مد وجزر – قصة : فاطمة الزهراء الرغيوي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسكان البحر يرتمي تحت قدميّ موجة، موجة. و بين كل واحدة وأخرى، يتراجع. تركت ملح الماء يتسرب إليّ من حذائي الخفيف،  شيئا فشيئا. كأنه يتذوقني. كل موجة تستبيح قطعة جديدة من جسدي.. استيقظت باكرا ذلك اليوم. انتقلت بخفة من سريري إلى يوم جديد. انتقلت بخفة من ساعة إلى أخرى. تعلقت بالأمل  طوال اليوم. كيف وصلت إلى هذا الشاطئ؟ كيف انتقلت من النقيض إلى النقيض؟
درس تلو آخر، أتعلم في كلية الحقوق، مبادئ الحريات وحدودها.  لم أدرك انه سيكون علي أن أواجه حدود حريتي بتلك السرعة! تعلمت مذ كنت طفلة أن أتحايل لأحصل على قطعة خبز أكبر، ثم لأحصل على درس إضافي، ثم لأحصل على فستان أو حذاء.. وزعت ابتساماتي وبعض الغنج هنا وهناك.. لم أكن أتجاوز حدود الآخرين، كنت فقط أوسع حدودي. أستاذ القانون المدني، لم يكتف بالغنج. لم تشبعه ابتسامتي.. على مكتبه، توغل في أنوثتي باحثا عن سري الدفين.. صددته مرات عديدة، لكنه ذلك المساء تحين اللحظة جيدا، وحاصرني على مكتبه، دفن رأسه في صدري باحثا عن حليب يطفئ ظمأه. أمسكت رأسه بكلتي يدي ورفعته لأعلن اعتراضي لكنه طار إلى شفاهي يعضهما.. أشعرني وخز شاربه الكثيف بالغثيان، أردت أن أتراجع ثم كان أن تبادرت الفكرة إلى ذهني.. ألستُ امرأة حرة؟ ألست أعلن لكل من يرغب في الاستماع، أنني المالكة الوحيدة لجسدي؟ ألست التي تحتقر ذلك الغشاء الغبي الذي يحد حريتي؟ فلم لا أمنحه لهذا الرجل المتعطش مقابل ثمن أحدده؟
دفعته بصرامة أكثر وواجهته:
تريدني؟ سأسلمك جسدي، لكن عليك أن تدفع المقابل..
لقد وعدتك بالعلامة، رد بصوت متهدج.
ثمني أكثر من علامتك، أريد أن تؤطر بحثي.. أريد الحصول على شهادتي دون عراقيل.
بعد اخذ ورد، تم الاتفاق. وعادت جثته تبحث عن إكسير انوثتي  علّه يعيدها إلى الحياة. تركته ينزع عني ثيابي وحاولت أن أسايره، أليس خياري؟ غرست أظافري في لحمه المترهل، بينما دس جسمه بين فخذي. راودني بعض الأسف، ثم قررت أنني لن أوليّ الأمر أهمية مفتعلة. قررت أن أصنف اللحظة في خانة تبادل المصالح وأن لا أتذكرها إلا تحت هذا العنوان.
وانطلقت أبحث عن فرصة أخرى أقتنصها. مقابلا بمقابل، أقوي حظوظي للحصول على الشهادة الجامعية وربما عمل. ذلك اليوم لم يكن مفترضا أن يكون مختلفا. كنت في مكتبة الجامعة حين شعرت بالدوار.. خفيف في البدء. اعتقدت انه نقص في الغذاء فأنا لم أتناول إلا بعض البسكويت مع كأس الشاي صباحا. لكن حالة الدوار ازدادت سوءا. وجدتني أواجه نظرة تعاطف من الطبيب، سرعان ما داراها امام نظرة التوبيخ من ممرضته.
منذ متى أنت حامل؟
حامل؟ وكأنه سيغمى عليّ مرة أخرى، تمسكت بطاولة الفحص. حامل!
غالبت شعور الإعياء لأبحث عن حل. فجأة كانت الحدود تضيق علي الواحد تلو الآخر. تمسكت بذراع صديقتي منى، وعبرت الساحة الجامعية ذهابا وإيابا ابحث عن أب محتمل للطفل الناشئ في بطني. ذهبت أولا إلى أستاذ القانون المدني..
لا ترميني ببلواك، لقد نفذت اتفاقنا، ستحصلين على شهادتك بدرجة امتياز.. لكِ أن تتخلصي مما ببطنك دون أن تزعجيني.. ثم هل أنت متأكدة انه لي؟
خرجت من مكتبه ابحث عن الآخرين.. واحدا تلو الآخر تملصوا من أي مسؤولية. مدير شؤون الطلبة الذي دبر لي سكنا بالحي الجامعي، ألقى بالقشة التي قصمت ظهري:
إذا لم تتصرفي، سأعلن الخبر، وأتحقق بنفسي من طردك من الجامعة.. سأكون كريما معك وأساعدك بمبلغ لتتخلصي من ذلك الطفل..
ومد يده لجيبه ليخرج محفظته بينما تراجعت بهلع إلى الباب.. شعرت بالدموع تنهمر على وجهي. لستُ بائعة هوى! أنا امرأة اختارت أن توسع حدودها الضيقة. لم أتعد على حدود الآخرين..  لحق بي إلى الباب ودس مبلغا ما في حقيبتي:
إنني أسديك النصيحة. لا تترفعي عن هذا المبلغ، وطالبي عشاقك بالمساهمة وأكملي حياتك..
وجدتني أجر خطواتي وحيدة، إلى البحر بعد أن تخلت صديقتي عني، فهي لم ترغب في تعريض سمعتها للخطر. وجدتني أواجه البحر، أغمس فيه قدماي أتذوقه ويتذوقني.. أردت أن أتوارى فيه.. أن يحملني خارج قفصي إلى الموت. للحظة تصورت أنني أستحق أن أضع حدا لحياتي لأتجاوز الحدود التي تحيط بي من كل صوب.. أليس هذا الجسد لي؟ ألست حرة في امتلاكه بالطريقة التي تناسبني؟ لم لا يمكنني أن أكون مساوية في رد الفعل كزميلي سمير الذي ينتقل من طالبة إلى أخرى دون خشية من العواقب؟
وأحاول تلمس بطني، فأجده أملسا كعادته. هذا الطفل المتطفل على حريتي، أهو الضحية أم أنا؟ وأخطو خطوة أخرى لأنغمس أكثر في المياه الباردة. وتلاقيني أمواجه ثم تتراجع المرة تلو الأخرى.. اقترب فتبتعد وأتوقف فتدنوا أكثر.. ثم تغمرني المياه أكثر، تصعد متلمسة طريقها إلى جسدي بأكمله. تغمر ركبتي، أشعر بالماء يدغدغني، أشعر بالإثارة، أتذكر الأيدي التي تبعت ذات الطريق.. أتذكر رعشة انتابتني وأنا أوسع حدودي.. أمد يدي كأنني سأدفع بالماء، كأني سألاعبه.. وأجده قريبا مني، اقرب.. أشعر به يلامس مثَلثي، فأنتفض!
لا! لن أموت اليوم..

فاطمة الزهراء الرغيوي
تطوان- المغرب


تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة