إن الحديث عن الكذب يعني في الأساس الإجابة على سؤالين: الأول يتعلق بحقيقته: ما هو الكذب؟ والثاني يقع على المستوى الأخلاقي: هل يجوز الكذب؟ قدم أوغسطين إجابات على هذين السؤالين في اثنين من أعماله المخصصة للكذب: "عن الكذب" (De mendacio) و"ضد الكذب" (Contra mendacium). وقد تناول قبله فلاسفة وكتاب العصور القديمة هذا الموضوع في مؤلفاتهم: أفلاطون والرواقيون في اليونان، وشيشرون وكينتيليان في روما. وتبعهم آباء الكنيسة أيضا، مثل إكليمنضس الإسكندري وأوريجانوس وهيلير أسقف بواتييه والقديس يوانوس كريسوستوموس (أو يوحنا الذهبي الفم)، كل ذلك قبل القديس أوغسطين. وقد تم تخصيص دراسات جزئية لواحد أو أكثر من هؤلاء المؤلفين أو لتيار فكري. ومع ذلك، يبدو أنه لا توجد دراسة ركزت على التطور الكرونولوجي لهذه التيمة لمعرفة ما إذا كانت هناك استمرارية أو ما إذا كان قد حدثت قطيعة في الطريقة التي تحدث بها هؤلاء المؤلفون المختلفون عن الكذب.
إن الغرض من هذا المقال هو إظهار أنه إذا كان لآباء الكنيسة قبل القديس أوغسطين نفس الخطاب تقريبًا حول الكذب مثل المؤلفين الدنيويين، فإن الأمر مختلف بالنسبة لأسقف هيبو. فبعد أن نبين وجهات نظر الكتاب اليونانيين والرومان في الكذب، ثم آراء آباء الكنيسة الذين سبقوا أوغسطين، سنعرض مذهب أسقف هيبو مع إبراز أوجه التشابه والاختلاف مع أسلافه.
1. الكذب من منظور المؤلفين القدماء
إن التعريف الذي قدمه ستوبايوس ونيجيديوس للكذب يعكس التصور الذي كان لدى المؤلفين القدماء عنه. وكلاهما يفرق بين "الكذب" و"قول الكذب". في كتابه "المتفرقات" (Eclogae II، 7)، كتب ستوبايوس يقول: “لا يتمثل الكذب في قول شيء خاطئ، بل في قول الخطإ كذبا وبهدف خداع شخص قريب”. نجيديوس، الذي يشير إليه أولو جيلي في "ليالي العلية" (Nuits attiques)، يكمل هذا التعريف: “بين قول الكذب والكذب، هناك فرق كبير: وهو من يكذب لا يخطئ، يريد أن يخدع؛ ومن يقول الكذب هو نفسه مخدوع". ويضيف نجيديوس ما يلي: “من يكذب يخدع بقدر ما يستطيع، أما من يقول الكذب فلا يخدع، على الأقل عن طواعية”. ويقول مرة أخرى في نفس الموضوع: “على الإنسان الصالح أن يحترس من الكذب، وعلى الإنسان الحذر أن يحترس من قول أكذوبة: الأول يكون إنسان والآخر يبقى دون ذلك”. الكذب، كما عرّفه هذان المؤلفان، يفترض شرطين: الرغبة المتعمدة في الكذب، ونية الخداع. حول هذين العنصرين بنى الكتّاب القدماء أفكارهم حول الأكاذيب.
1.1. أفلاطون والكذب: الكذب الحقيقي والكذب بالكلمات
يميز أفلاطون في كتاب "الجمهورية" بين نوعين من الكذب: الكذب الحقيقي والكذب بالكلمات. الكذب الحقيقي هو الكذب المتعمد الذي يزرع الجهل والخطأ في نفوس المخدوعين: "الكذب العفيف أي جهل روح من وقع خداعه". هذا الكذب مكروه ليس فقط من قبل البشر، ولكن أيضا من قبل الآلهة. ويحدد أفلاطون أيضا أن أخطر كذبة هي تلك التي ترتكب ضد الآلهة: "إنها في الواقع أكبر من كذبة من يعبر عن نفسه بشكل مخادع بطريقة مناسبة، عندما يتحدث عن الكائنات العليا". إن مثل هذه الكذبة ليست سوى تجديف على الآلهة. كما يدين أفلاطون الشاعرين هوميروس وهسيود اللذين قدما تمثيلات غير أخلاقية وغير مقبولة عن الآلهة. منعهم (الشعراء) من تعليم حراس المدينة المستقبليين وأعطي الحكام الحق في فرض رقابة على أعمال الشعراء لأنها تقدم صورة منحرفة عن الطبيعة الإلهية. وفي نفس السياق، يجب التغاضي عن أعمال العنف والقسوة المنسوبة إلى الآلهة، خشية من أن تصبح مصدرا لتقليد الأطفال.
من ناحية أخرى، يستبعد أفلاطون إمكانية الاعتقاد بأن الآلهة يمكن أن تكذب: فالكائن الإلهي لا يمكن أن يكون لديه انحراف ولا إهمال للكذب، لأن فكرة الكذب بحد ذاتها تتعارض مع فكرة الألوهية: "الإلهي والشيطاني هما النفي المطلق للكذب". ومن ثم، فإن الله لا يحتاج إلى الكذب ليمثل، على طريقة الشعراء، الأشياء القديمة في خيالات عالمة، كما لو أنه لا يعرف كيف حدث كل شيء، ولا ليخدع أعداءه لأنه يخشاهم، ولا ليبطل آثار جنون أصدقائه، فليس كل من يوجد في حالة جنون يكون صديقاً لله. ولا يجوز أيضا الاعتقاد بأن الآلهة يمكنها تغيير شكلها.
وإلى جانب هذا الكذب الحقيقي، هناك ما يسميه أفلاطون "الكذب بالكلمات". وعلى عكس الأول، فهذا النوع من الكذب لا يؤذي الآخرين ولا يمكن اعتباره كذبا في حد ذاته.
في التعريف الذي قدمه، يصر أفلاطون على مفهومي التقليد والمحاكاة: "إن الكذب بالكلمات ليس سوى تقليد لعاطفة الروح، وهو محاكاة تحدث لاحقا، وليس كذبا خالصا". مثل هذا الكذب، عند أفلاطون، جائز لأنه يمكن أن يكون مفيدا.
ويؤكد أفلاطون هنا على الدور العلاجي للكذب: “ولكن ماذا عن الكذب بالكلمات؟ متى ولمن يكون مفيدا بدرجة كافية حتى لا يستحق أن يكره؟ أليس في علاقة بالأعداء ومن يعتبرون من أصدقائنا، في حالة ما إذا كان الجنون أو غياب الحكم قد دفعهم إلى القيام بشيء سيئ؟ ألا يصبح الكذب إذن نوعا من العلاج القادر على إبعادهم منه؟".
بناء على هذا القول يمكن أن ننقاد إلى الاعتقاد بأن الكذب في القول مباح للجميع ما دام المرء يميل إلى حماية نفسه من الأعداء أو حماية الأصدقاء. ومع ذلك، فإن أفلاطون يقصره حصريا على أولئك الذين يحكمون، بشرط أن يفعلوا ذلك لمصلحة المدينة: “لذلك فإن أولئك الذين يحكمون المدينة، إذا كان يجب حقا السماح به للبعض منهم، تؤول إمكانية الكذب إليهم سواء تجاه الأعداء أو تجاه المواطنين عندما يتعلق الأمر بمصلحة المدينة. أما غيرهم فليس وارد أن يلجأوا إليه". وبالتالي، فإن المواطن البسيط الذي يكذب سيعاقب بشدة إلى الحد الذي طالما أصبح عاملاً من عوامل زعزعة استقرار المدينة، كما لاحظ السيد بروز: “الفرد البسيط، إذا أدين بالكذب، يتعرض لعقوبات خطيرة. في الواقع، من غير المعقول أن يتم دمج الميتيس* (Métis) في الفكر الأفلاطوني كعامل مزعزع للاستقرار”. ثم يقدم أفلاطون أمثلة حيث يمكن دفع الحكام إلى الكذب. الأول هو أسطورة السكان الأصليين والأعراق. وهذا ما يسميه أفلاطون الكذبة النبيلة: فهي تنطوي على إقناع المواطنين بأنهم جميعا ولدوا من أمنا الأرض، وبالتالي فإنهم جميعا إخوة. لكن في الوقت نفسه، يجب أن نكون قادرين على إقناعهم بأن الآلهة خلقتهم من معادن مختلفة: الحكام من الذهب، والحراس من الفضة، والمنتجون من النحاس. ولذلك سيكون من الضروري، للحفاظ على انسجام المدينة، أن يبقى الجميع في المكان الذي أعطاه لهم معدنهم. وكذلك يجوز للحكام الكذب في الزواج. والأمر متروك لهم، في الواقع، لضمان نقاء العرق. ولهذا سيترك لتقديرهم أن يتحد أفضل الرجال مع أفضل النساء وأن يفضل الأطفال الناتجين عن هذا الاتحاد على غيرهم.
ولذلك يتبنى أفلاطون موقفا مزدوجا تجاه الأكاذيب: الرفض المنهجي للأكاذيب في كل ما يتعلق بالآلهة؛ الإمكانية الممنوحة للناس للكذب، ولكن فقط لأفضلهم، وهو ما سيؤيده الرواقيون.
1. 2. الرواقيون في مواجهة الكذب: يتصرفون وفق ما هو مناسب
بادئ ذي بدء، يبدو أن صرامة الأخلاق الرواقية لا تترك مجالا للكذب. في الحقيقة، بالنسبة إلى لرواقيين، لا يمكن للإنسان الحكيم أن ينخدع أو يخدع لأنه يمتلك في داخله كل الفضائل ويعيش وفقا للطبيعة الكونية. ومع ذلك، في مواجهة حقائق الحياة، أدرك الرواقيون أنه لا يمكن تطبيق صلابتهم واعترفوا بأن ظروفا قد تحدث يجب فيها على الحكماء تكييف سلوكهم مع ما يعتبرونه مناسبا لعقلهم: “وفقا للرواقيين، الإنسان فقط يتصرف إذا بدا له ذلك مناسبا، إذا كان الفعل الذي يقترحه عليه جسده أو تجربته أو الآخر يبدو له مشروعا من وجهة نظر العقل"، كما يقول بن الطويل في كتابه عن الممارسة الرواقية.
يعطي ستوبايوس، الذي يردد فلسفتهم في "قصائد الرعاة" (Eclogae)، أمثلة يمكن فيها دفع الحكيم إلى الكذب: "إنهم يعتقدون أن الإنسان الحكيم سيكون قادرا في بعض الأحيان على استخدام الباطل بعدة طرق، دون موافقة، كذلك بالفعل بصفته جنرالا، ضد الأعداء، وفي انتظار ما هو مفيد ولإدارة كثير من شؤون الحياة الأخرى".
من جانبه، يستشهد سيكستوس إمبيريكوس، بالإضافة إلى مثال الجنرال، بمثال الطبيب الذي يكذب على مريضه. لتبرير كذبة حكيمهم، طرح الرواقيون نوعين من الحجج اللذين يخبرنا بهما بلوتارخ في كتابه "حول التناقضات بين الرواقيين". الأول هو غياب الموافقة: في المنطق الرواقي، الموافقة هي الموافقة التي يمنحها العقل للتمثيل، أي للصورة المطبوعة في الروح بواسطة شيء خارجي. وإذا ما نقلت الموافقة إلى الأخلاق، فإنها تعادل الملاءمة بين الكلام والفكر. وبالتالي فإن الكذب ليس مكروهاً ما دام العاقل لا يلتزم بالمعلومات الكاذبة التي ينقلها إلى محاوره: “غالباً ما يستخدم الحكماء الكذب ضد الأشرار، فيقدمون لمخيلتهم دوافع محتملة، ولكنها ليست سبباً لتصديقهم، وإلا كانوا على رأي باطل وضلال». الحجة الثانية التي يقدمونها هي غائية الكذب: إن هدف الذي يكذب ليس الخداع بل إثارة رد فعل إيجابي لدى الشخص الذي يتحدث إليه: “مرة أخرى يقول كريسبوس أن الله والحكماء ينتجون الكذب. "التمثيلات، تتوقع منا ألا نوافق على التمثيل أو نستسلم له، ولكن فقط أن يكون لدينا دافع نحو ما يتم تمثيله وبعد ذلك نتصرف".
من خلال تقديم الكذب المشروع على أنه هو الذي لا يوافق عليه الحكيم، ينضم الرواقيون إلى الأطروحة الأفلاطونية حول “الكذب بالكلمات” الشي نجده عند المؤلفين الرومان مثل شيشرون وكينتيليان.
1.3. شيشرون: الأكاذيب والإنسانية
في دفاعه عن روسيوس الممثل والذي كان جزء من خطاباته الأولى - والذي يرجع تاريخه إلى 73 قبل الميلاد -، يضع شيشرون الكذب على نفس مستوى شهادة الزور ويدين كليهما: "ما الفرق بين شاهد الزور وكذاب؟ الإنسان الذي اعتاد الكذب يحلف زورا بسهولة. من أستطيع حثه على الكذب، سأقنعه بسهولة بالحنث باليمين. إن أي شخص قد ضل عن الحقيقة ذات مرة، لا يشعر يأي تأنيب ضمير من شهادة الزور كما من الكذب. هل سنخشى انتقام السماء إذا لم نسمع صوت ضميرها؟ لذلك لم تفرق الآلهة الخالدة في العقوبة بين شاهد الزور والكذاب. في الحقيقة، ليست الكلمات التي تتكون منها صيغة القسم، بل الغدر والشر الذي ننصب به الفخاخ للآخرين هو الذي يثير غضب الآلهة ويثيرها". من خلال التأكيد على النية التي تخضع لها شهادة الزور أو الكذب، ينضم شيشرون بالتالي إلى التعريف الذي قدمه ستوبايوس ونيجيديوس وأفلاطون نفسه للكذب.
لكن يبدو أن هذه الإدانة القاطعة للكذب التي أظهرها شيشرون في "خطاباته المختارة " قد تضاءلت بمرور الوقت. في مرحلة نضجه، أدخل شيشرون في أعماله فكرة الإنسانية: رابطة الطبيعة توحد جميع البشر وتجعلهم إخوة. باسم هذه الإنسانية، اعترف في عام 43 قبل الميلاد في خطابه الذي ألقاه أمام القديس ليغاريوس (Pro Ligario) أنه يمكن للمرء استخدام الأكاذيب لإنقاذ حياة بشرية: وهو يريد الحصول على الرأفة من قيصر لصالح ليغاريوس، المتهم بالذهاب إلى إفريقيا من أجل حمل السلاح ضد قيصر، سعى شيشرون إلى إقناع الأخير بالعكس ووجد أنه من غير الإنساني أن يندد شخص آخر بكذبه: "إذا تمكنا من إقناع قيصر بأن ليغاريوس لم يظهر أبدا في إفريقيا؛ إذا أردنا، بمساعدة كذبة يبررها الشرف وتمليها الإنسانية، أن ننقذ مواطنا بائسا، فسيكون من الفظيع، في مثل هذه الظروف، دحض كذبتنا وتدميرها".
تسلط عبارة honesto et misericordi mendacio (أكذوبة نبيلة ورحيمة) الضوء حقا على الدوافع التي دفعت شيشرون إلى التصرف لصالح ليغاريوس: الجمال الأخلاقي والرحمة. ومع ذلك، فإنه باسم هذه الإنسانية ذاتها يرفض شيشرون الأكاذيب في أعماله الفلسفية. في الكتاب الثالث من "المسؤوليات الأخلاقية" (De officiis) ، عندما درس العلاقة بين الصادق والمفيد، أدان شيشرون صمت تاجر القمح الذي منع الروديين من وصول التجار الآخرين وصمت بائع المنزل الذي يخفي العيوب في منزله: "لا ينبغي لتاجر القمح أن يخفي الحقيقة عن الروديين ولا بائع المنزل عن المشترين. إنه إخفاء الحقيقة عندما يرغب المرء، من أجل مصلحته الشخصية، في ترك ما يعرفه مجهولاً لأولئك الذين لديهم مصلحة في معرفته". من خلال التزامهم الصمت، فقد ضللوا الآخرين عن عمد، وبالنسبة لشيشرون ليس هناك ما هو أكثر عارا من خداع الآخرين ( De officiis ، I، 42، 150). وهذا ما دفعه أيضا إلى إدانة موقف أولئك الذين يستخدمون الأكاذيب لمصلحتهم الخاصة: “إذا كنا ملومين على التزامنا الصمت، فماذا يمكننا أن نقول عن أولئك الذين يستخدمون كلمات كاذبة؟"
هذا ما فعله بيثياس، الذي استطاع أن يجذب كانيوس ليبيعه حقله. وبالاعتماد على التعريف الذي قدمه المُقرض أكويليوس للاحتيال: "هناك احتيال عندما يتظاهر المرء بفعل شيء ما ويفعل شيئا آخر في الواقع"، يتوصل شيشرون إلى نتيجة مفادها أنه يجب علينا إبعاد الأكاذيب عن العلاقات الإنسانية.
لذلك تنوع موقف شيشرون من الكذب: فمن الإدانة القاطعة، انتقل إلى تقييم أكثر دقة: فبينما اعترف بأن الكذب يمكن استخدامه لفعل الخير للآخرين، رفضه عندما يجب أن يخدم أغراضا شخصية. لهذا السبب فضل على أنانية ديوجين البابلي إيثار أنتيباتر الذي، باسم قانون الطبيعة الذي يوحد جميع البشر، جعل المصلحة المشتركة تسود: "لتكن منفعتك هي المنفعة المشتركة، وبالمقابل قد تكون مصلحة الحميع مصلحتك الخاصة". هذا الاهتمام بالآخرين هو أساس عقيدة كينتيليان في الكذب.
1.4. كبنتيليان وكذب الخطيب
تلك في المقام الأول صورة للخطيب المثالي رسمها كينتيليان في الجزء 12 من كتابه "المؤسسة الخطابية". في التعريف الذي قدمه للخطيب والذي استعاره من كاتو الأكبر: "رجل عالم جيدا بفن الكلام" ( uir Bonus dicendi peritus )، يضع في المقدمة صفة الرجل الصالح. ويجب على الخطيب قبل كل شيء أن يكون فاضلا. وبهذا الثمن سوف ينتصر للقضية العادلة لأنه سيسعى جاهداً إلى عدم استخدام أساليب غير شريفة تدينها الأخلاق لتحقيق غاياته: "لنطرد من الذهن أن أنبل الملكات يمكن أن تتحالف مع دناءات القلب. إن موهبة الكلام، عندما تقع على عاتق الأشرار، يجب أن تعتبر كارثة حقيقية لأنها تزيدهم خطورة".
في الحقيقة، إذا تم استخدام البلاغة لأغراض فاسدة، فسيكون ذلك ضارا بالمصالح العامة والخاصة، وستقع المسؤولية على الخطباء لأنهم لقنوا فنا لقطاع الطرق.
تم إثبات شرط الفضيلة هذا، إلا أن كينتيليان يدرك أن أسبابا مقبولة يمكن أن تجبر الإنسان الصالح على الكذب: "لقد قلت إنه يمكن أن توجد أسباب لذلك، في الدفاع عن قضية ما، يسعى الرجل الصالح إلى إخفاء معرفته بالحقيقة عن القاضي". إنه يستشهد بسلطة الرواقيين لإعطاء المزيد من المصداقية لتأكيده: "يجب أن أسلم بما يتفق عليه أكثر الرواقيين تشددا، وهو أن الرجل الفاضل يمكن أن يقع في حالة الكذب لأسباب ولو كانت خفيفة تماما". يأخذ الأمثلة التي يستخدمها الرواقيون: الآباء الذين يكذبون على أطفالهم المرضى من خلال تقديم وعود لن يلتزموا بها أبدا، الكذبة التي تُقال لقاتل لثنيه عن جريمته، أو لعدو من أجل خلاص البلاد. بالإضافة إلى هذه الأمثلة، يعدد كينتيليان حالات أخرى حيث، لأسباب شريفة، قد يشوه الخطيب الحقيقة أو يتبنى أسبابا لم يكن ليوافق على الدفاع عنها لولا ذلك. بهذه الطريقة لن يكون لديه أي وازع بشأن رغبته في إنقاذ رجل متهم بأنه كان لديه نية قتل طاغية: إن نية إنقاذ المجتمع من الوحش هي في حد ذاتها أمر جيد، وبهذه الطريقة، ينضم كينتيليان إلى شيشرون؛ سيتولى أيضا الدفاع عن مجرم تائب: من الأفضل للمجتمع أن ينقذ المذنب الذي يعد بالتكفيرعن ذنوبه بدلاً من معاقبته؛ وبنفس الطريقة، قد يكون من الأفضل الدفاع عن جنرال متهم حقا بدلاً من السماح بإدانة رجل سينقذ وطنه.
بعد أفلاطون والرواقيين وشيشرون، أدرك كينتيليان فائدة الأكاذيب المنطوقة لأغراض إيثارية بحتة والتي لا تشوه بأي حال من الأحوال فضيلة الرجل الصالح.
هكذا لا نجد بين مؤلفي العصور القديمة اليونانية الرومانية إدانة مطلقة للكذب. وباستثناء أفلاطون الذي يرفضه على المستوى اللاهوتي، فإن الجميع يعترفون به على المستوى الإنساني، ولكنهم يحددون طابعه النفعي. لقد استلهم آباء الكنيسة قبل القديس أوغسطين من هؤلاء المؤلفين الدنيويين في خطابهم عن الكذب.
- ثانيا. الكذب عند آباء الكنيسة
2. 1. إكليمنضس الإسكندري
يستعيد إكليمنضس الإسكندري، في كتابه "المتفرقات" (Stromates) ، تمييز ب. نجيديوس بين "الكذب" و"قول الكذب" ويجعل الظلم أو الأذى الذي يلحق بالآخرين يكمن في نية الشخص الذي يتصرف أو يتكلم. ومن هنا يحدد ما يجب أن يكون عليه سلوك الغنوصي، أي المسيحي الذي بلغ الكمال الروحي. في المتفرقتيتن السادسة والسابعة، يقدم إكليمنضس صورة الغنوصي: يتميز أولا بتقواه: فهو وحده المتدين حقا والعبادة التي يقدمها لله هي الشكل الوحيد للتقوى الحقيقية. ولكن في الطريق المؤدي إلى هذا الكمال الروحي، ينسب أكليمنضس إلى المطلب الأخلاقي نفس القدر من الأهمية الذي ينسبه إلى مطلب التقوى. لذلك فإن الغنوصي أيضا رجل فضيلة، وسلوكه تجاه قريبه يتوافق مع خالص محبته لله. الغنوصي الذي تتوافق أفعاله مع أقواله، لا يمكن أن يكذب بأي شكل من الأشكال: لا على الله الذي بطبيعته لا يمكن الوصول إليه بالكذب، ولا على جاره لأنه يحبه، ولا على نفسه إذ لا أحد يؤذي نفسه عن طواعية. والقيد الوحيد الذي يضعه إكليمنضس على هذا السلوك يتعلق بالغنوصي الذي يتولى وظيفة المربي والذي، من خلال تعليمه، يحول من هم في عهدته عن طريق انتزاعهم من الوثنية لتحويلهم إلى الإيمان الحقيقي. في هذه الخدمة، يلعب دور الوسيط بين الله والناس ويمكنه، في هذه اللحظة، استخدام الكذب بشرط أن يكون مفيدا لخلاص أولئك الذين يعلمهم: "المساعدة الوحيدة التي يجب أن يقدمها للآخرين، لجاره، ستقوده إلى القيام بأشياء لم يكن ليختار إنجازها لو لم يتصرف نيابة عنهم". ومن ثم فإن أكليمنضس يتفق مع المؤلفين الدنيويين لأن الكذب الوحيد الذي يعترف به هو الكذب ذو القيمة النفعية والعلاجية. لذلك فهو يتبنى الصورة التقليدية للطبيب الذي يكذب على مرضاه من أجل مصلحتهم: “إنه (الغنوصي) يفكر ويقول الحقيقة في نفس الوقت؛ مع استثناء واحد ولكن في حالة الرعاية التي يجب تقديمها، مثل الطبيب تجاه المرضى، لخلاص مرضاه، ربما يكذب بعد ذلك، أو بالأحرى لنتكلم مثل السفسطائيين، سيقول الكذب".
يقدم له الكتاب المقدس أيضا أمثلة تسمح له بإلقاء الضوء على الرمزية المخفية وراء المقاطع التي يمكن أن تبدو ملتبسة، أو حتى كاذبة، عند أخذها حرفيا. هذا هو الحال مع ختان تيموثاوس، الذي يبدو أنه يتعارض مع تعليم القديس بولس، لكن الرسول يقوم به حتى لا يغلق أبواب المجامع في وجه الواعظ الجديد.
للعثور على مبرر للكذب يعتمد إكليمنضس على الكتاب المقدس والمؤلفين القدامى. إن تأثير الأخيرين على فكره ملحوظ، وخاصة تأثير أفلاطون، الذي أخذ منه جوانب معينة من العقيدة: الكذب لا يصل إلى الآلهة، ونحن نؤذي أنفسنا لا إراديا، والكذب مخصص لفئة من الناس لأغراض تربوية. سوف يتبنى أوريجانوس نفس النهج الذي اتبعه إكليمنضس.
2.2. أوريجانوس
يشير القديس جيروم، في كتابه "ضد روفينوس"، إلى مقطع من كتاب أوريجانوس "المتفرقات" (Stromata) حيث يستشهد بأفلاطون. اشتكى روفينوس من أن صديقه السابق قد وصف الأوريجانيين بالكذابين في إحدى رسائله (الرسالة 84). في دفاعه، يستشهد جيروم بالكتاب السادس من كتاب "المتفرقات" لأوريجانوس الذي يبدو له أن المؤلف يدافع عن الكذب. في الواقع، يشير أوريجانوس إلى جمهورية أفلاطون، على وجه التحديد في الكتاب الثالث، 389ب، حيث، بعد أن أظهر أن الآلهة لا تستطيع الكذب، يمنح أفلاطون فقط أولئك الذين يحكمون إمكانية الكذب على مواطنيهم. يتبع جيروم هذا الاقتباس من تعليق أوريجانوس. وهذا يتوافق مع عقيدة أفلاطون، على المستويين اللاهوتي والإنساني: فهو مثل أفلاطون يؤكد أن الله لا يمكن أن يكذب، ولكنه، لمصلحة البشر، يخاطبهم أحيانا بكلمات مستترة مستخدما ألفاظا وألغازا غامضة (uerbis loquitur ambiguis et per aenigmata).
