تمهيـد: في البعد الإشكالي لعلاقة الفلسفة بالمؤسسة: تساؤلات وعناصر منهجية أولية.
يطرح التفكير في إشكالية علاقة الفلسفة بالمؤسسة بشكل عام، وفي مجتمعنا خاصة، تركيبة معقدة وهامة من التساؤلات والأسئلة والقضايا والمشكلات النظرية والمنهجية…التي تتعدد بتعدد مستوياتها ودلالتها وأبعادها الفكرية والاجتماعية والسياسية والتربوية… ذلك أننا لا نتحدث عن مفهومي: الفلسفة (Philosophie) والمؤسسة (Institution) في شروط مجتمعاتنا الثالثية - قياسا إلى شروط المجتمعات الغربية التي "تشكل" الإطار المرجعي تبلور وتطور المفهومين الآنفين - إلا بالكثير من التعميمية والتجاوز. هذا فضلا عن كون العلاقة الملتبسة للفلسفة بالمؤسسة، التربوية تحديدا، تظل، على المستوى الكوني، مرتبطة بما افرزه التاريخ العميق لهذه العلاقة من صراعات أو مفارقات أو غموض، ومن المكونات، أو في آليات الأشغال وإنتاج أنماط متعددة من القول/الخطاب (Discours)، ومن المواقف والرؤى والتصورات وتمثلات الواقع، ومن أشكال التوجيه للفكر والممارسة في آن.
وإذا كانت طبيعة هذه العلاقة: فلسفة/مؤسسة مسألة يتداخل فيها الخصوصي والكوني، وأنها لا يمكن أن تفهم بالعمق الكافي إلا بالمعرفة الدقيقة لمجمل الشروط التي تنتظم الجدل التفاعلي للعنصرين الآنفين في فضاء اجتماعي محدد في الزمان والمكان، فإن خصوصية المجتمع المعاصر، مجتمع المأسسة والعقلانية والتنظيم المعتمد على الكثير من الآليات المستحدثة للتخطيط والتدبير والترشيد والهيكلة والتوجيه، مما يمكن أن نطلق عليه مصطلح "هندسة اجتماعية" (Ingénierie sociale)، بالمفهوم السوسيولوجي العام، فإن خصوصية هذا المجتمع قد أصبحت تتطلب، أكثر من أي وقت مضى، ضرورة توفير شروط معرفية واجتماعية جديدة لإعادة التفكير في مسألة تدبير علاقة الفلسفة بالمؤسسة التربوية. وذلك على اعتبار أن هذه المؤسسة هي، في التحليل النهائي، جزء من كل، منظومة فرعية ضمن منظومة أشمل هي المجتمع: مؤسسة المؤسسات ونسق الأنساق، في بنيته الكلية، ومشروعه التربوي والاجتماعي العام. وإذا كان كل مشروع تربوي أو مجتمعي لا يمكن تصور استقامته وتكامل عناصره ومكوناته إلا في إطار فلسفة تربوية أو اجتماعية مؤطرة للنظر والفعل، فإن مهمة تدبير العلاقة السالفة الذكر تصبح متسمة بالكثير من الصعوبة والتعقيد والاستشكال: كيف يمكن تجاوز المفارقة التي تطرحها مسألة تحديد العلاقة بين الفلسفة وبين ما يفترض أن تشكل هذه الفلسفة إطاره الفكري الموجه:
المؤسسة التربوية والمجتمع بشكل عام؟ بأي معنى، وضمن أي حدود يمكن قبول الاعتراف بالإكراهات والضغوط التي تحكم المؤسسة، بشبكاتها العلائقية بين فاعليها، وبأهدافها وغاياتها، وبمعاييرها المعتمدة في التحرك والاشتغال نحو تحقيق مهامها وأهدافها، وأيضا بهوامش استقلاليتها النسبية المفترضة، وبشتى أشكال ارتباطاتها بآليات توزيع السلطة والمعرفة والنفوذ المراتبي والهيمنة المادية والرمزية في المجتمع… كيف يمكن قبول هذا الاعتراف والدعوة في الآن ذاته إما إلى تحرير الفلسفة من ضغوط المؤسسة، وإما إلى تنصيب الفلسفة موجها ومرشدا للمؤسسة ودعامة - بفعل هذه الوظيفة الإرشادية - لتحرير المؤسسة في نهاية المطاف؟ كيف يمكن تحليل وفهم هذا التجادل الدينامي بين الطرفين: الفلسفة والمؤسسة؟ وبأي معنى يمكن أن يكون كل منهما موجِّها ومحرِّرا، وموجَّها ومحرَّرا في نفس الوقت؟ ما هي أهم الشروط النظرية والمنهجية من جهة، ثم المعرفية والسوسيوتاريخية من جهة أخر، والتي بإمكانها أن تشكل المستند العلمي الضروري للفهم والتحليل والمقاربة، وبالتالي للاقتراب من طبيعة وخصوصيات العلاقة الآنفة، في كل تشابكها والتباساتها وتعقد عناصرها..؟(1)
إن التساؤلات والأسئلة الآنفة - والتي يمكن الاستمرار في توليد العديد من مثيلاتها إلى مستوى يصعب معه التحديد والحصر - تبرز لنا واقعة منهجية هامة ألا وهي أن علاقة الفلسفة بالمؤسسة، التربوية، بل والاجتماعية بشكل عام، ونظرا لطبيعتها المعقدة هذه، فإنها تتحطم أمامها مختلف أنماط التمظهرات البديهية البسيطة التي تتجلى بها هذه العلاقة في صورها الأكثر ملموسة ومباشرة، من جهة. كما أنها من، جهة أخرى، تشرع الأبواب أمام العديد من الرؤى، والمنظورات التخصصية، والنظريات، والمناهج، ونماذج التدخل والتحليل والمقاربة والفهم… والتي يظل كل منها - كما هو معروف ومتداول في الحقل الفلسفي العام، وفي مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية - محكوما بإطار نظري ومنهجي موجه للمقاربة، ومرتهنا، على مستوى خلاصات ومترتبات هذه المقاربة، بذات الإطار المرجعي، بإمكاناته، وحدوده، بل ومحدوديته أيضا(2).
نؤكد على هذه الواقعة المنهجية لنعلن في مقدمة هذه المساهمة عن تموقعنا في إطار منظور تخصصي محدد هو المنظور السوسيولوجي بالذات غير أننا نود أن نؤكد أيضا على عدم ادعاء أي إلمام شمولي بالمسألة المبحوثة هنا وفق هذا المنظور، ولا الدعوة أيضا إلى تبني أية نزعة سوسيولجية (Sociologisme) معرفة في التبسيطية والسذاجة، ومتناقضة مع تعدد أبعاد ودلالات المسألة المعنية. غير أننا نعتقد أن المقاربة السوسيولجية النقدية المنفتحة، الواعية بمنطلقاتها ورهاناتها، وبتموضعها في تحليل الظاهرة الاجتماعية في نقطة تقاطع العديد من التخصصات وزوايا النظر، كفيلة بأن تقدم، ضمن حدود نظرية منهجية معينة، منطلقا أساسيا لمعالجة الإشكالية لمطروحة. علاقة الفلسفة بالمؤسسة. علما بأننا لا نطمح هنا إلى أكثر من المساهمة في وضع أرضية للبحث والتساؤل والحوار، تكاملية، متعددة الأبعاد، ومنفتحة على ما تتطلبه تلك المعالجة من تعدد وتكامل في المنظورات والمناهج وأنماط المقاربة والفهم. وسنحاول إبراز بعض جوانب هذه الأرضية في المحاور الآتية من هذا العرض(3).
المبحث الأول:حول بعض الجذور الفكرية والسوسيوتاريخية لإشكالية علاقة
الفلسفة بالمؤسسة.
يبدو أنه من المفيد أن نحدد بداية - ولو بشكل أولي وخطاطي عام - ما نعنيه بمفهومي الفلسفة والمؤسسة إزالة لكل ما يمكن أن يترتب على استعمالهما من لبس أو غموض محتملين.
وهكذا يمكن القول بأننا سنستعمل مفهوم الفلسفة هنا بدلالتين متباينتين ومتداخلتين في الآن ذاته: الدلالة الكلاسيكية العامة والمتداولة للمفهوم، والتي تتحدد فيها الفلسفة بكونها "محبة الحكمة"، وأنها ذلك المجهود البشري المتواصل الذي يبذله الإنسان كي يفهم ويعقل وجوده و واقعه الطبيعي والاجتماعي، والذي شكل المحرك الأساسي لفعل التفكير أو الوعي الفلسفي عبر تاريخيته العريقة، بدءا من الانهمام بقضايا الوجود، إلى مسأليات المعرفة، إلى مشكلات الإنسان في المجتمع. مع ضرورة التذكير هنا بأن التحولات العميقة لتاريخية هذا الفكر الفلسفي قد كانت المحصلة الدينامية لجدلية مسترسلة بين آليات إنتاج معرفية واجتماعية في آن، جاعلة من الفلسفة بذلك "خلاصة روحية لعصرها" وتعبيرا عن لحظتها التاريخية المعطاة، كما هو مستخلص من تاريخ الفلسفة ذاتها(4).
أما الدلالة الثانية التي نمنحها هنا لمفهوم الفلسفة فهي خاصة ومحددة، ونقصد بها كل ما يفهم من مصطلح "فلسفة مدرسية أو جامعية" (Scolaire ou Universitaire Philosophie). وهي بهذا التحديد ليست فلسفة بالمعنى الشمولي المذكور آنفا. وإنما هي جزء أو مكون من "ثقافة أو معرفة مدرسية أو جامعية" أي من "خطاب مؤسسي" موجه، محكوم، في مضامينه وأهدافه وآليات اشتغاله وتداوله المؤسسي، برهانات، وخلفيات، وتوجهات، وإكراهات، وشروط بيداغوجية وتربوية واجتماعية متنفذة في الزمان والفضاء. وهكذا،فإننا لا نتحدث هنا عن فلسفة بالمعنى الأوسع المجرد، فلسفة الفلاسفة ذوي الأنساق والمذاهب والصروح النظرية الشامخة، وإنما نتحدث، بشكل أدق، عن خطاب حول أو عن الفلسفة بهذا المعنى الشمولي، خطاب له حدوده ومحدودياته الضابطة المرسومة(5).
وأما مفهوم المؤسسة، فإننا نفضل ألا نقدم عنه هنا سوى ما هو مركز، دال، ومفيد. يرتبط مفهوم المؤسسة - كمفهوم سوسيولوجي - بالعديد من المفاهيم المجاورة أو المماثلة، ومن أبرزها مفاهيم: "البنية" (Structure)، و "التنظيم" ((Organisation، و "النسق" (Système). وبالرغم من كون هذه المفاهيم كلها تستخدم للتعبير عن نفس الظاهرة: أي مجمل البنيات والهياكل والأطر الاجتماعية المنظمة (مقاولة، مصنع، مدرسة…الخ)، فإنها تفترض، على مستوى المقاربة والفهم، مجموعة متعددة، متكاملة ومتباينة أحيانا، من النماذج النظرية التحليلية أو المقاربية. وذلك بكل ما لها من خلفيات وأطر مرجعية محددة، وما يترتب على ذلك من خلاصات واستنتاجات ومستتبعات على مستوى التأويل والفهم(6).
