الأستاذ - نورالدين غيلوفي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

أنفاسجلست إليه في المقهى وكان الوقت أصيلا..يدنو الليل من المدينة شيئا فشيئا.. و تزحف الظلمة لتلفّ العالمين بلباس شفاف يجد منه الحالمون نعيما.. أما من قست عليهم الحياة فالليل في المدينة هاويةٌ.. الداخل فيها مفقود والخارج منها مولود... غادرت الشمس إلى مخدعها  بعد عراك النهار و صار للأضواء شأن.. تنبجس من الظلمة وتلقي علينا ببريق خافت فتبدو الأجسام في مواقعها معتمة بطريقة يهتدي معها الكل إلى البغية.. يختار العشاق العتمة حتى يقضي من شاء مأربه ويروي من ظمئه.. ويبل ريقه بما يطفئ حريقه.. كنت ترى الفتاة كأنها القطة تظهر بعض مخافة ما دامت في العلن حتى إذا صارت إلى السكن سلك الطريق وسال الريق.. واحتبس الشهيق.. أما في دائرة الضوء فلا تكاد تجد سوى الرجال .. ليس لدى الرجال ما يدعو إلى الخوف أو ما يثير الريبة.. وليس في الأمر ما يمكن أن يُدبَّر بليل..بل ليس لأحد من الناس أن يدبِّر.. فقد ذهب المدبّرون جميعا وعمّ الوفاق.. واحتدم العناق..
كان جليسي أستاذي.. جلس وجلست ورحب ورحبت.. عرفته في الجامعة .. في القسم تحديدا.. لم يخف إعجابه بي.. يحتدم النقاش أحيانا بيني وبينه.. وليس لأحد من الطلبة أن يضيف إلى ما نقول شيئا..هو بعلمه وتجربته.. وباسمه.. وأنا بحماستي التي تحملني على افتراس الكتب افتراسا ما عاد لي الآن بعضه..



أجيئه في الحصة وقد تسلحت من المعارف بما جادت به عليّ الكتب التي أعاشرها ليلا وأسكر بعناقها.. وكم كان الصباح يهجم علي من النافذة وأنا متلبّس بالقراءة.. فيشكوني النوم إليه.. كان الأرق يساعدني في سهري متوحّدا.. أبحث عن أنيس بين الكلمات وفي طيّات المعاني.. يستفزّني الأستاذ في النهار فأهرع إلى الكتب ليلا أتوحّد بها من وحشتي.. وأملأ فراغي..
شرب الأستاذ من النبيذ.. فشرب النبيذ ماكان يبدو لنا داخل الفصل من رصانته.. راح يهذي بكلام كثير..
- ما كان ينبغي لك أن تحرجني يومها.. قرأت ما كتبت ولكني لا أجد الطريق إلى القول فيه.. لا أريد أن يستغلّ أحد اسمي ليركب مراكب ليس أهلا لها..ويضع قدمه في غير موضعها..
حسوت ما بقي من قهوتي دفعة واحدة وأحسست بجرعة زائدة من الإهانة.. أهذا هو أستاذ الحضارة الذي طالما امتدحته لصحبي ودافعت عنه بينهم حتى لقد اُتهمت في غير مرة بأني تابعه الأمين.. لقد كنت أدافع عنه بشراسة وأنفي ما كان يصلني عنه من سوء أخلاق و..
دفعت إليه بروايتي الأولى منذ ما يزيد عن شهر.. وانتظرته حتى كاد انتظاري يذهب بأملي.. قرأ الرواية نقاد من الوزن الثقيل وأبانوا عن إعجابهم بها.. ولكني لم أقنع منهم بما قالوا وهرعت إلى أستاذي عسى أن يجود عليّ بفصل القول.. وهاهو يصفعني ويردّني خائبا
ما الذي لم يعجبك في الرواية؟

همهم وقال في تلعثم
لم أجد بها ما يغري أو يستحق أن يُنشر .. اجعل منها التجربة الصفر التي لها ما بعدها..

كنا في حصة دراسية صباحية في أول أسابيع شهر رمضان..  وكنّا على حال من  يُحمل على التعلّم وقد أخذ منه السهر وسوء الطعام.. الحصة الدراسية في أولها.. سأل الأستاذ، وقد أخرج من جيب سترته السيجارة والولاّعة، من منكم يزعجه أن أُدخّن؟ لقي السؤال صمتا .. كأن أحدا من الحضور لم يسمع.. التفتّ لعلّي أجد شريكا على الجرأة فألفيت الرؤوس بلا رفعة.. تكلّمت فقلت
أنا.. يزعجني الأمر.. يا أستاذ...

بدت المفاجأة على وجه الأستاذ أمامي.. وبدا التفرس على وجوه الطلبة من حولي.. لم يصدّقوا ما سمعوا ولم يصدّق الأستاذ.. وصدّقت أنا..

أهذا أنت يا أمجد؟ أما كنت تدخّن من علبة سجائري في سالف الحصص.. أيزعجك أن أدخّن أم تراك...؟

ولم يتمّ الجملة.. أحسست في تمامها ما قد يجرحني أو يفضحه.. اختزل كل شيء في سجارة.. خرج من الفصل في غيض وصفق الباب من خلفه.. ورآه من مر به من الطلبة يدخن سيجارته في انفعال  كبير.. عاد إلى الفصل بعد نصف ساعة قضيناه في جدل.. ولم نتلكم في الموضوع من يومها.. وأسرّها في نفسه ولم يُبد لنا من الأمر شيئا.. وها هو الآن يخرج الخبء وقد جاء أوان الحساب.. أنا لم أكن من الصائمين يومها ولكني رأيت في جرأته على الملأ اعتداء وإهانة رأيتني أشرب من كأسها بعد حين..

انتظرت حتى استكمل مقطع الهذيان.. ثم تركته إلى النادل.. دفعت ثمن قهوتي وهممت بالخروج.. صاح من خلفي

تعال يا أمجد.. ليس معي ثمن النبيذ الذي شربت..

مضيت في سبيلي.. لم ألتفت حتى إليه.. تضاءل حجمه عندي حتى لقد ذهب النسيان بحقه عليّ.. ما كل من علمني حرفا صرت له عبدا..

نورالدين غيلوفي- تونس

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة