" إذا ما أراد المرء أن يتجدد فما عليه إلا أن يغترب، أن يبدل مقامه، أي يغرب كما تغرب الشمس..."
ـ عبد الفتاح كيليطو ـ
" النسيان هو يقظة الذاكرة، إنه القوة الحارسة التي بفضلها يحافظ على سر الاشياء..."
ـ موريس بلونشو ـ
الاغتراب ترحال من مكان إلى مكان، ومن ذكرى إلى أخرى، إنها ترجمة فعلية لطبيعة الإنسان اللاميتافيزيقية التي تأبى أن تقوم على المبدأ الواحد، كما ترفض الخضوع لأنموذج دون غيره، والحال أن أبرز رد على كل نمطية إنما لا يستقيم إلا وتجربة الاغتراب، علما أن الاغتراب اغترابات لامتناهية، أي أنها تخلخل النمطي الداخلي معيدة إياه إلى نمطي خارجي من خلاله يصبح الاغتراب تكرارا، لكنه ليس تكرارا للثابت وإنما هو تدوير rotation وتكرار للمتحول الذي ليس له لا وطن ولا مكان، إنه عود أبدي للجديد فينا، وتكرار للاختلاف فيما نراه هوية، وولادات متجددة للراكن المتحول الذي يسكننا، ومنه يستحيل النسبي مطلقا، لكن المطلق فيه هو النسبي الذي ما إن يظهر كي يختفي، وليس يظهر كي يبقى دوما في الزمان والمكان.
والاغتراب أيضا عيش خارج زمن اللحظة وخارج ثلاثية الماضي والحاضر والمستقبل، إذ زمنه زمن الجمود المتحرك، الذي يرسم الخلود ليس في الاستمرار وإنما في التعمق في السطح، أي أن زمنه زمن الخفة التي تنتقل حسب رغبتها وليس حسب قانون الطبيعة، كما أن زمنه أيضا زمن الارتياب الذي يرتاب من كل شيء، حيث لا يركن إلى حقيقة إلا وسعى في نفس الوقت إلى دحضها بحثا عن حقيقة أخرى، وهو بذلك يؤسس للإرادة اللامتناهية كما يعمل على تقويض كل الإرادات الثابتة، إنه تأمل للمنسي واستذكار له، بقدر ما أنه استغراق في الهامش وإخراجه ليس من أجل أن يصبح مركزا، وإنما تدميرا saper للمركز والهامش، ومنه فزمن الاغتراب يكاد يشبه حركة الإلكترون في الفيزياء التي لا ترسم لنفسها مسارا محددا وحتميا déterminéبقدر ما تسير على نمط غير متوقع imprévu، وهي بهذا الأمر تؤسس لحياة العدم الخلاق وليس لمنطق الثنائيات les dualismes.
والاغتراب من جانب آخر مكان لا مكان له، وحدود ما إن تنغلق حتى تنفتح أكثر، وما إن نعتقد حلول نهايتها حتى تبدأ ببداية أكثر جاذبية من سابقتها وهكذا دواليك، من ثمة فمكان الاغتراب ترحال نحو فضاء لا نعرف عنه أي شيء، كما أنه إقدام نحو مجهول أخذ هاته الصفة بسبب هيمنة المركز، الذي يضع كل المتنطعات ضمن خانة الهوامش، وعليه فالمغترب لا وطن له، ولا أرض له، ولا أصل له، إنه ينفلت دوما من كل شيء يريد أن يشده، ويهرب دائما نحو تلك العوالم التي لا تؤمن بالألفة الثابتة، إنه إذن خروج عن المألوف، ورد الاعتبار إلى الذي لم نألفه بعد، وانتصار للغريب فينا، ونبذ للهوية الراسخة في أذهاننا، فلنتأمل مثلا شعورنا ونحن ننفلت من مكاننا الأصلي، حيث ما إن نخرج من ذاكرته حتى نكتشف شيئا جديدا فيه، شيء بين الحنين إليه وبين طلب مغادرته، عندها يعود فينا المكان بسحره الفياض وليس بقبضته الجاثمة، والحال أنه عندما نقرر السفر إلى مكان جديد لا نعرف عنه أي شيء، نحس وكأننا ولدنا مرة أخرى، لهذا كان الاغتراب ولادة لا تنتهي حتى تبدأ مرة أخرى، ومنه يعدو هذا الجميل رسما ما إن نعتقد برسوخه حتى ينمحي كي يُرسم مرة أخرى.
والاغتراب في سياق جديد نص بسيط، وحرف واضح، ومعنى مُتَحَجَّبٌ، معنى يحتمل تأويلات لا متناهية، لأنه مسكون بعودة المنسي، وبرجوع الذي لا نعرفه، ومقروء بالذي لا يُنقال le non dit، ومسموع بالذي لم نسمع به من قبل، لكننا نكون قادرين في نفس الآن على فك شيفراته، كما أنه بمستطاعنا إدراك خطابه الذي لا يدعو إلى مرض الهويات الثابتة، وإنما إلى ترياق الاختلافات المتكررة، إنه إعادة قراءة للنصوص الثابتة، وتفكيك للمعاني المهيمنة، وانتصار لما نعتقدها عوالق فكرية، لهذا وبواسطة الغرابة نكتب اكتشافا لشيء جديد، وليس تكريسا لما هو قديم، كما نعبر عن ذلك الشعور الذي بحثنا عنه مليا، بقدر ما نتجدد من خلاله عبر تحويل الأفكار إلى أشياء توجب تجاوزها دوما.
والاغتراب تتمة لما سبق: غروب، فالشمس تغرب مثلا كي تعود من جديد، لكن غروبها ليس يعني الاختفاء الأبدي، ولا النسيان الدائم، إن غروبها إطلالة على عالم آخر نجهله، ورحلة نحو مكان جديد لا نعرف عنه شيئا، وحركة غير منتهية تختفي كي تعود إلينا من الجانب الآخر بروح أخرى، ومنه فإن كل غروب ولادة، أي أن كل اغتراب ولادة جديدة واكتشاف للذات أيضا، والمستفاد من هذا الأمر في نهاية المطاف أن الحياة كتجربة أنطولوجية لا تستقيم إلا بالتمتع بنعمة الغرابة، بما أنها نبراس وتجديد واختلاف.
والاغتراب في نهاية الأمر تملك للمعنى بما هو تعدد، وقبض على الحياة بما هي انسيابات واستمرارات للمختلف فينا، كما أنه اعتراف وبوح بقوة اللامفكر فينا، من ثمة ففعل الغرابة ليس يعني الاستيطان، وليس يعني البقاء في نفس الحالة، والركون إلى المعنى الواحد، والتفوق للخطاب الوحيد، إنه انتصار للحظة المتجددة، حيث يحول التاريخ من أثر إلى وثيقة لا غير، ويحول الماضي من هيمنة القوة الواحدة إلى تعدد للقوى، كما يلعب لعبته الجميلة في النص المقروء، مزيلا عنه مرضه الذي يستحوذ على المعنى الواحد، إلى تأويلات لا متناهية، هكذا وهكذا فقط، نتخلص من كل تعصب، كما نرمي عنا عقدة التشبث بالماضي وتمجيده، ومنه فلا يستقيم أي تصور للحياة كمعنى معيش إلا بتجريب نعمة الاغتراب.