إن الميتافيزيقا كفلسفة، شأنها شأن باقي الأبحاث الفلسفية، يمكن النظر إليها كميتافيزيقات، des métaphysiques وليس كميتافيزيقا واحدة، فإذا كان كبير الفلاسفة ديكارت قد مهد للتأسيس إلى ميتافيزيقا الذات، فإن هيجل كرس ميتافيزيقا الحضور، فيما عمل نيتشه ـ من حيث لا يدري ـ على غرس أولى نباتات ميتافيزيقا إرادة القوة وهلم جرا، لكن أين سنصنف من كل هذا ميتافيزيقا كانط؟ هل سننظر إليها كميتافيزيقا النقد، أم كميتافيزيقا ترنسندنتالية، أم كميتافيزيقا العقل الأخلاقي العملي؟ الحال أن الوقوف عند بنية تفكير العقل الخالص، من شأنها أن توجهنا نحو فهم الميتافيزيقا الكانطية، وأبرز تبلوراتها في هكذا فلسفة.
تتأسس الميتافيزيقا الكانطية على منطق الثنائيات على غرار جل الميتافيزيقات ابتداءً من أرسطو حتى هايدغر، والحال أن ميتافيزيقا كانط لم تسلم هي الأخرى من هذا المنطق، إذ يعمل فيلسوف كونكسبرغ في عمليته النقدية على التمييز بين عالمين، عالم مادي محسوس، وعالم عقلي خالص، أي عالم التجربة الحسية وعالم الفهم، بيد أن الجديد الذي أضفاه فيلسوفنا يكمن أساسا في رسم تخوم ومعالم كل عالم على حدة، عكس الميتافيزيقات السابقة، والتي انتصرت دوما لعالم على حساب آخر، حيث انتصر ديكارت مثلا للذات على حساب الموضوع، وللفكرة على حساب المادة، بينما انتصرت قبله الميتافيزيقا الأفلاطونية للمثال على حساب المادة، وللأيقونة عل حساب السيمولاكر... هكذا يعمل كانط في بداية نقده على الدعوة إلى تجاوز هذا التمييز الذي عصف بتاريخ الفلسفة، مبرزا أن للمادة أهميتها وأن كل إفراط فيها من شأنه أن يسقطنا في العماء، في حين أن للعقل هو الآخر دوره الرئيسي، بيد أن الإفراط في تبويئه المكانة الأساس في فعل التفلسف يجعل من الفكر شيئا أجوفا.
والحق أن فهم العالم إنما يقوم على ضرورة التفريق بين القوتين للجمع بينهما، لهذا أمكننا أن نتحدث عن ثلاثة مراحل تمر منها المعرفة الكلية la connaissance universelle، الأولى وهي مرحلة الحدس الحسي، أو مرحلة الحساسية حيث يلعب فيها الزمان والمكان الدور الرئيسي في هذا الشأن، أما المرحلة الثانية فهي ليست إلا مرحلة الفهم والتي تتاسس على منطق المقولات les catégories، في حين أن آخر مرحلة تصل إليها المعرفة هي مرحلة العقل الخالص حيث الأفكار وحيث النومين noumène.
لقد وضع كانط أسس المعرفة الخالصة هاته، وذلك تخلصا من ترسبات الميتافيزيقا القاتلة لكل تفكير منطقي خالص، بيد أن هاته الرحلة الفكرية قادت فيلسوفنا إلى الوقوع في مطب التفكير الترنسندنتالي، بيد أنه كان أكثر ما استطاع تقديمه بغية نقد المعرفة كميتافيزيقا، وأيضا من أجل تفادي السقوط في التحليل المنطقي الخالصl’analyse logique pur، لسبب بسيط هو أن المنطق الخالص إنما يبنى ويتأسس فقط على المبادئ القبلية، غاضا الطرف عن كل المعطيات البعدية، مؤسسا للتفريق بين الذات والموضوع، بين الفكرة والحدس الحسي، وبين العقل والتجربة، يقول كانط في هذا الأمر:" من بين كل محتوى المعرفة، أي عن كل علاقة للمعرفة إزاء الموضوع، فإنه لا يتصدى إلا للصورة المنطقية للمعارف في علاقاتها فيما بينها، أي شكل الفكر بصفة عامة."(1) والحال أن السير على هكذا منوال سيجعلنا ننتصر ـ شئنا ذلك أم أبينا ـ إلى روح الفكر الخالص بغض النظر عن معطيات التجربة، أي أن العقل سيتمثل التجربة، والذات ستتمثل الموضوع، وهو ما سيسقطنا في فخ الذاتية المطلقة.
من ثمة ودرءا لهذا الانتصار غير البريء، عملت فلسفة كانط على إعادة التأسيس للمنطق الترنسندنتالي، لإعطاء الدقة اللازمة لكل معرفة خالصة، بما أن الترنسندنتالية هي التي تتيح للذات العارفة أن تحدد الموضوع قبليا.
"إن كل الظواهر ومن أجل أن تغدو مادة للمعرفة الموضوعية، يجب أن تكون قابلة للإدراك حسيا" يقول المفكر المصري مراد وهبة، لهذا توجب على المعرفة المدركة لكل موضوع أن تأخذ بعين الاعتبار معطيات التجربة الحسية، وذلك عن طريق منطق تركيب الظواهر، بما أن "التركيب الخالص، ممثلا لنا بطريقة عامة يعطينا المعنى المجرد الخالص للفهم."(2)
في الجهة المقابلة، لا شك أن كل هاته الإجابات حول العلاقة بين الحساسية والفهم نحو العقل الخالص، ترسم لكل طرف منطقه على حدة، من هنا تقوم "المفاهيم على تلقائية الفكر، بقدر ما تقوم الحدوس الحسية على تلقي الانطباعات."(3) وهو ما سيجعلنا ننتقل إلى خاصية كل طرف وقوفا عند مميزاته وحدوده.
1- E. Kant : op.cité, p : 95
2- Ibid, p : 130-133
3- Ibid, p : 140