تعُدُ فينومينولوجيا إدموند هوسرل " 1859- 1938 " إحدى أهم التيارات الفلسفية التي كان لها بالغ الأثر على الفكر الأوربي بمختلف مشاربه واتجاهاته الفلسفية , ذلك لما وجهته من سهام نقد جذري للموروث الفلسفي والعلمي للقارة الأوربية . ابتداء من تأسيس الوعي على الأنا أفكر " الكوجيتو " الديكارتي . وصولاً للعلوم الطبيعية التي أخذت تنسي عالم العيش و أفق الحياة , وليس انتهاءاً بالعلوم الإنسانية التي جعلت من الإنسان ووعيه موضوعا متماثلا و موضوعات التجربة العلمية رغم البون الشاسع ما بين الظواهر الطبيعية والإنسانية , تمايز آليات ومناهج البحث بينهما . ما حمل " هوسرل " على رفع معاول نقده عالياً في وجه هذه المعرفة " الطبيعية والنفسية " التي كانت قد بلغت أزمة حادة , جعلتها عاجزة عن أن تقدم نفسها كعلم يتسم بالبداهة واليقين , الثبات والثقة , خاصة بعد أن تناقضت العلوم المنتشرة في عصره مع بعضها البعض , وتعددت أفكار وأراء الفلاسفة دون أن ترتكز على منطلقات معرفية واحدة تجعلها تبلغ الحقيقة الكلية والوعي الماهوي للذات .
" إن العالم كافة والطبيعة النفسية والفيزيائية , وكذلك الأنا البشرية , في نهاية المطاف , فضلا عن سائر العلوم التي تنظر في هذه الموضوعات , كل ذلك كان في أصل نقد المعرفة حاملا لإمارة الإشكال , إن وجود هذه الأمور وصدقها بقيا معطلين " (63) . من أجل الإفصاح عن طبيعية هذه العلاقة بين المعرفة التي بقيت معطلة والوعي الذي يحملها يبتدئ " هوسرل " نقده للمعرفة انطلاقاً من عالم العيش , من أفق الحياة التي هي صورة قبلية تقوم قبل كل علم ومعرفة , وتشكل نبع البداهات الأصلية الأولى , فالمعطي على نحو بديهي دائما ما يكون معطى هو ذاته , فإذا كان معطى في الإدراك يكون هو ذاته حاضرا في الإدراك , وإذا كان معطى في التذكر يكون هو ذاته متذكرا , وهكذا فإن " كل نحو أخر من أنحاء العيان هو استحضار للمعاين ذاته " من هنا إن كل إثبات أو تحقيق ممكن إنما يعود إلى بداهات أولى (136) إلى عالم الحياة الذي يقوم فيه الوعي من حيث هو وعي بشئ ما , فعل للذات يظهر موضوعات الحياة دون أن تستقل عن "الأنا " الذي يضعها , أو تقوم أمامه من حيث هي موضوعات محايدة بل من صلب تيار الوعي الذي يضعها , ويريد أن يبلغ الأشياء ذاتها , يقيمها من حيث هي ماهيات " أصلية , كانت قد احتجبت بفعل العوامل (اللغوية , الثقافية , الأيدلوجية ... الخ ) التي لم تعد تظهر لنا الأشياء ذاتها , بل تمنحنا صفاتها الظاهرة دون أصل الأشياء هذه , أو حقيقتها الماهوية . من هنا فإن الوعي الذي ستعمل الفينومينولوجيا على إقامته لن يبقى كما كان وعياً لصفات ظاهرة , بل سيصبح وعياً للأشياء ذاتها على أنها ظاهرة , حيث لا تمايز بين ظاهر الشئ , والشئ في ذاته , هذا العيان العقلي الذي كان قد رفضه " كانط " لأن العيان بقي عنده حسيا بفضل الهوة التي لم يستطع عبورها بين الظاهرة ( Erscheinung ) والشئ بحد ذاته (Ding-an-sich ) سيجهد هوسرل في تجاوزه من خلال إقامته ( أنا متعالية ) تنتقل من عالم الوقائع المتغيرة والجزئية , إلى عالم الماهيات الخالصة والكلية , لكنه سيشهد صعوبة إقامته هذه الأنا المتعالية , والانتقال فيها من عالم التجربة إلى عالم الماهيات ؛ مما سيحمله على التميز ما بين ذاتية متعالية تأتي في مقابل ذاتية تجربيه , ( إن هذه الذاتية المتعالية لا يمكنها أن توجد في الاتجاه النفسي التجريبي , أو في اتجاه العلوم الطبيعية , لأنها ليست جزءا من العالم الموضوعي ) (89) بل ستقوم في الفينومينولوجيا التي تحققها عبر مفهوم الرد (Reduction) الذي ينقلنا من عالم التجربة إلى عالم الماهيات الخالصة والكلية ؛ حيث سيشير الرد إلى غض النظر عن كل ما هو جزئي عرضي مؤقت بحثا عن الكل الجوهري الثابت , ويتم هذا بواسطة تعليق الحكم على العالم مؤقتا ووضعه بين قوسين (الإيبوخية ) تمهيدا للعودة والارتداد إلى الأصول القائمة في الشعور , التي تتمثل في الأبنية الماهوية الأولية التي ترتد إليها كل الحقائق المادية الجزئية , وهذه الأبنية الأخيرة لا يمكن ردها إلى أصول ابعد منها , لأنها هي نفسها تمثل أول هذه الأصول التي يجب أن نرجع إليها في عملية الرد (144) التي لا تعني الفصل التام مابين الشعور الداخلي والعالم الخارجي . بل تنقيته من رواسب العالم الطبيعي الجزئية المتغيرة من اجل التمهيد لإدراك الحقائق الكلية , التي كان قد حدد "هوسرل " حيز وجودها انطلاقا من الشعور الذي يحتوي الحقائق الكلية واليقينية المتعلقة بالموضوعات , وأيضاً يتجاوز معني الشعور الجزئي المتعين في الإنسان الفرد , ليشير إلى ذاك الشعور الخالص في صورته الماهوية التي نبلغ من خلالها حقيقة الأشياء.
II
إن قصد الشئ أو عنيه هو التوجه إليه , هذا ما أخده هوسرل عن " برنتانو " الذي كان متمرساً في فلسفة المدرسين . كل فعل معيوش يتوجه إلى شئ فإذا بالإدراك إدراك لشئ , والتوقع توقع لشئ , والحكم حكم لشئ وهلم جررا . فالإدراك هو منذ بدايته وبحكم ماهيته الإدراكية , دائما إدراك لشئ (39) يمثل نقطة انطلاق الفينومينولوجيا من عالم الوقائع الحسية المتغيرة , إلى عالم الماهيات الكلية والصور العقلية التي تظهر حية في شعورنا الداخلي , ذلك من خلال قصدية الشعور التي توحد الفعل المدرك بموضوع الإدراك , فلا يوجد فعل قصدي مستقل وخالي بمفرده من الموضوع , كما لا يوجد شئ مستقل بذاته , ولا يكون موضوعا لفعل الإدراك القصدي , وإنما الفعل والموضوع في القصدية بمثابة وجهين لعملة واحدة , يلتحمان في وحدة شعورية حية . لا تنفصل عراها الداخلية إطلاقا رغم اختلاف الفعل عن موضوعه , (فكل فعل من أفعال الشعور يتجه إلى موضوع يغايره , قد يكون هذا الموضوع شيئا ماديا , أو ماهية عقلية , وقد يكون إحدى معطيات الانفعال ، التخيل , أو التذكر .... الخ , ووجود هذه الموضوع أمام الشعور هو الذي يضمن عدم تقوقع الشعور ) (191) وانفتاحه على الخارج الذي نشهد فيه إحالة قصدية متبادلة ما بين فعل الشعور الداخلي والأشياء الخارجية ، حيث ينصب التحليل القصدي في جوهره على تحديد العلاقة بين هذين الطرفين المتلاحمين : فعل الإدراك وموضوعه , الذي كان هوسرل قد ميز بينهما باستخدام المصطلحين اليونانيين (Noesis ) الذي يطلق على فعل الإدراك العقلي الذي يتجه صوب أي موضوع بقصد إدراكه واحتوائه في الشعور . و (Noema) حيث يطلق على المحتوى الذي يكون موضوعا لفعل الإدراك القصدي المرتبط بالشعور . والأول أي ( فعل الإدراك ) يتسم بالأصالة والثبات , أما (موضوع الإدراك ) الذي يتبع الفعل القصدي , فهو دائم التغير والتبدل كما مختلف الموضوعات الطبيعية , التي غالباً ما تصيبنا بحالة من الانبهار مثلما قال " أفلوطين " حيث يجعل إدراكنا للشئ يذوب في الشئ نفسه على نحو ما , لنصرف انتباهنا حينئذ عن فعل الإدراك ذاته وننغمس في الأشياء الطبيعية المدركة وحدها . و " هوسرل " يريدنا أن نتحرر من هذا الانبهار , وأن نغير اتجاهنا العقلي بعيدا عن الانغماس في الموضوعات الجزئية الطبيعية , لكي نوجه اهتمامنا نحو عملية الإدراك التي سوف تساعدنا فيما بعد على معرفة الماهيات الحقيقة , لهذا الأشياء كما تظهر في الشعور الحي ( 140) ذلك من خلال عملية الرد التي تحقق قصدية الشعور ، وتجعلنا ننفتح على الأنا المتعالي , الذي نريد بواسطته إدراك فعل الإدراك ذاته بعد أن تجاوزنا الموقف الطبيعي الساذج حيث تصبح المهمة الأساسية للأنا المتعالي " فحص ووصف الأنا أفكر المردود على النحو المتعالي وعدم وضع الوجود الطبيعي الذي يستلزمه الإدراك الحسي التلقائي المتحقق ، الذي ينجزه فعلاً وتلقائياً الأنا الطبيعي ، فقد حلت هنا حقاً بدلاً من الحالة ( الطبيعية الساذجة ) حالة أخرى تختلف عنها ذاتياً " . (166) ذلك لأن التأمل المتعالي جعل موضوعه الجديد شيئا لم يكن موضوعا في التأمل الطبيعي ، ألا وهو الشعور الذي سنقوم بعد عملية الرد والتعليق ، بتأمله الذي يظهر حقيقة الشئ ذاته ، ماهيته المدركة التي لا تتغير أو تتبدل حال كانت قصدية الشعور في اتجاه الشئ ذاته , وحال كان الوعي عودة للأشياء ذاتها .
هوامش
1- إدموند هوسرل : فكرة الفينومينولوجيا , ترجمة فتحي إنقزو , الناشرون , المنظمة العربية للترجمة , بيروت , ط 1 , 2007 ( ص : 63 )
2- سماح رافع محمد : الفينومينولوجيا عند هوسرل , الناشرون , دار الشؤون الثقافية العامة ,بغداد , ط 1 , 1991 ( ص : 89 , 136 , 140, 144, 166 , 191 )
3- انطوان خوري : مدخل إلى الفلسفة الظاهراتية , سلسلة الفكر المعاصر , الناشرون , دار التنوير , بيروت , ط 1 , 1984 (ص : 39 , 130)