الحقيقة و الجسد ـ حميد مجدي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse25125أول شيء قريب مني، ملتصق بي، محدد لوجودي و يفوق طاقتي على الفهم و تعجز اللغة عن الإحاطة به، في علاقاته و أصله و بنائه و حمولته و حركته و تحولاته و وعيه و حسه و فكره و قوته و أناه و موته..هو الجسد. جسدي الخاص. جسد الإنسان الفرد.. أتعاطى معه و أتحاور أنا السائل، أنظر إليه و كأنه موضوع خارج ذاتي، أو هو بالأحرى ينظر إلى نفسه.  يحملني و يواجهني و يحتويني و يصنعني. هو الذي يتكلم و يرى و يسمع و يفهم و يتحاور.. يشكل تعددية و فردانية غريبة بينه و بين ذاته. و الغريب في الأمر أنه هو من يناقض نفسه و يطرح السؤال و ليس آخر. هو السائل الذي يسأل عن نفسه. و هذا معناه أنه لا يعرف ذاته و لا يحتويها رغم أنه هو ذاته. و أصل و منطق الأشياء في ما أعتقد هو أن تعرف الذات ذاتها، ألا تسأل الذات عن ذاتها أصلا.. ! أن يسأل عنها آخر يمكن قبول ذلك و لكن أن ينبع السؤال من الذات عن ذاتها فهذه قمة العبث.. !  لأنه كيف تستطيع العيش و التماهي و الاندماج المطلق مع ذاتك و وحدتك و إزالة التفكير في الحدود و الفواصل الكونية و أنت جاهل  بذاتك.  تسأل عنها كأنها موضوع تنظر إليه خارجا– في مقاربة فنية شبه مستحيلة - و كأنها ليست ذاتك.
الجسد، كعظم و دم و لحم حي.. كواقع و كإحساس و كحقيقة.. الجسد و عملية التحاور معه و التفاعل معه و الإحساس به، تشكيل لوحدة غير منفصمة. لا نتحدث عن أطراف. لا يفصم بين أجزاء الجسد إلا ضرورات التقسيم و التوزيع و الفرز التي تقتضيها اللغة و التواصل و التفاهم وتضيع معها الحقيقة. عملية تقسيم الجسد و تجزيئه على مستوى اللغة و الإدراك والفهم تقضي على الجسد و تقضي على الحقيقة.

"إنما الجسد عقل هائل، تعددية ذات معنى واحد، حرب و سلم، قطيع و راع. أداة لجسدك، هو ذا يا أخي، عقلك الصغير الذي تسميه " روحا " أداة صغيرة و لعبة لعقلك         الكبير. " (1)
إنني مستمر في العيش بفضل أعضاء جاهزة و مسبقة، ليس لي فيها يد (القلب، المخ، الأجهزة العصبية، الخلايا، الدورة الدموية..إلخ). لا حكم لي عليها و لا دخل لي في نموها و لا اشتغالها..مستقلة تماما عن وعيي و عن إرادتي. تشتغل دون كلل. تحكمها و تضبطها عبقرية هائلة. دقيقة ومنظمة بشكل خارق و لكنها قابلة للمرض و التلاشي و فانية في النهاية..و فنائها يعني فنائي.. فناء الوعي  بذاتها و بالعالم..  من هنا العطب الرئيسي و الشرخ الذي يحمل على الوعي و يفرض عليه التفكير- المنبثق هو نفسه من تركيب أعضاء الجسد –  من خارج الجسد.. ! هناك هزؤ في العملية برمتها. جسدك في نهاية الأمر مستقل عنك..منفصل عن ذاته..و المسألة لا تحل من خلال استجلاب مضامين أو صور خيالية و مبهمة.. من قبيل الحديث عن ثنائية ما أو ثلاثية..:  ( روح و جسد و نفس ) أو (عقل و جسد ) أو ( نفس و جسد ) أو ( روح و مادة).. وغيرها من الكلمات و المصطلحات التي تبحث عن حل انفصالي متعسف عليه.. ! فقط للقضاء على حرقة السؤال الصعب و إقصاء الجسد و إيجاد أجوبة مهما كانت و بأي ثمن، المهم أن نحصل على جواب بغرض تلبية حاجة نفسية أو سياسية أو أخلاقية.. !
"منذ أن عرفت الجسد أفضل- قال زرادشت لأحد أتباعه ، ما عادت الروح عندي أكثر من كلمة تقال : و كل هذا " الذي لا يفنى " إن هو أيضا إلا رمز". (2)
الجسد ينمو و يكبر و يتفاعل و يشبع و يجوع و يسعد و يتألم و ينام و ينسى و يفكر و يتمثل و يمرض و يموت و ينحل.. يتكون من آلات و علاقات و غرائز هائلة كثير منها غير معروف. حركته المعقدة و الخفية لا تنتهي حتى أثناء النوم. ينبض بحركة لا تنقطع منذ انبلاجه في بطن الأم حتى نهايته/ موته، بل و قبل ذلك بكثير إذا اعتبرنا ارتباطاته الوجودية و الكونية و العضوية. لا أحد يعرف أصله. لا يقف الأصل عند بطن الأم في الحمل، فتلك مرحلة متقدمة جدا من النمو، بل يمتد الأصل إلى من أنتج الحمل و الذي أنتج من أنتج الحمل و هكذا لا نقف عند حد أو على الأقل لا نعرف أين الحدود التي نقف عندها و ما إذا كانت هناك فعلا حدود، اللهم في الكتابات المتخيلة للأساطير و ثقافات الشعوب..
