الفجوة الرقمية – نور الدين بيلا

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

أنفاسوأخيرا حصلت على رخصة استثنائية لنصف يوم حتى أتمكن من إيداع رسالة بالبريد المضمون في مكتب البريد المركزي ،استيقظت باكرا لأكون في أول الطابور تفاديا للازدحام،والتدافع،واللغط في الكلام ،ولأستمتع بما يتبقى لي من رخصتي الاستثنائية، وبالفعل كنت في موعد الحدث،فاجأني بهو المكتب الفارغ إلا من موظفين يتوسدون أدرعهم،فقلت الحمد لله سأتمكن من إنهاء المهمة في زمن قياسي لأتفرغ لنصف يومي الاستثنائي .بحثت عن وجهتي في اللوحات الالكترونية المعلقة فوق المكاتب فوجدتها تتفق على عبارة واحدة "مرحبا بزبنائنا الكرام"،سررت بهذه العبارة التي تحترم الزبون،وتوجهت إلى أٌقرب مكتب وطلبت،بحماس مستعجل،من الموظف مباشرة الترتيبات بعدما قدمت له رسالتي وهممت بدفع واجب الطابع البريدي فقاطع استرسالي فقال،وعينيه تنمان عن الاستهجان والإحساس بالمهانة ،ماذا رسالة بالبريد المضمون؟!!.وما أن نطق الجملة حتى بدأت رؤوس الموظفين تشرئب من وراء المناضد وكأنها تتعرف على مخلوق غريب ،وبدأ التهامس بين الموظفين بغمغمات كسرت جو الرتابة السائد،فخرج موظف من مكتبه مستنكرا هذا الضجيج،فتقدم موظف هامسا في أذنه والتف حوله الباقي وكأنهم يشكلون خلية للتشاور في النازلة ،وفي كل مرة يرمقني أحد الموظفين ،تم توجه الموظف رئيس الحلقة نحوي، بعدما أفسحوا له الطريق،دون أن يتوقف عن تفحص رسالتي،وأخذ يحذق في بعينين ماكرتين في وضع احترازي وكأنه يتهيأ للأسوأ ، فقدم لي نفسه على أنه الرئيس المسؤول عن مكتب البريد هذا وشد دراعي برفق وأزاحني بعيدا عن الموظفين في زاوية منعزلة فقال لي:
ـ ماهذا التأخر والتخلف؟! ،كنت أظنك في البداية جئت مازحا أو مستفزا للموظفين ،ولكن تبن لي من هيأتك وصرامتك أنك جاد في طلبك.
ـ وأين التأخر والتخلف في طلبي هذا؟
ـ أما زلت تعاند؟!!، ألا تعرف أنن نعيش عصر الثورة الرقمية ؟