إنها نظرية الغموض الإنجيلي التي يشرحها سيباستيان مورليه بهذه العبارات: “أولئك الذين لم يصلوا إلى مرحلة الكمال الروحي لا يستطيعون، بسبب ضعفهم، أن يتأملوا الحقيقة عارية؛ إنهم بحاجة إلى صور ورموز لفهم الوحي الإلهي، وإن كان بطريقة غير كاملة”. أما بالنسبة إلى الإنسان الذي يستمرئ الكذب، فيحيله العلامة أوريجانوس إلى أفلاطون الذي يوصي باستخدام الكذب كقربان وعلاج، وأيضا إلى الكتاب المقدس من خلال أمثلة الشخصيات الإنجيلية التي عرفت كيف تناور لتحقيق غاياتها: يهوديت التي قتلت هولوفيرمز من خلال إخفاء كلماتها بحكمة (prudenti Simulatione uerborum)، وإستير التي أخفت أصلها اليهودي (tacita diu gentis ueritate) ويعقوب الذي حصل على بركات والده على حساب كذبة ماكرة ( artifici mendacio).
تم العثور على تطور مماثل في ما يتعلق بالكذب طي كتاب "ضد سيلسوس". هذا الوثني، في كتابه "الخطاب الحقيقي"، يوبخ المسيحيين على التشكيك في الثبات الإلهي. لدحض عقيدة التجسد، أشار إلى الفقرتين 381ب-ج من الكتاب الثاني من الجمهورية حيث يؤكد أفلاطون أن الله لا يستطيع أن يغير طبيعته ولا يكذب. ولذلك، يقول سيلسوس، إذا كان الله قد أظهر نفسه في صورة بشرية للبشر، فذلك لأنه كذب.
علاوة على ذلك، إذا كان الكذب الشرعي هو ما يقال للمرضى أو للأعداء، فلا يمكن لذلك أن يهم الألوهية لأنها لا تخاطب المرضى ولا تعتني بالأعداء، مشيرا هنا مرة أخرى إلى أفلاطون (Resp . II, 382e) حيث يؤكد الفيلسوف أن الآلهة أصدقاء الحكماء والعقلاء. يستخدم أوريجانوس في دحضه نفس الحجج التي يستخدمها خصمه: الله لا يتغير في جوهره، لكنه يتكيف مع قدرة كل إنسان على الترحيب به. لكي يجعل نفسه مفهومًا بشكل أفضل، يستخدم أوريجانوس المقارنة بين الأطعمة التي تقدم بشكل مختلف اعتمادا على ما إذا كانت مخصصة لرضيع أو شخص مريض أو شخص قوي. في هذه الحالة لا يمكننا أن نتحدث عن الكذب في ما يتعلق باللاهوت: “بالتأكيد فإن اللوغوس لا يكذب في ما يتعلق بطبيعته، عندما يغذي كل واحد إلى الحد الذي يمكنه أن يستوعبه، وفي القيام بذلك، لا يخدع ولا يكذب”.
أما بخصوص التجسد، فبما أن سيلسس يعترف بإمكانية اللجوء إلى الكذب لشفاء المرضى، فيجب عليه أيضا أن يعترف بأن المسيح، لشفاء النفوس المريضة بهدف خلاصها، كان بإمكانه أن يستخدم وسائل لا يليق استخدامها من حيث المبدأ، ولكننا نستخدمها نتيجة الظروف".
يظل خطاب أوريجانوس حول الكذب يعتمد على أفلاطون وإكليمنضس. يعتبر أفلاطون بمثابة الأساس لدحض الكذب الإلهي. مثل إكليمنضس، يعتمد على الكتب المقدسة لتوضيح أفكاره. القديسان هيلير بواتييه ويوحنا الذهبي الفم لا يأخذان في الاعتبار الكذب الإلهي. إنهما يقتصران على فحص الأكاذيب على المستوى البشري.
2.3. هيلير بواتييه
عند القديس هيلير، لا يوجد الكذب إلا إذا كان هناك ضرر على الآخرين: تعتبر جريمة الكذب إهانة للغريب crimen mendacii in) incommodo habetur alieno). في تعليقه على المزمور 14، أحد الشروط التي وضعها هيلير لكي يجد الإنسان راحة في الله، أي تحقيق الخلاص، هو أن يحيا في الحق: "من لم يمكر بلسانه ولم يؤذ جاره". لكن هيلير يلاحظ، كما فعل الرواقيون، أن مثل هذا الكمال يصعب تحقيقه هنا على الأرض. ولهذا السبب، على غرار أسلافه، يضفي الشرعية على استخدام الكذب في ظروف معينة: "الكذب غالبا ما يكون ضروريا وبكون الباطل مفيدا أحيانا". هذا الكذب هو الذي يتم التلفظ به لمساعدة الآخرين والأمثلة التي يقدمونها هي تلك التي صادفناها بالفعل لدى مؤلفين آخرين: الكذبة التي تُقال لقاتل لصرف انتباهه عن ضحيته، وشهادة الزور التي تُقدم لمساعدة شخص في خطر، الكذب على الشخص المريض بشأن خطورة مرضه. وبالتالي فإن الكذب، بالنسبة لهيلير، مبرر طالما لا توجد رغبة صريحة في الخداع. هذه أيضا وجهة نظر يوحنا الذهبي الفم.
2.4. يوحنا الذهبي الفم
يسلط يوحنا الذهبي الفم (Chrysostome)، الذي تناول مسألة الكذب في مقاله “عن الكهنوت" (De sacerdotio)، الضوء على مفهوم القصدية. وإلى صديقه باسيليوس الذي وبخه على ابتعاده عن الكهنوت رغم وعوده، تقدم بمرافعة عن الكذب. في هذه الظروف، يتعلق الأمر بالتساؤل عما إذا كان ينبغي تجنب الكذب تماما، وفي نفس اللحظة، هل هو مستعد لأن يعاقب، أو على العكس من ذلك، قد يكون مفيدا أو سيئا اعتمادا على نية الشخص الذي يستخدمه. ويختار الفرضية الثانية ويطبقها على حالته: فإذا أخفى نواياه عن صديقه، كان ذلك لمصلحته ولمصلحة من أراد رفعه هو وباسيليوس إلى الكهنوت. ومن هنا يوضح مزايا الكذب: "إن الحيلة الماهرة التي تبدأ بنية حسنة تكون في بعض الأحيان خيرا ثمينا لدرجة أن الكثير من الناس عوقبوا لعدم استخدامها". ويورد أمثلة يكون فيها للكذب فوائد: في زمن الحرب، يمكن أن يكون مفيداً للدولة: فالجنرال الذي ينتصر بالخداع هو أحق من الذي ينتصر بالقوة؛ فهو لا يسحق الأعداء ويجعلهم موضع سخرية فحسب، بل يجلب أيضا الفرح الخالص إلى وطنه. ليس فقط في مصلحة الشؤون العامة أن يكون الكذب مفيدا. كما أنه مهم في الحياة الخاصة، خاصة عندما يساعد في الحفاظ على صحة الأفراد وحياتهم. هكذا يستخدم الطبيب الحيل للحصول على علاج مرضاه.
يقدم الكتاب المقدس نفسه مثل هذه الأمثلة: ميكال ابنة شاول أنقذت زوجها داود بالكذب على أبيها، وتصرف أخوها يوناثان بنفس الطريقة لإنقاذ داود نفسه.
وهكذا تصبح الكذبة خدعة يمكن للأزواج والأصدقاء والآباء والأطفال استخدامها بشكل متبادل في علاقاتهم. إذا كان استخدام الأكاذيب لحماية الممتلكات الجسدية مشروعا، فكم بالحري يجب أن يكون ذلك بهدف الحصول على الخيرات الروحية: بهذه النية ختن القديس بولس تيموثاوس وكان بإمكان الأنبياء أن يقتلوا الناس. بالنسبة إلى الذهبي الفم، الكذب غير مدان طالما أنه لا يستخدم لأغراض احتيالية ويستحق اعتباره مهارة (؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟)، أو حكمة (؟؟؟؟؟؟؟)، أو صناعة تقية (؟؟؟؟؟؟).
يقدم خطاب الآباء عن الكذب عددا معينا من أوجه التشابه مع خطاب المؤلفين القدماء. لقد ركزوا تفكيرهم على مستوى مزدوج، لاهوتي وإنساني. أبرز إكليمنضس وأوريجانوس، على غرار أفلاطون، عدم إمكانية وصول الأكاذيب إلى الآلهة. وعلى المستوى الإنساني، فإن الجميع مجمعون على إدراك إمكانية الكذب الذي يمكن أن يوضع في خدمة المصلحة الفردية أو العامة. والأمثلة التي يستمدونها من المؤلفين الدنيويين ومن الكتاب المقدس هي بمثابة توضيحات.
في النهاية، بالنسبة للآباء كما هو الحال بالنسبة للمؤلفين الوثنيين، فإن الكذب لأغراض نفعية، بشرط أن تكون النية الأخلاقية آمنة، لا ينبغي اعتباره كذبا حقيقيا. ماذا سيكون موقف القديس أوغسطين؟
ثالثا: مذهب أوغسطين في الكذب
في كتابه "المراجعات"، يلمح أوغسطين إلى العملين اللذين خصصهما لمسألة الكذب: "عن للكذب" الذي كتب عام 395 م، في بداية حياته الكهنوتية، و"ضد الكذب" ، الذي كتب في نهاية حياته عام 420 م. يمكن أن ننقاد إلى الاعتقاد، بالنظر إلى الفجوة الزمنية التي تفصل بين هذين العملين، إلى أن حماسة الشاب خفتت مع تجربة الرجل العجوز، وبعبارة أخرى، كان من الممكن أن يكون خطاب أوغسطين حول الكذب قد تطور بين عامي 395 و420. ولكن ذلك لم يكن هو الحال. في الحقيقة، إذا كان كتاب "عن الكذب" يقدم نفسه على أنه تحليل، على المستوى النظري، لممارسة الكذب، فإن " ضد الكذب" ليس سوى تطبيق مباشر على حالة ملموسة: هذا هو رد أوغسطين على كونسنتيوس الذي أرسل وثائق إلى الأسقف القديم متعلقة بالبريسيليانيين وبين له في نفس المناسبة الطريق التي بدت له الأكثر فعالية لكشفهم. لاحظ أوغسطين نفسه التكامل بين الكتابين: إذا لم يدمر "عن الكذب"، كما كان يرغب، فذلك لأن هناك نقاطا لم يتوسع فيها "ضد الكذب". علاوة على ذلك، يدرك أوغسطين أنه على الرغم من اختلافهما في الشكل، فإن الكتابين يهدفان إلى نفس الهدف من حيث الجوهر: مكافحة الكذب. يتعلق الأمر إذن بأن نرى، من خلال التعريف الذي قدمه للكذب والرد على مشروعية الكذب، موقف أوغسطين بالمقارنة مع المؤلفين الذين سبقوه.
3. 2. تعريف الكذب
في ديباجة "عن الكذب"، يدعو أوغسطين قراءه إلى تجنب اعتبار ما ليس كذبا كذبا. وهكذا يستبعد من النقاش الكذب المبهج، الذي يكون على سبيل المزاح، والذي يقال بحسن نية أو عن جهل.
فيم يتمثل الكذب؟ يقدم القديس أوغسطين تعريفا أوليًا يربط فيه بين الرغبة المتعمدة في الكذب وزيف العبارة: “الكذب هو أن تكون لديك فكرة في العقل، وأن تقول شيئا آخر بالكلمات أو بأي وسيلة أخرى من وسائل التعبير”. إلا أن هذا التعريف لا يغطي حقيقة الكذب بشكل كامل. لذلك كان لا بد من تحديد طبيعة الكذب بشكل أدق، وهو ما فعله أوغسطين بإلقاء الضوء على نية الكاذب: “إنما بقصد العقل وليس بصدق أو زيف الأشياء نفسها يجب أن نحكم هل يكذب شخص أم لا يكذب". ويوضح أفكاره بشكل أفضل من خلال الربط بين تعمد الرغبة في الكذب وزيف القول وقصد التضليل: “إثم الكذاب أن يتكلم بخلاف فكره بقصد الخداع”. ومرة أخرى: "لا يشك أحد في أن من قال كذبا عمدا بقصد الكذب ليس كذابا. ولذلك فإن التحدث بخلاف الأفكار بقصد الخداع هو كذب مبين".
يتداخل هذا التعريف الذي قدمه أوغسطين مع تعريف أسلافه: فكلهم أبرزوا الرغبة المتعمدة في الكذب ونية الخداع. ومن ناحية أخرى، تظهر الخلافات عندما يتعلق الأمر بمشروعية الكذب.
3. 3. هل يجوز الكذب؟
في كتابه "عن الكذب"، يميز أوغسطين بين ثماني فئات من الأكاذيب التي نجمعها في أربع مجموعات بناءً على الصفات والتعبيرات التي يستخدمها للإشارة إليها: الأكاذيب التجديفية ( mendacia blasphema ، Capital mendacium )، الأكاذيب التي تضر بالآخرين ( mendacia quae aliquem laedunt unjust )، الأكاذيب التي يتم نطقها بدون مبرر ( qui gratis mentiuntur ) والأكاذيب التي يتم الإخبار بها بهدف تقديم خدمة (كذبة نبيلة). ثم يحللها ليبين ما هو ضار في كل منها.
3. 2. 1. أكاذيب تجديفية
هذه هي الأكاذيب التي ترتكب ضد الدين. من بين كل الأكاذيب، فهي الأخطر لأنها موجهة ضد اللاهوت: “إذا كنا نتكلم ضد الله عندما نكذب، فأي شر أعظم يمكن أن نجده في كذبة أخرى؟". لذلك، يجب علينا، ضد كل أولئك الذين يعتمدون على الكتاب المقدس لتبرير الكذب، ولا سيما المانويين والبريسليين، أن نستبعد إمكانية العثور على الأكاذيب في الكتاب المقدس. إن الحقائق المفترضة على هذا النحو في العهد القديم ليست حقائق: إما أنها تُستخدم بمعنى مجازي لا يفهمه إلا أولئك الذين يستطيعون فك الرموز والذين يستمدون منها فرحا عميقا، أو أنهم يخضعون لمبدإ النسبية. وهذا يعني أننا من بين الشرين نختار أخفهما. وبنفس الطريقة، يحارب كل من يظن أنه يستطيع العثور على أكاذيب في العهد الجديد: فهو يتحدى جيروم الذي، على غرار أوريجانوس، استخدم مقطعًا من الرسالة إلى أهل غلاطية لاتهام القديس بولس بالتستر. وبالمثل، على عكس بعض الآباء الذين استخدموا ختان بولس لتيموثاوس لشرح الكذب لأغراض نفعية، يفسر أوغسطين هذا الفعل على أنه تطبيق لعقيدة الرسول عن الحرية: Ex liberate suaeisentiae .
كما لا يجوز استعمال الكذب لإعادة الإنسان إلى الإيمان. بالفعل، في كتابه "عن الكذب"، أدان أوغسطين مثل هذه العملية التي تتعارض مع اقتصاد الإيمان. وللسبب نفسه، انتقد سلوك البريسيليانيين وكونسنتيوس في كتابه "ضد الكذب".
انطلق أتباع بريسيليان من مبدإ أن الكذب الذي لا يعرض المعتقدات الحميمة للخطر هو أمر مشروع. وكان شعارهم، الذي يمكن مقارنته بالكذب على لسان أفلاطون وغياب موافقة الرواقيين، هو: “ليكن الكذب على شفاهكم والصدق في قلوبكم،". ومن هناك تظاهروا بأنهم كاثوليك لإخفاء عقيدتهم. يعتقد أوغسطين أن أتباع بريسيليان يدينون أنفسهم ليس فقط لأنهم يقوضون الإيمان، ولكن لأنهم على خلاف مع قناعاتهم الداخلية. بالنسبة إلى كونسنتيوس، الذي يريد استخدام الأكاذيب لكشف قناع الزنادقة، يوضح أوغسطين أن طريقة التصرف هذه لا يمكن بأي حال من الأحوال الموافقة عليها: “إذا لم نبرر كل الأكاذيب، بل الأكاذيب التجديفية، بحجة أن هدفهم هو اكتشاف الزنادقة المختبئين”. يمكننا بنفس الطريقة ولنفس الهدف أن نشبه العفة بالزنا". ثم بعد ذلك يدرك الضرر الذي يمكن أن تسببه مثل هذه الكذبة: ترسيخ أتباع بريسيليان في خطئهم، مما يجعل المؤمنين يفقدون الثقة التي يضعونها في رعاتهم؛ الكاثوليكي الذي يتظاهر بأنه بريسيلاني سيجد نفسه مضطرا إلى مدح عقائد الهراطقة، ونتيجة لذلك، ينأى بنفسه عن الإيمان الحقيقي.
على أية حال، فإن البرسيلاني، سواء ادعى أنه مسيحي كاثوليكي أو أعلن عقيدته علنًا، سيكون أكثر عذرا من الكاثوليكي: في الحالة الأولى، لغته متوافقة مع الحقيقة، حتى لو لم يلتزم بها. وفي الحالة الثانية يأثم بسبب جهله بالحق. أما الكاثوليكي فهو يخطئ بشكل مزدوج: بادعاء أنه ليس هو، وبتعليم عقيدة كاذبة.
في النهاية، بالنسبة لأوغسطين، يجب علينا أن نحارب الكذب بالحقيقة وليس بالكذب: “بالحقيقة يجب أن نتجنب الكذب، بالحقيقة يجب علينا أن نكشف القناع عنه، بالحقيقة يجب القضاء عليه". هذه الحقيقة، في الحرب ضد الهرطقة، تكمن في عرض العقيدة الصحيحة والمناقشة الحرة. بإدانته للأكاذيب ضد الدين، واصل أوغسطينوس تقليد أفلاطون والآباء. ومع ذلك، فقد ظهر أنه أكثر تطرفًا من الأخير من خلال إنكاره المطلق لأي شكل من أشكال الكذب في الكتاب المقدس.
3. 2. 2. أكاذيب ظالمة
يضع أوغسطين الأكاذيب التي تضر بالآخرين في هذه الفئة. وهي على صورتين: إما أن تضر بالٱخرين دون أن يستفيد أحد من الكذب؛ أو أنها تؤذي الآخرين بينما تقدم خدمة لأحد آخر. وينبغي تجنب هذه الأكاذيب في كلتا الحالتين لسبب بسيط وهو أن إيذاء شخص ما أمر مذموم: Nulli est iniuria uel leuior inferanda. وبرفضها، يضع أوغسطين نفسه في صف أسلافه الذين أدانوا جميعا الكذب منذ اللحظة التي يؤذي فيها الآخرين.
3.2.3. أكاذيب مجانية
مثل ستوبايوس ونيجيديوس، يميز أوغسطين الكذاب (mendax) عن الإنسان الذي يكذب (mentiens). الكذاب هو من يجد لذة في الكذب، بينما الإنسان الذي يكذب هو الذي يستخدم الأكاذيب.
في الحالة المحددة للكذب المجاني، نكون أمام الكذب الذي يهدف إلى تعزيز المحادثة. هذان النوعان من الكذب، رغم أنهما لا يضران بالآخرين، يجب تجنبهما أيضا، لأن الذين ينطقون بهما يعطون أهمية لأنفسهم أكثر من الحقيقة: البعض يديرون ظهورهم للحقيقة ليتلذذوا بخداعهم. والبعض الآخر "يفضلون أن يجعلوا أنفسهم محبوبين على أن يجعلوا الحق محبوبا" .
3. 3. 4. أكاذيب نبيلة
ضمن هذه الأكاذيب يدرج أوغسطين: الكذب الذي يفيد الإنسان دون الإضرار بأي شخص آخر، والكذب الذي يساهم في تحسين الإنسان أخلاقيا أو روحيا، والكذب لتجنب إهانة جسدية نجسة.
- الأكاذبب التي تفيد الآخرين
إنها الأكاذيب التي اعتبرها أسلاف أوغسطين مشروعة. من جهة أخرى، يستخدم الأخير بعض أمثلتهم مثل الكذبة التي تهدف إلى إنقاذ الحياة أو كذبة الطبيب على مريضه. كما أنه يستخدم التعبير Honoto et Misericordi Mendacio (الكذبة العفبفة والرحيمة) التي استخدمها شيشرون لتبرير تدخله لصالح ليغاريوس. وبينما يعترف بأن هناك شرا أقل في هذا النوع من الأكاذيب لأنها مصحوبة بشيء من الخير، يدينها أوغسطين مع ذلك، لأنه يعتبر الكذب إثما: mendacium iniquitas est.
لذلك، على المستوى الأخلاقي، من الضار فعل الشر، حتى لو كان من أجل الخير. فضلا عن ذلك، بما أن خيرات الروح تتفوق على خيرات الجسد، فمن الأفضل أن يخلص الإنسان نفسه بهدف الحياة الأبدية بدلاً من الرغبة في الحفاظ على حياته أو حياة الآخرين بالكذب.
- الكذب بهدف التقوبم الأخلاقي أو الروحي
أكد كينتيليان أن الرجل الصالح يمكنه الدفاع عن قضية متهم ممكن الأمل في تغيير سلوكه. كما تسامح يوحنا الذهبي الفم مع الكذب الذي قيل لشفاء النفوس، خاصة أن عقيدة الكنيسة تأمر بعدم اليأس من هداية أي أحد وبعدم إغلاق طريق التوبة في وجهه. لكن بالنسبة إلى أوغسطين، فإن الإنسان الذي يكذب ليفعل الخير لجاره، حتى لو لم يؤذ أحدا، يؤذي نفسه بمجرد كذبه. وهذا ما يحدث عندما نرفض إدانة مجرم أو عندما نشهد زورا. لذلك ينبغي تجنب هذا الكذب أيضاً مثل غيره من الأنواع الأخرى.
- الكذب لتجنب الإهانة الجسدية النجسة (immunditia corporalis)
اعتقد المانويون، ومن بعدهم البريسيليون، أنه من المشروع الكذب لتجنب تدنيس الجسد. وهكذا، يمكن للمرأة التي يلاحقها فاجر أن تكذب عليه تفاديا للأذى الجسدي. يرى أوغسطين من جاتبه أنه لا يجوز الكذب لحماية جسدنا من فعل غير طاهر، لأن أي فعل يتم ارتكابه على جسدنا دون موافقتنا لا يمكن أن ينجسنا.
فضلا عن ذلك، بما أن طهارة الروح أفضل بكثير من طهارة الجسد، فيجب علينا تجنب جعل الروح نجسة بالكذب للحفاظ على طهارة الجسد. وبالمثل، فإن الكذب لتجنب الأذى الجسدي الأكبر هو أمر غير شرعي هو الٱخر. يهاجم أوغسطين حجة المانويين والبريسليانيين، الذين يرون أنه كان من الممكن أن ينجو الشهداء من الموت بالكذب على جلاديهم، وبهذه الطريقة، يتجنبون أن يكونوا شركاء في موتهم.
أوغسطين، الذي يشبه منطقه إلى حد كبير منطق الرواقيين الذين اعتقدوا أن الإنسان الحكيم الذي لا يوافق على الكذب لا يكذب، يدين هذا الاستخدام للكذب. إن الشهداء بموافقتهم على الموت بدلاً من الحنث باليمين، لم يوافقوا بالضرورة على جريمة جلاديهم، ولهذا السبب، لا يتحملون مسؤوليتهم.
في الحقيقة، بين الفعلين المذمومين، من الأفضل تجنب الشر الذي يمكن للمرء أن يرتكبه شخصيا دون أن يشعر بالمسؤولية أو التواطؤ في الشر الذي يرتكبه الآخر: “لا أستطيع إلا أن أتجنب الفعل الذي في وسعي؛ لكن الفعل المتوقف على الآخر، إذا لم أتمكن من إيقافه بنصيحتي، يجب ألا أمنعه بجريمتي".
- خاتمة
قام القدماء بالتمييز بين الكذب الذي يقصد به الضرر والكذب المفيد. وكان فلاسفة الأكاديمية وفلاسة الرواق والمؤلفون اللاتينيون يعتبرون أن الكذب حلال إذا لم يكن مصحوبا بسوء قصد ويمكن أن يكون فيه خدمة للآخرين. وفي هذا تبعهم بعض آباء الكنيسة السابقين كلهمىعلى القديس أوغسطين. ومن ناحية أخرى، فإن موقف الأخير من الكذب لا لبس فيه: فهو يرفض كل أشكال الكذب، سواء في الأمور الدينية، أو كان ذلك من باب الخبث أو الخدمة أو اللهو أو التسلية. إذا كان هذا التعنت يناسب المثقف واللاهوتي الذي كانه، فمن الصعب التوقيف بينه ودور الراعي الذي يجب أن يأخذ بعين الاعتبار وهن وعيوب المؤمنين لكي يقودهم إلى الله. كان من الممكن أن تكون هذه المعركة من أجل خلاص الأرواح قد دفع أوغسطين إلى اتخاذ موقف أقل صرامة تجاه الكذب، خاصة أنه مكتوب أن الإنسان من قلبه كاذب (Ps. 115, 11). ومع ذلك، فإن هذه الإدانة التي لا لبس فيها للأكاذيب يبررها أوغسطين. إذا أعلن الكتاب أن كل إنسان كاذب، فهذا لكي يتمكن من الخروج من ذاته واللجوء إلى الله الذي هو مبدأ كل حق. هذا ما دفع أوغسطين إلى التأكيد على أن الإنسان الصالح لا يكذب، ( Numquam mentiuntur boni )، متخذا بذلك وجهة النظر المعاكسة لكل أسلافه من الوثنيين والمسيحيين على حدٍ سواء.
إن إدراك أوغسطين للكذب يرتكز أيضا على ثقته المطلقة في سلطة الكتب المقدسة التي تعكس القصد الإلهي لإعطاء تعليمات سليمة لخلاص البشر من خلال ما تحتويه من وصايا. لكن قبل كل شيء، يدين أوغسطين الأكاذيب لأنها تتعارض مع الحقيقة: “هناك فئات عديدة من الأكاذيب، ولكنها جميعا بدون استثناء يجب أن تثير كراهيتنا. لأن ما من كذب إلا وهو مخالف للحق" . لذلك يجب البحث عن الحقيقة بلا كلل لأنها فوق كل شيء: إنها تسمو على كل الخيرات الجسدية، حتى أثمنها؛ إنها تتفوق على الروح التي تتطلع إلى الأبدية؛ إنها تتفوق على الإنسان نفسه الذي يجب أن يفضلها على شخصه أو على متعته الخاصة بهدف السعادة الأبدية التي لا يمكن أن يحققها له سوى الحقيقة. في عالم يبدو فيه أن الأكاذيب أصبحت هي القاعدة، يمكن لأفكار أسقف هيبو أن تساعد بلا شك في إعادة اكتشاف بعض القيم الأساسية.
________________________
(*) كلمة "ميتيس" اليونانية تعني الصفة التي تجمع بين الحكمة
المرجع: https://www.cairn.info/revue-dialogues-d-histoire-ancienne