المؤكد هو أن هذه الارتباطات الإنسانية المعقدة المكونة لجسد الإنسان لا تقف عند حدود الأب و الأم أو الأجداد، هي ارتباطات كونية تضرب في الأعماق البعيدة و هي مجهولة تماما. و لكن بكل أسف ننسى ذلك و لا نحس به و نتعاطى مع الجزئي و الضئيل. و نبني على ذلك حياة و أخلاقا و قوانين. لذلك فلا قرار لنا و لا مستقر !
يكون الجسد، ما ليس عليه فعلا. يكون ما أريد له أن يكون ضمن استراتيجية سياسية و ثقافية.. أحمل جسدا متناقضا و فارغا، و هو لا يعرف في النهاية ما يكونه، تاه عما يكونه، عما هو عليه، تاه عن حقيقته التي لم يعد يعرف عنها شيئا، و كأن الحياة تقتضي لنحياها هذا النوع الغريب من عدم المعرفة..! هذا الجسد الذي نفكر وننظر للكون و نحيا من خلاله، لا نعرف ما هو في كليته.. تتكون و تكون من معنى معين لا تعرفه، بل لا تستطيع معرفته.. إنها الغرابة أن تلقى في هذا الكون و تعي أنك لا تعرف كنه نفسك، جسدك.. و كأنها أمور محتم اختفاؤها و تقتضي معرفتها موتا أو انقلابا جذريا في موازين الحياة..
"ستحيا طالما أنك لا ترى نفسك"
نبوءة محيرة قالها العراف تيريسياس ل " نرسيس الأسطورة ".
 "ستحيا طالما أنك لا ترى نفسك"
و كأن الحياة، تقتضي بالضرورة هذا النوع من الاختفاء. و تقتضي المعرفة و يقتضي الظهور، الهلاك ! 

2
قد تكون هذه المركبات المتناقضة للوجود و حقيقته هو ما أضجر عددا من الفلاسفة و الشعراء و ألهمهم في الوقت نفسه. فالبحث في كينونة الإنسان " الضعيف و المتناهي " صعب و مقلق للغاية، لأنه مرتبط مباشرة بالعيش و الشعور الداخلي و الحياة اليومية. مرتبط بإرادة إدراك الذات الإنسانية لذاتها و انسجامها و شعورها بحكمة وجودها رغم زمانيتها.
يقول كيركجرد في إحدى كتاباته:
" إن ما أحتاج إليه حقا هو أن أتطابق مع نفسي عما يجب علي أن أفعل لا عما يجب علي أن أعرف إلا إذا كانت المعرفة ستكون مقدمة للعمل. و ما يهم هو فهم قدري و ما يريده (مني) الله أن أفعله، أن ما يهم هو اكتشاف حقيقة تكون حقيقية ( بالنسبة لي ) و أن أجد   ( تلك الفكرة التي أعيش و أموت من أجلها ) ". (3)
بحثا عن خلاص صعب، و في نفس سياق القلق و إرادة الحياة و الاندماج الوجودي الكلي، يطرح بودلير أيضا نفس المعادلة تقريبا:
" ما يهم ما تستطيع أن تكون الحقيقة الموضوعة خارج نفسي إذا هي ساعدتني على أن أعيش و أن أشعر أني موجود و من أنا " (4)
لقد أراد هذا الشاعر أن ينظر إلى مرآة نفسه و يستغرق فيها، فأودت به أقدار الفكر و الوجود و التأمل إلى ما يمكن نعته بالتراجيديا البودليرية التي أنبتت أزهارا و فنا و حياة، فحدث له ما حدث لنرسيس الأسطورة، الذي تعرف على "جسده" و كان عليه أن يذهب كل يوم إلى البحيرة ليتأمل بهاءه فسقط من شدة ولعه بصورته في الماء و غرق، و في نفس المكان الذي غرق فيه و مات استنبتت زهرة النرجس.
ليس لبودلير - كما يقول جون بول سارتر في مقدمته لديوان" LES FLEURS DU MAL " - " شعور مباشر لا تخترقه نظرة مرهفة . نحن عندما نتأمل مثلا شجرة أو بيتا نستغرق في هذه الأشياء و ننسى أنفسنا، أما بودلير فإنه لا ينسى نفسه أبدا . فهو يتأمل نفسه عندما يتأمل الأشياء، و هو ينظر إلى نفسه ليرى نفسه ينظر. إنه يتأمل شعوره بالبيت و بالشجرة لذا لا يراها إلا أشد ضآلة و أقل وقعا كما لو كان ينظر إليها من خلال عدسة مصغرة. فلا تدل إحداهما على الأخرى كما يدل السهم على الطريق أو الإشارة إلى الصفحة. و فكر بودلير لا يضيع أبدا في متاهاتها و لكن على العكس يرى أن المهمة المباشرة لها هي أن تعيد له شعوره بذاته. لقد كتب يقول(( ما يهم ما تستطيع أن تكون الحقيقة الموضوعة خارج نفسي إذا هي ساعدتني على أن أعيش و أن أشعر أني موجود و من أنا)).و في نفسه كان همه ألا يظهر الأشياء إلا من خلال جدار سميك من الشعور الإنساني عندما يقول في كتابه (( الفن الفلسفي )). (( ما هو الفن الخالص في المفهوم الحديث )) (( هو أن تخلق سحرا متلاحقا يحتوي الموضوع و العلة و العالم الخارجي للفنان و الفنان نفسه، بشكل يستطيع معه إلقاء محاضرة بعنوان ضآلة الحقيقة في العالم الخارجي )) ذرائع، انعكاسات، أطر الأشياء كلها لا قيمة لها مطلقا بذاتها و ليس لها من مهمة سوى أن تعطي الفنان فرصة تأمل نفسه و هو يراها. (5)
يهتم سارتر بالجسد كمشكلة و كعلاقة بين الذات و الغير لا يمكن حلها في نظره إلا          " بتقرير نظام من التأملات مطابق لنظام الوجود ". يعني عدم الخلط بين المستويات الوجودية . يتوجب البحث عن طبيعة الجسد كوجود -  لذاته، و البحث في طبيعته كوجود -  للغير ..فمشكلة الجسد و تعقيده تتجلى في وضعه كشيء له قوانين داخلية تحكمه و هو محكوم أيضا بالتحديد الخارجي. فرغم أنني أنا هو نفسي فإني أربط شعوري لا بجسدي و لكن بجسد الآخرين. جسدي الذي أصفه على أنه مؤلف من الجهاز العصبي و الدورة الدموية و مجموعة من الأعضاء و الخلايا و المخ..إلخ" ليس جسدي كما هو بالنسبة إلي" لأنني لم أطلع على محتوياته الداخلية و لكن علمت بها فقط من الآخرين من خلال قراءة الكتب أو عند تشريح جثت بشرية في المختبر . و حتى إن استطاع الأطباء الجراحون القيام بعملية مباشرة على جسدي الذي لا أعرفه بنفسي فذلك ثم باعتباره جسدا " في وسط العالم و كما هو بالنسبة إلى الغير . و جسدي كما هو بالنسبة إلي، لا يبدو لي في وسط العالم. و لا شك أنني استطعت أن أرى بنفسي على شاشة، أثناء فحصي بالأشعة، صورة فقراتي، لكنني كنت في الخارج، وسط العالم، و أدركت موضوعا تام التكوين، كأنه هذا بين هذات أخرى، و بواسطة الاستدلال فقط عودته لي أنا: لقد كان ملكي أكثر جدا من أن يكون وجودي" و بالمثل فإنني أتحسس أعضاء جسدي على اعتبار أنها أشياء ضمن الأشياء في العالم أو عن طريقها أعرف و تكشف لي عن الأشياء لا عن نفسها، فأنا أكون كالغير بالنسبة إليها. و العملية المزدوجة المتعلقة بالإحساس بأعضائي، من خلال لمس إحدى هذه الأعضاء مثلا ( الأصبع، الساق، اليد.. )، و الإحساس بهذا اللمس، غير مشكوك فيها و لكنها ظاهرة ليست جوهرية بدليل أن شدة البرد أو إبرة المورفين كافية لكي تزيل الإحساس باللمس. و كذلك لا يمكن الجمع بين ظاهرتي ما يطلق عليه " الإحساس المزدوج " يعني كون المرء يلمس و الشعور باللمس، لأنهما - حسب سارتر دائما –      " متميزان تماما ، و يوجدان على مستويين لا يمكن التواصل بينهما. فحين ألمس ساقي، أو حين أراه، فإني أتجاوزه إلى إمكانياتي الخاصة : فمثلا للبس سروالي، أو لإعادة ربط جرحي. و لا شك في أنني أستطيع في نفس الوقت أن أهيأ ساقي بحيث أستطيع              " الشغل " عليه على نحو أكثر تمكنا. لكن هذا لا يغير شيئا في هذه الواقعة و هي أنني أتجاوز إلى الإمكان الخالص " لشفائي " و تبعا لذلك فإني حاضر لها دون أن تكون أنا و لا أكون أنا إياها. و ما أصنع به هذا هو الشيء" الساق" ، لا الساق كإمكان أن أمشي ، أو أعدو أو ألعب الكرة، و هكذا، بالقدر الذي به جسدي يشير إلى إمكانياتي في العالم ، فإن رؤيته و لمسه هو تحويل هذه الإمكانيات التي هي إمكانياتي إلى إمكانيات – ميتة. و هذا التحول لا بد أن يجر بالضرورة إلى عمي كامل فيما يتعلق بماهية الجسد من حيث هو إمكان حي للجري، و الرقص ،إلخ . و اكتشاف جسدي كموضوع هو انكشاف لوجوده. لكن الوجود الذي انكشف لي على هذا النحو هو وجوده -  لغيره ". (6)
أما نيتشه فهو يقدم للجسد الإنساني كل زاده و قوته. "يشيد " بالجسد " و يعده أعظم من الروح بكثير. فالشعور أو الروح أو النفس بالنسبة إليه شيء فقير ضيق النطاق محصور، بل إن هذا الشيء ليس إلا أداة تقوم بخدمة " الجسد ":
 " إن الجسد الإنساني، الذي به يحيا و سيحيا كل الماضي القريب و البعيد، ماضي الأحوال العضوية، و الذي يجري فيه سيل هائل يتخلله و يعلو عليه و ينفذ في جميع نواحيه: هذا الجسد ( بهذا المعنى ) فكرة أروع من فكرة الروح أو النفس القديمة" . و لقد كانت النفس القديمة تنظر إلى الجسد في سخرية و اشمئزاز، و كانت تحتقره و تحسب هذا الاحتقار، أو يحسب الإنسان هذا الاحتقار للجسد، أعظم شيء يستطيع القيام به . فكان يعذبه ، و كان يجوعه ، و كان يعمل على جعله هزيلا. و كانت لذة الروح في القسوة عليه. و لكن هذا كله يفقد الإنسان " معنى الأرض " ، أي معنى الحياة الحقيقية التي لا حياة غيرها . أما الآن فيجب أن نعد " الجسد " أعظم من الروح. فالجسد هو " العقل الأكبر ". و الروح هي    " العقل الأصغر ": " و أنتم يا إخواني ! فلتحدثوني عما يقوله جسدكم عن روحكم : أليست روحكم فقرا و دنسا و غرورا يستوجب الرثاء ؟"  (7)
و قد زاد من قلق الإنسان و استلابه و الهجوم عليه،  توظيف و توطين الجسد الفردي و الجماعي ضمن استراتيجية و أفق التطور التقني و الإعلامي.. حيث تعمل مركبات التقنية  - بكل منتجاتها و تفاصيلها - كل الوقت على حفر الجسد و التنقيب فيه و تشريحه و بالتالي الهيمنة عليه و احتلاله و تدميره..
