مفهوم الصداقة في فلسفة جيل دولوز : شيء من الفكر- ادريس شرود

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse06050تقديم
    يمنح جيل دولوز ل"اللقاء" أهمية استثنائية، تجعل الكلام عن الصداقة أمرا لا قيمة له، بل لا دور حاسم لها في الحياة. فهو يرى أن اللقاءات لا تحدث بين الناس، بل مع الأشياء؛ مع لوحة، مع قطعة موسيقية...، اللقاءات مع الناس مخيبة للآمال وكارثية دائما. في المقابل، يمجد اللقاءات التي تتم مع أعمال بعض الناس، ومع سحرهم، دون حاجة للقاء بهم، تلك الأعمال التي يمكن أن تترك أثرا أو اهتماما خاصا محفزا وخلاقا عبر العلامات التي يتم إصدارها، فنتلقاها أو لا نفعل. وهنا أيضا لا يتعلق الأمر بامتلاك أفكار مشتركة، بل امتلاك لغة مشتركة تساعد على السير والإحساس معا، والإنتماء إلى نفس النوع. إن اللقاءات والأحاسيس التي تنشأ أثناءها، مع فهم العلاقة مع "الآخر"، والإقامة فيها وبينها، هو شرط ولادة الصداقة حسب دولوز.
1-الصداقة كإدراك وفن، وكشرط لإمكانية الفكر
    اتخذ مفهوم الصداقة مع الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز معنى جديدا، أبعده عن التعريف الذي وضعه أرسطو، وعن التعاريف المتداولة حول الصداقة. فلم تعد الصداقة بحثا في الحصول على تعاطف أو محبة أو متعة أو لذة أو فضيلة، بل صارت رغبة(1)، توليفا وبناء، إدراكا وفنا، وشرطا لإمكانية الفكر.
أ-بعيدا عن الأخلاق والفضيلة: الصداقة كإدراك وفن
    تشكل لحظة ميلاد المسيحية، بداية النهاية لعصر ذهبي للصداقة، ذلك الضرب من الفضيلة والحاجة الضرورية للحياة. فأرسطو يقول أن لا أحد يقبل أن يعيش بلا أصدقاء ولو كان له مع ذلك كل الخيرات(...). كل الناس على وفاق في أن الأصدقاء هم الملاذ الوحيد الذي يمكننا الإعتصام به في البؤس والشدائد المختلفة الأنواع(2)، بل يذهب هذا الفيلسوف اليوناني إلى اعتبار الصداقة رابطة الممالك وأن الشارعين يشتغلون بها أكثر من اشتغالهم بالعدل نفسه(3). 

لاحظ أوبير درايفوس وبول رابيناو التغيير الذي لحق الصداقة منذ بدايات المسيحية، والتي جعلتها من الممارسات المهمّشة. فمن هوميروس إلى شيشرون، ظلت الصداقة تعتبر من الفضائل السامية، لأنه بفضلها يستطيع الكائن البشري أن يقيم علاقة معاملة بالمثل وأن يفعّل على أكمل وجه معنى كلمة "بشري". لكن، مع ظهور المسيحية، لم تعد الصداقة قيمة سامية، إذ بات يُعتبر أن كل علاقة إنسانية قوية تحوّل الإنسان عن حب يجب أن يتوجّه إلى الله(4). ومع بداية العصر الحديث، وتطور الرأسمالية، وإعلان ماركس صيحته الأخيرة:"بدأت المأساة، عندما صاح الإنسان: هذا لي". لم تعد الصداقة تفترض نوعا من المتعة في الإنضمام إلى الآخرين، ونوعا من متعة الإجتماع الذي يؤسس المنافسة، ولا تذوقا لتبادل الآراء وللحوار، كما كانت عند الإغريق. لهذا كان من اللازم الشروع في ابتكار كيفيات وجود جديدة، تسمح ب"التحول إلى الذات" والعناية بنفسها وبالآخرين، وبإدراك مختلف للعالم وأشيائه.
 في هذا السياق، قدم جيل دولوز تصورا مغايرا للصداقة، إذ ربط بين الصداقة والإدراك الحسي واللغة المشتركة التي تمكن شخص ما من فهم الآخر حتى ولو كان الموضوع بالغ التجريد. فالصداقة هي بالأحرى إيماءة يقوم بها أحد ما، فكرة تكون لدى أحد ما، حتى قبل أن تكون الفكرة ذات معنى، أو إيماءة شخص ما، تواضع شخص ما. هذه الأنواع من السحر التي تمتد إلى الحياة، إلى جذورها الحيوية، وبهذه الطريقة يصبح شخص ما صديقا للآخر(5). يوضح دولوز الرابطة التي تجمع الصداقة بالإيماءة بقوله:"قد تكون هذه الإيماءة ممثلة في عبارة، تظهر قدرا من الرهافة، بحيث تقول على الفور "هذا الشخص، إنه يخصّني"، ليس بمعنى الملكية، بل أنه من نوعي، وأتمنى أن أستطيع أن أكون من نوعه. من تلك النقطة، تولد الصداقة، يمكن للصداقة أن تولد. هناك إذن، مسألة إدراك [حسي]، إدراك شيء يناسبك أو يعلّمك شيئا، يفتّحك، يكشف شيئا لك(6). الأمر في الصداقة، عند دولوز يتعلق بفك شفرة العلامات، علامات يصدرها شخص، فنتلقاها أو لا نفعل. كل الصداقات على هذا الأساس. أن يصبح المرء حسّاسا للعلامات التي يصدرها شخص. الصداقة فن فكاهي(...). يمكن للمرء أن يقضي ساعات مع شخص دون أن يقول كلمة، أو الأفضل، أن يقول أشياء لا معنى لها على الإطلاق، أن يقول أشياء عامة ... إنها فكاهية، الصداقة فن فكاهي"(7).
ب-قريبا من الفلسفة: الصداقة كشرط لإمكانية الفكر
     فرض مفهوم الصداقة نفسه داخل المجتمع الإغريقي القديم؛ إذ اعتبر جيل دولوز الصديق، هذا الشخص الذي نذهب إلى حد القول بصدده إنه يشهد على أصل إغريقي لحب – الحكمة: إذا كان الحضارات الأخرى تتوفر على حكماء. غير أن الإغريق هم الذين أكدوا موت الحكيم واستعاضوا عنه بالفلاسفة، أصدقاء الحكمة؛ وهم الذين يبحثون عن الحكمة لكن دون أن يتملكوها بشكل قطعي(...). لقد أجبر الإغريق مع ظهور الفلسفة، الصديق على تجاوز العلاقة مع الآخر نحو علاقة مع كلية وموضوعية ومع ماهية(8). ومع ذلك تبقى صعوبة في معرفة ما يعنيه "صديق" حتى عند الإغريق، وخاصة عند الإغريق، يقول دولوز متسائلا: هل يعني "الصديق" نوعا من الحياة الحميمية المقتدرة، نوعا من الذوق المادي(...)؟. إن السؤال مهم مادام الصديق كما يبدو في الفلسفة، لا يعني شخصا خارجيا، مثالا أو ظرفا تجريبيا، وإنما يفيد حضورا داخل الفكر، شرطا لإمكانية الفكر ذاته(9).
لقد جسد دولوز في حياته هذه الصيرورة الفكرية، من خلال لقائه مع دفيد هيوم، فريديريك نيتشه وباروخ سبينوزا، فليكس غتاري وميشيل فوكو، وغوتفريد ليبنيز، الادباء الانجليز والأمريكيين، الفنانين التشكيليين كفرانسيس باكون وفان غوغ وبول سيزان... وآخرين(10). وجد جيل دولوز في هؤلاء الأصدقاء، أفعالا للفكر بدون صورة، أفعالا جامعة وساطعة في آن واحد، وجد فيهم ذلك الصنف وتلك الإلتقاءات والقرانات التي تجعل منهم مبدعين(11).
