كان لشيوع لفظ الفينومينولوجيا في ميدان الآداب، أن صار المعنى الحقيقي لهذا المفهوم واضحا أكثر. فعبارة "علم الظواهر" تعني -ولا تعني- الكثير. فهي من جهة لا تعني الكثير بالنظر إلى كون عموميتها يمكن أن تجعلها تنطبق على أي بحث عن الحقيقة حتى داخل حقل العلوم التجريبية التي تلجأ إليها في بعض الأحيان. وهي من جهة ثانية تعني الكثير لأنها تفترض منذ الوهلة الأولى طريقة جديدة في فهم طبيعة الظواهر.
بداية، ليس من المؤكد أن للاسم في حد ذاته أية أهمية كما يؤكد على ذلك في كثير من الأحيان هوسرل [صاحب المذهب] الذي يعتبر أن المفاهيم الفينومينولوجية هي أولا وقبل كل شيء أدوات مرنة قابلة لإعادة التشكل بهدف الوصول إلى التجربة الحدسية التي تشير إليها. واعتبارا لذلك، فإن البحث في الأصل الاشتقاقي سيكون قليل الفائدة. وبالفعل، فإن "لفظ" الفينومينولوجيا" سابق في الوجود على تعيينه لتيار فلسفي مخصوص. فقد استعمله لامبير Lambert لأول مرة في القرن 18، ثم كانط الذي فكر لحظة ما في توظيفه كعنوان ممكن لكتاب "الاستطيقا المتعالية". وبعد ذلك استعمله هيجل كعنوان، لأكبر برنامج، لأحد أهم وأكبر مؤلفاته وهو "فينومينولوجيا الروح". وكان لا بد من انتظار مطلع القرن 20 مع ظهور مؤلف "أبحاث منطقية" لهوسرل سنة 1901، كي يظهر اللفظ من جديد في ساحة الفلسفة ويتخذ بشكل نهائي دلالته المعاصرة. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن كثيرين منا يعرفون الدعوى الشهيرة لهوسرل : "العودة إلى الأشياء ذاتها"، لكننا نجد صعوبة كبرى في تحديد دلالتها الفعلية.
وباختصار شديد فإن السمة العامة التي تميز تعاليم هوسرل الفينومينولوجية تتمثل دون شك في اعتبار أن الظواهر ليست ما نظن أنها عليه، أي أن البداهة لا تتواجد حيث ننتظرها. وهذا ما يجعل ضروريا القيام بعمل إعدادي يتمثل في إجلاء حقل التجربة الظاهراتية نفسها. لهذا السبب فإن الفينومينولوجيا هي للوهلة الأولى منطق ظواهر، وذلك بالمعنى الذي تسعى فيه إلى تحديد منطق الظواهر وماهيتها وطريقة فهمها، وأيضا بالمعنى الذي تستخدم فيه منطقا منهجيا مخصوصا وحده الكفيل بالوصول إلى الظاهرة كما هي. وعلى نقيض الفكرة المسبقة الشائعة عن فلسفة ساذجة وغير جدية، تكتفي بجمع الظواهر من أجل استخلاص معناها (أي نوع من الشعر الواصف للعالم المحيط بنا)، فإن الفينومينولوجيا كانت دائما مهتمة بالوسائل الكفيلة بإنجاز التحليل الظاهراتي. لذلك فإنها وظفت باستمرار منهجية جد دقيقة تضمن الوصول إلى الظواهر كيفما كان نوعها، دون التخلي عن اقتضاء البحث عن معقولية شاملة للتجربة.
مع ذلك، لا بد من الاعتراف أن التيار الفينومينولوجي يبدو للإنسان العادي كسديم مظلم مكون من أجسام سماوية شديدة الاختلاف. فليس هناك للوهلة الأولى سوى أشياء مشتركة قليلة ما بين علم النفس الفينومينولوجي لبرنتانو وفينومينولوجيا الغيرية لامانويل لفيناس. كما أن عددا من أشهر الفلاسفة أمثال هايدجر وسارتر وميرلوبونتي، أعلنوا انتماءهم إلى الفكر الفينومينولوجي مع أنه من العسير القول ما إذا كان للفظ "الفينومينولوجيا" المعنى نفسه عندهم جميعا.
صحيح أن وجود معجم موحد … نسبيا يضمن هوية مشتركة، إلا أن الالتقاءات المعجمية كثيرا ما تخفي خلافات مذهبية عميقة. إن الاتساع المستمر لمدى الفكر الفينومينولوجي ونجاح معجمه التقني الذي يؤاخذ عليه في بعض الأحيان طابعه المغرق في التقنية، لا يتعلقان فقط بالتلاميذ الأوائل لهوسرل، وإنما يمتدان كذلك إلى عالم الآداب والفنون الجميلة حيث يحيل لفظ الفينومينولوجيا على الاهتمام بالمعطيات الجمالية نفسها خارج قراءتها انطلاقا من الواقع أو تأويلها بعيدا عن الحقل الفني، غير أن هذا النجاح المفاهيمي يؤدي إلى نوع من الالتباس في فهم الفكر الفينومينولوجي. فالفينومينولوجيا أشبه بعملة فقدت قيمتها، تتداولها أيدي كثيرة ولا تنتهي أبدا إلى يد معينة تتبناها بصفة شرعية كعملة. إن الأمر لا يتعلق هنا بالبحث عن تقليد مذهبي فينومينولوجي -غير موجود دون شك حتى عند مؤسس الفينومينولوجيا الذي لا يقبل نتاجه المتسم بالانفتاح والمرونة أي تعلق دوغمائي من هذا النوع- وإنما ينبغي بالأحرى التساؤل عما يشكل أصالة المشروع الفينومينولوجي. وفي هذا الصدد يبدو لنا أن معرفة وتقدير دقيقين لماضي هذا المشروع هما وحدهما الكفيلان بدرء خطر التحلل الذي يهدده.
إن وحدة التيار الفينومينولوجي تطرح إذن مشكلة. وقد كان الأمر كذلك دائما. فلم تكد تمر سوى عشر سنوات على تأسيسها من طرف هوسرل، حتى بدأت أصوات الاحتجاج ضدها تسمع من داخلها (إنغاردن – دوبير إلخ..). ومنذ المنطلق عاشت الفينومينولوجيا على إيقاع التباين والتشظي، وظل تاريخها سردا لعدد من المذاهب الفينومينولوجية التي انفعلت عن شجرة هوسرل ونبتت في تربة غير التربة الأصلية التي أعطت مذهب هوسرل.
اعتمادا على هذه المشكلة، أي مشكلة وحدة حقل أبحاث الفينومينولوجيا، فإن تعريف "الظاهراتي" Le phénoménologique نفسه يشكل حاليا بالنسبة للجيل الجديد من الفينومينولوجيين الفرنسيين (برباراس – جانيكو – ماريون..) أحد الموضوعات المحببة. وجميع هؤلاء يتساءلون، بصيغ مختلفة، حول ما يشكل خصوصية المنهاج الفينومينولوجي. تحضر إلى الذهن هنا بشكل خاص أعمال دومينيك جانيكو، وكذا المجهودات الأخيرة لجاكلين بنوا للعثور على البذرة الأولى للفينومينولوجيا، الأكثر وفاء لاكتشاف هوسرل في "الأبحاث المنطقية" لسنة 1901. والحقيقة أن وراء الخصومة حول التعريف يتعلق الأمر في الحقيقة بالنسبة لهؤلاء الباحثين بعمق المسألة، أي بجوهر منهج البحث في المشاكل الفلسفية كما وضع أسسه هوسرل في مطلع القرن الماضي. من هنا يبدو إذن أن الرهان المباشر للفينومينولوجيا المعاصرة يتعلق بإمكانية منهجها، ذلك لأن وجود الفينومينولوجيا نفسه يعود إلى تطبيق نوع خاص من التساؤل أكثر مما يعود إلى النتائج التي تعرضها، بالرغم من أن هذه النتائج ليست مما يستهان به خصوصا فيما له صلة بفهمنا لظواهر معقدة من قبيل ظواهر الزمنية الداخلية للوعي أو الظواهر الخاصة بالعلاقة مع الغير، إذا اقتصرنا على نموذجين فقط للقضايا التي بحثتها الفينومينولوجيا بشكل معمق جدا.
ونظرا لأن النتاج الفلسفي لهوسرل يتيح استغلالات متنوعة بحكم تنوع الأشكال التي اتخذها، فهو قد ساهم في نشأة فينومينولوجيات متباينة جدا تدعي جميعا إرثها له. وهنا يكمن صلب المشكلة الإبيستمولوجية. فالفينومينولوجيا لم تؤسس مذهبا، بل ولم تسع إلى ذلك أبدا. وقد ظلت دائما حتى بالنسبة لأتباعها، نوعا من البحث المستمر لم يكن من الممكن أن يؤدي أبدا إلى قائمة نهائية من المبادئ والقواعد، وكانت طريقتها المتميزة في مساءلة العالم هي ما يشكل خصوصيتها. لكن بمجرد الشروع في التساؤل عما هي الطريقة، تبدأ صعوبات التمييز، إذ ليس هناك اتفاق حول الإقرار بمنهج فينومينولوجي واحد. صحيح أن الإحالة على "مبدأ مبادئ" الحدس الواهب للأشياء والذي صاغه هوسرل سنة 1913 تضمن نوعا من الوحدة، إلا أن هذه الأخيرة تبقى ظاهرية أكثر مما هي حقيقية، اعتبارا لكون جميع الفينومينولوجيين غير متفقتين إطلاقا حول تحديد طبيعة هذا الإدراك الحدسي الأولي الواهب للأشياء الذي سيتخذ أساسا ومنطلقا للتحليلات. ويمكن ملاحظة مآل باقي المفاهيم المركزية للمنهج الفينومينولوجي في الفلسفات ما بعد هوسرل (مثلا: "وحدة الماهيات" تعليق الحكم")(*) لكي ندرك أنه في هذا الموضوع أكثر مما هو الأمر بصدد موضوع آخر، يستحيل الوصول إلى اتفاق صريح. بل بالعكس من ذلك، فانطلاقا من التعابير التي صاغها هوسرل أو هايدجر في بداية مشواره الفلسفي، نشأت فينومينولوجيات ما لبثت أن عملت على تعميق الاختلافات في وجهات النظر بينها.
بيد أن احترام منهجية فينومينولوجية واحدة ما زال وسيضل دائما مشكلة جوهرية. وعلى الرغم من وجود اختلافات واضحة للعيان بين مختلف الفينومينولوجيات المعروفة مما يقود في بعض الأحيان إلى خلافات وأشكال من سوء التفاهم (مثل الخصومة التي وقعت في منتصف التسعينيات بين جون لوك ماريون ود.جانيكو والتي كان موضوعها بالأساس –إلى جانب موضوع الدين- هو تعريف "الظاهراتي" نفسه)، فإن هناك ملامح مشتركة بين هذه المذاهب، وهي بوجه خاص: الريبة تجاه الافتراضات الإيديولوجية للمذاهب الفلسفية الكلاسيكية الكبيرة، ورفض الاتجاه الوضعي الطبيعي، والاهتمام البالغ والمستمر بالوصف وبالمعطيات الظاهراتية، والبحث عن أفق تجربة خالصة يمكن انطلاقا منها أن تتم الأبحاث دون اللجوء إلى المفاهيم التقليدية للميتافيزيقا..إلخ. وكما هو الحال في الغالب في مجال تاريخ الأفكار، فإن وحدة التيار الفينومينولوجي تتحدد لا بما يميزها ويجعلها ما هي عليه بل بما يجعلها تختلف عن غيرها. وتبقى التحليلات الفينومينولوجية متميزة بشبه واضح يجمع بينها ويوحدها. ولو افترضنا وجود ميثاق فينومينولوجي يمكن أن يسير بتآخ مع المفكرين، فإن جوهر هذا الميثاق لن يكون سوى احترام وحدة وهوية فكر. وهو ما لا يمنع من وجود خلافات بين المنتمين إلى تيار الفينومينولوجيا، وإن كانت وراء أشكال الخلاف والسجال بينهم تبرز ملامح مجال ممكن للعمل المشترك. ويبدو أن الفعل في استمرار ورسوخ الفينومينولوجيا في فرنسا، على خلاف تيارات فكرية كبرى من القرن الماضي كالبنيوية والماركسية، يعود إلى رحابة الفكر التي تميزها، وكذا إلى غياب تقليد مذهبي تاريخي داخلها. فغياب خطاب واحد وموحد مهيكل على شكل مدرسة، سمح بانبثاق تيارات فكرية متنوعة تنتمي إلى التقليد الفينومينولوجي. ومن هنا يمكن القول إن ما يعتبر نقطة ضعف الفينومينولوجيا شكل نقطة قوة المنتمين إلى هذا التيار. لكن، ما هي نقط الالتقاء التي يمكن أن تلتف حولها الخطابات الفينومينولوجية فتتيح لها من ثمة المطالبة بنعت الفينومينولوجية؟
دون شك أن إمكانية الوصول إلى المعطيات المباشرة عن طريق الحدس، وكذا إمكانية الوصول إلى تجربة يمكن بفضل حضورها أن تبرر وتضمن المفاهيم الواصفة لها، هما ما يشكل في نظرنا الرهان الأساسي للفكر الفينومينولوجي. غير أنه لا بد من التنبيه إلى أن مجال المعطيات الحدسية هنا يبنى أكثر مما يكتشف، يؤسس وليس معطى للاستثمار. وسيكون من قبيل الوهم الكبير بالنسبة للفينومينولوجيين أن مثل هذه التجارب الحدسية المكتفية بذاتها يمكن إيجادها في متناول اليد والتقاطها لتوظيفها في تأسيس خطاب فلسفي، دون التسلح بدعامة منهجية ونقدية متينة. لكن هل اقتنعوا بذلك أبدا؟ منذ السنة الجامعية 1923-1924 نادى هوسرل في دروس "الفلسفة الأولى" بضرورة إخضاع التجربة الفينومينولوجية نفسها للنقد. ودون التخلي عن المهام التاريخية التي حددها لها هوسرل، ولا عن إمكانية الوصول إلى حقيقة مطلقة، فإن الفينومينولوجيا مدعوة إلى أن تصبح تأويلية ونقدية وأن تكون في مستوى تأسيس خطابها الخاص عوض الاكتفاء بألفاظ (وهو ما كانت تميل إليه أحيانا باجترارها لخطاب لم يعد –لفرط عودته إلى ذاته باستمرار- يعكس مقتضياتها الأصلية التي تتمثل في تعليل جميع ظواهر العالم). كما أصبح ضروريا بالنسبة للفينومينولوجيا أن تعير اهتماما خاصا إلى ما تفعله وتقوله، وإلى العمليات التقنية والمنهجية المختلفة التي تشكل خطابها. فلم يعد ممكنا لها أن تستمر في الاستفادة من الوضع الاستثنائي الذي يمنحه لها الوصول المباشر إلى المعطيات (La donation)، وإنما عليها أن تدرك أن عليها، مثل ما هو الحال بالنسبة لأي خطاب يضع نصب عينيه الوصول إلى الحقيقة، البرهنة باستمرار على أدواتها، والتفسير الشامل لأهدافها، إذ بهذه الصفة وحدها سيمكنها أن تستمر وتدوم كوريث شرعي للفلسفة الخالدة (Philosophia pernnis).
(*) المقالة الأصلية هي:
Bruce Bégout, Un air de famille in Magazine littéraire, N° 403, novembre 2001, p20-22.
(*) مقابل المصطلحات الفرنسية: Unités des essences وréduction.