هكذا "أناي" في النهاية غريب عن جسدي. الأنا يندحر إلى الهاوية و كأنه منتف بالنظر لمحاولات تكريس رؤيا عن الجسد ناتجة عن التربية و التقنية و الإعلام ،بسيطة و ملفقة و مغرضة و تسعى إلى أن أكون ما يستفيدون منه و ليس ما أنا عليه حقا ..
" أنا " تقول معتزا بهذه الكلمة . لكن ما هو أعظم – ما لا تريد اعتقاده- إنما هو جسدك : إنه لا يقول " أنا " لكنه يصنع الأنا . يقول نيتشه. (8)

3
احتقر المربون الحياة و دنسوها أكثر عندما أنهكوا الجسد بمحمولات قيم نسجوها بعيدا عن الطبيعة و عن الحقيقة. فلم تعد هذه المحمولات تعني أو تفسر شيئا و لم تعمل أبدا على حل معضلات الإنسان الوجودية و الحياتية. فالقوى المهيمنة عبر مسار التاريخ الإنساني، تركيب القوى المشكلة لثقافة الجسد، لم يسعفها أن يكون للجسد مكان. عزلت الروح و العقل و القلب و النفس عن الجسد للتمويه و محاربة الجسد و تفكيكه كي يصبح ضئيلا و مقدورا عليه. اختارت الجانب المظلم من الحقيقة : التمويه اللغوي و الرمزي و العاطفي، فأصبح الناس يعيشون حياة لغة قاصرة، جوفاء، و ليس حياة وجود. أقصي الجسد بعيدا.. ذلك أن تكوينه المتعدد و الواحد: هائل، خفي، مركب، مهيب، خارق.. و لم يكن من بد إلا أن يتم إنهاكه بالمرض و الوهم و الضياع.. لجؤوا لمواجهة غليانه و قوته إلى لعبة الفصل و التجزيء و التمويه و الضبط و الحصر و المراقبة و التوجيه. فقد وضع العلماء و الفقهاء و الساسة و المربون حدا لإمكانيات الجسد. ومع ذلك بقيت شرارته عصية عن التحكم الكلي و لا يزال الجسد قويا و متمردا و يخلط أوراق و أهداف استراتيجيات الهيمنة عليه ..
غير مسموح أن يكون الجسد ما هو عليه..ليسوا مستعدين لتجربة الجسد\الحقيقة. لأن يذهب الجسد بعيدا جدا في قدراته و قواه و حريته. اقتلعوا جذوره و حاولوا ما أمكن قولبته و حبسه و تشريحه في مختبرات تقنية و سياسية و حسابية، غير أنهم لم يحسموا أمره أبدا و مهما فعلوا. لأنه كان دائما ينفلت و يتوق و غرائزه الظاهرة و الخفية إلى الحرية، إلى الحقيقة، إلى الأصل.. أنهكوه و عذبوه و كذبوا عليه و روضوه بأشكال هائلة و دقيقة لا تخطر على بال أحد، و لكنهم لم يستطيعوا التحكم فيه كليا أو إلى الأبد..
الجسد يتجلى و يعلن بوضوح و قوة عن بهجته و غربته في الرقص و الفن، و يعبر عن قدراته الخفية في أنه أكثر مما هو عليه.. يتواصل باللغة المفتوحة للفن مع اللذة و مع الألم و مع الحياة و مع الذوات الكونية المتوقدة. إنه أكبر من أي عقل، أقوى من كل وعي، أوسع من أية لغة.. لا يوجد ما هو أكثر حقيقة من الجسد.
الجسد البشري نتاج تعسفي معقد لعدد هائل من القوى: " و في الحقيقة- حسب ما يقول سبينوزا- لم يبين أحد بعد ما يقدر عليه الجسد.. و ما يستطيع الجسد أداءه و ما لا يستطيعه.. و فعلا ليس لأحد من المعرفة الدقيقة بتركيب الجسد ما يمكنه من تفسير جميع وظائفه. و لست بحاجة إلى أن أشير هنا إلى ما يلاحظ في البهائم من بصيرة تفوق بصيرة البشر بكثير. و إلى ما يقوم به غالبا السائرون أثناء النوم (somnumbuli) من أفعال لا يجرؤون على القيام بها في اليقظة؛ و هذا يكفي لإثبات أن الجسد قادر بقوانين طبيعته وحدها على أشياء كثيرة تحار لها النفس. و فضلا عن ذلك، لا أحد يعلم كيف تحرك النفس الجسد و ما هي وصائلها، و كم درجات الحركة التي تستطيع أن تبعثها فيه، و بكم سرعة يمكنها أن تحركه، و عليه فعندما يقول الناس إن أصل أفعال الجسد هذه أو تلك هي النفس التي لها سلطان على الجسد، فهم لا يفقهون ما يقولون، و كل ما في الأمر أنهم يعترفون، بألفاظ مموهة، بجهلهم للسبب الحقيقي للأفعال التي يتحدثون عنها دون أن تتملكهم الدهشة."(9)
 تنبهت القوى المهيمنة إلى قوة الجسد و خطورته و نفوذه الكوني، فعمدت بأقصى درجات التدبير الاستراتيجي السياسي و الاقتصادي و الثقافي إلى محاولة ضبطه و التحكم فيه و توجيهه. الجسد البشري منذ القدم كان و لا يزال - و هذا ما لا يعلن عنه في الغالب - هو الهدف من المعرفة و السلطة و يتم الوهم بأن هناك شيئا آخر هو المقصود.
الجسد هو علة كل مصائب الدنيا و آلامها و هو الذي يحول بيننا و بين المعرفة و الحقيقة و النعيم.. هذا ما علمونا إياه و ما يوهموننا به. الجسد منعدم القيمة، دليل، يشير إلى كل ما هو خسيس و مقزز و شرير ومريض و«أنثوي». هو التعبير المجازي عن كل الخطايا و الذنوب، و هو سبب كل المصائب و الحروب و الموت، بل هو تجسيد للموت المريع، حيث يصبح جيفة متحللة كريهة المنظر و الرائحة..إنه الغريزة النهمة، الجشعة، علة العنف و الحرب و مآسي الكائنات جميعها.
فعوضا عن أن يكون الجسد هو الضحية الذي تراكمت عليه كل مآسي تاريخ الوجود و الكون و يؤدي ثمنها، أصبح هو أساس آلام الناس و البيئة و العالم !
كل ما هو دنيء فهو منسوب للجسد، و للإمعان في هذا الإذلال يتوجب مواجهة كل الأماكن التي يظهر و يتجسد فيها بقوة و السيطرة عليه. فالأنثى التي أضحت مرادفة للجسد لأنها تمعن في إظهاره و تذكر الجميع بالعودة إليه يترتب عليها هذا التقسيم:
« بينما يمتلك الرجل القدرة على السمو فوق جسده عبر العقل أو العقلنة، يفترض أن المرأة لا تمتلك تلك القدرة. يعني هذا التقييم الأدنى للجسد، وبالتالي للعاطفة و الغضب، ارتباط الغضب بالحاجة البيولوجية إلى الجسد. لكنه يخضع لسيطرة عقل الرجل. و من ناحية ثانية، لا يمكن بتاتا السيطرة على العاطفة في المرأة بسبب«النقص»في العقلانية عندها. تصبح هذه النظرة تبريرا للإساءة إلى النساء و أداة بأيدي الرجال للسيطرة عليهن، بزعم أنهن غير قادرات على التحكم في أنفسهن. و لهذا فإن اندلاع الاضطراب و الفوضى في المجتمع تحت السلطة الذكورية يعني أن هناك قٌوى أخرى فاعلة غير قوة عقل الرجل العقلاني. و إلا لكان العقل المقدس عند الرجل العقلاني قد ساد. و يجب أن تعزى مثل هذه اللاعقلانية إلى الجسد الشرير الخاطئ و الأدنى، باختصار إلى كل ما لا يمت إلى الرجل العقلاني » (10)

4
منذ أن تشكلت الحقيقة على هذا المنحى، عندما بدأت البشرية تزيغ عن مسارها الطبيعي\الحقيقي، شنت الحرب على ذاتها من خلال الحكم على الجسد و معاقبته و محاربته و سجنه و وسمه.
مهما كانت الخطيئة و كيفما و أينما كان المخطأ، و كيفما كان موضوع الإدانة أو علتها فإن الهدف المشترك بين جميع المستهدفين هو الجسد.
منذ القرون القديمة و إلى اليوم، المعذب و المعاقب لا يكونه إلا الجسد..مهما تفنن الكتاب و المربون و الساسة الإيعاز أن الجسد ليس هو المقصود من العذاب و العقاب فإن آلامه و قوة حضوره تؤكد ما ذهبنا إليه.. 
مهما كان المراقب أو المعذب، قوة عليا أو سلطة فردية أو جماعية.. و مهما كانت النوايا، إصلاحية أو عقابية أو حتى بهدف محاربة "الشياطين" ، فإن الجسد هو المستهدف الوحيد..هو الذي يتجرع أباطيل العالم و أحكامه و جراحاته. 
التاريخ يشهد بقوة الألم التي تعرض لها جسد الإنسان الفرد و ما مدى الإمعان في تعذيبه. العالم بثقافاته و قوانينه و آلياته وجبروته باشر الجسد و عذبه و كانت طريقة تعذيبه له و الانتقام منه إما ضمنية من خلال استراتيجيات دقيقة و آليات تقنية و ثقافية و نفسية هائلة، و إما مباشرة، تشهيرية، احتفالية..
صور ميشيل فوكو تعذيب الجسد ومعاقبته و ضبطه و ترويضه أعظم تصوير في كتابه المراقبة و المعاقبة. و هو كتاب علق عليه جيل دولوز كما يلي :" كوميديا إلاهية     للعقوبات : و من حق أي مرء أن يفتن و يسحر إلى حد الموت من الضحك أمام هذا القدر الهائل من الابتكارات الشاذة، و ذلك العدد العديد من الخطابات الوقحة، و الفظاعات المرعبة . فمن الآلات المانعة من الاستمناء بالنسبة للأطفال، حتى آليات الحبس و السجن بالنسبة للبالغين، تنبسط سلسلة بكاملها مثيرة لضحك مباغت لن يحول دون استمراره سوى الخجل أو المعاناة أو الموت . نادرا ما يضحك الجلادون، أو أنه ضحك ليس من طينة الضحك ، أو ليس هو نفس الضحك . لقد سبق ل" فاليص " J.Vallès أن التمس في الرعب و الفظاعة، بهجة و سرورا، خاصين بالثوريين، يقابلان بهجة الجلادين الفظيعة و المهولة. و يكفي للكراهية أن تكون حية بالقدر اللازم، كي يصير بالإمكان جني شيء ما منها، كالفرحة الكبرى، لا الفرحة الممزوجة بالغضب، لا فرحة الكراهية، بل فرحة الرغبة في تحطيم ما يشوه الحياة. كتاب فوكو مفعم بالفرحة الممزوجة بروعة الأسلوب و سياسة المضمون . كتاب موزون و موقع بأوصاف شنيعة رتبت بشغف : كالمحنة الكبرى التي تعرض لها القديس داميان Damien هو و مريدوه، المدينة المصابة بوباء الطاعون و الحصار الذي ضرب عليها، و طابور المحكومين بالأشغال الشاقة يعبرون المدينة مكبلين بالأغلال، يتكلمون إلى المارة، ثم من جهة أخرى، آلة العزل الجديدة : السجن، عربة السجناء، و التي تعبر عن "و عي " جديد بفن العقاب. لقد تفنن فوكو دائما في تشكيل لوحات رائعة يرسمها بتحاليله . التحليل هنا ، تحليل ميكروفيزيائي أكثر فأكثر ، و اللوحات فيزيائية أكثر فأكثر، توضح " آثار " التحليل لا بالمعنى العلي و السببي، بل بالمعنى البصري، الضوئي للون : من الأحمر القاني الذي يصور التعذيب و التنكيل حتى الرمادي القاتم الذي يصور السجن . التحليل و اللوحة يسيران جنبا إلى جنب و ينتميان إلى نفس المستوى، ميكروفيزيائية السلطة و التسخير السياسي للجسد . لوحات مزخرفة بالألوان على خارطة ملمترية ." (11)
 سرد فوكو في بداية كتابه المراقبة و المعاقبة رسما تنويريا رائعا و فضيعا من عقاب الجسد من خلال مباشرة و تعذيب جسد داميان المدان بجريمة قتل أبيه في الثاني من آذار/مارس سنة 1757.أجدني مضطرا لنقل تلخيص لهذا المثال المعبر و هذه اللوحة الهائلة للجسد رغم طولها بعض الشيء ..
حكم على داميان « بأن يدفع غرامة معنوية هي الإقرار بذنبه علنا أمام باب كنيسة باريس الرئيسي،حيث يجب أن يسحب و يقاد في عربة عاريا إلا من قميص يستره،حاملا مشعلا من الشمع الملتهب، وزنه قرابة الكيلوغرام،ثم و في العربة نفسها،عند ساحة غريف (Gréve) ،و فوق منصة الإعدام التي ستنصب هناك،يجري قرصه بالقارصة في حلمتيه و ذراعيه، و ركبته و شحمات فخذيه،على أن يحمل في يده اليمنى السكين التي بها ارتكب الجريمة المذكورة،جريمة قتل أبيه،ثم تحرق يده بنار الكبريت،و فوق المواضع التي قرص فيها يوضع رصاص مذوب،و زيت محمى و قار صمغي حارق،وشمع و كبريت ممزوجان معا،و بعدها يمزق جسده و يقطع بواسطة أربعة أحصنة،ثم تتلف أوصاله و جسده بالنار،حتى تتحول إلى رماد يذرى في الهواء»هذا هو الحكم الذي أشار إليه فوكو في كتابه. الحكم الذي صدر رسميا و أمعن في التفنن للوصول إلى أقصى ما يمكن من درجات تعذيب الجسد و الانتقام منه. الجسد كوسيلة و كهدف في الوقت ذاته.
ينتقل بنا الحكم إلى توقيعه بالفعل على الجسد ، و قد «دامت العملية مدة طويلة جدا لأن الأحصنة التي استخدمت لم تكن متعودة على الجر، بحيث إنه بدلا من أربعة ، كان لابد من استخدام ستة ، و مع ذلك فلم يكن هذا كافيا فتوجب من أجل اقتطاع ركب البائس التعيس ، قطع أعصابه و مفاصله بالفأس»
«...الآلام البالغة حملته على الصراخ الرهيب، و في أغلب الأحيان كان يكرر: يا إلهي،أشفق علي،يا يسوع عونك. وقد اطلع المشاهدون على اهتمام كاهن كنيسة سان بول الذي لم يترك،رغم تقدمه في السن،أية لحظة دون مواساة المعذب».« ...جرى إشعال الكبريت- في يده - و لكن النار كانت خفيفة حتى إن جلد أعلى اليد فقط لم يتأذ إلا قليلا.و بعدها جاء أحد منفذي التعذيب،و قد شمر عن ساعديه إلى أعلى من المرفق،و أخذ الكماشة الفولاذية المصنوعة خصيصا لهذا الغرض و طولها ما يقارب قدما و نصف قدم،فأخذ يقرصه في شحمة الفخذ الأيمن ثم في الركبة،و انتقل منها إلى قسمي شحمة الذراع الأيمن،ثم انتقل إلى الحلمتين،هذا المنفذ و إن بدا قويا متينا،لقي الكثير من العناء في اقتلاع قطع اللحم التي كان يأخذها في الكماشة مرتين أو ثلاث مرات من الجانب ذاته و هو يفتل،و ما كان يطلع معه كان يشكل في كل قسم جرحا بضخامة قطع نقود كبيرة».
«بعد هذه القراصات،كان داميان الذي كان يصرخ كثيرا،دون أن يكفر،يرفع رأسه و ينظر إلى حاله،و كان القارص ذاته يأخذ بملعقة من حديد من طنجرة من هذا الدواء الغالي شيئا ينثره رشا فوق كل جرح.و بعدها تم ربط أمراس صغيرة بالأمراس المخصصة للربط بالأحصنة،ثم ربطت الخيول فوقها بكل طرف على طول الركب و الأفخاذ و الأذرعة».
«و اقترب السيد لوبرتون ككاتب،عدة مرات من المعذب،لكي يسأله إذا كان لديه ما يقوله.و كان الجواب دائما بالنفي؛كان يصرخ كما يوصف المعذبون،الوصف الذي لا يحتاج إلى بيان بالقول،فيقول عند كل هجمة تعذيب:«عفوك يا إلهي !عفوك يا رب».و رغم كل هذه الآلام المذكورة أعلاه،كان يرفع رأسه من وقت لآخر و ينظر إلى حاله بجرأة.و كانت الأمراس المشدودة جدا من قبل الرجال و التي كانت تشد أطرافه تؤلمه ألما يصعب التعبير عنه،و مع ذلك اقترب منه السيد لوبرتون مرة أخرى و سأله إذا كان يريد أن يقول شيئا. فرد بالنفي...
و شدت الأحصنة،فسحب كل منها طرفا بشكل متواز،و كان كل حصان يقوده منفذ.وبعد ربع ساعة،تكررت الحفلة ذاتها،و أخيرا و بعد معاودات،كان لابد من تغيير اتجاه الخيول عند الشد.فخيول الذراع الأيمن سحبت باتجاه الرأس،و خيول الركب ردت باتجاه الركب مما أدى إلى كسر الذراعين عند المفاصل.و تكررت هذه السحوبات عدة مرات دون جدوى.لقد كان يرفع رأسه و ينظر إلى حاله.و كان لا بد من الاستعانة بحصانين لوضعهما أمام ذينك المربوطين بالركب.بحيث صارت الخيول ستة دون جدوى.
و أخيرا قال المنفذ سمسون للسيد لوبرتون إنه لا أمل بالقضاء عليه، و طلب إليه أن يسأل«الأسياد»إذا كانوا يريدون تقطيعه إلى قطع.و أصدر السيد لوبرتون بعد أن خرج من المدينة أمرا ببدل جهود جديدة،و هذا ما حصل.و لكن الخيول توقفت. و سقط أحدها الذي كان مربوطا بالركبة على الأرض...
وبعد محاولتين أو ثلاث محاولات، سحب كل من المنفذ سمسون و المنفذ الذي قرصه سكينا من جيبه،و كانت الخيول الأربعة في أقصى قوتها تشد.فسحبت الفخذين وراءها،أي الفخذ من الجهة اليمنى أولا، و الآخر بعده، و بعدها حدث ذات الشيء بالذراعين و في موضع الكتفين و الباطين و في الأقسام الأربعة، لقد توجب قطع اللحم حتى العظم تقريبا، و كانت الخيول تشد بكل قوتها فسحبت الذراع الأيمن ثم الذراع الآخر بعده.
وبعد اجتزاء هذه الأقسام، نزل المعرفون لكي يكلموه، و لكن جلاده قال لهم إنه مات،رغم أني في الحقيقة كنت أرى الرجل يضطرب و الفك السفلي تذهب و تجيء كما لو كان يتكلم. و بعد ذلك بقليل قال أحد الجلادين إنهم عندما رفعوا جذع الجسم لرميه فوق الحطب المشتعل كان ما يزال حيا. و سلخت الأطراف الأربعة عن أمراس الخيول و رميت فوق الحطب المشتعل المعد داخل العرصة على خط مستقيم من منصة الشنق،ثم غطي الجسم بالحطب و بالرزم ووضعت النار في القش المختلط بهذا الخشب...
«...تنفيذا للقرار، تحول كل شيء إلى رماد، و كانت القطعة الأخيرة التي وجدت في الجمر، لم تترمد كلها إلا فيما بعد الساعة العاشرة و النصف ليلا، و ظلت قطع اللحم و الجذع حوالي أربع ساعات تحترق. و ظل الضباط الذين كنت واحدا منهم، و ابني أيضا، مع رماة بشكل فصيلة في المكان إلى حوالي الساعة الحادية عشر» (12)
إلى هذا الحد أصبح الإنسان ينتقم من نفسه، يعنفها و يعذب ذاته، جسده، معتقدا أنه يقوم بشيء آخر.