ـ وما علاقة ذلك بطلبي؟!!
ـ سبحان الله ، يظهر لي أنك لم تشرف مكتبنا هذا منذ مدة طويلة ، وحتى أختصر عليك الطريق أٌقول لك أن الرسائل الورقية قد انقرضت ، وأصبحت جزءا من التاريخ ، والرسائل تبعث الآن عبر البريد الإلكتروني عبر الحاسوب وبواسطة الشبكة العنكبوتية إن كنت تعرفهما.
أحسست بدوار أمام هذا السيل من المصطلحات التي لا قبل لي بها ،وقاطعته قائلا:
ـ أستسمحك على قطع كلامك ، هلا وضحت لي أكثر من فضلك؟
استحسن الطلب وعدل ربطة عنقه ،ثم أخذني إلى جهاز يشبه التلفاز، واسترسل في سرد فضائل هذا الجهاز الذي يسميه الحاسوب وما يوفره من خدمات معقدة في زمن قياسي كان يعجز أمامها الموظف أو تستغرق منه وقتا طويلا ناهيك عن الدقة في الأداء بعيدا عن الأخطاء البشرية التي تعطل مصالح المواطنين ،وضرب لي مثلا بالرسالة التي كنت أهم بإرسالها فهي تستغرق أياما وغير مؤمنة في حالة ضياعها أو إذا كانت وجهتها غير صحيحة ،مع ما تستهلكه من هدر مادي وبشري، في حين أن الرسالة الرقمية لا تتطلب إلا دقائق معدودة وتصل صاحبها بمجرد الضغط على زر الإرسال،وأخبر فورا بنجاح الوصل من عدمه.ثم واصل قائلا:
ـ دعك من كل هذا ، هل تتوفر على حساب بنكي؟
ـ إني أستخلص حوالتي من الخزينة العامة ، فأجرتي المتواضعة لا مكان لها في البنك ، فهي تصرف قبل تحصيلها.ثم أن وضعي داخل البنك سيكون محرجا وأنا أسحب أجرتي عن آخرها دون أن أترك مصاريف الخدمات البنكية .
قاطعني وهو يداري ابتسامته المتهكمة قائلا:
ـ يا أخي التطور التكنولوجي يعم كل المرافق من إدارات وأبناك ومؤسسات القطاع العام والخاص، ونحن نوفر خدمة بنكية لأصحاب الدخل المتواضع وعلى مدار الساعة واليوم والأسبوع والشهر والسنة ،ليلا ونهارا،وحتى في العطل والأعياد ، وكل ذلك بواسطة بطاقة بنكية تشبه بطاقة تعبئة الهاتف المحمول.
فقاطعته قائلا:
ـ وهو أيضا لا أتوفر عليه، فميزانيتي لا تسمح بذلك.
فأخرج بطاقة أنيقة من جيبه ثم قال:
ـ بهذه البطاقة يمكن أن تجري عمليات بنكية انطلاقا من الشباك الأوتوماتيكي الموجود خارج المكتب البريدي في أي وقت تشاء،تسحب النقود، وتتعرف على رصيدك،وقد تؤدي بها مشترياتك في المتاجر التي تدعم هذه الخدمة،وكل ذلك في وقت وجيز .
ـ هذا عمل مذهل!، هذه هي العبقرية!هذا هو العلم!
فعقب وهو يتصنع التواضع:
ـ لا تهول الأمور فهذا من أبسط ما تقدمه الخدمات المعلوماتية.
ـ فهل يمكن أن أحصل على هذه الخدمة البنكية في وكالتكم البريدية؟،فعلى الأقل أتخلص من حرج سحب حوالتي ،وازدحام الطابور ،و شخط الموظف ، بل يمكنني أن أسب وألعن الشباك بكل حرية عندما لا يستجيب لطلبي دون أن أتابع بتهمة إهانة موظف .
قاطعني مرحبا :
ـ نعم بكل سهولة ، فالإجراءات بسيطة لا تتطلب إلا بطاقة التعريف ورقم تأجيرك ،وتوقيعك المحترم.
ـ ماذا تنتظر إذن فخير البر عاجله؟
ـ نعم ، ولكن انتظر حتى يأتي التقني لإصلاح الحاسوب المعطل منذ يوم أمس، فقد راسلت السيد المندوب الذي راسل الإدارة المركزية والتي عينت مهندسا تقنيا لإصلاح العطب وهو على وشك الوصول، فكل هؤلاء الناس ينتظرون وصول المهندس التقني بفارغ الصبر.
فالتفت حيث أشار فرأيت ركاما بشريا متحفزا وكأنه ينتظر إشارة الانطلاق.ثم عدت أتملى بالحاسوب العجيب ،وسألت الموظف عن كيفية اشتغاله وأداء مهامه. فأجابني بحماس أن هناك برامج خاصة داخل الحاسوب تؤدي الأوامر المطلوبة وبمجرد توصيل الحاسوب بالطاقة الكهربائية حتى يبدأ في الاستجابة الفورية لطلباتي.
ـ وهذا الحاسوب يعمل أيضا بالطاقة؟
ـ نعم ، فالطاقة الكهربائية ضرورية لكي يعمل .
ـ ولكن حاسوبك غير موصول بالمقبس الكهربائي، فكيف سيعمل إذن؟
نظر الموظف إلى موضع المقبس وعدل على الفور سلك الحاسوب الكهربائي فانطلق خرير يشبه قرقرة مصاريني عندما يشتد بها الجوع، فظهرت الصورة على شاشة الحاسوب، وانطلق صوت صفير من مكبر الصوت .
صاح الموظف بفرحة طفولية لقد شغلت الحاسوب! الحاسوب اشتغل!.فتعالت التصفيقات وتقاطر الموظفون على رئيسهم يهنئونه على هذا الإنجاز المتميز.ووسط هذا الجو السعيد رمقت موظفا منزويا ينظر إلي بأسف وحسرة ،ربما ضيعت عليه مزيدا من الراحة المؤدى عنها .فهممت بالإنسحاب في صمت وأنا أشد على رسالتي التي أصبحت تحفة تارخية حتى لا تضيع مني وسط جموع الناس المتدفقين من كل صوب بشكل هستيري ،وأنا أسرع الخطى حتى لاتلفق لي تهمة إثارة الشغب .

 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة