حرامي حديقة حيوان - مجدي السماك

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

أنفاساسمه أمين ، في مرحلة المراهقة من دورة حياته . جسمه نحيل كدودة القز ، وجهه رفيع دقيق اسمر كقرن الخروب ، يبرز من رأسه انف طويل حاد مدبب كالمنقار ، ساقاه رفيعان ضعيفان كعصوان من الخيزران ، حملاه إلى بوابة حديقة الحيوان الواقعة في طرف المدينة .. الدخول بتذكرة غالية الثمن ، ليس بمقدور الفقراء تحمل عبئها ، وهو في غاية الفقر أو هو الفقر ذاته .. جمهرة خفيفة على البوابة لناس ملابسها نظيفة و مرتبة بدقة كأنها ذاهبة إلى حفل موسيقي ساهر، انتقوها لتليق بمناسبة الدخول إلى حديقة مليئة بالحيوانات الضارية والأليفة و الطيور .. على البوابة يقف حارس جسمه ضخم مثل البقرة الهولندية ، عضلاته مفتولة بدقة كأنه فتلها ونسقها عضلة عضلة .. داخل و خارج الحديقة ينتشر رجال أمن لمنع الشغب و الحفاظ على حياة الزوار و الممتلكات .
حين وقعت من فم أحد الزوار قطعة حلوى تزحلق بها الحارس فوقع أرضا، استغل أمين الجلبة و تسلل من وسط الزوار ، لم يلحظه الحارس ورجال الأمن فانطلق داخل الحديقة مسرعا ككلب السلق ، لفت  انتباهه القرد الذي ينعم بالموز الكثير داخل قفص حديدي كبير، يرمي الناس الموز إليه بفرح فيلتقطه  بسرعة مسرورا ، و يقذفه بفمه الواسع كمن يحرز هدفا في لعبة كرة السلة.
أخذ أمين يحدق بالقرد ويحسده على هذا النعيم ، وهو متشوق لأكل الموز الذي لا يستطيع شراءه  حتى بالأحلام ، تمنى أن ترمي الناس له بالموز ، أو أن يصبح مكان القرد في القفص .



اقترب أمين من القفص بمزيد من الخطوات الحافية ، حدق في القفص و نَّفذ ما جال بخاطره طوال الوقت ، أو ربما نَّّفذ هدفه من القدوم إلى حديقة الحيوان الكبيرة الواسعة .. تسلق بجسمه الصغير قفص القرد .. أخذ القرد ينظر إليه مستغربا و فرحا في الوقت نفسه ، أومأ للقرد بحركة من يده جعلته يقترب قليلا .. بسرعة مباغتة نتش قرن الموز من يد القرد و قفز للخلف قفزة كبيرة أوقعته أرضا ، و بسرعة مذهلة قشر الموزة و ازدردها قبل افتضاح أمره من قبل الحراس و رجال الأمن ، زعق القرد غاضبا .. غرق الزوار بالضحك .
لمحه الحارس و اقبل عليه مسرعا وأمسك به من تلابيبه ، ثم أخذه وسلمه للشرطة .. باشر ضابط الشرطة التوبيخ و التحقيق مع أمين .
الضابط : إذن أنت سارق يا وقح ؟
أمين : أنا لم اسرق من الزوار خشية الحرام و العقاب ، إنما سرقت الموزة من يد القرد .
الضابط : الله يخرب بيتك ، كلها سرقة يا حرامي .
أمين : لا بيت لديَّ كي تدعو لي بخرابه ، و أنا لست حراميا .
الضابط : وصلت بك دناءة النفس أن تسرق موزة من قرد ؟
أمين : هفت نفسي على الموز يا سيدي ، و أنا لم آكله منذ زمن طويل .. اقسم لك أنني لم اخطف الموزة إلا بعد تأكدي أن القرد قد أكل الكثير منه حتى خفت أن يصاب بالتخمة .