هناك تطور و اختلاف في المسألة العقابية فيما يتعلق بطريقة الانتقام من الجسد و تعذيبه. فالتعذيب الآن يتسم بسرية و تبطين كبيرين و أقل مباشرة و تشهيرا مما كان عليه الأمر. نوع من إعادة ترتيب الأوراق و المواقع و توزيع الأدوار. أصبح فن التعذيب يراقب المعذب طيلة الوقت و أصبح عميقا و دقيقا أكثر و "علميا" يستهدف و يشرح المعذب في كليته: فكره، إرادته، استعداداته، قناعاته، غرائزه..إلخ. أصبح الأمر مرتبطا أكثر بأهداف و استراتيجيات الاقتصاد و السياسة و الهيمنة و السلطة. 
الجسد مخيف و مقيت إلى حد عدم تفويت الفرص للتشهير به و وسمه بالعار و الألم. و بالنظر إلى قوته، فقد كان لابد من التفكير في إخضاعه و توظيفه ما أمكن. ليس باتجاه تأكيد حقيقته و استغلاله كأساس و وسيلة للمعرفة، و لكن استعماله لأغراض السيطرة و الهيمنة.
الجسد المفروض أن يعول عليه كوجود لاستنفاذ ما تبقى منه للحقيقة«غاطس ضمن حقل سياسي. فعلاقات السلطة تعمل فيه عملا مباشرا. فهي توظفه، و تطبعه، و تقومه، وتعذبه، و تجبره على أعمال، و تضطره إلى احتفالات، و تطالبه بدلالات. هذا التوظيف(الاستثمار)السياسي للجسد مرتبط، وفقا لعلاقات معقدة و متبادلة، باستخدامه اقتصاديا، و إلى حد بعيد، كقوة إنتاج، يزود بعلاقات سلطوية و سيطرة. و لكن بالمقابل إن تكوينه كقوة عمل لا يكون ممكنا إلا إذا أخذ ضمن نظام استعبادي...و لا يصبح الجسد قوة نافعة إلا إذا كان بآن واحد جسدا منتجا و جسدا مسترقا»(13)
الجسد إذن الذي عبره تتشكل الأنا، عبره تتشكل الحقيقة، عبره أحيا و أسأل و أكتب و أتلقى و أفكر. الجسد بكل ما يطبعه من استرقاق و جهل و ترويض و قمع، لا يمكنه و هو كذلك أن يكون جادا في معرفة الحقيقة...! و ما دام الأمر كذلك ، فإنه يتوجب معرفة الجسد و استغلاله على غير ما هو عليه . محاولة استجماع البقايا الحقيقية للجسد..لأنه كيفما كان الحال، فهذه البقايا قد تشكل قوة لا يستهان بها..إنها ما تبقى لنا على كل حال، و عبرها فقط نستطيع أن نبدع نوعا من جسد حقيقي..
حتى و لو لم نكن قد وفرنا قدرا من الأجوبة لمسار آخر، فإن الأساسي أن نعلم فظاعة و خطورة و خطأ ما نحن عليه. و نعلم أن التشويه الذي لحق الجسد أفرز إنسانا مريضا و حياة مريضة و ولادات مشوهة..


حميد مجدي
 قلعة السراغنة- المغرب

الهــــــــوامـــش
(+)  مقطع من نص أكادي لقصة أيوب، يعود إلى الألفية الثانية قبل الميلاد،عثر عليه سنة 1875 و أعلن توازيه رسميا مع قصة أيوب التوراتية سنة 1954، ورد في ديوان الأساطير سومر و أكاد و آشور،الكتاب الثاني،نقله إلى العربية و علق عليه،قاسم الشواف،قدم له و أشرف عليه أدونيس،الطبعة الأولى،دار الساقي،بيروت، ص 439
1-    ديوان نيتشه،فريدريش نيتشه،ترجمة:محمد بن صالح،الطبعة الأولى 2005،منشورات الجمل،كولونيا – بغداد، ص 20
2-    نفس المرجع أعلاه ص: 140
3-    كيركجرد،تأليف الكاتب الدنماركي فريتيوف برانت، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، المؤسسة العربية للدراسات و النشر- بيروت-، الطبعة الأولى، 1981 ص:10
4-    أوراق الشر،شارل بودلير،ترجمة حنا الطيار و جورجيت الطيار،مقدمة جان بول سارتر
5-    نفس المرجع
6-    الوجود و العدم، بحث في الأنطولوجيا الظاهراتية، تأليف جون بول سارتر، ترجمة عبد الرحمان بدوي،منشورات دار الآداب ،بيروت،الطبعة الأولى آب(أغسطس) 1966 ،راجع الصفحات: 499 – 500- 501- 502- 503 )        
7-    نيتشه، تأليف عبد الرحمان بدوي، وكالة المطبوعات، الكويت، الطبعة الخامسة، 1975، ص: 239- 240
8-    ديوان نيتشه، ص 21
9-    علم الأخلاق، تأليف سبينوزا، ترجمة جلال الدين سعيد، دار الجنوب للنشر- تونس، ص 164-165   
10-    الأنماط الثقافية للعنف\باربارا ويتمرب-عالم المعرفة العدد 737،مارس 2007،      ترجمة ممدوح يوسف عمران ص 26.
11-    المعرفة و السلطة، مدخل لقراءة فوكو، تأليف، جيل دولوز، ترجمة سالم يفوت ،الطبعة الأولى،المركز الثقافي العربي،بيروت- لبنان ، الدار البيضاء- المغرب ، ص 29- 30 )     
12-    المراقبة و المعاقبة، ولادة السجن، ترجمة د.علي مقلد، مراجعة و تقديم، مطاع صفدي، مركز الإنماء القومي بيروت، 1990، أنظر الصفحات:47-48-49 و كذا هوامش الفصل الأول ص 68
13-    نفس المرجع:ص 64

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