هكذا أثمرت لقاءات دولوز هاته، صورة جديدة للفكر، وفلسفة جديدة عرفت ب"فلسفة الإختلاف" أو"فلسفة ما بعد الحداثة" كما يحلو للأساتذة والكتاب الصحفيين نعتها.
2- صداقة مدهشة: العلاقة مع باروخ سبينوزا، ميشيل فوكو، وفيليكس غتاري
    تمثل علاقة جيل دولوز مع كل من باروخ سبينوزا وفليكس غتاري وميشيل فوكو، نموذجا للقاءات الجيدة والناجحة بين كائن بشري وآخر. فالصداقة التي جمعت دولوز بهؤلاء الفلاسفة، شكلت "قفزة بهجة" للطبيعة، ولقاءا مع أسماء أعلام. لكن إسم العلم لا يفيد بتاتا شخصا أو ذاتا. إنه يفيد أثرا وانعراجا وشيئا ما يمر أو يحدث بين إثنين(12). إن الأمر يتعلق هنا بالعثور والبحث عن أفكار فقط وعن هواء نقي. هكذا اكتشف دولوز في هؤلاء الفلاسفة والفنانين والادباء ذلك الصنف وتلك الإلتقاءات والقرانات التي تجعل منهم مبدعين قبل أن يكونوا مؤلفين(13)، فقد كانوا ينفلتون من هذا الأمر؛ سبينوزا، مثلا، بفضل قوة منهج هندسي، وفوكو بالوسائل التي يقترحها للإنفلات من وظيفة الكاتب، وغتاري بماضيه السياسي وخبرته في الطب العقلي وصيرورته الفلسفية وصيرورات أخرى.
أ- العلاقة مع باروخ سبينوزا: صداقة الأحرار
    أثمرت علاقة جيل دولوز بسبينوزا صداقة أصيلة؛ صداقة فكر، وصداقة كائن حر ومُلهم. كان للقاء دولوز ب"أمير الفلاسفة" تأثير خاص؛ كان بمثابة التيار الهوائي الدافع من الخلف عند قراءته، وبمثابة مكنسة ساحرة تحلق بمتناوله. مع سبينوزا -يقول دولوز- يتغير كل شيء، يحصل ما يشبه السحر؛ بحيث بعد قراءته، لا يعُد المرء كما كانه من قبل(14). لسنا في حاجة إلى الفهم، نفس الأمر يجري على الموسيقى، أو لوحة لجوجان، هناك مشاعر استثنائية، نقيّة بصورة استثنائية، عنيفة بصورة استثنائية، داخل الجهل التام بالتصوير أو بالموسيقى. هذا الإحساس هو الذي يجتاح قارئ سبينوزا.. فهو يخلق من المشاعر قدرما يخلق عمل موسيقى عظيم، يؤكد دولوز.
هكذا شكّل لقاء جيل دولوز ب"مسيح الفلاسفة" صداقة استثنائية ومثيرة، وقف من خلالها على قولة سبينوزا الشهيرة:"على ماذا يكون الجسد قادرا؟"، وعلى طبيعة تركيب الموجودات وكيفيات وجودها، وأشكال تحققها واستمرارها. كما عثر بمعية سبينوزا على نموذج فلسفي جديد، جدير بالإهتمام والتفكير، وهو: "الجسد". إذ إن السؤال العميق لفلسفة سبينوزا ليس هو سؤال  القيمة : "ما قيمة الوجود" بل سؤال: ما الذي يستطيعه جسمك؟ أي ما معنى أن يكون الجسم علاقة تدوم في الزمان؟ وما هي العلاقات التي يستطيع أن يقيمها جسمك. وما مقدار حركته؟ وإلى متى يستطيع لأن يظل ضامنا لعلاقاته التي يكون استمراره بها رهينا؟(15). لقد فرض السؤال حول الجسد على دولوز التعامل مع فلسفة سبينوزا وكتاباته ب"الجدية الكبرى التي تقتضيها تقاليد تاريخ الفلسفة"(16)، مع الإقامة "وسط" سبينوزا، أي التواجد في هذا البساط الحالي والإقامة فيه، وهو الأمر الذي ينطوي على دعوة لتبني نمط في الحياة وكيفية [خاصة] في العيش(17). فرغم بنية سبينوزا الهشة، وصحته العليلة، فهي صحة مخترقة بحياة فائقة؛ فسبينوزا لا يعمل سوى عبر قوة الإيجاب والإثبات(18)، وعنده نوع من قدسية الحياة، جعلت دولوز يقول في حقه: "هو في قلبي ولا أنساه، إنه قلبي وليس عقلي"(19).
 رغم اعتراف دولوز بدور سبينوزا في حياته الفلسفية والإيتيقية ، فإن "تواضعه" جعله يقر بصعوبة تمثّل فلسفته في الفكر والحياة بقوله:"لم نبدأ بعد في فهم سبينوزا، ولست أحسن حالا من الآخرين"(20).
ب- العلاقة مع ميشيل فوكو: صداقة النجوم
    حدث اللقاء في بداية ستينات القرن العشرين، ب"ابتسامة وإشارة"، خلال ندوة تاريخية حول نيتشه في منطقة "رويومون ". كان اهتمام دولوز وفوكو بالفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه بمثابة "قرار فلسفي". فالإستناد على نيتشه، معناه اللعب بالنار، وفسح المجال للضحك، والإستفزازات والإقرارات الجسيمة وكذا الشظايا غير المسؤولة. إنه إيثار لصيرورة الكائن(21).
يشير روجيه بول دروا، إلى التواطؤ النضالي المستمر(الإنكباب معا على "أنشطة يسارية مألوفة" وفق تعبير دولوز، يصعب أن نحصي العرائض والتظاهرات والمواقف العملية من طرفهما، والتي وحدتهما بعد سنة 1968، لاسيما حول جماعة التحقيق في السجون)، القائم على الشجاعة والسخرية والمواقف المثيرة، وبعض ضريات المطرقة، انتهى صيف 1977م، مع قضية كرواسون (22). لكن رغم ذلك، استمرت صداقتهما/صداقة نجوم؛ بحيث كانا يتواصلان عبر مسافات بعيدة، يتبادلان التقدير والإعجاب، والإحتفاء بالإصدارات الجديدة لكلا الطرفين.
أعجب دولوز بطريقة فوكو المختلفة في التفكير في المعرفة والسلطة والذات، وبكيفية تعامله مع الكتابة، جعلته يلقبه ب"الخرائطي الجديد" و"الوثائقي الجديد". وأكد على أنه فيلسوف كبير، وصاحب أسلوب مدهش، ونعث أعماله ب"علبة أدوات". هكذا أخذت الفلسفة معه معنى جديدا؛ فقد قام بتقطيع مغاير للمعرفة والسلطة، ووجد بينهما علاقات متميزة(...). وافتتح كذلك نظرية أو تاريخ لطرق الوجود(23)، وقدم في كتبه الأخيرة(حول تاريخ الجنسانية) تحليلا للعلاقات الإنسانية التي كانت في طريقها إلى تشكيل إتيقية جديدة(24). بالمقابل، جعل فوكو من كتابات دولوز (كتاب ضد-أوديب بالخصوص) نمط حياة، طريقة للتفكير، والحياة(25)، وعبّر عن إعجابه الكبير بفكره وفلسفته حين منحه قيمة كونية، حيث قال:" ربما سيغدو القرن يوما ما دولوزيا".