شعر الضابط بأعماق نفسه أن القضية محيرة و عويصة ، فهو متعود أن يحقق مع حرامي يسرق من إنسان ، و لا يعرف الوضع القانوني لقضية مثل هذه ، أول مرة في حياته يمر عليه قضية من هذا النوع ، و صار يشك إن كان أمين سارقا أم لا ، من وجهة النظر القانونية ، في الوقت نفسه يحس بأن خللا ما قد حدث .. مما دفعه إلى تحويل القضية لزميله الأكثر منه خبرة و دراية .

فات أمين إلى غرفة ضابط آخر اسمه حازم ، ما أن وقف أمام الضابط حتى صرخ به بصوت قوي مرعب : قف معتدلا و أغلق أزرار قميصك . فرد عليه أمين قائلا : قميصي تقطعت أزراره منذ شهر يا سيدي .. شفط الضابط شفطة عميقة من غليون بيده اليسرى .. ثم تابع الكلام .

اسمك و سنك : اسمي أمين ، أربعة عشر عاما .
الضابط : أين تسكن ؟
أمين : أحيانا في الشارع و أحيانا في المقبرة .
الضابط : لمّ سرقت موزة من القرد ؟
أمين : هذه ليست سرقة يا سيدي .
الضابط : ماذا هي إذن ؟
أمين : لا اعلم يا سيدي ، و لكن القرد أكل الكثير من الموز .. احسبه تبرع لي بها .
الضابط : و ما شأنك أنت إن كان القرد قد أكل كثيرا أم قليلا ؟
أمين : نفسي أتذوقه  و لا استطيع شراءه .
الضابط : أنت خربت السياحة في البلد .. و قدمتنا بشكل قبيح أمام الأجانب ؟
أمين : أنا هنا لأن البلد من الأصل خربانة ، الجوع أكثر قبحا من السرقة يا سيدي .
الضابط : أنت تضرب الاقتصاد الوطني ؟
أمين : الفقر يضرب شعبا بأكمله . ثم أردف : أنا في حيرة يا سيدي ، إن سرقت من احد الأغنياء لا يعجبكم ، و إن خطفت طعامي من الحيوانات لا يروق لكم أيضا .. كيف أعيش في هذه الدنيا .
قال الضابط موبخا : أنت دخلت حديقة الحيوان دون تذكرة ؟ هذه جنحة تعاقب عليها.
قال أمين : الزائرون يدخلون الحديقة للاستمتاع بمشاهدة الحيوانات ، أما أنا فأستمتع بما يتبقى وراءها من طعام .. أنا لا استمتع بمشاهدة الحيوانات ، بل إني سئمت رؤيتها .

في هذه الأثناء دخل الفراش يحمل فنجان القهوة للضابط .. ما أن رأى أمين حتى عرفه وصاح قائلا للضابط : هذا الفتى صاحب أسبقيات يا سيدي ، قبل عدة شهور امسكوا به و هو يسرق اللحم من قفص الأسد . غرق الضابط في ضحكات رنانة كالصهيل حتى كاد أن يختنق بها ، اخذ يكح ثم حدق بأمين بنظرات حائرة متعجبة و أردف قائلا : كيف سرقت اللحم من قفص الأسد ؟

فقال أمين بارتباك : أخشى أن تعاقبني عليها بشدة يا سيدي ، فبدل القضية أصير بقضيتين .
فقال الضابط وهو يبتسم : لا تخف ، إن أعجبتني طريقتك فسوف أعتقك .. شعر أمين بدفقة أمان تلوح من وجه الضابط ، أحس بفطرته عجز الضابط عن الإمساك به مجرما أو مخطئا .. الضابط مزاجه رائق جدا بسبب الحشيش الذي حشا به غليونه .
فقال أمين : أقف كالتمثال قرب قفص الأسد ، انتظره حتى يشبع و يملأ بطنه باللحم ، بعد ذلك أتسلق القفص و اقفز إلى الداخل ، ثم آخذ بلملمة ما تبقى وراءه من فتافيت لحم طازج .. و لمّا اخرج اشويها على الحطب قرب المقبرة .
الضابط : ألا تخشى أن يفترسك ألأسد يا أحمق ؟
أمين : لا يا سيدي . فهو شبعان ، بل كان ينظر إلىَّ بإشفاق و رحمة .

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة