الأسس النظرية للفلسفة التداولية عند طه عبد الرحمن - محمد امشيش

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

مقدمة:
تقوم النظرية الفلسفية الإئتمانية عند طه عبد الرحمان على مجموعة من المسلمات والمبادئ تجد في المجال التداولي الإسلامي أسسها الرئيسية دون أن تخل بالشروط المحددة لعملية التفلسف؛ كالإبداع والشمول والنسقية الإستدلالية المنطقية مثلا. وتبتغي هذه النظرية؛من بين ما تبتغي،تقديم رؤية شمولية تجديدية لأهم المواضيع التي تطرح  نفسها على الفكر العربي المعاصر موضوعا للنقاش، وتدفعه إلى إنتاج "قوله الفلسفي"؛ كإشكال النهضة، وعلاقة المجال الخاص بالمجال العام، والخصوصية الثقافية وعلاقتها بالكونية، وتحديد مفهوم الإنسان وهويته وخصائصه الأنطلوجية،وغيرها من المواضيع والإشكالات المطروحة في الساحة الثقافية العربية الإسلامية والعالمية.

لا يدّعي هذا العرض أنه يقدّم رؤية طه عبد الرحمان لكل هذه الإشكاليات المعاصرة،بل غاية وأقصى ما يريد هذا العمل بلوغه؛ هو تقديم رؤية موجزة ومختصرة عن بعض هذه الإشكاليات، وكذلك بيان بعض المنطلقات والمبادئ الهامة التي تحكُم المشروع الفلسفي الطهائي في إجاباته والتي توجّه عملية الإبداع فيه.

لذلك تم تقسيم هذا العرض إلى محورين،يتناول المحور الأول؛ أهم المسلمات التي ينطلق منها طه عبد الرحمان في بناء صرحه الفكري والفلسفي على وجه الخصوص.ويبتغي المحور الثاني تقديم تصور عام للمبادئ الأولية في الفلسفة الإئتمانية .

 وفي الإخير يقدم هذا العرض أهم الخلاصات و النتائج المتوصل إليها.

المحور الأول:المسلمات التي تنبني عليها النظرية الفلسفية عند طه عبد الرحمان.

  1. مسلمة تداولية الفلسفة:

مقتضى هذه المسلمة أن القول، خاصة الفلسفي منه، يتأثر بالمجال الذي يوجد فيه، أي يتفاعل مع ما هو دائر ومتناقل بين الناس، وعليه فإن العلاقة بين المجال والتداول علاقة تواصلية تفاعلية بين عدة عناصر و محددات أهمها عند طه عبد الرحمان :

