي يعطيه غادامير لمفهوم التأويل- لتلك الروح الفلسفية الإنسانية التي "تنبعث" من مفهوم "العنف الرمزي" عند بورديو، نجد أنه يندرج ضمن عمل فلسفي غاية في "الفلسفية" بالمعنى الجديد لفك خيوط واحدة من كبريات قضايا الفلسفة ،ألا و هي قضية "الجبر و الاختيار" أو "الحرية و الضرورة" من خلال تفكيك الشروط التي تضمن "تنفّس" خلايا وعي الإنسان بكل العمق الممكن، و من حيث يختار(بإرادته و كامل وعيه)، فيكون مطابقا لذاته، أو بتوجيه وتحكم من غيره، فيكون غير ذاته أو صورة مشوهة (بفعل تضليل و تلاعب و...الغير به (العنف الرمزي)) عن إمكانيات "وجوده" لو أنه امتلك زمام أمر مصيره. أليس تقديم أجوبة من صميم روح الفلسفة بمعناها
الجديد، و كل تكريس للحديث عنها باعتبارها سلسلة من الأسئلة التي لا أجوبة لها إنما فيه الكثير من الإساءة لها و للمشتغلين بها. و ضمن نفس التأويل يبدو جليا "تورّط" مفهوم "العنف الرمزي" في السؤال (الفلسفي) الأكثر عتاقة، الناتج عن الدهشة الأولى للإنسان يوم تسنّت له القدرة على التفكير و التأمل، و طبعا مع انتشاله من موضوع الدهشة الأقدم (المشروع في زمانه) إلى مواضيع جديدة فائقة الإدهاش بل الإصابة بالهلع و الفزع...راهنة ومحورية في اهتمامات الفلسفة بمعناها الجديد. مما يضمن لأفلاطون وطاليس و أنكسمندر و أنكسمين و...و هيراقليط أيضا مكانة بارزة على الأنترنيت !!، هذا يسمعنا "تقاسيم" "رثة" أن لا مجال للجمال و الحق و الخير و العدل إلا في "الميتافيزيقا"، و ذاك يجعل معان باذخة و ألحانا ما فوق معرفية، أن القبح و الظلم و الشر...و الألم ليس قدرا للإنسانية ما دام "الإنسان" برهن و يبرهن على الدوام على قدرته على سلك حياة أخلاقية تفيض معنى، و تضيف لتراكمات شتى في المسار العسير الطويل من إضافة خير للإنسانية بعيدا عن "الميتافيزيقا".
(2) الهابيتوس(le habitus)(the habitus)....
يتخذ مفهوم "الهابيتوس" الشكل والقوة التفكيكية للمفهوم الفلسفي بالمعنى الدولوزي خصوصا عندما يسلّطه على المنطق الداخلي لاشتغال المنظومة التربوية بالمجتمع الحديث حيث يفيض عن معناه العام باعتباره مجموعة من الاستعدادات و الخطاطات الفكرية الموجّهة للأفعال أو للإدراك و التي يكتسبها الفرد من خلال تجربته الاجتماعية إذ يستدمج ببطء مجموعة من أساليب التفكير و الإحساس و ردّ الفعل بالشكل الذي يجعل "الهابيتوس" بمتابة بنيات مبنينة(بكسر الياء) (des structures structurées) مهيأة للاشتغال كبنيات مبنينة (بنصب الياء)(structures structurantes)، و ليخذ شكل الأداة الضاربة التي بواسطة إنتاجها تصبح التربية سيرورة يتم من خلالها، و على امتداد الزمن، إعادة إنتاج التعسف الثقافي، و الذي يتخذ مع التكرار و الزمن طابع الثقافة الشرعية، ثم (وهذا هو الأخطر في الأمر و غير المألوف أبدا) قابليته(الهابيتوس) للنقل، أي قابلية المتلقي الشرعي لإعادة إنتاج التعسف الثقافي و قدرته على توليد الهابيتوس الذي تكوّن لديه، بمعنى أكثر وضوحا و تعرية، إعادة إنتاج الفعل "التربوي" أو "البيداغوجي" لهابيتوس شامل، أي واحد قابل لإعادة إنتاج تعسف طبقة أو جماعة في الممارسات التي يولّدها، بمعنى ترجمة تأثير التعسف الثقافي على مستوى كل الممارسات
التي يقوم بها الأفراد. هنا يتخذ هذا المفهوم بعده الفلسفي العميق ، أداة فعالة ل"إسماعنا" ما لم نسمعه مع الوجودية في سعيها لإلباس الفعل الإنساني لباس الحرية و الاختيار، و لا مع البنيوية التي جعلت هذا الفعل الإنساني محدّدا بالبنيات الموضوعية .
يتخذ مفهوم "الهابيتوس" ضمن هذا السياق معنى مجموع الاستعدادات التي يتم طبعها(inculcation) في الأفراد، و التي تجعلهم يسلكون وفق غير إرادتهم و اختيارهم لأنهم وقعوا في شراك ما يسميه دينيس هويسمانDenis Huisman (هذا "النحات" الماهر الآخر القادم من خارج الفلسفة بمعناها القديم، من بعيد جدا !! من الإعلاميات) ب"الإقناع السري"، و الذي هو - بمعايير كل فلسفة إنسانية- فعل خبيث يتعارض مع قيم الحرية والمسؤولية و يقضم بالتالي الكثير من منسوب إنسانية الإنسان. إننا- ضمن هذا التحليل- أمام موقف فلسفي أصيل و صارخ، و كأني ببورديو يصرخ في وجه متعهّدي "الاقناع السري " و دهاقنتهم أن يكفّوا عن منع الانسان من أن يكون سيد أفعاله و سلوكاته و أحلامه... كما و كأني به( بورديو) يرمّم المهارات العقلية أو المعرفية (cognitive skills ( لضحايا أو مشاريع ضحايا هذا الاقناع السري ليقفزوا على المصائد اللامحدودة المنصوبة لهم لجعلهم ب"قوالب ذهنية" تفرض عليهم أن "يروا" و "يتذوّقوا" و "يسلكوا" و يمارسوا "اليومي"(le quotidien) على العكس تماما مما كانوا سيختارونه بوعي لو كانوا بنوا "قوالبهم الذهنية" الخاصة بأنفسهم (ما "أجمل" الفلسفة الكانطية خصوصا تلك الجوانب التي لم تعرف الانتشار و التداول الواسعين و المرتبطة أساسا بالسؤال: ما الانسان؟).
(3) مفهوم الحقل:) ( le concept de champs)( the field...
انتزع بورديو مفهوم "الحقل" من الاستعمال العادي الذي يفيد قطعة أرض قد تمتد و قد تقصر، أو في الاستعمالات الحديثة حيث يشير إلى مجالات لتربية الدواجن أو الأسماك أو غيرها، بل انتزعه أيضا حتى من استعماله العلمي الخاص والضيق في الفيزياء مثلا (مجال مغناطيسي، مجال كهرو-مغناطيسي، مجال اللامتناهي في الصغر...)، ليبنيه مفهوما فلسفيا (وإن كان في الأصل علميا-سوسيولوجيا عنده هو الآخر) للكشف و الخلخلة و التورط.
يحيل مفهوم الحقل عند بورديو إلى عالم اجتماعي كامل، أي بكل المواصفات و التقاطيع التي يرمز إليها العالم الاجتماعي، يتعلق الأمر بسلطة و رأسمال و علاقات قوة و صراعات طاحنة من أجل المحافظة أو من أجل تغيير علاقات القوة القائمة، و كذا باستراتيجيات للمحافظة أو للخلخلة كما في باقي المجالات الاجتماعية. و من جهة أخرى، و في نفس الوقت، عالم خاص له قوانينه الخاصة أو منطق اشتغال داخلي خاص(logique interne spécifique du fonctionnement du champs culturel).
و ما انفك بورديو يتعامل مع مفهوم "الحقل" و يتعهده ك"تحفة فريدة"، لم يتوقف و لم يملّ من الاشتغال عليها لسنين طويلة. أثاره في البداية منذ نهاية الستينات في مقالات متفرقة، ثم قدم تركيبا أوليا في عمل مكثف تحت عنوان "حول السلطان الرمزي"(Sur le pouvoir symbolique). و عاد للمفهوم (على طريقة الفلاسفة و بالضبط على الطريقة الدولوزية في إضافة المركّبات) بقوة في كتاب ضخم ثمين هو "قواعد الفن" Les règles de l’art))(1992)، ثم ارتقى في عملية النحت و التركيب و الصياغة في آخر درس له بكوليج دو فرانس (Science de la science et réflexivité)(2001) أي بعد مدة طويلة من بداية ورش بناء المفهوم.
و الحقل الثقافي كعالم اجتماعي عند بورديو هو ذلك العالم الذي ينفضح حين نسلط عليه هذا المفهوم، مشكلا مما يسميه "الميكروكوزمات" (مفهوم آخر) (الحقيلات): شعر، فلسفة ،رواية ، تاريخ ، علم السياسة ، الاقتصاد...، و على رأس كل ميكروكوزم متوّجون، و في الجانب الآخر المنبوذون (Les couronnées et les maudits)، يطرح الأولون أسئلة زائفة في الغالب بينما يطرح الآخرون الأسئلة المستفزة الحافرة و يطالبون بالاعتراف بهم...، و هنا يأتي الدعم و المدد من حقول أخرى (السياسي، الإعلامي...) للأولين لالتقاء من باتت أسئلتهم زائفة لتجاوزهم حدود "الجيل الثقافي" أو لأنهم أصلا كذلك في العديد من الحالات و تمّت عملية نجمنتهم و أعلمتهم (iconisation). كما تتدخل عوازل بغيضة في نفس الوقت لإقصاء الآخرين (أصحاب الأسئلة المستفزة) لمنعهم من تلقيح مخيال الحشود و شحذ مهاراتهم العقلية أو تهذيب أخلاقهم و أذواقهم و وجدانهم...و حتى السمو بأرواحهم...و بالجملة الرفع من منسوب إنسانيتهم.
كما تنفضح التشوهات التي تمس كل ميكروكوزم من نفس الحقل الثقافي على حدة، تحت وطأة الفعل الخبيث للعوامل الخارجية(من خارج الحقل الثقافي)(أي من السياسي و/أو الإعلامي..). و بالرغم من كون الأمر يخص كل المجتمعات مهما كان مستوى تطورها (شومسكي عالم اللسانيات اللامع و الفيلسوف و...محاصر إعلاميا بالولايات المتحدة الأمريكية، و برنار هنري ليفي "المهرج" و "الغبي" كما ينعته المفكرون الفرنسيون، يسوّق فيلسوفا...إلخ)، إلا أن الوضعية تبدو أكثر بشاعة و تراجيدية بل تراجيكوميدية بالمجتمعات التقليدية، حيث رعب السلطان القائم من انبثاق مواطنين باكتسابهم لحد أدنى من الخيرات الرمزية، فيعمد -من خلال احتكار الموارد- إلى تتويج اللاتستحييي وجوههم باعتبارهم شعراء و روائيين و علماء سياسة...و حتى فلاسفة أو على الأقل محتكرين الاشتغال بها...في مخيال الحشود.
إننا مع بورديو و هو ينحت مفهوم "الحقل" أمام روح فلسفية إنسانية في حدودها القصوى بكل وضوح، تقف بشراسة ل"فضح" الآليات الرهيبة لحرمان الإنسان من إمكانيات تلقيح مخياله و ذوقه و مهاراته المعرفية الضامنة لإنسانيته (وإلا فإنه مجرد "دابة إنسية" بلغة فارابينا الخالد)، بل وفرض الرداءة عليه بفرض نجومية من يعمل في خندق تسطيح عقله و تجريفه و إفساد ذوقه و أخلاقه، ليبتعد سحيقا عن "الإنسانية"(humanisme) التي يسعى البعض لجعلها تمتزج بالألوهية...بالتسامي و التجاوز...
(4) مفهوم "عودة النبلاء الجدد": ( retour de la nouvelle noblesse)
(return of the new nobility)...
يتعلق الأمر بمفهوم غاية في الإرباك، و حتى الإصابة بالدوار و الفزع بالنسبة لكل متفاعل معه لأول مرة، لأنه يسمعه بالفعل مالم يألف سماعه أبدا، و يجعله يرى مالم يكن متاحا له رؤيته، لأن مفهوم "النبلاء" يحيل إلى نمط أو نظام/لا نظام اجتماعي توهّمت المجتمعات الغربية (الحديثة و الحداثية) أنها تخلصت منه إلى غير رجعة. كيف لا يكون الأمر كذلك و قد تطلب ثورات بصمت تاريخ البشرية، و دماء طهّرت الأرض و الأرواح من رجس النبلاء(القدماء) و سدنتهم رجال الدين، و تضحيات أسطورية جسام...و لكن أليست مقولة "المدو الجزر" روح منطق اشتغال التاريخ؟ أليست طبيعة موازين القوى بين القوى المتصارعة على مسرحه هي
التي تحدد مساره، و كلما أصاب الوهن القوى المضطهدة و المقهورة يتخذ هذا المسار طابع النكوص. ذلك ما رصده بورديو و جهّز له نحتا مفهوم " النبلاء الجدد" ليجعلنا نسمع بوضوح ترنّحات تغنج "نؤومات الضحى" بين أيدي الخدم ( الأقنان،les serfs ) يعدّونهن "وجبات" (كباقي الوجبات) ل "أسيادهم" المتبخترين العابثين على "أرائك من ذهب" حول موائد لا عقلانية للاستهلاك السفيه الفاجر، و لإعلان الحروب على الشعوب المقهورة...و يقوم الاعلام الفتاك و العديد من أصناف الدجالين ( المنجمين طبعا) بدور رجال الدين، بل بأفظع منه...كل هذا بعواصم "الأنوار" و "الحداثة" و "الما بعد حداثة" التي توهّم أهلها أنهم يحيون " العهد البورجوازي" العقلاني و الديمقراطي و الحداثي بكل حذافيره !!!أي الذي "لا شريك له"!! (كم هو رائع و في غاية الأهمية قراءة "الكتابات السياسية ل "الماركي دوساد" (le Marquis De Sade ) التي ظلت ممنوعة لعقود طويلة، لفهم الجذور العميقة لهذه الظاهرة التي يبنيها بورديو من خلال مفهوم "النبلاء الجدد" و يجعلنا نفجع لسماع "تقاطيعها" التي ما كانت لتخطر على بال الكثير منا). (وكم هو مثير للتقزز و الشفقة بل و الأسى الجارح تغنّي بعض المكرّسين في سياقنا مفكرين و أعلاما ب"الحداثة" و "ما بعد الحداثة" دون أن يداخلهم أدنى "ريب" أو "يتورطون " بسؤال/مطرقة....