ل"نستمع" الآن، إلى جيل دولوز وهو يتحدث عن فوكو، أو بالأحرى كيف "يدرك" هذا الصديق الملغز:"كنت أكن له احتراما هائلا (...)، كان الحالة النادرة لرجل يدخل غرفة، فيتغيّر، يتغير جوّها، فوكو ليس مجرد شخص (...). كان الأمر حقا كأن هواء، كأن لفحة هواء أخرى،  كأنه كان لفحة هواء خاصة، تتغير بها الاشياء (...). كان الأمر حقا يتعلق بالجو، كان ثمة نوع من الإنبعاث، كان ثمة انبعاث فوكو، مثل شخص لديه وميض. (...)، لم تكن ثمة حاجة للكلام معه، كنا نتحدث فقط عن أشياء تجعلنا نضحك. امتلاك صديق تعني تقريبا قول، أو بالأحرى عدم قول، ما يجعلنا نضحك اليوم، أخيرا، ما يجعلنا نضحك في كل هذه الكوارث. لكن بالنسبة لي، فوكوه هو ذكرى شخص( ...) أوه نعم، حين أتحدث عن سحر شخص، إيماءات شخص، كانت إيماءات فوكوه مدهشة (...) كانت تشبه بعض الشيء إيماءات معدنية، من الخشب الجاف، إيماءات غريبة، إيماءات مذهلة، بالغة الجمال(26).
يزيد دولوز"في استطاعتي الحديث عن فوكو وذكر قوله لي هذا أو ذاك وإعطاء التفاصيل بالشكل الذي أراه به. لن يكون ذلك مهما ما لم أستطيع الإلتقاء فعليا بهذه المجموعة من الأصوات الرنانة والحركات المشتعلة والإنتباه الفائق والإختتام المفاجئ والضحكات والإبتسامات التي نشعر بأنها "خطيرة" في اللحظة ذاتها التي نكن لها العطف – هذه المجموعة كتأليف فريد ذي إسم العلم هو فوكو"(27).
ج- العلاقة مع فيليكس غتاري: صداقة الجداول
    كانت العلاقة مع فيليكس، نموذجا للعلاقة الممكنة بين الفلسفة وبين شيء يخصّ الصداقة. فقد أنشأ جيل مع فيليكس ما سماه ب"التجميعة"(التوليف)، تجميعة مشتركة، كان يمرّ فيها شيء فيما بين الإثنين(28). كانت الصداقة التي جمعت دولوز وغتاري تحتاج دائما لكي تتحقق إلى مستوى من مستويات البعد، فعلاقتهما كانت علاقة تكامل وليست علاقة تماهي. كان اللقاء دائما في الخارج، في البينية وفي الإضافة، أي في الحيز الفاصل بين الفكرين، وهذا في العمق، تجسيد عملي لفلسفتهما التي كانت فلسفة للبينية ضد الهوية وللمعية ضد الماهية(29).
الأمر يتعلق دائما بفليكس نفسه -يقول جيل دولوز- لكن إسمه كان يشير إلى حدوث شيء ما وليس إلى ذات. كان فليكس إنسان جماعة وإنسان عصابات وقبائل، ومع ذلك كان إنسانا وحيدا، كان صحراء معمّرة من طرف كل هذه الجماعات وكل أصدقائه وكل صيروراته(30). أما بالنسبة لكليهما، فيقول:"كنا إثنين فقط، لكن المهم كان هو هذا الفعل الغريب المتمثل في العمل بين الإثنين أكثر مما هو العمل معا. لم نعد "مؤلفين". وكان هذا ما بين – الإثنين يحيل إلى أناس آخرين مختلفين من كلا الجانبين. كانت الصحراء تتسع لكنها تزداد تعميرا(31).
 لقد غيّر لقاء دولوز بغتاري كل شيء. لا يتعلق الأمر بتعاون وتكامل، بل بفرق جهد، ومستويين من العمل والبناء أفرزا تلك الومضة أو المجرى الصغير الذي يدعى الكتابة الفلسفية(الكتابة كإثنين/ توقيع مشترك). فالرغبة هي التي كانت وراء هذا النوع من الصداقة، والعمل المشترك، وهذه العملية البنائية التجميعية. كما كان وراءها رغبة أخرى، تمثلت في عملهما المضاد للمفاهيم التحليلية-النفسية.
طرح جيل دولوز وفيليكس غتاري ثلاث قناعات تتعارض مباشرة مع التحليل النفسي، عرضها دولوز كالتالي:
-أولا: أننا مقتنعان بأن اللاوعي ليس مسرحا، ليس مكانا يلعب فيه هاملت وأوديب مشاهدهما بلا نهاية. ليس مسرحا، بل مصنع، إنه إنتاج(...) اللاوعي يُنتج هناك، يُنتج دون توّقف...يعمل طمصنع، إنه على العكس تماما للرؤية التحليلية-النفسية للاوعي باعتباره مسرحا  حيث تكون المسألة على الدوام أن هامليت أو أوديب يذرعان باستمرار، إلى ما لا نهاية(...).
-ثانيا: الموضوع الثاني أن الهذيان، الوثيق الإرتباط بالرغبة – فأن ترغب يعني أن تصبح هاذيا إلى حد ما (...) وإذا نظرت إلى الهذيان مهما كان موضوعه، إلى أي هذيان مهما كان، فإنه بالضبط نقيض ما ألصقه به التحليل النفسي، أي، أننا لا ندخل في الهذيان عن الأب أو الأم. بل بالأحرى، "يهذي" المرء عن شيء مختلف تماما؛ هذا هو السر الكبير للهذيان، نحن "نهذي" عن العالم بأسره، أعني، المرء "يهذي" عن التاريخ، والجغرافيا، عن القبائل، والصحراء، والشعوب، والأجناس، والمناخات، هذا ما "نهذي" عنه(...). فالمرء "يهذي" عن العالم وليس عن عائلته الصغيرة.
-النقطة الثالثة: تعود إلى الرغبة؛ فالرغبة دائما ما تؤسس نفسها، دائما ما تبني تجميعات هناك وتؤسس نفسها في تجميعة، ودائما ما تجعل عوامل عدة تتفاعل، بينما يختزلها التحليل النفسي دون توقف إلى عامل منفرد، هو نفسه دائما، أحيانا الأب، وأحيانا الأم، وأحيانا القضيب، إلى آخره. إنه جاهل تماما بما يكونه الكثير، جاهل تماما بالنزعة البنائية، أي، التجميعات(33).
خاتمة
    أنتجت لقاءات جيل دولوز مع سبينوزا وفوكو وغتاري وآخرين، صورة جديدة للفكر وفكر مختلف. وساعدت صداقاته على استئناف القول الفلسفي ووصف ممارسات الفكر والإنفلات من دعوات موت الفلسفة ونهايتها. لقد شكلت فلسفة هؤلاء الأصدقاء بالنسبة لدولوز أعظم تحرير للفكر، وتوجيه جديد للفكر ولما يعنيه التفكير، خاصة مع ارتباط إبداعاتهم ب"المشكلات الملعونة" التي طرحوها والتي لم يتجاسر الناس على طرحها، وب"الأفكار" التي امتلكوها، والتي جعلت منهم "فلاسفة رؤويين".
هكذا اعتبر دولوز سبينوزا، مثلا، واحدا من أشد الفلاسفة الرؤيويين؛ إنه يجعل المرء "يرى".

الهوامش:
1- يقول دولوز:" وهنا لا يتعلق الأمر في الرغبة في شخص أو شيء، بل الرغبة في مجموع، والتساؤل حول طبيعة العلاقات بين العناصر حتى تصبح هذه العناصر رغبة، حتى تصير هذه العناصر مرغوبة".
جيل دولوز وكلير بارنت: الألف باء، ترجمة أحمد حسّان،
 [الرغبة] Désirفي   مثلماD
-D comme Désir
-Gilles Deleuze : Abécédaire, entretien avec Claire Parnet, un téléfilm français produit par Pierre André Boutang et réalisé Michel Parmart, tourné entre 1988 et 1989.
2- أرسطو طاليس: الأخلاق إلى نيقوماخوس، ترجمه من اليونانية إلى الفرنسية وصدّره بمقدمة ممتعة في علم الأخلاق وتطوراته وعلّق عليه تعليقات تفسيرية بارتلمي سانت هلير، نقله إلى العربية أحمد لطفي السيد، مطبعة دار الكتب المصرية بمصر، الجزء الثاني، 1924 ،  ص219و220).
3- أرسطو طاليس: الأخلاق إلى نيقوماخوس، ص221.
4- أوبير دريفوس وبول رابينوف: ميشيل فوكو:مسيرة فلسفية، ترجمة جورج أبي صالح، مركز الإنماء القومي، لبنان، ص228.
5- جيل دولوز كلير بارنت: الألف باء، ترجمة أحمد حسّان،
[الوفاء]  Fidélitéفي   مثلماF
6- جيل دولوز كلير بارنت: الألف باء، ترجمة أحمد حسّان،
[الوفاء]  Fidélitéفي   مثلماF
7- ميشيل فوكو: ضد أوديب (مقدمة لحياة لافاشية)، ترجمة سعيد بوخليط،
https://ourwing.wordpress.com/.../ضد-أوديب-مقدمة-لحياة-لافاشية/
8- جيل دولوز وفيلكس غتاري: ما هي الفلسفة؟، ترجمة مطاع صفدي وفريق مركز الإنماء القومي، مركز الإنماء القومي، الطبعة الأولى، 1997، ص28و29.
9- جيل دولوز وفيلكس غتاري: ما هي الفلسفة؟، ص28و29.
10- نثير هنا تأكيد دولوز على سحر بعضا من هؤلاء الفلاسفة(نيتشه مثلا) والأدباء(أرطو مثلا) والفنانين(فان غوغ) بسبب جنونهم: بقوله:"إن الناس يكون لهم سحر فقط من خلال جنونهم، هذا ما يصعب فهمه.... السحر الحقيقي للناس هو جانب الشخص الذي يبيّن أنه غير متوازن نوعا ما، الجانب الذي لا يعرف عنده تماما إلى ماذا يتجه. ولا يعني هذا أنه ينهار، على العكس، هذا النوع من الناس لا ينهار. لكن إذا لم تلتقط الجذر الصغير أو البذرة الصغيرة للجنون في شخص، فلن تستطيع أن تحبه، لن تستطيع أن تحبه. إنه حقا الجانب الذي يكونون فيه في مكان ما تماما – حيث نحن جميعا، نحن جميعا – مجانين بعض الشيء. لكن إذا لم تلتقط نقطة الجنون الصغير لدى شخص، النقطة التي يكون عندها خائفا أو على العكس، أكون سعيدا  تماما – نقطة الجنون هي نفس مصدر سحرهم"،
جيل دولوز كلير بارنت: الألف باء، ترجمة أحمد حسّان،
[الوفاء]  Fidélitéفي   مثلماF
 11- جيل دولوز- كلير بارني: حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ترجمة عبد الحي أزرقان-أحمد العلمي، أفريقيا الشرق، 1999، ص35.
12- جيل دولوز- كلير بارني: حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ص15.
13- جيل دولوز- كلير بارني: حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ص35.
14- يقول رجل كييف:"...تابعت القراءة، كنت أستشعر كأن ريحا قوية تدفعني نحو هذا الكتاب دفعا، لم أفهم كل شيء كما قلت لحضرتكم ، ولكن ما إن نطلع على أفكار مثل تلك التي في هذا المصنّف، حتى يحصل لنا ما يشبه السحر، إذ إنني لم أعد، بعد قراءته، نفس الشخص الذي كنته من قبل"، جيل دولوز: فلسفة عملية، 2015، ص5.
15- عادل حدجامي: فلسفة جيل دولوز عن الوجود والإختلاف، دار توبقال للنشر، الدرا البيضاء-المغرب، 2012، ص63.
16- جيل دولوز وكلير بارني: حوارات، ص25.
17- جيل دولوز: فلسفة عملية، ص150.
18- يقول دولوز:" إن سبينوزا رجل الإلتقاءات والصيرورة، وفيلسوف على الطريقة القرادية، إنه الغير القابل- للإدراك، وموجودا دائما في الوسط، إنه دائما في هروب حتى عندما لا يتحرك كثيرا، هروب بالنسبة للمجتمع اليهودي، وهروب بالنسبة للسلط، وهروب بالنسبة للمرضى والمسمومين. يمكن أن يكون هو ذاته مريضا، وأن يموت؛ إنه يعرف أن الموت ليس بغاية ولا بنهاية، وإنها يتعلق الامر على العكس من ذلك بتمرير حياته إلى إنسان آخر"، جيل دولوز- كلير بارني: حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ص81.
19- جيل دولوز كلير بارنت: الألف باء، ترجمة أحمد حسّان،
 [ثقافة].Cultureفي   مثلماC
20- جيل دولوز وكلير بارني: حوارات، ص25.
21- روجيه بول دروا: دولوز-فوكو: صديقان-عدوان، ترجمة سعيد بوخليط،    
https://www.almarrakchia.net/فوكو-دولوز-صديقان-عدوان_a11257.html
22- "هذا المحامي الألماني، كان قريبا من جماعة الجيش الأحمر...، المتهم  بالإرهاب، سيرحل إلى فرنسا، ملتمسا اللجوء السياسي.  بخصوص هذا الأمر، وضع دولوز إمضاءه من أجل دعم طلبه، بينما رفض فوكو"، روجيه بول دروا: دولوز-فوكو: صديقان-عدوان، ترجمة سعيد بوخليط.
23- حوار مع جيل دولوز بعنوان:
-Signes et Evénements, propos recueillis par Raymond Bellour et François Ewald, Magazine Litteraire, n°  257, Septembre 1988, p23.
24- جيل دولوز: بيركليس وفردي: فلسفة فرانسوا شاتليه، ترجمة حسين عجة،
https://www.alawan.org/2008/03/11/بيركلس-وفردي-فلسفة-فرانسوا-شاتليه-جي/
25- ميشيل فوكو: ضد-أوديب (مقدمة لحياة لافاشية)، ترجمة وتقديم: عمار جمال.
https://ourwing.wordpress.com/2012/11/25/ضد-أوديب-مقدمة-لحياة-لافاشية/
26- جيل دولوز كلير بارنت: الألف باء، ترجمة أحمد حسّان،
 [الوفاء].Fidélitéفي   مثلماF
يطابق إحساس دولوز عند لقائه بفوكو، ما قاله نيتشه بصدد شوبنهاور:"سنشعر مثلما تدخل في الغابة العميقة، نسحب نفسا عميقا ونشعر بغتة بالراحة الثانية. هنا، نشعر أن الهواء في كل مكان منعش"، فريديريك نيتشه: شوبنهاور مربيا، ترجمة قحطان جاسم، منشورات الإختلاف، الجزائر العاصمة-الجزائر، الطبعة الأولى، 2016، ص29.
27- جيل دولوز- كلير بارني: حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ص21.
28- يقول دولوز:"لم يكن لعملنا علاقة بمدرسة أو بطرق التعرّف وإنما كان كثير العلاقة بالإلتقاءات. إن كل حكايات الصيرورات هذه والقرانات المخالفة للطبيعة والتطور اللامتوازي والإزدواجية اللغوية وسرقة الأفكار هي الأمور التي حصلت عليها مع فيلكس"، جيل دولوز- كلير بارني: حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ص27.
ويقول بصدد عمله مع فيليكس:"فليكس غتاري وأنا لم نتعاون مثلما يتعاون شخصان. كنّا بالأحرى مثل جدولين (التشديد مني) يلتقيان ليكوّنا معا جدولا ثالثا الذي هو نحن"، حسونة المصباحي: جيل دولوز: الفلسفة لن تموت، موقع ثقافات، 4 ديسمبر 2015.
- عادل حدجامي: دولوز غاتاري: شروط التوقيع المشترك، مجلة نزوى، عدد 57، يناير 2009.29
- جيل دولوز- كلير بارني: حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ص26.30
31- جيل دولوز- كلير بارني: حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ص27.
32- جيل دولوز- كلير بارني: حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ص27.
33- جيل دولوز كلير بارنت: الألف باء، ترجمة أحمد حسّان،
الرغبة]. ] Désir مثلما في  D

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