  • الأسباب اللغوية: من المعلوم أن أهم الأدوات التي يستعملها الإنسان لتبليغ مراده ومقاصده وللتواصل مع غيره هي الأداة اللغوية، ومن المسلّم به كذلك؛ أن التفاعل و التخاطب والتواصل لا يكون قويا وإيجابيا إلا إذا كان بمفاهيم ودلالات ومعاني يعرفها المتخاطبين و يألفونها فيما بينهم، ويستدل طه عبد الرحمان في بيان علاقة اللغة بالمجال التداولي بنص للفارابي يقول فيه: "ونتحرى أن تكون العبارة عنها في أكثر ذلك بألفاظ مشهورة عند أهل اللسان العربي، ونستعمل في إيضاح  تلك القوانين أمثلة مشهورة عند أهل زماننا، فإن أرسطو طاليس لما أثبت تلك الأشياء في كتبه ، جعل العبارة عنها بالألفاظ المعتادة عند أهل لسانه، فاستعمل أمثلة كانت مشهورة متداولة عند أهل زمانه، فلما كانت عادة أهل هذا اللسان في العبارة غير عادة أهل تلك البلدان، وأمثلة أهل هذا الزمان المشهورة غير الأمثلة المشهورة عند أولئك، صارت الأشياء التي قصد أرسطو طاليس بيانها بتلك الأمثلة غير بيّنة ولا مفهومة عند أهل زماننا،  حتى ظن أناس كثير من أهل هذا الزمان بكتبه في المنطق أنها لا جدوى لها وكادت تطرح، ولما قصدنا نحن إلى إيضاح تلك القوانين استعملنا في بيانها الأمثلة المتداولة بين النظّار من أهل زماننا"[1] فالإخلال بمقتضيات المجال التداولي على مستوى التعبير اللغوي؛ من شأنه الإضرار بعملية التواصل والتخاطب و التأثير والتأثر، ولكي يكون التخاطب مؤثرا وتفاعليا يجب مراعاة الخصوصيات التداولية لمجال التخاطب عند نقل المقاصد المراد تبليغها للمتلقي بواسطة اللغة.
  • الأسباب العقدية : يرى طه عبد الرحمان؛ أن الممارسات التراثية التي ساهمت في خلق تواصل بنّاء بين العرب المسلمين وغيرهم، هي تلك التي كانت تراعي الخصائص التداولية لمجال المسلمين، خاصة في باب العقيدة ، يقول طه:" من البيّن أن الأسباب العقدية لا تقل نهوضا بمقتضيات التواصل والتفاعل عن الأسباب اللغوية ، إن لم تجاوزها في ذلك درجات متى أخذنا بعين الاعتبار الأسس الأولى التي قامت عليها الممارسة التراثية : فلولا الصبغة الدينية لهذه الأسس لما تمتعت هذه الممارسة بما نعلمه من السعة والثراء ، ولما حملتنا على أن نلتمس فيها اليوم ما ينهض هممنا لاستئناف سابق عطائها"[2]، تتيح التجربة التراثية إذا، إمكانية الابداع والتواصل والتفاعل مع الذات مع الغير دون الإخلال بخصوصيات المجال التداولي العربي الإسلامي، بل إن سعة وثراء التجربة التراثية الدينية العقدية عند المسلمين أتاحت للغير معرفة مبادئ وأفكار إنسانية كبرى لم يكن له علم بها في حينه،أو لنقل،بسبب الصبغة الدينية التي اتسمت بها التجربة الثراثية حصل التأثير والتأثر والحوار مع الذات ومع الغير مما أتاح لهذه التجربة ما أتاحه من السعة والثراء في شتى العلوم والمجالات.
  • الأسباب المعرفية: إن العلاقة بين المقتضيات اللغوية والمقتضيات العقدية في علاقتهما بالمجالات المعرفية والثقافية الأخرى، والتي يعمل العقل على " اقتناصها" وبيانها وتوضيحها هو ما يسميه طه عبر الرحمان بالأسباب المعرفية يقول : " لا يخفى كذلك أن ما يتناقله المتخاطبون بواسطة لغتهم وما يتعاملون به بموجب عقيدتهم هو جملة مضامين دلالية وطرق استدلالية تتوسع بها المدارك العقلية في أنفسهم كما تنفتح بها آفاق العالم من حولهم. فلا تواصل ولا تفاعل في التراث إلا بالمعرفة المتوسلة باللغة والمبنية على العقيدة، ويجوز أن نسمي الأسباب المعرفية باسم الأسباب العقلية " [3]، فباستثناء الكتاب والسنة يمكن اعتبار كل الأعمال التراثية عند المسلمين منبثقة عن الأصلين بفعل إدراكي عقلي[4]، الذي هو مصدر من مصادر المعرفة، يعمل على اقتناص العلاقات وانتاج المعرفة وبيانها وتوضحها، وهي بالضرورة –انتاج المعرفة – عملية "معقدة" بين الفكر واللغة، وبين الفكر والواقع، وبين الواقع والنص، وبينهما جميعا؛ داخل المجال التداولي الإسلامي، الذي لا ينبغي تجاوزه أو إقصاؤه في أي بناء معرفي كيفما كان.

يتبن إذا؛أن الأسباب اللغوية والأسباب العقدية والأسباب العقلية،تتداخل وتتفاعل فيما يبنها بشكل يصعب معه تحديد الواحدة منهما بالأخرى،لتشكل بذلك وحدة "بنيوية"هي التي تسمى ب"المجال التداولي" أو "التداولية".(مصطلح استعمله طه في الثمانينيات ثم استحسنه الباحثون بعد ذلك).

  1. مسلمة اعتبار العمل :

لما تقرر اعتبار المجال التداولي محددا رئيسيا، ومرجعا لا يمكن الاستغناء عليه في عملية التفلسف والإبداع، فقد بان معه أيضا؛ أن المجال التداولي الإسلامي، لا يميز بين العلم والعمل والعقل،  كمجالات منفصلة أو متباينة بعضها عن بعض كما هو في المجال التداولي اليوناني مثلا؛ الذي يجعل حدودا بين هذه الألفاظ، ويقرر تقريرات بناء على هذه الحدود، بل على العكس من ذلك تماما، نجد في الأصل التداولي الإسلامي الأول ( القرآن الكريم) وحدة ترابطية علائقية جدلية بين هذه العناصر، "بحيث كلما أوغل المرء في العمل، خرج إلى علم أنفع متقلبا بينهما من غير انقطاع"[5] ،فكل علم لا يندرج تحته عمل أو لا يؤدي إلى عمل فيه فائدة فهو متروك ،والفائدة من العلم في المجال الإسلامي هو العلم الموصل إلى الإيمان الدافع للعمل، والعمل هو الدال على العبودية للخالق بمقتضى ما حدده الخالق، فالعمل بهذا المعنى هو المحقق لمقتضى العبودية لله، أو أقل هو " الخاصية التي تحدد الإنسان بما يورثه وصف العبد،  لأن العبد لا يكون إلا عاملا "[6]، فإذا كانت الأخلاق هي التي تحدد ماهية الإنسان[7] فإن العمل هو الذي يحدد طبيعة هذه الماهية،بل أكثر من ذلك؛فإن التوغل في العمل يورث  العلم كما هو الحال بالنسبة للتقوى.

3 مسلمة فقه الفلسفة للإبداع الفلسفي:

 لقد اتضح للفيلسوف طه عبد الرحمان؛ بعد طول النظر في الفلسفة العربية الإسلامية، أنها غارقة في التبعية والتقليد و النقل عن الآخرين، دون مراعاة الخصوصيات التداولية لمجال النقل ولا لمجال المنقول، مما يجعل  فعل التفلسف فعلا مخلا بمبدإ الإبداع، باعتباره خاصية من خصائص الفلسفة، وعليه، وجب وضع "علم" ينظر في فعل التفلسف، وينظر في فعل الترجمة، باعتبارها عملية إبداعية أيضا.

فمن جهة النظر في الفلسفة، يقول طه عبد الرحمان: " وليس من سبيل إلى ذلك ( الإبداع في الفلسفة) إلا بإنشاء علم يختص بالنظر في الفلسفة كما ينظر الصانع في الآلة، وهو ما أسميناه ب " فقه الفلسفة"،  فهو العلم الذي يزودنا بدقيق آليات الممارسة الفلسفية والإحاطة بجليل تقنيات الإنتاج و الإبداع فيها، ومتى حصّلنا هذا العلم، أمكننا إذ ذاك الارتقاء من رتبة استعمال الفلسفة إلى رتبة صنع الفلسفة "[8]،فالإبداع الفلسفي هو الهاجس الذي يحكم فعل التفلسف عند طه.

ومن جهة النظر في الترجمة يقول : " ولما كانت الفلسفة التي بين أيدينا فلسفة منقولة ، أي هي حصيلة أعمال الترجمة، وكان الإشكال الذي يعترض المشتغل بها هو كيف يبدع فيها مع دوام إمداد الترجمة لها، فقد لزم أن أول ما ينبغي أن ينظر فقه الفلسفة هو الصلة الموجودة بين الفلسفة والترجمة، مستخرجا  وجودهما و إشكالاتها ومبينا كيفيات إقامة هذه الصلة على الوجه الذي ينفع الإبداع الفلسفي "[9]

بناء على هذا، فإن الفلسفة الإسلامية لا بد لها من وضع منهج نقدي ، تخضع به جميع ما هو موجود من المعارف و الأفكار بناءً على مبدأ: " أن كل منقول لابد من الاعتراض عليه ومساءلته إلى أن يثبت بالدليل موافقته لمقتضيات مجال التداول "[10] فلا سبيل إلى الإبداع الفلسفي لم يراعي هذه الخصوصيات ويعمل وفق هذه المبادئ، التي هي بمثابة وسائل وآليات وأدوات تنبني على عملية التفلسف .

4- مسلمة الطابع الوصلي للعقل:

يتحدد  مصطلح "العقل" في المفهوم اليوناني بكونه؛ "عبارة عن ذات أي كائن من الكائنات المستقلة موجودة في داخل الإنسان، بل موجود ضمن الكون كله بحيث ينتظم ظواهره جميعا، وهو "اللوغوس" كما يعبر عنه"[11]، و يحدد كذلك بأنه جوهر، "عبارة  عن ذات موجودة بنفسها، لا في غيرها، وقائمة بنفسها، لا بغيرها "[12]، لكن هذا التصور لمفهوم العقل عند اليونان؛ انتقل إلى استعمال الفلاسفة المسلمين له دون مراعاة مجاله التداولي الأول،ولا مراعاة المجال التداولي  في استعمال هذا المفهوم من جديد أيضا، بالرُّغم من اختلافا المجالين، يقول طه عبد الرحمان مبينا مفهوم العقل في الأصل التداولي الإسلامي الأول (القران الكريم ):" نعجب من كون القرآن الكريم، في كل المواضيع الذي ذكر فيها مادة "عقل" -وهي تسع أربعون آية – لم يوردها إلا بصيغة الفعل "[13] أي هو فعل من الأفعال، الإدراكية، التي يقوم بها الإنسان في حياته [14]، وليس بجوهر كما تم اعتقاده. لكن إذا كان للأفعال الإدراكية  مصادر تصدر منها، كالأذن واللسان والعين والشّم بالنسبة لفعل السمع والكلام والبصر والذوق، فما مصدر الفعل العقلي إذا؟ يجيب طه عبد الرحمان بأن مصدر الفعل العقلي هو القلب، وهذا ما قرّره القرآن الكريم، في قوله تعالى:"أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها "[15].فالفعل الإدراكي العقلي مصدره القلب وهو مصدر من مصادر المعرفة.

يكمن دور العقل في "اقتناص" العلاقات بين الأشياء والموجودات،والبحث عن الأسباب الجوهرية بين السبب والمسبب كما كان محددا دوره عند اليونان أيضا، وتطور مع الفكر الحديث إلى الربط بين الوسيلة و الغاية،غير أنه في الإسلام يبتغي الربط بين الوسيلة والقيمة كما يرى ذلك طه عبد الرحمان، يقول : " فالربط العقلي في الإسلام هو ربط الأسباب والوسائل بالقيم التي يعبّر عنها المتقدمون ب "المقاصد" [16]، وعلى حسب هذا الربط؛ تتحدد مراتب العقل والعقلانية عند طه، وهي كالآتي:

  • العقلانية المجردة : أي "المجردة من الممارسات العملية ، وبالخصوص "الممارسة الدينية" أو "العمل الشرعي"، فهي عقلانية غير يقينية لا في نجاعة وسائلها ولا في نفع مقاصدها، وهي العقلانية الحديثة "[17].
  • العقلانية المسددة :وهي التي " يكون صاحبها قد حصّل اليقين في نفع القيم، ولكنه لم يحصّل اليقين في نجاعة الوسائل "[18]،فقد تكون القيم شرعية؛لكن الوسائل المستعملة لبلوغها غير متيقن من نجاعتها ونفاذ سبلها إلى المقاصد النافعة.
  • العقلانية المؤيدة : "هي التي يكون صاحبها قد أخذ مقاصده وقيمه من الشرع ، محصلا اليقين في نفعها، كما أخذ منه الوسائل التي توصله إلى هذه القيم محملا اليقين في نجاعتها "،[19] فأخذ المقاصد والوسائل من الشرع ، هو أعلى مراتب العقلانية كما يحددها طه،باعتبارها عقلانية موصولة بين العمل الناجع والقيم النافعة حالا ومآلا.

   المحور الثاني :المبادئ الأولية في الفلسفة الإئتمانية.

لقد تقررت ضرورة أن يكون الفعل الفلسفي فعلا إبداعيا،وأن يكون الإبداع مراعيا لمجاله التداولي،باعتباره عاملا محددا في عملية التفلسف، ولما تقرر أيضا أن، الأصل التداولي الأول في المجال الإسلامي هو القرآن الكريم باعتباره وحيا إلهيا،فإن المبادئ الأساس في الفلسفة الإئتمانية عند طه عبد الرحمان تتحدد بناء على هذا الأصل في علاقته بعوامل أخرى يلعب فيها المجال التداولي دور المحدد الذي تتحدد به العوامل الأخرى تفاعليا، أقرب ما يكون إلى العلاقة الجدلية.فماهي المبادئ الإساس في الفلسفة الإئتمانية ؟وكيف يحددها طه عبد الرحمان وفقا للمجال التداولي الإسلامي؟

  • مبدأ الإشهاد:مقتضى هذا المبدأ،أن الإنسان في عالم الغيب أقر بربوبية خالقه لما تجلى له بأسمائه الحسنى وصفاته العلى،يقول الله تعالى: " وإذا أخذ ربك من بني آدام من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ؟قالوا بلى"[20]. اي أقروا على أنفسهم بأن الله الخالق هو الرب المستحق للعبادة،وهذا الإقرار عبارة عن ميثاق بين الخالق وبين الإنسان خاصة،دون سائر المخلوقات الأخرى،وهو إقرار عياني حضور روحي جرى في عالم الغيب،المختلف بطبيعة الحال عن عالم المشاهدة المادي،يقول طه :"فلئن كانت الروح،على طبيعتها اللطيفة،قادرة على أن تزدوج بالجسم في عالم الملك،فهي بأن تنفصل عنه في عالم الملكوت الذي هو عالم اللطافة الخالص أقدر؛ففي هذا العالم الذي هو من جنس الروح،حصلت المواثقة الروحية"[21].
  • مبدأ الإئتمان : ومقتضى هذا المبدإ،أن الله سبحانه وتعالى ابتلى في عالم الغيب،جميع المخلوقات،وذلك بعرض الأمانة عليهم؛"فأبت هذه الكائنات،حيّها وجامدها،حملها،إشفاقا منها،في حين اختار الإنسان حملها"[22] يقول الله سبحانه وتعالى مبينا حالة هذا العرض:"إنا عرضنا الأمانة على السماوات والارض و الجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان إنه كان ظلوما جهولا"[23]، ففي هذا العرض الثاني؛ واثق الانسان ربه بقبوله حمل الأمانة دون سائر المخلوقات الأخرى،إذ ينطوي هذا الحدث على أحكام لطيفة يستخلصها طه عبد الرحمان، يقول:"ومتى تأملنا هذا الحدث العجيب المحفوظ في فطرتنا، تبين أنه يتكون من عنصرين أساسيين هما:"الإختيارالأول" و"تحمل الأمانة"،إذ أن هذا الإختيار ينزل منزلة الشرط الذي يتوقف عليه إمكان تحمّل الأمانة"[24]، أي أن حمل الأمانة الإلهية من طرف الإنسان كان فعلا اختياريا حرا ليس فيه إكراه بمقتضى ما تستدعيه طبيعة العرض نفسها،"فلولا وجود هذه الحرية،لم يكن الانسان أن يؤتمن على شيء"[25]،يترتب على هذا إذا؛أنه لا أمانة بغير اختيار،ولا اختيار بغير حرية،ولا حرية بغير مسؤولية.
  • مبدأ التزكية:يمكن أن نقول بكثير من الجزم؛أن الإشكالية الأساس التي تنبني عليها الفلسفة الإئتمانية تتمحور حول مفهوم الإنسان واستشكال وجوده،وتعتبر هذه الفلسفة أن الوجود الإنساني الفعلي بدأ في عالم الغيب الملكوتي،وأما وجوده المادي الملكي فهو وجود تبعي؛ عبارة عن هبوط من العالم الأول،لذلك؛وجب ربط الصلة بين العالم الملكي والعالم الملكوتي لفهم وجود الإنسان وتحديد ماهيته وخصائص مكوناته، ومن ثمّة، تجديد تصورنا له؛ وذلك بربط حياة الإنسان بالعمل الديني الذي هو شرط ذلك التجديد،ولا تجديد معتبر بدون تزكية روحية،ولا تزكية من دون عمل ديني.[26]
  • خصائص العمل التزكوي عند طه عبد الرحمان:
  • أنه عمل عمقي، لا سطحي؛أي عمل نافذ إلى باطن الفرد،"ولا يلزم من ذلك أنه عمل داخلي خالص لا يرى له أثر في الخارج كالتفكّر،وإنما أنه عمل،متى تحركت به الجوارح الظاهرة،كانت آثار هذا التحريك نافذة إلى أعماق الكيان"[27].
  • أنه عمل كلي،لاجزئي؛فهو عمل يشمل كل الأجزاء والقدرات الموجودة في الإنسان،"بحيث يؤدي هذا العمل إلى تكامل مكونات الفرد وتفاعلها فيما بينها،إمدادا واستمدادا،على اعتبار أن ماهية الإنسان ذات لا تنفرق وكلّ لا يتبعّض"[28].
  • أنه عمل تحويلي،لاتغييري؛فلا يهدف العمل التزكوي إلى اعتبار تغيير سلوك الفرد فقط،بل يهدف إلى تحويله من مقام إلى مقام ومن حال إلى حال.
  • أنه عمل تثويري،لا تطويري؛فالعمل التزكوي يهدف إلى نقل سلوك الفرد من عمل إلى عمل غيره؛"كإنما يقلب سلوكه رأسا على عقب؛فما تعوّد أن يرفعه يأخذ في خفضه،وما تعود أن يخفضه يأخذ في رفعه"[29].
  • أنه عمل متصل،لا منقطع؛أي غير محدد بمدة زمنية معينة،فهو عمل دائم في الزمان والمكان.

هذه الخصائص الخمسة وإن كانت مفيدة في العمل التزكوي؛ فإنها لن تصل إلى مستوى التزكية الروحية المطلوبة حتى تأخذ بخاصيتين اثنتين هما:

  • خاصية التدرج:وذلك بإتيان الأعمال على قدر الطاقة؛دون الإنتقال من عمل إلى عمل إلا بعد الإستئناس به والتعود عليه حتى يصبح جزء من كيان الفرد.
  • خاصية السّلم:فالعمل التزكوي المبتغى؛عمل سلمي لا إكراه فيه،بحيث إن صاحبه يريد الوصول إلى معاني ومقامات وجودية وروحية وحقائق كونية ما كان ليصل إليها من قبل.

يتبين إذا؛أن العمل الديني بطريق التزكية الروحية،عمل شامل جذري يهدف إلى قلب سلوك الإنسان وتغييره في الإتجاه الذي يعود على صاحبه بمزيد من الفهم و الإرتقاء في مقامات ودرجات لم يكن ليصل إليها في غياب العمل التزكوي الروحي من جهة،ويهدف كذلك من بين ما يهدف إليه هذا العمل،إلى ربط الصلة بين العالم الملكي والعالم الملكوتي بما يحقق للإنسان  فهم ماهيته و حقيقته الوجودية من جهة أخرى.

خلاصات:

يمكن إجمال الخلاصات التي توصل إليها هذا العرض فيما يلي:

أولا: أن الرؤية الفلسفية لطه عبد الرحمان مبنية على مجموعة من المبادئ تأخذ شكل مسلمات في النسق الطهائي العام.

ثانيا: ينبغي مراعات المحددات اللغوية والعقدية والمعرفية في أي عملية فلسفية كشرط للفلسفة الإبداعية،فاعتبار المجال التداولي مسلمة لا محيدة عنها في الإبداع الفلسفي عند طه عبد الرحمان.

ثالثا: إن الفلسفة الإسلامية يجب أن تكون فلسفة نقدية، كمبدإ عام لكل فلسفة عملية تهدف إلى تقويم قولها وتقديم رؤيتها للإستشكالات الكونية التي تطرح نفسها على الإنسان المعاصر.

رابعا: تتحدد مراتب العقلانية عند طه عبد الرحمان بحسب قُرب أو بُعد الوسائل والغايات من الشرع الإلهي الإسلامي،فهي إما عقلانية مجردة أو عقلانية مسددة أو عقلانية مؤيدة. 

خامسا:  تقوم  المبادئ الأولية في الفلسفة الإئتمانية على الأصل التداولي الإسلامي الأول؛ في علاقته بمكونات المجال الأخرى لغوية وفكرية وواقعية بما تشكل في مجموعها في مجموعها؛ ب"الفلسفة التداولية".

سادسا: تعمل التزكية الروحية على إعادة ربط الوجود الملكي بالوجود الملكوتي،وبناء الأول على الثاني كالرّابط الموجود بين الأصل في علاقته بالتابع.

 

[1] الفارابي ، المنطق عند الفارابي ، الجزء الثاني ، ص 68-69- نقلا  عن طه عبد الرحمان ، تجديد المنهج في تقويم التراث ،المركز الثقافي العربي الطبعة الخامسة، 2016 الدار البيضاء المغرب، ص 245.

[2]  طه عبد الرحمان ، تجديد المنهج في تقويم التراث، ص،245.

[3]  طه عبد الرحمان،تجديد المنهج في تقويم التراث، ص، .246 .

[4] العقل عند طه عبد الرحمان ،"فعل من الأفعال مثله في ذلك مثل السمع ، الذوق والبصر والشم فهو واحد من الأفعال الادراكية" كتاب الحوار أفق للفكر، الشبكة العربية  للنشر والإبداع ،ط، 2014، ص، 41.

[5]  طه عبد الرحمان، سؤال العمل ، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المغرب،الطبعة الثانية 2002، ص، 16.

[6]  طه نفسه، ص، 36.

[7]  طه عبد الرحمان، سؤال الأخلاق، المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء المغرب،الطبعة السادسة،2016،ص،14.

[8]  طه عبد الرحمان، فقه الفلسفة-1-،الفلسفة والترجمة،المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء المغرب،الطبعة الرابعة ،2013،ص،53.

[9]  نفسه،ص،53.

[10]  الكورعبد الجليل،إفادات عبر موقع التواصل الإجتماعي مسنجر يوم 2 مارس 2019، على الساعة 20:37 مساء

[11] طه عبد الرحمان ، الحوار أفقا للفكر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة 1، ص 40

[12]  طه عبد الرحمان،سؤال العمل، ص،59.

[13]  نفسه، ص،64.

[14]  طه عبد الرحمان،الحوار أفق للفكر، ص، 41.

[15]  الاية 46، سورة الحج.

[16]  طه عبد الرحمان، الحوار أفقا للفكر، ص، 43.

[17] طه عبد الرحمان،الحوار أفقا للفكر،ص،48.

[18] نفسه،ص، 48.

[19] نفسه،ص، 48 .

[20]  الآية 172، سورة الأعراف .

[21]  طه عبد الرحمان،دين الحياء-1-، المؤسسة العربية للفكر والإبداع،بيروت،الطبعة الأولى،2017، ص،19

[22]  طه عبد الرحمان،روح الدين،المركزالثقافي العربي،الدارالبيضاء المغرب،الطبعة الثالثة 2013،ص،449.

 الآية72، سورة الأحزاب،[23]

 طه عبد الرحمان،روح الدين،ص،449 .  [24]

[25]  نفسه،ص،450

[26] الكورعبد الجليل،إفادات على موقع التواصل الإجتماعي مسنجر. يوم 21 أبريل 2019، على الساعة 20:27 مساء

طه عبد الرحمان،روح الدين،ص،265.[27]

نفسه،ص،265.[28]

 نفسه،ص،266.[29]

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