يـقـظة غريزة – قصة : د. إبراهيم ياسين

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسكان يجلس على كرسي بلاستيكي أمام محل بقال الحي ، تمر الفتاة الصغيرة أمامه لتشتري بعض الأغراض ، يتأملها محدقا وعقله مشغول تتقاذفه الأفكار كيف تشاء ، تساءل كيف أمكن لهذه الصبية وهذا الوجه الطفولي أن يثيرا انتباهه بهذا الشكل الملح . التفت إلى البقال يسأله عن هذه الطفلة التي خرجت للتو من المحل بدعوى أنه اكتشف في ملامحها ما جعله يعود إلى الوراء لسنوات مضت ، ليسترجع بعض الصور التي خزنتها ذاكرته ، ولم تصل إليها آثار التعرية وعوامل النسيان . أجابه البقال بأنها ابنة صديقه القديم السيد جابر . لحظتها تراكمت في ذهن صاحبنا صور وذكريات تلاحقت بشكل جنوني لم يستطع أن يوقفها . عادت به الصور إلى سنوات مضت كان يحمل فيها الطفلة وهي صغيرة ، ويضعها في حجره . كانت كلما رأته تناديه : عمي . قال للبقال : أتعلم أن هذه الطفلة كانت صغيرة جدا حين كنت أشتري لها قطع الحلوى . أجابه البقال : يا أخي لقد مرت سنوات طوال ، فإذا كان ما تحدثت عنه دقيقا فإن الأمر يعود على أقل تقدير لأكثر من عشر سنوات .
هاهي تعود إلى محل البائع ، ربما لأنها نسيت شيئا جعلها تضطر للعودة . ناداها ، التفـتت إليه ثم أكملت مسيرتها نحو المتجر ، كرر النداء ، فأطلت برأسها من باب المحل ، تأملته طويلا قبل أن تصرخ : عمي . دنت منه كثيرا : أعذرني لم أكتشف ملامحك في البداية ، فضلا عن أنه مر وقت طويل منذ آخر مرة رأيتك فيها ، على فكرة أين كنت طوال هذه السنوات ؟ والله يا عمي ، صدقني ، لقد اعتقد البعض أنك مت خاصة وأن اختفاءك كان مفاجئا وبدون سابق إعلام . 
 أجابها بنبرة فيها من الحزن ما يكفي لأن تترقرق معها دمعة ، وتتلوها أخرى ثم ليستسلم بعدها للبكاء : يا بنيتي ، الحديث طويل وذو شجون ، وسرد الحادثة يحتاج إلى وقت طويل ، أشك في أنه متيسر الآن ، لكن على أي حال ، أما زلت تذكرين أنك كنت تجلسين في حجري ، وتقدمين لي قبلة فيها دفء غزير ومحبة غامرة ؟ والله لقد اشتقت إلى حنانك الطفولي الدافئ ، تعالي اجلسي ، ترددت الطفلة أكثر من مرة . يا عمي لم أعد صغيرة كما كنت ، أنا الآن ثقيلة زيادة على أن الأمر لم يعد لائقا . ألح عليها بشكل جعلها تستسلم أخيرا . ورغم أن الرجل كان يعاني من ثقلها على عظامه إلا أنه أحس بمتعة غريبة تسري في جسمه . بعد لحظة اكتشف أنها لم تعد تلك التي كان يحملها في حجره بل وكان يحملها في بعض الأحيان على كتفيه يجوب بها أزقة المدينة القديمة . تغيرت كثيرا ، لكنه لم يكن ليصدق لولا أنه رأى وأحس ، لقد كان أسفلها أكثر دفئا وأكثر رطوبة . حاول أن يضمها إلى صدره كما تعود أن يفعل ، فجأة أدرك أن صدرها أصبح منتفخا ، لقد أصبحت ناهدا ، رائحة الأنوثة تفوح منها بشكل هز كيانه ، تحركت بعض أعضائه الأمر الذي جعل الفتاة تقفز وقد احمر وجهها خجلا ، ماذا تفعل يا عمي ؟ حاول الرجل وهو تحت تأثير الدهشة أن يزيل أي لبس . تعالي يا بنيتي لا تخافي . لم تملك الفتاة إلا أن أسرعت بدعوى أن عليها أن توصل إلى بيتها ما كانت أمها قد كلفتها بإحضاره . جلس صاحبنا وقد غاب عن الوجود ، مضى وقت طويل لم يلمس فـيه أنثى ولا شم رائحة الأنوثة ، منذ أن فارقته زوجته ، الأمر يعود إلى أكـثر من عشر سنوات . لقد كان موتها هو السبب في مغادرته المفاجئة للحي ، فقد كانت صدمة الفقد شديدة لدرجة أنه لم يقدر معها على البقاء . وها هو الآن يعود وقد تغيرت الأشياء أصبح الحي غير الحي ، والناس غير الناس . وهل كان من المعقول ألا تـتغير الأشياء . التغير سنة الحياة . الآن فقط أدرك : أن ثمة قانون يعمل على أن لا يبقي شيئا كما هو أو كما كان . استمرت غيبـوبته لحظة ، والحقيقة أنها لم تكن غيبوبة بالمعنى العادي أو بالمصطلح الطبي . إنها أقرب ما تكون إلى هروب اضطراري ، هروب نفسي إلى لحظات النشوة والعبق ، إلى نسيم الماضي العطر ، بعد أن استسلم لنشوة أحلام اليقظة قرر أن يغير الوضع . قام من مكانه وتوجه صوب منزله ، نادى بأعلى صوته : حسن ، نادية ، رشيد ... أجابه أكبر أبنائه ، نعم يا أبي ، لماذا تصرخ ؟
  قال بصوت صارم : تعال يا بني ، بعد صلاة العشاء ، أريد أخوتك وأخواتك في البيت عندي . لدي أمر هام أريد أن أخبركم به . قال ابنه الأكبر : خيرا يا أبي ماذا حدث ؟
ـ في المساء ستعرف كل شيء ، افعل ما قلت لك وكفى .
ـ حاضر أبي سأخبر الجميع .
في المساء حضر الجميع إلا الأب ، لقد تأخر . كانت الهمهمات والهمسات تسير في كل اتجاه ، ماذا عسى أبي يريد أن يخبرنا ؟ هل وافق أخيرا على أن يبيع المنزل ويسكن مع أحدنا ؟
كان أبناؤه وبناته بعد زواج الجميع قد انتقلوا ليستقل كل واحد بمسكن خاص في طور البناء .    
كانوا قد ألحوا عليه في أن يبيع هذا المنزل الكبير ويقسم بينهم المال حتى ينهي كل واحد منهم منزله ، على أساس أن يسكن هو مع أحدهم أو يتناوب على زيارتهم ، أسبوع لكل واحد . كان يرفض بشدة بدعوى أن هذا بيته وبيت المرحومة ، وأن أبناءه ما عليهم سوى الاعتماد على أنفسهم في إتمام مشاريع البناء . ألم يكفهم أنه ضحى بحياته وماله ووقته من أجلهم ؟ أم أنهم استخسروا فيه هذا البيت الذي يذكره بأيام الهناء كما يسميها . كانت الأفكار تنساب بالأبناء والبنات في كل حدب وصوب .
ها هو فجأة يطل عليهم ، صمت الجميع مترقبين ماذا سيكون الشأن.
قررت الزواج لذا عليكم أن تبحثوا لي عن زوجة . كانت الصدمة كبيرة ... تسمر الجميع في أماكنهم ، لم يدروا ما يصنعون ، حاولوا إقناعه  بالعدول عن فكرته دون جدوى . أصر الأب الكبير على موقفه . لقد كان ما حدث له مع الفتاة هزة أيقظت عنده مشاعر وأحاسيس وغرائز كان قد اعتقد أنها ماتت منذ زمان . ألحت عليه الفكرة فلم يستطع غير الاستسلام كما لم يجد أبناؤه سوى الرضوخ .  
تزوج الأب وولد له من زوجته الثانية خمسة أبناء ، لذا قرر أهل الحي على سبيل البسط أن يلقبوه ب " الخمًاس ".
  د. إبراهيم ياسين .     

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة