نستهل الحديث عن تأويليات الفيلسوف و اللاهوتي الألماني فريدريش دانيال أرنست شلايرماخر (Friedrich Daniel Erns schleiermacher ( (1834-1768) بمقتبس من محاضرته في الهرمينوطيقا إذ يقول " الهرمينوطيقا بوصفها فن الفهم لا وجود لها كمبحث عام ، فليس هناك غير كثرة من الأفرع الهرمينوطيقية المنفصلة. "
إذا وقفنا قليلا على هذا القول وأمعنا النظر نلاحظ بأن هرمينوطيقا شلايرماخر تعنى في المقام الأول بمسألة الفهم ، وليس أي فهم وإنما يحددها بوصفها فن الفهم (l’art de compréhension ) وهذا الوصف يحيلنا إلى أن الفهم عملية إبداعية بالدرجة الأولى ، فالفن هو قدرة على الإبداع ، وليس تطبيق حرفي آلي هنا نميز بين الفن ، والآلية (le mécanisme ) في الفهم .
وكما أشرنا سلفا بأن تعريف شلايرماخر للهرمينوطيقا باعتبارها فن الفهم وكل فهم فهو فهم خاص مثال: فهم قصيدة فهم رواية ... ، و كل فن لابد له من قواعد؛ إذن فالفن إبداع في فهم النصوص مع احترام القواعد.
بينما الآلية فهي تطبيق حرفي ميكانيكي فالآلية تقتل الفن وهما من هذا المنظور متعارضان بالنسبة لشلايرماخر مثال فالكل لا يساوي مجموع أجرائه وإنما الكل هو تلك القيمة المضافة .
الفهم بدونه تستحيل الحياة لأن كل مناحي الحياة مبنية على الفهم، فالهرمينوطيقا عفوية بالنسبة للإنسان جعل شليرماخر نقطة بدايته عبارة عن سؤال عام وهو كيف يتم على وجه الدقة فهم أي عبارة أو أي قول سواء أكان قولا منطوقا أو مكتوبا؟
يمكن القول انطلاقا من هذا السؤال إن كل حوار يجري، فإن عملية صياغة قول ما، والتعبير عنه في جملة من الكلمات شيء، وعملية تلقي هذا القول شيء آخر، ومتميز كليا. والهرمينوطيقا في نظر شلايرماخر إنما تنصب على العملية الثانية وحدها (1)
إن الهرمينوطيقا تسائل كيف يتحصل الفهم ؟ لأن ما يعنيها بالأساس مسألة الفهم يجدر بنا التمييز هنا بين مستويات من الفهم .
الفهم الشائع أو الفهم العفوي أو الفهم العام
الفهم المطلوب وهو الفهم الذي يكون عند الطلب كأن يطلب منك أحد فهم قصيدة شعرية أو نص ... فهو بالأساس فهم أكاديمي .
الفهم المأمول أو الفهم المتوخى وهو فهم الفهم أي باعتباره نظرية في الفهم.
إذن ؛فالهرمينوطيقا هي فهم الفهم ، بمعنى أن تفهم وتفهم بأنك تفهم
هذا من جهة ،ومن جهة أخرى وارتباطا بالمقولة التي ذكرناها في البداية قصد الوقوف عندها وتحليلها ننظر الآن في الشق الثاني الذي تتكون منه لفهم على وجه الدقة ما يرمي إليه شلايرماخر بقوله " لا وجود لها كمبحث عام ، فليس هناك غير كثرة من الأفرع الهرمينوطيقية المنفصلة. "
يدفعنا هذا القول إلى التسليم مع شلايرماخر بأن الهرمينوطيقا حتى عهده لم تتشكل و تستقر بعد كمبحث ولم ينظر أحد في أمرها فهي، كانت عبارة عن قواعد مشتتة مبددة متفرقة لا ينظم بينها ناظم، وحتى لو سلمنا بأن هنالك في القديم هرمينوطيقا قبل شلايرماخر فهي هرمينوطيقا موجهة بمعنى خاصة ،كانت هنالك هرمينوطيقات متعددة نذكر منها: (هرمينوطيقا الدين ،القانون ،الفقه ... الخ) .
بدأ يتضح شيء فشيء سعي هذا المفكر وهو التأسيس لمبحث - جديد قديم – جديد في التأسيس له قديم في وجوده أو استعماله ،وذلك كما ذكرنا مند الإغريق ونخص بالذكر هنا أفلاطون (Platon) ، في محاورة إيون(yon) التي تدور حول مسألة الفهم ، تم اكتسى هذا المفهوم صبغة دينية في المرحلة القروسطية، وذلك من خلال استعماله قصد فهم الكتاب المقدس عن طريق آليات من قبيل التفسير، و التأويل ... واستمر هذا حتى عصر النهضة و العصر الحديث وخصوصا في مرحلة الإصلاح الديني التي قامت به أوربا مع مارتن لوتر... الذي كان له تأثير بالغ الأهمية على مفكرنا شلايرماخر.
إن ما ذكرناه لهو السياق الذي تدرج نحوه مفهوم الهرمينوطيقا أو التأويليات ويمكن أن نصطلح عليه بما قبل تاريخ التيار التأويلي أو ما يسمى بمرحلة (les précurseur ) أو الممهدون لبداية تاريخ التيار التأويلي على يد شلايرماخر من خلال محاولته لتأسيس هرمينوطيقا عامة. من هنا يمكن أن نطرح السؤال التالي: مادامت هنالك استعمالات للمفهوم في القديم، ووجود قواعد يرتكز عليها مع قواعد متفرقة و متعددة أين تتجلى إضافة شلايرماخر للهرمينوطيقا؟
إن شلايرماخر عينه لم ينكر البتة انه لم تكن ثمة هرمينوطيقا في القديم ،وعلى الرغم من وجود قواعد إلا أنها قواعد مشتتة في تضاعيف الكتب أو إن صح التعبير مجرد توجيهات، وبعد أن أوكلت له مهمة تدريس الإنجيل سنة 1829 للعهد الجديد أضحى يتساءل إذا أراد أن يدرس الإنجيل يجب أن يكون على وعي تام بما معنى أن أشرح، فالشرح يتطلب مسبقا الفهم. إن الانتباه لمثل هذه الأسئلة تؤدي بنا إلى جوهر الهرمينوطيقا، تم شرع في جمع تلك القواعد سعيا منه لتحقيق الاستقلالية لهذا المبحث ،والذي سماه بالهرمينوطيقا العامة.
غير أن هذه الهرمينوطيقا العامة ،فيما يرى شليرماخر، لم يكن لها من وجود. فلم تكن هنالك غير أفرع هرمينوطيقية متباينة ،أهمها الهرمينوطيقا الفيلولوجية (فقه اللغة) واللاهوت، والقانون. وحتى داخل الهرمينوطيقا الفيلولوجية لم يكن هناك ترابط منهجي،بل مجموعة من القواعد و الإرشادات العملية المهيأة لمواجهة مشكلات لغوية و تاريخية جزئية بعينها تطرحها النصوص القديمة العبرية و اليونانية و اللاتينية. كان الشيء الغائب دائما هو التصدي للفعل الأساسي في كل تفكير - المتمثل في- فعل الفهم، الفهم الذي يضطلع به كائن إنساني ...(2)
أن الحديث عن الهرمينوطيقا العامة يقتضي بنا الوقوف عند الغاية التي كان يرمي إليها الفيلسوف شلايرماخر نجدها متمثلتا في تحويل التفسير إلى نظرية فنية في ميدان أعمال اللغة البشرية وصنائعها، بحيث ينسب لها شلايرماخر استجلاء تلك الروابط الناشطة بين اللغة وطرائق التعبير الخاصة بكل فرد، وهذه الطرائق أو التقنيات لا تستقيم وتترابط فيما بينها إلا "حين تتداخل تداخلا كاملا اللغة بموضوعاتها، وبمنحى تكون الأفكار، فيكون هذا التداخل بمثابة طريقة أو وظيفة الحياة الفكرية للفرد في علاقتها بجوهر الفكر نفسه بحيث يمكننا... أن نعرض بتماسك مطلق للكيفية التي ينبغي أن نتماشى على مقتضاها لكي نفهم هذه الأفكار"(3)
إن الهرمينوطيقا التي سعى شلايرماخر إلى التأسيس لها تعنى بفهم تفاعلات الحياة التي يختبرها الكاتب، وبفهم صياغات اللغة التي يبتكرها فكر الكاتب حين يعمد هو الى مباني اللغة يبت فيها عناصر رؤيته الفكرية الجديدة فيغير منها العبارة و التراكيب والدلالات. ولا عجب، من ثم، أن يكون الفهم الصائب الذي تطمح إليه هرمينوطيقا شلايرماخر منعقدا على تطلب الخطاب و تحليله تحليلا يستند إلى اللغة المستخدمة والبحث في المسعى الفكري الناشط في الخطاب. وكلا من اللغة والمسعى الفكري يعيّنان للخطاب هويته وقوامه و طبيعته.(4)
إن الخطوط الكبرى لفن التأويل الفلسفي؛ القائم على الفهم، وذلك باعتبار الفهم مرتبط بالتفسير، التفسير يحتاج إلى قواعد ثابتة وعامة يتناول فيه المؤول تفاعل المستويات الكبرى للتجربة التأويلية والمتمثلة في "اللغة" وعلاقتها بفاعلية الحوار ضمن نسيج لغوي حي، وتعتبر اللغة في الظاهرة التأويلية كشرط أساسي يجب أن تراعيه الهرمينوطيقا الجديدة حتى تندرج ضمن نطاق العلم الشامل، ويتأتى ذلك بالإلمام الفطن بقواعد اللغة التي نشأ فيها النص فالنص عبارة عن وسيط لغوي ينقل فكر المؤلف إلى القارئ وبالتالي فهو يشير في جانبه اللغوي إلى اللغة بكاملها ، ولا سيما بقواعد اللغة التي استخدمها الكاتب في إنشاء نصه، ومعرفة الكاتب في خصوصيته من خلال سيرته الذاتية / الحياتية، والإحاطة بموضوع التفسير إحاطة وافية و موضوعية منصفة،" وفهم "القصد المباشر" للمؤلف في علاقة حوارية خلاقة لفن التأويل الذي وضعه كل من شلايرماخر ودلتاي والذي يركز على صرامة "المنهج" (الآليات اللغوية والمنطقية في قراءة النصوص) و تقييم مقاصد المؤلف، بمعنى التركيز على البعد النفسي البحت في القراءة. وعليه يصبح التأويل عند شلايرماخر مجرد تأويل لغوي يدعمه التأويل النفسي بإعادة تأسيس المقاصد الأولية للشخص-المؤلف، والسعي لإعادة إنتاج المعنى الأصلي الذي يتوارى خلف النص.
نميز من خلال هذا السياق بين التأويل النفسي والتأويل النحوي/اللغوي:
تكمن أهمية ما دعى إليه شلايرماخر في ضرورة السعي نحو العودة الى أصل الخطاب أو النص حتى تتم عملية الفهم، وحتى يرقى هذا الفهم الى الفكر الذي استوى في أصل نشأة النص أو الخطاب. لأن الهرمينوطيقا تسعى الى إدراك ما ينطوي عليه النص من قصد للمعنى الذي عُبّر عنه بالقول أو بكلام المؤلف ،ومن هنا نروم الحديث عن جانبين جانب موضوعي مشترك متمثل في جنس اللغة ولما كانت اللغة تطمر ما لا تضمر ولها دلالات و معاني متعددة ارتأى شلايرماخر جانب آخر وهو الجانب الذاتي الخاص بالقائل / المؤلف وذلك بمعرفة وافرة عن جوانب حياته وما النوازع الاجتماعية و السيكولوجية ... التي أدت به الى انشاء هذا القول. يقول شلايرماخر "إن الفكر يبلغ تمامه بالكلام الداخلي. فالكلام، على حسب هذا المعنى، ليس سوى الفكر وقد صار بالحقيقة / بالفعل فكرا ...؛ إذا (في فعل الفهم) ينبغي أن تدرك الفكرة كما هي في أصل الخطاب." (5)
يذهب شلايرماخر الى الإعلان بأن المفسر ينبغي له أن يكشف النقاب عن الفكر الأصلي الذي ينشأ التعبير "يبحث المرء بالفكر عن الغرض عينه الذي شاء الكاتب أن يفصح عنه(6)
لكل نص جانبان ؛الجانب الأول : هو الجانب الموضوعي أو اللغوي،l’interprétation grammaticale ويتمثل في لغة النص والمعنى اللفظي المباشر لألفاظ النص وهو يعتمد على معرفة اللغة وبعض القواعد اللغوية والأدبية ،وهذا الجانب مشترك بين المؤلف والآخرين العارفين بلغته وقواعدها. تكتسب اللغة بعدا اجتماعيا وذلك لتواطؤ الناس عليها والتي ينتج عنها كل نص أو قول ناشئ في رحاب هذه الجماعة ،ولذلك ينبغي على المرء أن يكون ملما بقواعد وأصول اللغة حتى يكتب قولا قابلا للتعقل والإبلاغ ليوائم أحكام اللغة التي ينتمي إليها خطاب الكاتب ولهذا يصطلح عليه شلايرماخر بالتفسير النحوي اذ يعنى هذا التفسير بتدبير صيغ الكلمات وأحكامها و اعرابها و تراكيبها المصاغة في جمل وسياق في نطاق مراعاة أصول اللغة المتعددة.