وعلى العموم، فإن ما يفهم من المؤسسة الاجتماعية هو أنها تشكل منظومة متكاملة من العناصر، أي الفاعلين الاجتماعيين، الذين تربطهم علاقات محددة، وأهداف مشتركة، ومعايير متعارف عليها في مجال السلوك والفعل وتقويم الإنجاز. ويميز التحليل السوسيولوجي في تكوين كل مؤسسة بين نمطين من التنظيم لا يمكن الفصل بينهما إلا على المستوى النظري المجرد، إذ تنتظمهما على الدوام جدلية مسترسلة. فهناك، من جهة، تنظيم رسمي معلن. ويتجلى في مختلف القواعد والمساطر والضوابط المؤسسية المنظمة والموجهة رسميا لكل مؤسسة. كما أن هناك، من جهة أخرى، تنظيما لا رسميا ضمنيا ويتمثل فيما يخلقه فاعلو المؤسسة، على هامش ضوابطها وتحديداتها الرسمية، من علاقات وأهداف ومعايير خاصة ومغايرة.
وعلى اعتبار أن هؤلاء الفاعلين لهم رهانات ومصالح وأهداف تختلف باختلاف توجهاتهم وأنماط وعيهم الاجتماعي ومراجعهم وانتماءاتهم المتعددة، فإنهم يسعون، بفعل هذه المحددات وبوعي أو بدونه، إلى أن يبحثوا في تفاعلاتهم عن فرص لخلق المزيد من الانعتاق والتحرر من إكراهات المؤسسة وارتباطاتها الاجتماعية، أي باعتبارها بنية فرعية داخل المجتمع العام الموسوم بكونه هو تلك المؤسسة الكبرى التي تنتظم وتترابط ضمنها كل المؤسسات الاجتماعية إن هذه الخاصية السوسيولوجية المرتبطة بآليات اشتغال مكونات الفضاء المؤسسي هي ما يتيح إمكانية الحديث عن "الاستقلالية النسبية" (Indépendance Relative) للمؤسسة الاجتماعية. هذه الاستقلالية التي تفند اي تصور قدري للمؤسسة يجعل منها مجرد مكان لإنتاج وإعادة إنتاج القمع والتشييء و الاستلاب، والتي تسمح بدل ذلك بالنظر إليها كأداة للتغيير والتحرر والثورة على صنمية البنى وجمودية الأفكار والمعارف والقيم والعلاقات والسلط الاجتماعية المتكلسة. غير أن هذه المسألة تظل مرهونة بالكيفية التي يتم بها تدبير هذه الاستقلالية في الفضاءات الاجتماعية المختلفة، واستغلالها، من طرف هذا الجانب أو ذاك، إما كمجال للفوضى والتسيب والاختلال الاعتباطي للقيم والمعايير، وإما استثمارها كإمكانية للخلق والإبداع والتخطي والتجاوز والتحرر(7).
بعد هذه التحديدات المفاهيمية المركزة السابقة، يمكن طرح إشكالية العلاقة القائمة أو المحتملة بين الفلسفة والمؤسسة. ويبدو أن المقاربة التحليلية والنقدية للأبعاد الفكرية والسوسيوتاريخية لهذه الإشكالية تتطلب عودة تذكيرية ببعض أبرز المحددات الأساسية لهذه العلاقة عبر المحطات الكبرى لسيرورة تطورها التاريخي. وذلك بالقدر الذي تسمح به محدودية هذه المداخلة.
يؤكد دارسو تاريخ الفكر الفلسفي على واقع كون التجربة السقراطية قد شكلت في هذا التاريخ أول محطة انقلابية تمردت في الفلسفة على كل أشكال الانضباط والخنوع والانحباس أو التحنّط في شرنقة القيم والمعارف والمسلكيات والمعتقدات الجامدة…أي ضد المؤسسة في كل تمظهراتها التربوية أو الاجتماعية العامة. غير أن موت (أو إعدام) سقراط قد شكل بدوره، ولشروط سوسيوتاريخية يضيق المجال عن بحثها وتفصيلها هنا، بداية بارزة لرهانات "تأميم" الممارسة الفلسفية وإجبارها على موضعة انشغالاتها وهمومها واشتغالها داخل الفضاء المؤسسي بمفهومه الشامل، وبكل ما تستتبعه هذه الموضعة من شروط الانضباط والتأقلم والتفاعل التكيفي، العلني والضمني، المبدئي والتاكتيكي… وهكذا انخرطت علاقة الفلسفة بالمؤسسة في مشروع تسوية لا متكافئة بين الطرفين. إلا أنها إذا كانت قد عززت المكانة الاعتبارية للمؤسسة، فإنها لم تسلب من الفلسفة، بالمقابل، كل فاعليتها ونزعاتها التحررية وقدرتها على البحث الدؤوب عن العديد من هوامش الاستقلال والانعتاق من كل سيطرة مطلقة للمؤسسة. الأمر الذي مكنها من أن تظل باستمرار قادرة على العطاء والإبداع وتقديم بدائل التحرر: تحرر ذاتها وتحرر المؤسسة أيضا. سواء كان هذا الفعل التحرري منطلقا من هوامشها، من استقلالها النسبي الآنف الذكر، أو منبثقا من داخل المؤسسة ذاتها. ومن هنا كان يسر ذلك الامتداح الدائم للعظمة الفريدة للفلسفة وقدرتها على المواصلة والاستمرار. ومن هنا أيضا كانت أصالة تلك العلاقة الدقيقة والمعقدة التي ظلت تربطها، عبر حقب تطورها التاريخي، بالمؤسسة التربوية: (المدرسة والجامعة)، بل وبالمؤسسة الاجتماعية بالمفهوم السوسيولوجي الشمولي المنوه به آنفا(8).
ولو تأملنا التاريخ الكوني، الغربي تحديدا، في ارتباطه بتاريخ الفلسفة، لأمكننا أن نستخلص من معطياته أن الفلسفة قد أنيطت بها خلال هذا التاريخ - بشكل ما، وبقدر أو بآخر، حسب السياقات الاجتماعية والحضارية المتباينة - مهمة القيام بالأدوار والوظائف التالية، والتي افترضها واستتبعها تموقعها الفكري والاجتماعي الذي تم إبرازه فيما سبق:
1 - مختلف وظائف شرعنة (Légitimation) كل أصناف القول/ الخطاب، راسمة بذلك حدود الحقيقة واللاحقيقة، الصدق والكذب، الصواب والخطإ، والمعقول واللامعقول، العلمي واللاعلمي… ومحاولة وضع الشروط والقواعد التي من شأنها أن تجعل خطابا ما إما متسما أو غير متسم بمقومات ومواصفات المصداقية والمعقولية والثبات…مما يشكل مبررات معرفية لقبوله أو رفضه. وذلك في إطار "سياسة معينة للحقيقة" منبنية على "إبستيمية خاصة ومحددة" ومرتبطة بمساق معرفي وسوسيوتاريخي متنفذ في الزمان والمكان، كما يرى ميشيل فوكو (M.Foucault)(9).
2 - وظيفة توجيه وترشيد الممارسة الاجتماعية كواقع ممأسس، وذلك بكل ما تقوم عليه هذه الممارسة من قيم ورموز ومعايير ومعتقدات وعلاقات وتبادلات في الأدوار والمواقع والمهام…الخ. إن هذا الدور الإرشادي الذي أنيط بالفلسفة هو الذي استمدت منه صلاحية التدخل للتمييز بين: المباح والمحظور، المقبول واللامقبول، النافع والتافه، الحسن والقبيح…وذلك ضمن منظومة القيم السائدة في لحظة تاريخية معطاة، بكل شروطها وخصوصياتها المميزة.
إن هذه المقدرة العجيبة للفلسفة على الجمع والمكاملة بذكاء بين الوظيفتين السالفتين: المعرفية والاجتماعية هي التي مكنتها من جهة، من التقاط وعي ما - مشروط بتطور المعرفة والمجتمع - بشروطها ومهامها ولحظتها السوسيوتاريخية. كما تبرز هذه الحيثية، من جهة أخرى، أن الممارسة الفلسفية لا تتحكم في محددات اشتغالها آليات معرفية فقط، بل آليات اجتماعية وثقافية كذلك، أي كل ما يرتبط بالمؤسسة في مدلولها العام. نسجل هذه الواقعة المعرفية بالرغم من استمرار الفلسفة في رفضها لكل أصناف التحزب السياسي والتموقف العقدي الإيديولوجي، مع ضرورة الانتباه إلى اختلاف الفلاسفة في مستوى ونمط تعاملهم مع هذا (الموقف) الإنكاري من القبول، إلى التحفظ، أو الرفض أحيانا… هل يرتبط هذا الإنكار ببعض رواسب الموروث التاريخي للعلاقة الصراعية والصدامية بين الفلسفة والمؤسسة. والذي تمتد جذوره إلى التجربة السقراطية بكل حواملها المادية والرمزية؟ لاشك في أن ذلك يعتبر إمكانية واردة.
ومع التحولات المعرفية والتكنولوجية والحضارية التي عرفتها المجتمعات الحديثة والمعاصرة، ومع ما رافقها من انقلابات عميقة في أنساق القيم الثقافية والاجتماعية…سيتم الشروع في مأسسة الممارسة الفلسفية. وذلك بمحاولة إدراجها ضمن تعليم سكولائي/مدرسي شهد مع تدشين عصر النهضة الغربية الحديثة بداية هامة شكلت الإرهاصات الأولى لانخراطه في سيرورة تنظيمية لم تكن تتجاوز عَصرَئِذٍ بعض الأشكال البسيطة: (كنيسة، مدارس تقليدية عمومية أو خاصة…الخ)، والتي لم تكن قد قطعت بعد مع جذورها الوسطوية بكل خصائصها وسماتها المتميزة(10). إلا أن الفلسفة قد ظلت تمارس ضمن هذه الشروط الجديدة، رغم كل الإكراهات المحتملة لبداية مأسستها هذه، وظيفتها الإرشادية والتنويرية المشار إليها سابقا. ولمجرد التذكير فقط،ي يمكن استحضار الدور الفكري والحضاري الذي قامت به فلسفة الأنوار- كنمط من الوعي المعبر عن المد البورجوازي الناشئ، والثائر ضد الإقطاع والكنيسة بكل أنساقها الثقافية وتنظيماتها الاجتماعية…- فلقد كانت هذه الفلسفة وراء وأمام مختلف الثورات الفكرية والاجتماعية: (الثورة الفرنسية، الإنجليزية، والألمانية…)، والتي تعتبر، إضافة إلى ما كان لها من آثار إيجابية مادية ملموسة على مستوى تغييرها الجذري للبنيات والمؤسسات والعلاقات الاجتماعية، رافدا هاما للفكر الفلسفي، إذ اغتنى، عبر انخراطه في هذه المراهنات الفكرية والاجتماعية والحضارية، بالعديد من الرؤى والمواقف والمفاهيم والتصورات للواقع الطبيعي والاجتماعي. وغير خاف أن العديد من مفاهيم وقضايا الفكر المعاصر: فلسفة وعلوما إنسانية واجتماعية، بل وعلوما حقة كذلك، تجد جذور مرجعيتها التاريخية في تلك الفلسفة الأنوارية المذكورة أعلاه(11).
غير أنه مع تنامي سيرورة استكمال بناء الدولة الوطنية الحديثة في الغرب (Etat-Nation/National)، كإطار عقلاني وتوافقي وديمقراطي للتفاعل والتبادل والتكامل بين مختلف مكونات المجتمع: المجتمع المدني والمجتمع السياسي (Société Civile/Société Politique)، ستعرف هذه السيرورة تناميا موازيا لمسارات المأسسة والتنظيم المجتمعيين. إن هذه الدولة الوطنية، وهي تسعى في مشروعها الهيمني - والمشروع ضمن شروطه وحدوده المعروفة - إلى التحكم في إدارة وتفعيل المجتمع، قد دعمت مسألة هيكليته ضمن مؤسسات أو تنظيمات مقننة (Institutions/Organisations) محكومة بمعايير عقلانية وحدثية في البناء والهيكلة وآليات الاستغلال، تستمد مشروعيتها وشرعيتها من مؤسسة الدولة ذاتها كدولة وفاق اجتماعي (Etat de consensus Social). وهكذا ستصبح مختلف التنظيمات الاجتماعية مثل: (مصنع، مقاولة إنتاجية، مرفق إداري، مستشفى، مدرسة، جامعة…الخ) مؤسسات اجتماعية منظمة ومؤطرة - بشكل أو بآخر - ضمن السياسة العامة للدولة الوطنية القائمة.
وبما أن البورجوازية الغربية الحديثة كانت قد أسست دعائم دولتها الوطنية هذه على معايير عقلانية ارتبطت بوعيها التاريخي بقيمة العقل البشري، وبمكانة العلم والمعرفة في بناء الإنسان والمجتمع، وأيضا في تدعيم صراعها ضد قيم ومعايير النظام الإقطاعي، الذي انحدرت منه كهوامش مستبعدة، محرومة مكدحة، ومضادة ثائرة في الوقت ذاته، فإن هذه البورجوازية ستمنح للتربية والتعليم والتكوين في مشروعها السوسيوحضاري مكانة متميزة. هكذا ستصبح المؤسسة التربوية : (المدرسة والجامعة وما يوازيهما) ليست مجرد فضاء للتعليم والتلقين، بل أداة منظمة، موجهة وهادفة، ومندرجة ضمن سياسة معقلنة لتوزيع المعارف، وأنماط التكوين، والتخصصات، والمؤهلات، والقيم، ونماذج السلوك… التي تنسجم مع شروط ومقومات المشروع الدولوي/المجتمعي القائم. أي أنها ستغدو، حسب تعبير لويس ألتوسير (L.Althusser)، "جهازا إيديولوجيا للدولة" القائمة، تعتمد عليه، بشكل كبير، في نقل معرفة معينة، وبناء مواطنة (Citoyenneté) خاصة ومتميزة، وتأبيد وشرعنة نظام ثقافي واقتصادي واجتماعي محدد في الزمان والفضاء(12).
ونظرا لهذه المكانة الاعتبارية التي احتلتها المؤسسة التربوية في المجتمع الحديث والمعاصر، فإنها قد أمست محط رهانات وصراعات سياسية وفكرية واقتصادية متداخلة ومتعددة. ذلك أنه يفترض، نظريا على الأقل، أن من يتحكم في أنظمة التربية والتكوين والتعليم وتوزيع المعارف والقيم الثقافية - ولا سيما في مجتمع عصري عقلاني قائم على العلم والتكنولوجيا في تنظيماته وعلاقاته وتبادلاته المختلفة - سوف يتحكم، بالنتيجة، في هيكلة المجتمع، بل في مساره ومآله العام. بهذا المعنى سيتم النظر إلى المؤسسة التربوية باعتبارها الدعامة المفصلية لسيرورة إعادة الإنتاج الاجتماعي (Rerpoduction) بالمدلول السوسيولوجي الواسع للمصطلح(13).
لم تكن المعطيات المختزلة الآنفة مجرد ترف معلوماتي عرض بغرض المراكمة والتجميع، وإنما كان عرضها محكوما بهدف منهجي يتغيّى التمهيد للتساؤل التالي: ما هو مآل مسألة العلاقة بين الفلسفة والمؤسسة في خضم هذه التحولات المعرفية والتربوية والسوسيوحضارية الجديدة؟ والتزاما منا بهذا الهدف المنهجي المعلن، وبدون الدخول في التفاصيل والجزئيات التي قد يتطلبها الجواب على هذا التساؤل، يمكن القول بأن من أهم ما عرفته تلك العلاقة/الإشكالية المذكورة هو أن الفلسفة - وخاصة بعد أن استقلت عنها مجموعة هامة من العلوم الإنسانية والاجتماعية والعلوم المضبوطة، في موضوعاتها ومناهجها… ونتيجة حيثيات معرفية وتاريخية أصبحت الآن متداولة ومعروفة في تاريخ العلوم - أن الفلسفة قد انتقلت بدورها من ذلك العلم الشمولي الناظم والمهيمن على كل أصناف المعرفة البشرية إلى تخصص قائم بذاته. وخاصة حينما ينظر إلى هذا التخصص كجزء فرعي قطاعي داخل "معرفة أو ثقافة مدرسية أو جامعية" لها مدخلاتها ومخرجاتها، وأهدافها التربوية والاجتماعية والاقتصادية المحددة، ولها أيضا ممارسون محترفون، وفضاءات مراقبة وموجهة للتداول والاستهلاك…الخ. في هذه المساقات الجديدة سوف تغدو "التجربة السقراطية" مجرد ذاكرة لماض منقرض، قد يفلح البعض وقد لا يفلح في استحضار مزيتها وأبعادها الفكرية والإنسانية. لم يعد "سقراط"، إذن/ هو ذلك الفيلسوف الفذ الحامل لمشعل النقد والنقض وتكسير الأقنعة الفكرية والعقدية المتحجرة ليفهم العديد من البشر بأنهم "لايعرفون أنهم لا يعرفون"، وأن عليهم التفكير في بناء معرفة جديدة أصيلة ومتحررة، إلا من مستلزمات العقل والمنطق…، بل سيصبح "سقراط موظفا: Socrate fonctionnaire" حسب تعبير بيير تويليي (P.Thuillier)(14). وواضح أن المقصود هنا ليس هو سقراط أثينا وإنما المراد هم كل أولئك الذين يحترفون مهنة التعليم الفلسفي، والذين أمسوا في هذا المساق الجديد مستخدمين في إطار مهني مقنن داخل ما أصبح يعرف بـ"التعليم النظامي" الموجه، أي في إطار له إكراهاته وضوابطه وتحديداته، وقواعد لعبه، وأعرافه وتقاليده المهنية المؤسسية، ومعاييره في التقويم أو الجزاء أو القبول أو الاعتراف أو الرفض…الخ. أي مجمل الميكانيزمات المتحكمة في دينامية اشتغال الفضاء المؤسسي: (المدرسة والجامعة) في ارتباطه بشروط ومحددات النظام التربوي والاجتماعي القائم.
يتضح من كل ما سبق أن الإجابة على التساؤل الآنف حول إشكالية علاقة الفلسفة بالمؤسسة في هذه الشروط الحضارية الجديدة - سواء تعلق الأمر بالمجتمعات الغربية المتقدمة أو بمجتمعاتنا الثالثية التابعة لها - تقتضي من ضمن ما تقتضيه مقاربة هذه العلاقة على ضوء المكانة التي أصبحت للثقافة أو المعرفة المدرسية في الأنظمة التربوية المعاصرة، وخاصة في المجتمعات المتقدمة، وأيضا على ضوء أهم المنظورات والمواقف المتبناة تجاه هذه الثقافة المدرسية ودورها في مجتمع حداثي يريد أن يجعل من أنظمة التربية والتعليم والتكوين ميدانا لاستثمار الرأسمال البشري. وبالتالي مشروعا مجتمعيا متكامل العناصر والمكونات، خلافا لما هو عليه راهن هذه المسألة في مجتمعاتنا الثالثية. ذلك هو ما سنحاول معالجة بعض جوانبه في المحور اللاحق.
المبحث الثاني: المكانة المعرفية والاجتماعية للفلسفة ضمن المنظورات الحديثة للثقافة
المدرسية والجامعية.
مما هو معروف أن ما يصطلح على تسميته بـ"المنهج الدراسي أو المدرسي" (Curriculum) قد احتل الاهتمام به مكانة مركزية في النظم التربوية الحديثة والمعاصرة. ذلك أنه الدعامة الأساسية التي تستند عليها المؤسسة التربوية: المدرسة والجامعة… في نقل وتداول واستهلاك ما يعرف بـ" الثقافة أو المعرفة المدرسية أو الجامعة" (Culture ou Savoir Scolaire ou Universitaire)، والتي تعني، في مدلولها السوسيولوجي العام، مختلف المعارف والخبرات والتجارب والمهارات الفكرية واليدوية… وأيضا مجمل القيم والرموز والمعايير والعلاقات والتبادلات والتموضعات ونماذج السلوك… ومختلف الأطر المرجعية الموجهة للتفكير والتصرف. وهي على هذا الأساس، بنية أو منظومة ثقافية فرعية (Sous-Culture) داخل النسق الثقافي الشمولي المهيمن في مجتمع ما محدد في الزمان والفضاء: (Système Culturel Global Dominant). ومن هنا كان ارتباط المناهج الدراسية بسياقات تربوية مختلفة، كما ظلت مسألة تدبير التعامل معها: إعدادا وتوجيها وتوظيفا…مرتبطة باختلاف المرجعيات السوسيوتاريخية والثقافية المؤطرة لهذا التعامل. ومن هنا أيضا تعددت وتباينت المنظورات المفسرة والموجهة لهذه المناهج الدراسية، والتي يعتبر البحث في تصنيفاتها وتطورها وإحالاتها وأبعادها الفكرية والاجتماعية…أحد أبرز المباحث الهامة في سوسيولوجيا التربية والثقافة(15).
غير أننا لا نود هنا، لغرض منهجي صرف، أن نركز على مقاربة المنظورات الآنفة. ذلك أننا قد عالجناها ببعض التوسع والتفصيل في مجالات أخرى غير هذه الدراسة،(16) كما أن هذه المقاربة من المفيد أن تظل موضوعا لدراسات أخرى أكثر اهتماما بتفاصيل وأبعاد المنظورات المذكورة. إلا أننا، في مقابل ذلك، نرى أنه من المفيد هنا أن نلقي نظرة إجمالية عامة ومختصرة على أهم التوجهات الفكرية والاجتماعية التي أصبحت في معظم المجتمعات المعاصرة - ولا سيما المجتمعات الغربية المتقدمة - مؤطرة للتعامل مع المناهج الدراسية في مضامينها وأدوارها… هذه التوجهات التي يمكن أن نقول عنها إنها قد أمست بمثابة "براديغمات" (Paradigmes) أي مجموعة متكاملة من القناعات الكبرى، ومن الرؤى، ومن المرجعيات الموجهة للفكر والممارسة في حقبة سوسيوتاريخية معينة(17). وخاصة في المجتمعات المعاصرة التي احتلت فيها المؤسسة التربوية مكانة ثقافية واقتصادية واجتماعية متميزة. ولعل من أبرز وأهم هذه التوجهات ما يلي:
1 - تصاعد الاهتمام بالدور الوظيفي للمناهج الدراسية: والمراد هنا بجعل الثقافة المدرسية وظيفية (Fonctionnelle) هو جعلها ذات طابع إجرائي وعملياتي يربطها بأهداف واضحة ومحددة، ويتجاوز بها مختلف أساليب المراكمة والتجميع المعلوماتي، التي كانت تقوم عليها المنظورات البيداغوجية الكلاسيكية. لم يعد مطلوبا من المدرسة، إذن، في إطار المجتمع المعاصر، تقديم معرفة أو ثقافة إنسانية عامة وشاملة، وتعميم تلقينها كغاية في ذاتها ولذاتها، أي باعتبارها حاملة لقيم كونية مطلقة ومشتركة بين كافة أفراد الجنس البشري، وإنما اصبح مطلوبا منها أن تروج معرفة مدرسية جديدة تقوم - إضافة إلى بعدها الكوني المشار إليه - على الاستجابة لحاجات معينة، مرتبطة ببنية اقتصادية واجتماعية وثقافية لها شروطها ومحدداتها وخصوصياتها المميزة والمحددة لما تفرزه من "طلب اجتماعي" (Demande sociale) للتربية والتكوين والتعليم والثقافة(18).
2 - يندرج الاهتمام الآنف الذكر في إطار محاولة الاستجابة لضرورة المطابقة بين مخرجات أنظمة التربية والتعليم والتكوين وبين القطاعات والمجالات الاجتماعية المختلفة. فلقد كان للتحولات المعرفية والتكنولوجية التي عرفتها المجتمعات المعاصرة العديد من الانعكاسات السلبية - دون ذكر آثارها الإيجابية المعروفة - على علاقة التربية والتعليم بسوق الشغل وبمجالات الاقتصاد والاجتماع بشكل عام. وقد تمظهرت هذه الانعكاسات بشكل أساسي في ظواهر اجتماعية مثل: البطالة بكافة أنماطها، وعدم تكافؤ الفرص التربوية والاجتماعية بين مختلف الفئات أو الطبقات الاجتماعية، وبالتالي عدم قدرتها على تحقيق استفادة متوازنة وديمقراطية من فرص الحراك الاجتماعي والصعود المراتبي… الأمر الذي عرض الكثير من الأنظمة التربوية بل والاجتماعية للنقد الحاد والاحتجاج من طرف مكوناتها المختلفة. وهكذا أصبح لزاما على هذه الأنظمة أن تعيد النظر في سياساتها التربوية والاقتصادية والاجتماعية، وهيكلتها وبنائها على أسس عقلانية هادفة إلى إقامة علاقات متكافئة بين قطاعات التربية والتعليم والتكوين وبين القطاعات الإنتاجية والاجتماعية بشكل عام.
3 - الاهتمام، بموازاة كل ما سبق، بمسألة تكوين المواطن/الإنسان (Citoyen/Homme) المستجيب، في مواصفاته وقيمه ونمط تكوينه، للتوجهات الفكرية والسياسية والحضارية للدولة الوطنية القائمة، ولمشروعها الاجتماعي الناجز ضمن شروطه النسبية المحددة. إن إشكالية استثمار الرأسمال أو الموارد البشرية ليست قضية اقتصادية وحسب، ولكنها، بالإضافة إلى ذلك، مسألة ذات أبعاد سياسية وإيديولوجية وحضارية متداخلة. إن لكل مجتمع محدد نموذجا خاصا ومتميزا من المواطنة ((Prototype الذي يحاول أن يسعى انطلاقا منه - كنموذج معياري - إلى خلق "منتوج" بشري مندمج، من جهة، في سياقه الثقافي والاجتماعي الخاص، ومتكامل، من جهة أخرى، مع مختلف النواظم الكونية والشمولية لهذا السياق. إن المسألة، إذن، رهان يختلف من مجتمع إلى آخر، في أبعاده وموجهاته، كما في مآله ومستتبعاته(19).
وقد كانت هذه التصورات السالفة الذكر، والتي تمتح على مستوى خلفياتها الفكرية العميقة من تلك المنظورات التكنولوجية (Technologistes) والاقتصادوية (Economicistes)، التي شاعت منذ بداية القرن العشرين وتعاظمت حدتها في منتصفه؛ لقد كانت هذه التصورات وراء العديد من الدعوات الرامية إلى تكريس المزيد من تمهين وتشعيب التعليم والتكوين وجعلهما مرتبطين بشكل أساسي بحاجات الاقتصاد الوطني ومتطلبات السوق، بل والمجتمع عموما. كما رافق هذه الدعوات تدعيم متصاعد للاعتماد على آليات عقلانية في تحقيق المرامي الآنفة. وذلك مثل أساليب التخطيط والبرمجة، والخوصصة، والتوجيه المدرسي والمهني والجامعي، وتنويع مصادر تمويل التعليم والتكوين، وضبط أنماط الشراكة الممكنة بين المؤسسة التربوية والمجالات الإنتاجية، وتقوية العدة المسطرية والتدبيرية المنظمة للآليات التي تشتغل وفقها أنظمة ومؤسسات التعليم والتكوين وأسواق الشغل وقطاعات الاقتصاد بشكل عام…الخ. وفي هذا السياق بالذات ظهر وتنامى - منذ بداية هذا القرن وحتى الآن - خطاب تربوي جديد حامل لأفكار ونظريات ومفاهيم ومنهجيات جديدة… يراد منها، من جهة، معرفة العوامل المتحكمة في مختلف التحولات العميقة التي عرفتها النظم التربوية في المجتمعات المتقدمة تحديدا. كما يراد منها، من جهة ثانية، توظيف هذه المعرفة للتحكم في مسارات ومآلات هذه التحولات وتوجيهها نحو تحقق أهداف دقيقة، عقلانية، وواضحة(20)
ضمن هذه التصورات الانتفاعوية (Pragmatistes) في عمقها، أصبح ينظر إلى الثقافة المدرسية - ومن ضمنها الفلسفة - في إطار علاقاتها بالمؤسسة التربوية أو بمختلف مؤسسات المجتمع. غير أن هناك ملاحظة هامة لا بد من التذكير بها في هذا السياق ألا وهي واقع الاختلاف القائم في هذا المجال بين المجتمعات الغربية والمتقدمة والمجتمعات الثالثية.
