سبينوزا فيلسوف الفرح - ادريس شرود

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

"لا أحد من الفلاسفة كان أكثر نبلا من سبينوزا"
جيل دولوز 
" من يعرف ذاته وانفعالاته بوضوح وتميّز يشعر بالفرح"
باروخ سبينوزا
إهداء: إلى أمي زهرة الحسن تزدايت.

تقديم

لماذا أطلق جيل دولوز لقب "أمير الفلاسفة" على باروخ سبينوزا؟
لأن سبينوزا أعاد للجسد قيمته؛ عندما صاح:"على ماذا يكون الجسد قادرا؟"، وعندما اعتبر النافع والمفيد، والخير والحسن هو ما يزكي  ويقوي الإستمرار في الوجود، وعندما فضح ثلاثة أشكال من صور الشخصيات الأخلاقية: العبد والطاغية ورجل الدين.
ولان سبينوزا كتب رسائل حول الشر، وقام بأكبر عملية للحط من قيمة الإنفعالات الحزينة و منطق الخرافة وأخلاق الإرتكاس، وحاول إصلاح العقل وأعلى من شأن الإنفعالات المرحة.
وسبينوزا أيضا، حسب دولوز، فيلسوف كبير؛ لأنه رسم مسطحا جديدا للمحايثة، ومادة جديدة للكينونة، وأقام صورة جديدة للفكر، وغيّر من دلالة الفكر أو "فكر بشكل مختلف" بتعبير ميشيل فوكو.

هكذا جسّد سبينوزا في حياته كما في فكره فلسفة للحياة مبنية على مناهضة مختلف القيم التي تزدري الحياة وتحط من قيمتها، كما أنه لم يتواطأ مع إغراءات التعالي؛ هذا الخصم العنيد القادر على العودة والحضور في عز احتفالات العقل بانتصاراته.

1- سبينوزا:"على ماذا يكون الجسد قادرا؟"

     إنه سؤال مفتوح على أجوبة وقراءات وتأويلات عديدة ومختلفة. لكن جيل دولوز لمح إلى الجانب المثير في السؤال وهو "الجهل الذي يتملكنا حيال شأن الجسم"، مثمّنا قولة سبينوزا:"إننا لا نعرف ما الذي يستطيعه جسم ما". يسجل دولوز عدم توقف سبينوزا عن الإندهاش من الجسد، مؤكدا على قوة سؤاله: "على ماذا يكون الجسد قادرا؟".

يربط دولوز قوة الجسد بمجموع العواطف التي يكون قادرا عليها، ويعتبر العواطف صيرورات: فتارة تضعفنا بقدرما تتقلص قوة فعلنا وتفسد علاقاتنا (الحزن)، وتارة أخرى تجعلنا أكثر قوة من حيث أنها تعزز قوتنا وتدخلنا وسط فرد أكثر شساعة أو سام (الفرح)(1). يتحدد إذن الجسد عند سبينوزا بواسطة ما يكون قادرا عليه، وبواسطة العواطف التي يكون قادرا عليها، وليس بواسطة جنسه ونوعه، أو أعضائه ووظائفه. هكذا يكون كل الأفراد داخل الطبيعة كما لو كانوا فوق مستوى اتساقي يصوغون شكله التام المتغير في كل لحظة. يؤثر كل فرد في الآخر، مادامت العلاقة التي تؤسس كل واحد تشكل درجة من القوة وقدرة في التأثر. إن الأمر هنا يتعلق بالعلاقة مع العالم وفهم نظامه وقوانينه؛ فكل شيء عبارة عن التقاء وسط الكون، التقاء جيد أو التقاء سيء(2). فهذا الكون يتكون من نظام من العلل؛ نظام تكوّن وانحلال التعالقات التي تحكم الطبيعة بأكملها إلى الأبد. لكننا نحن، من حيث إننا كائنات واعية، لا ندرك من كل هذا الذي يحدث إلا آثار هذه التعالقات والتحلّلات، فنحس بالغبطة عندما يلاقي جسمنا جسما آخر يزكي تعالقاته ويترابط بها، أو حين يلاقي فكرنا فكرة تزكيه، ونشعر بالحزن حين نلاقي جسما أو فكرة تهدد نظام تعالقاتنا نحن بالتحلل والتفكك(3).