ينحصر عمل التفسير النحوي في البحت عن معنى الكلام بالاستناد الى معطيات اللغة وباعتماد هذه اللغة كوسيلة للبحث - والكلام هنا لشلايرماخر- : ("التفسير النحوي هو فن العثور على المعنى الدقيق للخطاب انطلاقا من اللغة وبمساعدة اللغة. والقانون الأول هو على هذا الوجه : يجب البناء استنادا الى مجموع ما تنطوي عليه اللغة من قيمة سابقة ،وهي القيمة المشتركة بين الكاتب والقارئ. ويجب الَّا يجري إلا فيها البحثُ عن امكانات التفسير")(7)
وإذا كان الأمر يجري على هذا النحو،فإن التفسير النحوي يقصي الكاتب من حقل استقصاءاته ،فيعتبره مجرد أداة للغة أو وسيلة تتوسل بها اللغة لتفصح عن مدلولاتها. وبذلك يقتصر عمل التفسير النحوي على تقصي هوية المفردات و الألفاظ في القواميس و المعاجم و المسارد ،والبحت في تاريخ الزمن الذي دُوّن فيه النص ،والتنقيب عن وجوه الاستعمال اللغوي السائد في عصر من العصور. ويوصي شلايرماخر باللجوء الى التفسير النحوي حين يعمد المفسر لا الى إدراك الفكر الأرحب الذي ينضوي فيه النص ،بل الى فهم موضوع النص في حدود اعتلانه في الكلمات و التعابير و الصياغات. وتتضاعف أهمية التفسير النحوي حين يسند شلايرماخر إليه أيضا وظيفة الفصل بين معان الكلمات ،مما يجنب المفسر السقوط في الخطأ النوعي الذي يخلط بين كلمة و كلمة ،و الخطأ الكمي الذي يخلط بين نبرات المعاني التي ينبغي أن تنفرد بها كلمة دون أخرى وعبارة دون سواها. وفحوى القول في هذا التفسير النحوي أن شلايرماخر يعتبره أساس الاجتهاد التفسيري لأن اللغة هي أصل الاجتهادات كلها تحوي في تضاعيفها كلَّ ما يمكن البلوغ إليه واستخراجه وصياغته . (8)
أما الجانب الثاني : هو الجانب التقني أو النفسي l’interprétation technique ou psychologique : وهو المتعلق بفكر المؤلف وذهنيته وقصده ،وهو المعنى الكامن في ذهن المؤلف ،والذي يتجسد فيه هواجس النفس الإنسانية ،حيث أن النص كالكتابة ممتزجة بإحساسات الكاتب ،وقد أودع داخل النص مجموع ما يدور في نفسه من احساسات ونوايا في قالب لفظي لغوي. .
ومن خصائص الجانب اللغوي والذاتي المعنى اللفظي محدد ومتعين يمكن التوصل إليه من خلال المعرفة بالقواعد اللفظية ،ولكن المعنى الذاتي وهو المهم في عملية التفسير فليس الوصول إليه سهلاً ،لأنه يرتبط بفكر المؤلف ومشاعره وهواجسه وكيفية استخدامه للألفاظ وإيداع قصدَه فيها ،ولابد من التعرف عليها لأجل فهم النص أو إعادة بناء قصد المؤلف حتى يتمكن المفسر من أن يحيا حياة المؤلف.
عند قراءة نص المؤلف من طرف المفسر وبعد أن يكون هذا الأخير قد تمكن من معرفة سيرة المؤلف الحياتية يصبح النص بمثابة مرآة تعكس ظروف و نوايا الكاتب، ومنه ينبغي للمفسر تجاوز حدود التفسير النحوي ليبلغ الى التحري عن الحركة الذاتية الفردية الساعية الى التعبير عن مكنوناتها.
فالبشر لا يتفكرون في الأمر عينه باستخدام الكلمات عينها، إذ لكل امرئ طريقته وأسلوبه ونهجه. ولو كان جميع البشر يتعقلون الأمر عينه ويعبرون عنه بالكلام عينه لانحصر كل شيء في حدود التفسير الصرفي و النحوي. غير أن واقع التنوع العظيم في الاختبارات و التعابير الإنسانية الفردية يدل على أن الفسارة (*) لا يمكنها أن تكتفي بتقليب النظر في أصول التفسير اللغوي ،بل ينبغي لها أن تراعي جانب الفرادة و الخصوصية في التعبير ... إن ما يدعوه شلايرماخر التفسير الفني ،هو تفسير تُنسب تسميته الى الفن الذاتي الخاص الذي يطبع تعبير الذاتية الفردية. (9)
إن المتحدث أو المؤلف يبني جملة ،وعلى المفسر أن ينفد الى أغوار بناء الجملة ومن ثم نكون قد تحدتنا عن مكونين من مكونات الهرمينوطيقا وتبعا لما قلناه سلفا ،لا نجد أي تعارض بين التفسير النحوي و التفسير التقني أو الفني فالتفسيرين يكملان بعضهما البعض فالملاحظ هو التشديد من قبل شلايرماخر على المعرفة الوافرة بالجانبين معا حتى نتمكن من الوصول الى الفهم الصحيح.
فعملية تفسير النص تتوقف على الوصول لذهنية المؤلف ،من خلال التعرف على الفضاء الحاكم على المؤلف حين إبداعه النص، والدقة في فهم ألفاظ النص ودلالاته وإشاراته، والتعرف على الظروف الثقافية والحضارية للمؤلف ،ورؤيته الكونية وبذلك يتوصل بدقة لقصد المؤلف وبناء مراده.
إن لكل تفسير من التفسيرين خصوصية ذاتية إلا أن شلايرماخر يُلح على تداخلهما و ترابطهما، وأي مفاضلة بينهما تعرقل الفهم يقول شلايرماخر: "ما أن لكل كلام وجهين من العلاقة، علاقته بمجموع اللغة وعلاقته بمجموع الفكر الذي يحمله منشئ هذا الكلام ،كذلك كل فهم يقوم على وجهين، فهم الكلام ككلام من خلال اللغة، وفهمه بما هو متدرج من واقع المفكر."(10)
لقد فحص شلايرماخر من قبل حلقة التأويل الكلي وأجزائه وخاصة في أبعادها الموضوعية والذاتية. من جهة كل نص ينتمي إلى جملة آثار المؤلف وإلى الأدب أين ينشأ. من جهة أخرى، إذا أردنا إدراك النص في مصداقية دلالته الأصلية، فينبغي رؤيته كتجلي لحظة إبداعية وإعادة توظيفه داخل شمولية السياق الروحي للمؤلف. فالفهم ينشأ انطلاقا من الكلي المشكل ليس فقط من العوامل الموضوعية وإنما أيضا من ذاتية المؤلف. (11 (
هكذا يحصل الفهم بتوفير لحظتين مندمجتين و متفاعلتين اعتبرهما شلايرماخر بمثابة اكتمال مهمة الهرمينوطيقا في تأسيس عملية الفهم إن مسعى الهرمينوطيقا ومهمتها الرئيسية هي تحقيق مرتبة عليا من فهم الخطاب بحيث كل فعل للفهم هو انعكاس لفعل الكلام (*) وذلك عن طريق اللغة ،وبالإضافة الى الإحاطة بالكاتب الذي يعوذ بنا الى اللحظة التاريخية للمؤلف.
فبين التأويل النحوي و التأويل النفسي تكامل ،فالاعتماد على واحد منهما يلغي الآخر. إن التأويل النحوي يتمركز حول اللسان فهم ما ألف عبر اللسان أما التأويل / التفسير النحوي يتمركز على الإنسان فهم ما ألف عبر الإنسان ،فحين نريد أن نفهم نصا نتجه توجهين اثنين أولهما ماذا قال وهو التأويل النحوي وهو منحى موضوعي، وثانيهما من قال / الاعتماد على القائل من خلال المعرفة الملمة بحياته وهو التأويل النفسي وله منحى ذاتي اذ يقول شلايرماخر في هذا الصدد لا فهم إلا بفهم سياق صاحب النص المؤلف الذي يمكن أن يفهم فهما حقيقيا فقط عبر الرجوع الى أصل فكره .
وحتى نتحاشى الوقوع في نفس ما وقعت فيه النظريات التأويلية السابقة يرى شلايرماخر بأن الأساس الذي يجب أن يكون بمثابة المنطلق الفعلي لمشروعه هو الانطلاق من سوء الفهم « préséance de la mécompréhension » إذ الأولوية لافتراض الفهم الخاطئ هو ما يثير في انفسنا الحاجة الى الفهم فمهمة الهرمينوطيقا هي حل مشاكل الفهم وسننطلق من افتراض سوء الفهم لأنه هو الذي ينبهنا الى مسألة الفهم .
يميز شلايرماخر بين نمطين مختلفين من التفسير أو التأويل نمط التفسير المتراخي ونمط التفسير المنضبط و المدقق ،وهما النمطان اللذان بهما يتعين للهرمينوطيقا غايتان متباينتان. يستند النمط الأول ،نمط التراخي ،إلى ما شاع في التاريخ القديم للهرمينوطيقا التقليدية المأثورة من أن فهم النص يحصل من تلقاء ذاته، أي بقدرة الفهم الذاتية ،ومن دون الاستعانة بقواعد التفسير وآلياته. وجل ما يقتضيه هذا الفهم مما يجنب المفسر الخطأ في إدراك معاني النص. إن هذا النمط كان سائدا في تفسير بعض المواضيع المستغلقة التي تنطوي عليها النصوص القديمة ،وخلافا لذلك ارتأى شلايرماخر بأن تتأسس الهرمينوطيقا على قاعدة افتراض الفهم الخاطئ الحاصل من تلقاء ذاته ؛ومعنى ذلك افتراض الفهم الخاطئ لا الفهم الصحيح وهو الذي يمكن الهرمينوطيقا من أن تنشط في تدبر معاني النص. فالفهم الصحيح هو مقصد المفسر وغايته القصوى وعلى المفسر أن يسعى إليه لأن النص يحمل في طبيعته الفهم الخاطئ لا الفهم الصحيح . (12)
إن شلايرماخر لا يتكلم كثيرا على الافتقار الى الفهم بوصفه سوء فهم ... فالتأويل و الفهم بالنسبة له، متناسجان و كل مشكلة عن التأويل هي مشكلة عن الفهم فهو يعنى بقدرة الفهم لا قدرة التفسير ،ولكن الأهم هو أن شلايرماخر يميز بجلاء بين ممارسة تأويلية ينتج فيها الفهم آليا ،وممارسة دقيقة تنطلق من مقدمة تفيد أن ما ينتج آليا هو سوء فهم. وإلى هذا التمييز يستند إنجازه الخاص الذي كان يرمي الى تطوير فن حقيقي للفهم وهذا شيء جديد أساسا.(13)
فمن مسلمات الهرمينوطيقا القديمة التي كانت تهتم بعملية الفهم العفوي يظل المفسر في حالة الفهم الصحيح حتى تعترضه صعوبة في النص أو تناقض حينها يعتمد بعضا من قواعد التفسير لرفع الالتباس. لا يخامرنا شك في أن الهرمينوطيقا التقليدية قامت على الإقرار بأن قابلية النص للفهم الصحيح تمثل الحالة الطبيعية الأولى وما الفهم الخاطئ إلا حالة استثنائية عرضية ينبغي التصدي لها بعملية التفسير،وعليه رأى شلايرماخر بقلب تلك المعادلة ليبرهن على أن مقام الصدارة ينبغي أن يحفظ لحالة الفهم الخاطئ. فلا يمكن للقارئ أن يظفر بالفهم الصحيح إلا إذا ظل متيقظا من كل تلك الشوائب و الصعوبات التي تكتنف النص، بل ينبغي عليه أن يخضع تفسيره لقواعد تجعل من الفهم الصحيح شأنا مكتسبا على خلاف ما كان الشأن عليه في القديم اللذين اعتبروه شيء فطريا / طبيعيا كما أشرنا وعليه يجب على المفسر أن يراعي ويلتزم بتلك القواعد و هي التفسير النحوي و التفسير النفسي وعندها لم يصبح النظر في صعوبات الفهم و إخفاقاته شيء عرضيا، وإنما عنصرا أساسيا يجب تجنبه. وعليه يقول شلايرماخر " يجب على الهرمينوطيقا ألا تنشط فقط حين يصيب إدراكنا شيء من الشك، بل يجب عليها أن تنشط مند بداية الطريق الى فهم الكلام " (14).
ومن خلال هذا القول يتضح لي بأن افتراض الفهم الخاطئ في كل عملية تفسير أو قراءة أو تأويل هو إدراك لصيق بتصور فلسفي بمثابة شك مسبق يهيئ الطريق الى فهم جيد ،وعلى الرغم من هذا يجب مراعاة محدودية العقل البشري فكل فهم مهما سما وبلغ من العلياء يظل فهما ناقصا ولا يسعه أن يزيل احتمال الوقوع في الفهم الخاطئ.
المراجع المعتمدة
(1)عادل مصطفى ،فهم الفهم : مدخل الى الهرمينوطيقا نظرية التأويل من أفلاطون الى جادامير ،رؤية للنشر و التوزيع ط 1 ص98
(2) : عادل مصطفى ، فهم الفهم: مدخل الى الهرمينوطيقا نظرية التأويل من أفلاطون الى جادامير ،رؤية للنشر و التوزيع ط 1 ص98
(3)Schleiermacher, Herméneutique, traduction M, Simon, Genève, Labor et Fides, 1987, p 193
(4) د. باسل عون، الفسارة الفلسفية، ص 69
(5)schleiermacher, Herméneutique, op. cit, p 100
(6) د. باسل عون، الفسارة الفلسفية، ص 72
(7) د. باسل عون، الفسارة الفلسفية، ص74
(8) د. باسل عون، الفسارة الفلسفية، ص 74
(*) يستخدم الدكتور مشير باسل عون مصطلح الفسارة بدلا من مصطلح الهرمينوطيقا إذ يقول "قد يستغرب القارئ النحت الذي أتى به لفظ الفسارة عنوانا للمادة. فالكلمة مستهجنة في هده الصيغة إذ لم يألفها لسان العرب في القديم من الأزمان.بيد أن الحاجة الى مواكبة تطور العلوم الإنسانية – دفعة به – الى مثل هذا النحت " إذ يأتي الدكتور عون بمختلف الاجتهادات التي عرفها مصطلح الهرمينوطيقا، فمنهم من اكتفى بتعريب الكلمة ذات الأصل اليوناني ومنهم من اعتبر التفسير مرادفا لها والتي تحملها مختلف الشروح القرآنية ... ويظيف الذكتور عون " وهاءنذا أرسل دلوي في بئر اللغة العربية لأغترف منها مصطلح الفسارة وقد حملته على وزن النباهة و الحداتة واستللته من وزن الثلاثي فسر...) انظر ذ.مشير باسل عون، الفسارة الفلسفية. بحت في تاريخ علم التفسير الغربي، دار المشرق بيروت ص 9
(9) د. باسل عون، الفسارة الفلسفية، ص75
(10) د. باسل عون، الفسارة الفلسفية، ص77
(11)هانس-غيورغ غادامير، مدخل إلى أسس فن التأويل ،التفكيك وفن التأويل ترجمة محمد شوقي الزين
(*) chaque acte de compréhension se veut une inversion de l'acte du discours en vertu de laquelle doit être amené à la conscience quelle pensée se trouve à la base du discours. Friedrich Schleiermacher, p. 101
( 12) د. باسل عون، الفسارة الفلسفية، ص79 -78 بتصرف
( 13)هانز جورج غادامير، الحقيقة و المنهج ، الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية ترجمة :ذ. حسن ناظم وعلي حاكم علي راجعه عن الألمانية ذ. جورج كتورة دار أويا للطباعو و النشر و التوزيع و التنمية التقافية، الطبعة الأولى2007 . ص271
(14)76schleiermacher, Herméneutique, op. cit, p