وهكذا، فإذا كانت المجتمعات الغربية - ونظرا لاعتبارات وشروط سوسيوتاريخية ليس هذا مجال بحثها هنا - قد تمكنت من تأسيس دولة وطنية متماسكة، ومشروع مجتمعي متكامل المكونات، وما يعبر عن هذا التكامل من ثقافة وطنية (Culture Civique) هي بدورها وفاقية ومنسجمة العناصر، فإن هذه المجتمعات قد استطاعت بفعل هذه الشروط التاريخية الهامة، تحقيق مستوى لا يستهان به من التماثل والتكامل بين مختلف مكونات المجتمع: مؤسسات وبنيات وتوجهات فكرية وإيديولوجية متعددة… واحتواء وتوجيه اختلافاتها وصراعاتها في إطار ديناميكية اجتماعية ذات طابع إجماعي وتوافقي عام.
ولكل هذه الاعتبارات مجتمعة يمكن أن نتحدث، في هذا السياق، عن علاقة واضحة نسبيا بين المؤسسة التربوية وبين المجتمع، كما يمكن أن نقبل القول بدور هذه المؤسسة إما في المساهمة في إعادة إنتاج شروط الأوضاع المجتمعية المتنفذة، أو المساهمة في تغييرها في إطار الديناميكية الجدلية الناظمة لتفاعل المجتمع مع مختلف مؤسساته ومكوناته المتعددة.
أما واقع مجتمعات العالم الثالث، كما هو حال المجتمعات العربية، فإنه واقع مختلف تماما. فلقد أكدت دراسات سوسيولوجية وأنثروبولوجية وتاريخية… متعددة على مسألة كون هذه المجتمعات - ونظرا لعدة حيثيات وعوامل سبق أن بحثناها في غير هذا المقام(21) - ما تزال متسمة، في أوضاعها الراهنة بما يلي:
وجود دولة "وطنية" هشة لم تتملك بعد شروط هيمنتها الشاملة على المجتمع وتحقيق تكامل فعال بين مكوناته وعناصره الفاعلة، بل تعتمد، في إدارته، وتدبير شأنه العام، على العنف المادي والتضليل الإيديولوجي بلا مشروعية أو شرعية عقلانية مقنعة.
ما يزال هذا المعطى يشكل عائقا وازنا أمام تشييد مشروع مجتمعي قائم على التكامل والإجماع والوفاق الأغلبي، وواضح في مكوناته، أهدافه، توجهاته، ورهاناته السياسية والفكرية والحضارية… اللهم إلا ما كان من إمكانية الحديث عن "مشروع" الدولة القائمة وبطانتها، أي بكل مالها في المجتمع من امتدادات ومرتكزات وقوى اجتماعية داعمة لها ولمصالحها في الآن ذاته. علما بأن استعمالنا لمصطلح "مشروع" ليس هنا سوى استعمال مجازي، ذلك أنه لا يمتلك في هذا السياق مقومات المشروع العقلاني الديمقراطي المتكامل العناصر.
ترتب على الوضع الآنف هشاشة "نسق ثقافي وإيديولوجي" منسجم، ناظم للكل المجتمعي ومؤطر له فكرا وممارسة اجتماعية. وإذا كانت الرؤية النقدية الموضوعية التي نحاول تبنيها تجعلنا نتحفظ على السقوط في منزلق موقف عدمي يسلب من المجتمعات الثالثية كل فاعلية تاريخية قائمة أو ممكنة، ويجعلها بلا "دولة وطنية"، وبلا "مشروع"، وأيضا بلا "ثقافة وطنية متكاملة"… فإن هذه الرؤية تفرض علينا، في الآن ذاته، الاعتراف بمعطى سوسيولوجي هام، ألا وهو أن ما يخترق هذه المكونات الآنفة في أسسها وآليات اشتغالها، وما يربط بينها من علاقات وتبادلات هو سمة التفكك واللاانسجام والتضارب والتناقض في الغايات والأهداف كما في الوظائف والنتائج… إن هذا المعطى هو ما يجعل البنيات والتوجهات السياسية والثقافية والاجتماعية ذات طابع خاص ومتميز مقارنة مع شروط المجتمعات الغربية.
ونظرا لكل الاعتبارات السالفة الذكر، فإنه يمكن القول بأن الثقافة المدرسية في المجتمعات الغربية - ومن ضمنها الفلسفة - تعبر في بعض جوانبها ومكوناتها عن المعالم الكبرى للنسق المجتمعي والثقافي المهيمن، عن أسسه وتوجهاته الفكرية والإيديولوجية والحضارية. هذا مع التأكيد مرة أخرى على طابع العلاقة الملتبسة والغامضة بين الفلسفة والمؤسسة عموما، كما أبرزنا ذلك في المحور الأول من هذا العرض. أما في مجتمعات العالم الثالث فإن المؤسسة التربوية، في ثقافتها وآليات تحركها واشتغالها، يخترق علاقتها بالمجتمع الكثير من مظاهر التفكك والتضارب واللاتكامل… الأمر الذي يجعل علاقة الفلسفة بالمؤسسة تحديدا أكثر تشابكا وتعقيدا والتباسا. ذلك أنه، بالإضافة إلى علاقتها الغامضة بالمؤسسة، تنضاف إليها وضعية الالتباس والتفكك والغموض القائمة بين المؤسسة والمجتمع في العالم الثالث(22).
ما هي، إذن، مختلف الشروط والحيثيات المتحكمة في علاقة الفلسفة بالمؤسسة في كل من المجتمعات الغربية والمجتمعات الثالثية، كالمغرب على سبيل المثال؟ وبعيدا عن الادعاء المجاني لامتلاك أي قدرة للإجابة على هذا السؤال الصعب، يمكن القول بأن ما يمكن القيام به هنا – نظرا لحدود ومحدودية هذا العرض – لا يروم سوى المساهمة في إثارة بعض القضايا والمشكلات الفكرية والتربوية والاجتماعية المرتبطة بالعلاقة الآنفة الذكر، والتي نعتقد أنها صالحة، في ظرفيتنا الراهنة، للتحاور والنقاش العلمي، وتبادل الآراء ومنظورات المقاربة والتحليل.