، ذلك كان حالنا في "أسطرة" ( mythologisation)الاسلام، دينيا، فأسأنا إليه و إلى أنفسنا بذلك، عكس ما كانت ستؤول إليه محاصيلنا منه لو كنا تعاملنا معه في "واقعيته"،..،ثم إننا كررنا المسألة مع "الماركسية التي ذهبنا بها "منجرفين" إلى" خارج التاريخ"...إلى اليوتوبيا...بل حتى "الميتافيزيقا"...(ينطبق ذلك على من ظل "يبشّر" ب"انتصار البروليتاريا العظيم" ! وإقامة "مجتمع المساواة المطلقة" النظير تماما للمتخيل في "الميتافيزيقا" ! إلى أن سمع ذات حدث بارز و مفصلي في تاريخ البشرية أن المنظومة الاشتراكية قد تفككت... أو تم تفكيكها....
وكما الحال مع كل مفاهيمه، اشتغل بورديو على مفهوم " النبلاء الجدد" طويلا، بدأ الاشتغال عليه أو على الأصح على إرهاصاته منذ منتصف الستينات من القرن الماضي في كتاب "الورثة" ((1964- les héritiers ، ثم عمّق الحفر ليضيف للمفهوم مركبات في نهاية الثمانينات في كتاب "نبالة الدولة"( 1989- la noblesse d’ état )، و لم يقدم لنا "التحفة" في شكلها النهائي ( بالنسبة له و لقدراته فقط ما دام "المفهوم " قابل ل"الشحذ" و زيادة الفعالية،
لإسماعنا الأكثر و جعلنا نرى الأعمق المتستّر و الأشد تقنّعا، و تلك مهمة الفلاسفة و العلماء- الفلاسفة)، إلا في أواسط التسعينات في كتاب "عقول عملية- من أجل نظرية للفعل »( Raisons pratiques - Sur la théorie de l action ) (1994). و كما الشأن بالنسبة لكل مفاهيمه، لم يبن بورديو مفهوم " النبلاء الجدد" من خلال حفر فلسفي محض ضمن تصور تقليدي للفلسفة (كما ما يزال يشلّ قدرات تفكير العديد من المشتغلين بها و يحرمنا من محاصيل مهاراتهم المعرفية و الميتا-معرفية الباذخة في كتاباتهم إن هم "انعتقوا"...من التصور التقليدي للفلسفة الجاثم على الكثير من العقول و المعطّل للانبثاق المتجدد ل "نبتة الخلود" !! ،ل سقراط يلوّح عاليا بكلتي يديه في وجه "القانون" !أي قانون؟ ! الذي يملك خصائص تتحدّى خصائص خيوط العنكبوت... لا يعلق فيها إلا "الغالبية" المقهورة...،ل نتشه يصرخ ان "الميتافيزيقا" في "الملموس" الشديد "المادية" لا في "الميتافيزيقا" !!!، ل دولوز الذي أغبطه، و تكاد تنتابني مشاعر "حقيرة" من "الحسد" ( رغم رحيله/خلوده منذ مدة، و رغم "قصري" و " تواضعي الفظيع أمامه، لشعوري و أنا أقرأ كتاباته ان حركة المهارات العقلية في مسارات التدفقات العصبية(flux nerveux) عنده تسير بحركة ما فوق ضوئية !! لهذا ال"دولوز" الذي سيخلد (كسقراط تماما) لتجسيده السّبق في تاريخ الفلسفة في تجسيد المعنى الأكثر عمقا للفلسفة بمعناها الجديد في الزمن الراهن...، ل دولوز يخاطبنا محذرا و معلما ممارسة العقل على ما يلزم أن يمارس عليه ضمن منطق الفلسفة بمعناها الجديد، على "معازل البؤس" و "أعتى الديمقراطيات التي لا تصمد في " ديمقراطيتها" حين يخرج البؤس من معزله" و "عار الإنسانية بإنسانيتها" (التي انزلقت إلى الابتذال)...(التعابير حرفية من كتاب دولوز المشترك مع غاتاري (ما هي الفلسفة)). ( تحضرني في هذه اللحظة أربعة أسماء من أولئك الذين قلت أنهم من ذوي المهارات المعرفية و الميتافيزيقية الرفيعة في دنيانا نحن العرب، الأمازيغ، الأكراد، الدروز، التركمان، الآشوريون،... المسلمون، المسيحيون...، آه !! كم هي حاجتها فادحة للعقل... و للنزعة الانسانية... لتدبير كل هذه "القضايا" و غيرها كثير يقتضي العقل)، أحدهم لبناني لامع، مقيم بفرنسا منذ عقود، أحد أعمدة الدفاع عن العقل و عن "الروح الانسانية"، و الثلاثة مغاربة، أحدهم من خارج "ميكروكوزم" الفلسفة" بمعناها الضيق المرشح للاختناق، من الأدب (باعتباره علما كما فجر ذلك اليوم إدغار موران و في آخر العمر... و كأنه ظل يتوجس من "أمر" ما، و
هو ما فعله عالم النفس الأمريكي الشهير جيروم كيغانJérôme Kagan في كتاب تحت عنوان "الثقافات الثلاثة"(2004) أي في آخر العمر أيضا (ولد عام1929) !!! يمكن النظر ل"الاعترافين" ك"زلزال" معرفي أو "فضيحة" معرفية "بمفاهيم ميشيل فوكو "المفهمة"(conceptualisant) لمنطق رواج المعارف و إضفاء الشرعية على هذه باعتبارها حقيقة و إقصاء أخرى باعتبارها غير ذلك !!!. هذا الثالث الذي من خارج "الميكروكوزم" بمعناه الضيق برهن و يبرهن دوما في كل كتاباته على قدرات هائلة على تشغيل أعلى مستويات المهارات العقلية، "يرقّص" الحروف و الكلمات (يجعلها ترقص) بالشكل الأقصى الممكن الذي يجعلها (المهارات العقلية و الحروف و الكلمات) تنزّ "سمفونيات" معاني "الوقائع" المشغّلة عليها (هو يشتغل على النصوص خصوصا و النصوص وقائع كما الحال بالنسبة للوقائع التي هي نصوص بانتظار من "يقرأها")، سمفونيات ما كنا لنحلم بسماعها، و الأخطر من ذلك أن نكون ضحايا سماع أخرى مندسّة و مصطنعة (artefacts) بدلها، تجعلنا نحيا (بغير وعي) نقيض "الحلم" الذي "تصدح" به الأولى ، فنضيع... .(وللإشارة الضرورية، فقد تعمدنا عدم ذكر أسماء أولئك المفكرين الأربعة، لاحترامنا اللامحدود لهم أولا، و تقديرا لكل من سينشر هذا العمل ثانيا، و لكوننا "أقصر" بكثير من أن نقيّم أحدا مطلقا...إلا أننا مطمئنون على أن كل مهتم جاد و معني بالحقل الثقافي في دنيانا سيدرك بكل يسر عمن نتحدث، و سيقدر نبل مقصدنا من عملية "المقايسة" و رهاناتها "الانسانية"...). لا لم يبن بورديو مفهوم "النبلاء الجدد" من خلال حفر فلسفي محض، ما دام الحفر بالمعنى الفلسفي المعاصر يقتضي استلهام منجزات حقول معرفية عديدة غاية في الخصوبة و القدرة على الاثراء، خصوصا أدواتها المنهجية و "مطارقها" الحفرية الخاصة التي حين تضاف إلى "مطرقة" الفلسفة بمعناها الجديد، يصبح الحاصل قادرا على إزاحة الأقنعة (و لو كانت من جلد/حديد) و...و تكسير البداهات و خرق الغشاوات و كشف "الألاعيب" ...هذا ما مارسه بورديو على امتداد مشواره العلمي المتفرّد. فهو بنى مفهوم "النبلاء الجدد" عبر حفر سوسيولوجي غاية في الدقة العلمية و في أخلاق العلم، حفر في مدارس جد خاصة "انتشرت في العقود الأربعة الأخيرة في كل المدن الكبرى بالمجتمعات "الحديثة" (الغرب) لا تلجها إلاّ قلة قليلة من ضمن أبناء أعلى فئة اجتماعية على الإطلاق على سلم احتكار مختلف أنماط الرأسمال أو الخيرات، نظرا ل"أثمانها"(المدارس) الفاحشة التي تتحدى امكانيات الأغلبية الساحقة من "البورجوازية" بمعناها الكلاسيكي القريب
جدا، يتلقون فيها تربية جد خاصة و يتشبعون ب"قيم" جد متميزة عن الآخرين، و يحصلون بها على خيرات رمزية رفيعة لا تمت بصلة لما يتحصل عليه غيرهم في باقي "المنظمات" المدرسية بكل أنماطها و مستوياتها.
كما أنه ( مفهوم "النبلاء الجدد") نتاج حفر أركيولوجي "عميق" في "المجال"(l’espace) و طبيعة حركة الأفراد و الجماعات فيه تبعا لحجم أنماط الرأسمال التي يحوزونها/تحوزها، ليكشف "الصّاعق"، لا ما لم نألف سماعه أو رؤيته قط و نحن نستعمل المجال في "اليومي" "الحداثي" و "المابعد حداثي" المتحكم فيه بضراوة ، بل الحجم المهول لانتصاب التمايزات على مستوى استعمال المجال، إذ يعرّي حقيقة أنه بالمجتمعات "الحديثة" و "الديمقراطية" و "الحداثية" ...، المجتمعات البورجوازية "المتقدمة" (لا المنجمعات التقليدية، المتخلفة...)، لكل فئة اجتماعية مجالاتها المحددة التي تتحرّك فيها و تستعملها و لا يمكنها تجاوزها، إلى الحد الذي أفضى إلى مجالات خاصة ب "النبلاء الجدد" (موقع إقامة خاصة و مخصوصة بالمدن، نواد خاصة، مراكز تسوق خاصة، صالات حلاقة و تجميل خاصة، معارض و صالونات فنون بذوق جد خاص...ومدارس خصوصية خاصة..)، نتيجة الأثمنة الخيالية لولوجها، حتى بالنسبة ل"الميسورين" الجدد غداة مقاصل الباستيل، "الكلاسيكيين" بالقياس إلى مستجدات التراتب الاجتماعي بالمجتمعات الحديثة منذ انهيار المنظومة الاشتراكية بشكل أكثر وضوحا. مما بات معه من شبه المستحيل الالتقاء بين أبنائهم و بين أبناء باقي الفئات الاجتماعية، و حتى إن حصل فبالصدفة العارية من كل إمكانية للتواصل و ما قد يفضي إليه، فالاستعدادات مختلفة تماما على طول و عرض و عمق الأذواق و "الأخلاق" والأحلام... و المهارات (بكل أصنافها وخصوصا العقلية منها) لكونها دخلت بقوة مجال الاحتكار.
هكذا يبني بورديو مفاهيمه و ينحتها نحتا بكل ما ترمز له الكلمة من صبر و مثابرة و عمل دؤوب و آلام مبرحة...، و من خلال التماسّ "الحارق" مع موضوع الفلسفة بمعناها الجديد الذي هو الإنسان و قضاياه. يتعلق الأمر عند بورديو بما بات يشغل الدوائر الفلسفية و العلمية و المعرفية الجادّة والكبرى عبر العالم خلال العقود الأخيرة ب "مفهمة الاجتماعي"(conceptualizing the social)، و هو ما مارسه دولوز بجدارة ( و لربما هنا يكمن سر القول الفلسفي أن القرن الحالي سيكون دولوزيا)، و سبقهما إلى ذلك نيتشه بلغته
الشاعرية الفاتنة و الشديدة الترميز، و كم أجد مفهوما من المفاهيم المربكة و المزلزلة مثل "المعلم الوثن" عند هذا ال"نيتشه"، مفهمة ل "اجتماعي" و "تربوي" فاحشين في سياقنا.
و المهم- في سياق عملنا هذا- أن بورديو بنحته لمفهوم "النبلاء الجدد"، إنما يجسد روحا فلسفية إنسانية غاية في الصفاء و النبل و الصدق و الخير و الجمال...، بالإصرار على الوقوف الشامخ-المزلزل، سقراطا جديدا يجعل محاوريه (نحن كلنا بالنسبة لبورديو) "يعرفون" بعدما كانوا (المساكين !!) مجرد مخدوعين أو منخدعين يتوهّمون أنهم يعرفون. بنحت بورديو لمفهوم "النبلاء الجدد"، يعلن - فلسفيا- رفضه و فضحه لعودة التاريخ إلى الوراء أو انتكاس سيرورته، كما يرفض و يفضح عودة قيم الاحتكار الفاحش "اللاعقلاني"...لخيرات الأوطان المادية و الرمزية، و الاستهلاك السفيه و تعطيل طاقات و قدرات و حريات بقية البشر...و تحصيننا ضد...التمويه و التضليل...و عدم "سماع" ما يلزم "سماعه"...إنها "نواقيس" و "تراتيل" و "تقسيمات"... تجعل "المواطن" بالغرب (الحداثي)، (هذا المواطن الذي اتخذ القضم من مواطنته وثيرة أكثر وضوحا في العقود القليلة الأخيرة) يدرك معان و يصدم بحقائق نجح أولئك "النبلاء الجدد" في جعله يتوهم كونه يحيا دوخة نقيضها.
كل هذا بقلاع و عواصم "الحداثة" و "الما بعد حداثة" و "الديمقراطية" و "الحرية" و "المساواة" !!! و "الأخوة"!!! أما بقلاع الاستبداد أو منجمعات الركود و "التهاوي"، فظل النبلاء القدماء على حالهم القديم إن لم يكونوا قد استلهموا الكثير من خصائص "فجور" "السادة" الأقدم، بكامل عافيتهم... و طبعا يحرصون هم الآخرون بالتظاهر بلبس لبوس "الديمقراطية" و "المعاصرة"...، و يزكي و يثمن أسيادهم (النبلاء الجدد) اللعبة ضمن عملية قذرة واسعة من النفاق و الخداع و التآمر و السفاهة...و التي تحيل كلها إلى "عهد النبلاء"... لا إلى عصر ما بعد الثورات الكبرى التي راهنت على تخليص البشرية منه.
إنها الفلسفة الانسانية في أروع تجلياتها و فعلها و إنه بورديو الفيلسوف بجدارة، لا السوسيولوجي الماهر فقط هو صاحب هذه الروح.
*خاتمة:
اسمحوا لي في نهاية هذا العرض، لا أن "أستنتج" من "استنتاجات" باذخة، و لا أن "أستخلص" من خلاصات فائقة "النورانية"، بل لأشرككم شعورا غامرا تملّكني طيلة مدة الحفر لإعداد هذا العمل (لنيل مرضاتكم و الشعور بالرضى على الذات...و كم هو لذيذ هذا الشعور...)،( جزء مهم من هذا الإعداد تمّ في الساعات الأخيرة من الليل بغرفة بالطابق الرابع لفندق من فنادق عاصمة من عواصم "الحداثة" و "الما بعد حداثة"...، بعد كل يوم صاخب، فادح " الجمال" و "المتعة" الفلسفيين ضمن ندوة فلسفية دولية، و من شرفة الغرفة كان من السهل ملاحظة أعداد من الS.D.F (ال: بدون سكن قار)!! (يا لفداحة مكر و خبث اللغة !! و كأني بها تراودني لتوهّم أنهم يملكون "الكثير" من السكن و لا يستقرون في أحدها لكثرة "استمتاعهم بها كلها !!!، قلت انه كان من السهل ملاحظة أعداد من هؤلاء "المقصيين"- "المهمشين"- " المنبوذين"- "المعذبين"...بين أحضان "الحداثة" و "الما بعد حداثة"!!!.
و هو نفس الشعور تماما الذي استبد بي طيلة تقديم هذا العرض أيضا، شعور كاسح حد الانئخاذ أني ضمن ورشة غاية قصوى نادرة و متفردة في العقلانية الفذة و المهارات المعرفية الرفيعة و الميتا- معرفية الثاقبة، و "صنّاعا" لا كبقية الصناع بل بمعنى "الصّنعة" و مقتضياتها المثلى عند الفلاسفة المسلمين الخالدين...، صناعا لا يستعملون غير المطارق، هذا نيتشه بمطرقته، و هذا فوكو بأخرى، و هذا دولوز بثالثة...و...ذاك بورديو بأخرى، كل بمطرقته "السحرية"، و لكن ليست تلك الأسطورية التي نقرّبها من التراب، فيغدو ذهبا!!!، بل تلك التي نجعلها تلامس - أو على الصح تشتبك مع - "المقنّع" و "المموه" و "المضلّل" و "الزّائف" و "المخادع" و "الدسّاس" و " القذر المطلية شفاهه" و...و...و اللاإنساني، فينفضح أمره. و الضربات الدقيقة والمحسوبة و الموجهة ب"أشعة" فوق- ميتا- معرفية ! غير موجهة أبدا إلى "الأعلى" (l’au delà) و لكن إلى الماثل "الصلب" هنا و الآن...، و كلما اشتد الضرب الرفيع، تتحول الورشة إلى نظير تماما لأوركسترا "بيتهوفينية" أو "فيروزية" تقطّر (من وجودها) ترانيم و ألحان "الخلود"، لا هي بحزينة تماما و لا هي مرادف للبهجة تماما.. تخاطب العقل و الوجدان معا كما الحال مع الفن الذي يبلغ من الرقي حد استحقاقه صفة "الخالد" حسب "المفهمة" الخالدة لصاحبة "المطرقة" الفائقة "السحرية" الموجهة ما فوق - "ليزيريا"- إلى حيث