مع باروخ سبينوزا لم يعد سؤال القيمة : "ما قيمة الوجود؟" هو سؤال الفلسفة الاساسي، بل صار سؤال الجسد مفتاحا لإدراك الحياة كتجربة إيتيقية وليست كتجربة أخلاقية، مع ما يترتب عن ذلك من قلب في تصور الكائن البشري لذاته وللعالم:

-فبالنسبة للذات؛ يكشف سؤال الجسد خصوصية هوية الإنسان ك"كيفية وجود" و"تعالقات قوى"، أي مجرد تكوين مادي وطاقي في صيرورة تأثير وتأثر وسرعة وبطء، أي هو عبارة عن درجات قوة داخلية وخارجية، أي مجموع تحويلات كمية وطاقية تعمل وتتلاحق(4).

-أما بالنسبة للعالم، فيصير ك"إيتيقا" و"إيتولوجيا"، ويدرك ك"قوة في فعل دائم"؛ "قوة ربط وحل لا تقطع للعلاقات، وفق قوانين أبدية(5). فتتحدد الموجودات فيه ليس كماهيات، ولكن ك"قوى" ومقادير تدخل في نظام عام من الفعل والإنفعال المفتوحين، نظام تتحقق فيه الموجودات ككيفيات وليس كماهيات، ومقادير وليس كقيم، وكاستعداد ل"لانفعال" الفيزيائي وليس كجواهر متراتبة قيميا وأخلاقيا(...). كما يصبح كل شيء في العالم هو جزء من بساط المحايثة العام الذي هو أصل وغاية كل فعل أو أثر أو علاقة في الوجود(7).

2-الحزن والفرح: نقصان وزيادة على القدرة على الفعل

    تساءل سبينوزا عن خضوع الإنسان للإنفعالات السلبية وعدم قدرتهم على العيش بمقتضى العقل(7)، واكتشف عنصري السلب والحزن اللذان ينخران العالم، السلب كعلاقة منطقية والحزن كقيمة عملية. فكان إيمانه بالحياة وقوتها محرضا له على تنصيب العداء لكل صور السلب: الطرد من المجمع العقدي، الحرب، الطغيان، الرجعية، الناس يتقاتلون لأجل عبوديتهم وكأنهم يتقاتلون لأجل حريتهم(8). الشيء الذي يفرض على كل فيلسوف وكل عقل حر فضح مرضي الإنسانية: الحزن والسلب(9).

تنشأ عن صور السلب والحزن رغبات وتقلبات النفس  والجشع والخرافة والألم والكآبة، والتي تعتبر أدنى درجات قوتنا؛ إذ نكون أثناءها مفصولين عن قدرتنا على الفعل، أي اللحظة العليا لاستلابنا، والتي نصير معها عرضة لشبح الخرافة وحيل الطاغية(10). فصدفة التلاقيات تجعلنا دائما نبقى عرضة لخطر أن نلاقي شيئا أقوى منا يكون بمكنته أن يدمّرنا(11). وتتدعم قيم الحزن والسلب مع إخضاع الحياة لمفعول النفي والحط من قيمتها والرغبة في تزويرها ومحاكمتها.

يحدد سبينوزا الحياة ككيفية وجود وقدرة على الفعل والإنفعال، ويعطي أهمية كبرى للجهد الذي يبذله الجسد للإستمرار في الوجود ولاستعداده للإنفعال وتنظيم تلاقياته: أي أن يختار بين كل الاحوال أن يلاقي الأحوال التي تتناسب مع طبيعته وتتلاءم معها، وأن يلاقيها في أوضاع تتناسب معه وتزكّي تعالقاته(12). كما يمنح أهمية قصوى لعملية بعث الفرح وتقوية قدرتنا على الفعل؛ فالفرح، وما ينتج عنه، يملأ، بالتناسب، قدرتنا على التأثر بشكل تقوى معه قدرتنا على الفعل أو قوتنا على الوجود(13). وتقوم قيمة الفرح على تقبل العالم وإثباته والإعتقاد في المرح؛ فوحده المرح يحمل قيمة، وحده المرح يدوم، وحده المرح يجعلنا قريبين من الفعل وطمأنينة الفعل(14).

يوازي سبينوزا بين الإندهاش من الجسد وضعف معرفتنا بما يستطيعه. يتأسس هذا الإندهاش على حساسية الجسد للأشياء؛ إذ يمكن لأي شيء أن يكون عرضا، سببا في الفرح أو الحزن أو الرغبة(15)؛ أي الزيادة في قدرة الجسد على الفعل والإنتقال إلى كمال أعظم في حالة الفرح، أو النقص من قدرته هاته في حالة الحزن. لذلك يدعونا سبينوزا إلى التجريب وتنظيم الإلتقاءات والإتصالات حتى تنطلق انفعالات الجسد/انفعالات الجسم والفكر. إن ما يهيء الجسم البشري بشكل يجعله قادرا على التأثر بعدد أكبر من الاوجه، أو على التأثير في الاجسام الخارجية بعدد أكبر من الأوجه، إنما هو نافع للإنسان، ويكون نفعه أعظم بقدرما يصبح الجسم أقدر بذلك على التأثر وعلى التأثير في أجسام أخرى بطرق كثيرة، وعلى العكس، إن ما يضعف من هذه القدرة يكون مضرا بالإنسان(16). وهنا يؤكد سبينوزا على ضرورة الحفاظ على نسبة الحركة والسكون التي تربط بين أجزاء الجسم البشري حتى يصير قابلا للتأثر وللتأثير، والمحافظة على ذلك الترابط المطلوب بين نظام انفعالات الجسم ونظام الأفكار وصورها الذهنية.

3-الكوناتوس كجهد وفضيلة

    يربط باروخ سبينوزا بين الفضيلة والجهد المبذول للإستمرار في الوجود، والعيش وفق مقتضيات العقل، ويطلق على هذا الجهد؛ الكوناتوس. يؤمن سبينوزا بأن كل خير يرغبه الإنسان لنفسه يتأسس على المعرفة والفهم. هكذا يصير الكوناتوس، كل جهد مبذول من أجل تقوية قدرتنا على الفعل والشعور بالإنفعالات – الأحاسيس المرحة(17). فحين يصير جهدا ناجحا متحققا أو قدرة على الفعل أو قوة متملكة (حتى وإن كانت الموت ستأتي لتقطع هذه القوة) فإنه سيسمى حينها بالفضيلة. لهذا فالفضيلة ليست شيئا آخر إلا الكوناتوس، أي ليست شيئا آخر إلا القوة باعتبارها سببا كافيا، في ظل شروط تجعلها متملّكة من طرف من يحياها(...)، حينها تصير العبارة المناسبة والتامة عن الكوناتوس هي كونه الجهد لاجل الإستمرار في الوجود والفعل وفقا لما يمليه العقل، أي الجهد المبذول لبلوغ ما يقود نحو المعرفة ونحو الافكار التامة والمشاعر الفاعلة(18). من المؤكد أن الإنسان يختار كل ما هو نافع ومفيد للإستمرار في الوجود، والحفاظ على كيانه الشخصي كمصدر أول ووحيد للفضيلة. ويعني سبينوزا بالفضيلة والقوة نفس الشيء؛ أي أن الفضيلة، من حيث علاقتها بالإنسان، هي عين ماهيته أو طبيعته، بوصفه قادرا على القيام ببعض الأشياء التي يمكن معرفتها بقوانين طبيعته وحدها(19)، الشيء الذي يفترض السعي إلى الأشياء التي تتفق مع قوانين طبيعته ورغباته وما يمليه عقله. لكن تحقيق هذه الفضيلة مرهون بالعمل الذي يتوجب على النفس القيام بها من أجل الفهم(فضيلة النفس المطلقة بتعبير سبينوزا) وتملك أفكار تامة(20)، مع العلم أن قوة الإنسان تحدها قوة شيء آخر وتتجاوزها قوة الأسباب الخارجية بصورة لا محدودة(21). فالإنسان جزء من الطبيعة ويتأثر بأحوالها وبالتغيرات التي تطرأ عليها، والتي تبقى معرفته بها مفتوحة أمام قدراته للبحث عن عللها وتكوين أفكار تامة عنها والتأثر فقط بالتغيرات الصالحة لحفظ كيانه(22)، والموافقة لطبيعته(23). لهذا من اللازم استحضار قوة العلة الخارجية وقوة الإنسان والجهد الذي يبذله، خاصة عندما يتعلق الأمر بقوة الرغبة(24) الناجمة عن الفرح والتي تسهر على الحفاظ على كيانه واستمراره وتقود إلى السعادة والكمال الأعظم.

يتوقف الإستمرار في الوجود وفق منظور سبينوزا، على إرادتنا وقدرتنا، ولا علاقة له ب"الغدة الصنوبرية" ولا ب"حركات الأرواح" كما ذهب إلى ذلك رينيه ديكارت. فالإرادة متوقفة على القدرة وحدها، ومعرفة الذات والإنفعالات(25)، وعلى السلطة المطلقة على الإنفعالات، وعلى الأحكام الثابتة التي توجه أعمالنا في الحياة. فباستطاعتنا أن نكوّن مفهوما واضحا ومتميزا عن كل انفعال من انفعالات الجسم، كما باستطاعتنا أن نتصور قاعدة للسلوك القويم في الحياة (...)، سلوكا يقوم على مبادئ ثابتة، وأن نحفظها في ذاكرتنا ونطبقها باستمرار على الأمور الجزئية التي تعترضنا كل يوم، بحيث تكون مخيلتنا متأثرة جدا بهذه المباديء التي تبقى دوما تحت تصرفنا(26). هكذا فإن من يدأب على التحكم في انفعالاته وشهواته وفقا لحب الحرية لا غير، سيبدل قصارى جهده من أجل معرفة الفضائل وعللها، ومن أجل أن ينعم بالإنبساط التام الذي ينشأ عن المعرفة الصحيحة، لا من أجل تأمل رذائل البشر والحط من الإنسانية والإبتهاج بحرية زائفة. ومن يسهر على احترام هذه القاعدة (وليس هذا بالأمر العسير) ويتدرب عليها سيصبح قادرا، بلا شك، في مدة قصيرة، على توجيه أعماله وفقا لما يامر به العقل(27). وتعبّر هذه المعرفة عن قوة النفس/الفكر التي تصير معها فاعلة إلى أقصى حد، خاصة عندما تكون متألفة في معظمها من أفكرا تامة(28). في حين يصير الجسم القادر على أداء عدد كبير من الافعال، غير معرض للإنفعالات السلبية والمناقضة لطبيعته، ويكون قادرا على تنظيم انفعالاته وعلى ربط بعضها ببعض وفق نظام مناسب للذهن(29).

تكمن الفضيلة إذن عند سبينوزا في الجهد الذي ينبغي للفرد أن يقوم به من أجل الدخول في علاقات تاثّر وأثر بأكبر قدر ممكن، وإدامة علاقاته المكونة وبحثه الفعلي لإخراج ماهيته نحو التحقق والبقاء الدائمين.

4- حياة سبينوزا كرغبة في تحصيل الفرح وإثبات الحياة

    يفضح باروخ سبينوزا كل ما يمنعنا عن الحياة، أي كل تلك القيم المتعالية التي تقف ضدها، وهي القيم المرتبطة بشروط أوهام وعينا، فحياتنا ملوثة بمقولات "الذنب والإستحقاق" / "الخطيئة الإستغفار"(30). هكذا تصير فلسفة سبينوزا حربا على الخرافة وثورة ضد مشاعر الخضوع والموت والإستبداد، وكشفا لذلك الرابط العميق الموجود بين أخلاق الحزن وأخلاق التسلط، أي بين الطغاة والعبيد(31). كان سبينوزا يتحصّر عندما يرى الناس "يتقاتلون لأجل عبوديتهم وكأنهم يتقاتلون لأجل حريتهم"، ويسعون بشكل متواصل إلى تحقيق "الأفراح الصغيرة" بلغة دولوز أو "أنصاف الأفراح" بلغة نيتشه، والأمر هنا يتعلق بعيش حياة كل الناس. أضف إلى أن هناك الكثير من العصابيين والمجنونين في العالم لا يفارقوننا، ماداموا لم يختزلوننا في حالتهم ويمرروا إلينا سمهم، إنهم الهستيريون والنرجسيون وعدواهم المتكتمة(32).

ماهو الحل الذي يمكن اقتراحه على هؤلاء التعساء حتى يلوذوا بحياة مرحة؟

-أولا: يجب على المرء أن يسعى إلى معرفة مدى قدرة جسده؛ مادام لا يعرف الكثير من الاشياء داخل جسمه، ويجهل الكثير من الاشياء تتجاوز وعيه.

-ثانيا: أن لا يضع المرء نفسه في وضعية تعرّضه للتسمم؛ وهذا يعني ضرورة وضع االجسد على خط الفرح؛ أي وضعه في علاقة مع أشياء أو مواضيع تتوافق معه وتجعله يزيد من قوته وقدرته؛ أي تحصيل الفرح.

-ثالثا: العمل على إدراك ما سماه دولوز ب"التنسيق السبينوزي"، أي تنظيم اللقاءات، والرفع من قوة الفعل، والتاثر الذاتي بالفرح، وتكثير العواطف التي تعبر عن أكبر قدر من الإثبات أو تحتوي عليه. ينبغي جعل الجسد قوة لا تختزل في الجهاز العضوي، وجعل الفكر قوة لا تختزل في الوعي(33).

تمنحنا حياة سبينوزا وفلسفته إمكانية للسّير والتنسيق، والتفكير في حياتنا وكيفية وجودنا، إنه قادر على تمرير حياته إلى إنسان آخر، حسب دولوز. فكم يناسب سبينوزا ما يقوله لورانس عن وايتمان، إنها حياة مستمرة: الروح والجسد، وليست النفس في الفوق ولا في الداخل، إنها "مع": إنها على الطريق، معرضة لكل الإتصالات والإلتقاءات، ورفقة أولئك الذين يسيرون فوق الطريق ذاته، للإحساس معهم، ضبط ذبذبة نفسهم ولحمهم أثناء المرور(34). لقد عاش سبينوزا حياة استثنائية، ثرية وغنية، حياة قوية محكومة بالخصوبة والإبداع. فهو صاحب حياة مجيدة، حياة صار معها جسمه محلا لشيء أكثر علو وأكبر غنى وأشد حسية(35). وقد يكون الإقتدار على الفكر، علامة على غاية ترمي بطبعها إلى مقاصد أبعد من كل ما يمكن أن ترمي إليه أي دولة و مجتمع بشكل عام(36).

هكذا عكست فلسفة سبينوزا وحياته رغبة قوية في الكشف الجذري عن الأوهام والعيش ككائن حر ومستقل، جعلت جيل دولوز يتساءل في حيرة:

"هذه الحياة الزاهدة التي لم يمتلك فيها شيئا، والتي حكمها المرض، هذا الجسم النحيل الهزيل، هذا الوجه البيضاوي الأسمر بعيونه السوداء اللامعة، كيف نفسر الإنطباع الذي يخلقه فينا بكونه مخترقا بالحياة نفسها؟ وكونه يمتلك قوة تعادل الحياة في كليتها؟ كل أسلوب حياته وتفكيره، يقدم سبينوزا صورة عن الحياة الإيجابية الإثباتية ضدا على السيمولاكرات التي يكتفي الناس بالعيش فيها(37).

كما دفعته إلى الإعلان عن غاية سبينوزا من التفلسف بقوله:

"كان يريد فقط أن يلهم ويوقظ ويشير، ولم تكن الغاية عنده من البرهان، من حيث هو العين الثالثة، أن يقود أو يقنع، ولكن فقط أن يصنع منظارا وأن يصقل زجاجا يمكنه من هذه الرؤية الحرة الملهمة(38).

خاتمة

    يعبّر الفرح عند سبينوزا عن حالة قدرة وقوة، وليس عن حالة سعادة وطمأنينة. فالأمر عنده يتعلق بالجهد الذي يتوجب القيام به من أجل الإستمرار في الوجود تبعا للحق الطبيعي للكائن ولصدف تلاقياته. لكن أفعال القوة والقدرة والجهد تمر عبر مركزية الجسد وليونته وقابليته للفعل وللإنفعال وطبيعة الوسط الذي يحيى فيه. لهذا عندما يمنح سبينوزا قيمة كبرى للجسد وتلاقياته، فهو يأخذ بعين الإعتبار وضعية الجسد وهو يتلقى فردا آخر في عالمه الخاص، ويصون ويحفظ في نفس الآن تعالقاته الخاصة به في العالم. وبصورة أعمّ، فالجسد منخرط في علاقات أكثر تعقيدا وفي أشكال من الإرتباطات الإجتماعية، تدفع إلى الإقرار بأن الأمر لا يعد متعلقا بوضع خاص [لكائن] يتقابل مع وضع مضاد [كائن آخر] أو باختيار عالم حذف يناسبه، ولكن بسمفونية الطبيعة في كليتها، أي يتعلق بتأسيس عالم لا ينفك يزداد اتساعا وكثافة(39).

الهوامش:

1- جيل دولوز وكلير بارني: : حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ترجمة عبد الحي أزرقان-أحمد العلمي، أفريقيا الشرق، 1999، ص78.

2- جيل دولوز وكلير بارني: : حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ص78.

3- جيل دولوز سبينوزا، فلسفة عملية، ترجمة عادل حدجامي، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، الدار البيضاء-المغرب، 2015، ص30.

4- عادل حدجامي: فلسفة جيل دولوز عن الوجود والإختلاف، ، دار توبقال للنشر، الدارالبيضاء، المغرب، الطبعة الأولى، 2012ص231.

5- عادل حدجامي: فلسفة جيل دولوز عن الوجود والإختلاف، ص60.

6- عادل حدجامي: فلسفة جيل دولوز في الوجود والإختلاف، ص57 و59.

7- باروخ سبينوزا: علم الأخلاق، ترجمة جلال الدين سعيد، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، بيروت، أكتوبر 2009، ص262.

8- جيل دولوز: سبينوزا، فلسفة عملية، ص19 و20.

9- يقول دولوز:" : كل ما يحتوي حزنا ينبغي فضحه بوصفه قبيحا ومانعا لنا عن قدراتنا على الفعل: والأمر لا يتعلق فقط بالندم والشعور بالذنب ولا التفكير في الموت، ولكن يتعلق بالامل نفسه، تماما كما يتعلق بالرغبة في الامن، والتي لا تعني شيئا سوى العجز"، جيل دولوز: سبينوزا، فلسفة عملية، ص69.

10- جيل دولوز: سبينوزا، فلسفة عملية، ص40. يقول دولوز:"الطاغية يحتاج لحزن الانفس حتى ينجح، تماما كما أن النفوس الحزينة تحتاج لطاغية حتى تستمر وتتكاثر، فما يجمعهم في كل الأحوال هو كره الحياة، أي هو ضغينتهم ضد الحياة"، جيل دولوز: سبينوزا، فلسفة عملية، ص37.

11- جيل دولوز: سبينوزا، فلسفة عملية، ص128.

12- جيل دولوز: سبينوزا، فلسفة عملية، ص128.

13- جيل دولوز: سبينوزا، فلسفة عملية، ص126.

14- جيل دولوز: سبينوزا، فلسفة عملية، ص40.

15- باروخ سبينوزا: علم الأخلاق، ص162.

16- باروخ سبينوزا: علم الأخلاق، ص168 و169.

17- جيل دولوز: سبينوزا، فلسفة عملية، ص26.

18- جيل دولوز: سبينوزا، فلسفة عملية، ص128.

19- باروخ سبينوزا: علم الأخلاق، ص134. يقول سبينوزا:": لا يعدو السلوك وفق الفضيلة تماما إلا أن يكون سلوك المرء وفقا لقوانين طبيعته الخاصة، إذا فالسلوك وفق الفضيلة تماما لا يعدو أن يكون سلوك المرء وعيشه وحفظ لكيانه وفقا لما يمليه العقلوعلى مبدإ السعي إلى ما فيه مصلحته الخاصة"، باروخ سبينوزا: علم الأخلاق، ص253.

20- يقول سبينوزا:"إن النفس بوصفها عاقلة، لا ترغب في شيء آخر فير الفهم، ولكن النفس لا تكون على يقين من الاشياء إلا من حيث أن لديها أفكارا تامة، أو بوصفها عاقلة"، باروخ سبينوزا: علم الأخلاق، ص255.

21- باروخ سبينوزا: علم الأخلاق، ص236 و237.

22- باروخ سبينوزا: علم الأخلاق، ص137.

23- يقول سبينوزا:"كلما كان شيء من الأشياء أكثر موافقة لطبيعتنا، كان أكثر فضلا علينا وأكثر نفعا لنا"، باروخ سبينوزا: علم الأخلاق، ص257.

24- يعرف سبينوزا الرغبة بقوله:"الرغبة عين ماهية الإنسان، أي أنها الجهد الذي يبذله الإنسان سعيا إلى الإستمرار في وجود "، باروخ سبينوزا: علم الأخلاق، 147و148.

25- يقول سبينوزا:"من يعرف ذاته وانفعالاته بوضوح وتميّز يشعر بالفرح"، باروخ سبينوزا: علم الأخلاق، ص329.

26- باروخ سبينوزا: علم الأخلاق، ص325.

27- باروخ سبينوزا: علم الأخلاق، ،ص327.

28- باروخ سبينوزا: علم الأخلاق، ص333.

29- باروخ سبينوزا: علم الأخلاق، ص247.

30- جيل دولوز: سبينوزا، فلسفة عملية، ص37.

31- عادل حدجامي: فلسفة جيل دولوز في الوجود والإختلاف، ص69.

32- جيل دولوز وكلير بارني: ص71.

33- جيل دولوز وكلير بارني، ص80 و81.

34- جيل دولوز وكلير بارني، ص81.

35-جيل دولوز: سبينوزا، فلسفة عملية، ص7.

36- جيل دولوز: سبينوزا، فلسفة عملية، ص8.

37- جيل دولوز: سبينوزا، فلسفة عملية، ص18 و19.

38- جيل دولوز: سبينوزا، فلسفة عملية، ص21. يقول هنري ميلر:"الفنانون والعلماء والفلاسفة في اعتقادي، مهووسون بتنضيد الزجاج، وهذا يعكس استعدادا كبيرا لأجل حدث لن يحصل أبدا. في يوم ما سيصير المنظار مكتملا، في هذا اليوم سندرك بوضوح كبير الجمال الخارق والمثير لهذا العالم..."، جيل دولوز: سبينوزا، فلسفة عملية، ص21.

39- جيل دولوز: سبينوزا، فلسفة عملية، ص154.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