تنطق "الوقائع" بالمقنّع و المتستّر و المتخفّي و الماكر و الوهمي و المضلل و المموه... و الحقير...اللاإنساني... فيها و في آليات اشتغالها أو منطقها /لا منطقها الداخلي العميق المراهن دوما على تحريف (le détournement) الاهتمام و الادراك و "الوعي"...ل: حنّا أرندت الفيلسوفة- السوسيولوجية حدّ التخمة - المؤرخة البارعة - فيلسوفة التاريخ الفادحة - عالمة الثقافات، " التجريبية حد "الامبريقيةّ" الفاحشة، المؤكدة "تجريبيا" أن "العقل يحيا...و قد يموت... حنّا أرندت التي "رأيتها في الورشة فراشة من "جنة (d’un tel paradis ) تطير من "صانع" إلى "صانع" "تسقيهم" "مشروبا" لا كبقية المشروبات أبدا، بدا لي عبقا من رحيق "نبتة خلود" جلجامش" ... بل رأيت جلجامش نفسه يطل مبتسما حد النشوة لاطمئنانه أن لا "حيّة" مهما تدجّجت بكل "الموارد"... قادرة على سرقة "نبتة الخلود" من "جلجيمشات" الواقع و "الميتافيزيقا" (كما مع جلجامش الميثولوجيا)...، فتزداد دقة توجيه ضربات "الصنّاع"، لأراهم نظراء تماما (أو أفدح) لمستكشفي "الجزئي (le minuscule) في فيزياء اللامتناهي في الصغر أو الفيزياء الكوانتية الأكثر جدّة، و هم (مستكشفو الجزئي) يتتبعون خطى أو على الأصح يطاردون "اللاحسّي" (l’impalpable) و تأكيد "وجوده" و "حركته" و "اشتغاله"...عبر برهان لا حسي/حسّي، لمحاصرة "الفراغ" الذي أوهمنا طويلا أنه فارغ تماما‘ ليقرّ أنه و "الامتلاء" "صنوان"...و أن "اللعب" جار بضراوة...وأن "العين" لا ترى...و أن الحاجة ماسة ل "مطارق" "الصنّاع".
فأي روح فلسفية إنسانية أسمى و أنبل و أعمق من هذه التي "أودت" بي أنا مثلا بسيطا إلى كل هذا المخاض، و كل هذا "الاشتباك" (هل يصح لنا الاعلان عن "الاشتباكية" فلسفة جديدة على غرار الوجودية و الماركسية و البنيوية التكوينية... !!! لا! أبدا! فلمفهوم "الحقل" "ضوابطه" التي لا تقهر !!!
إنها روح الفلسفة بمعناها الجديد الواعد عند بيير بورديو فيلسوفا لا سوسيولوجيا فقط.
كل الرحمة عليه...
-لائحة المراجع المعتمدة في هذا العمل:
(*) نص العرض المقدم ضمن ندوة " فكرة الإنسان أفقا للتفكير الفلسفي" المنظمة من طرف شعبة الفلسفة بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بمكناس بتاريخ 19 يونيو 2015
1- Pierre Bourdieu et Jean Claude Passeron: Les héritiers : les étudiants
et la culture - Paris, les éditions de Minuit-1964
2- Pierre Bourdieu et Jean Claude Passeron : la reproduction : éléments
d’une théorie du système d’enseignement. - les éditions de Minuit- Coll. : ‘’le sens commun’’-1970.
3- Pierre Bourdieu : La distinction - Critique social du jugement
- les éditions de Minuit -1979.
4- Pierre Bourdieu : Le sens pratique- les éditions de Minuit-
- Paris-1980.
5- Pierre Bourdieu : Sur l’Etat : Cours au Collège de France (1989-1992)
- Edition du Seuil - Paris.
6- Pierre Bourdieu : La noblesse d’Etat-Grandes écoles et esprit de corps
- Edition du Seuil - Paris1989.
7- Pierre Bourdieu : Raison pratiques - Sur la théorie de l’action
- Edition du Seuil - Paris 1994.
8- Pierre Bourdieu : Les règles de l’art -Genèse et Structure du champ
Littéraire - Edition du Seuil - Paris - 1992.
9- Alain Accardo : Initiation à la sociologie de l’illusionnisme Social :
Invitation à la lecture des œuvres de Pierre Bourdieu
- Edition Le Mascaret- Réédition- 1991.
10- Giles Deleuze et Phelix Guattari : Qu’est ce que la philosophie
- Edition Minuit- Paris 1991.
11- Jeffrey J. Sallaz et Jean Zafisca : « Bourdieu in American sociology ,
1980-2004 » - Annual Review of sociology,vol 33-
Aout 2007.
12- ديرار عبد السلام: مفهوم "الحقل" عند بيير بورديو - القوة الإجرائية و الفعالية
الاستكشافية -
- موقع "الفلسفة" التونسي.www.falsafa.com
- موقع "أنفاس" المغربيwww.anfasse.org
- مواقع أخرى عديدة على الأنترنيت.