الجسر – قصة : حميـد ركاطة

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاس-1-
    ... و هي تحتضر في سرير النهر ، أدركت " ايـزة " في النهاية أنها تدفن أسرارها للأبد ، و ما سقط سهوا كانت ترشفه و قطرات الندى ، تبتلعه بحسرة ... فتتحول ذاكرة القرية إلى صفحة بيضاء ، لكنها مخدوشة ، و في حاجة إلى إعادة كتابة تاريخها و مجدها الآفل ... رأت طيورا بيضاء محلقة في الأعلى ، و بقربها نبتت عشرات الجثث و البنادق مصوبة طلقتها نحو الغزاة ... شعرت برحابة الأرض و سماحتها و بهطول أمطار بعد طول سنوات عجاف ... رأت أزهارا تشرئب معانقة نور الشمس ، و الحرية ... سمعت زغاريد تعلو مكسرة سبات ليل طويل ... رأت علما ينكس ، و آخر يعلو خفاقا و جنودا يعبرون الجسر الملعون ، خارج القرية دون رجعة ... أغمضت عينيها و رحلت مطمئنة مبتسمة
-2-
 تحت الجسر ، اختفت كل معالم الحياة ، بقايا جذوع أشجار يابسة ، و هو كل  ما استقبله قبيل اجتياز إلى القرية .
في  أعلى التلة كان مسكن مقدم القرية لا يزال منتصبا كبرج مراقبة قروسـطي ، و فجأة فتحت نوافذه ، و بدت منها هامات صغيـرة ، علا صراخها ، و غير بعيد منه ، تعالى نباح كلاب صاخب ، و حدها كعجوز كانت جالسة القرفصاء مسندة ظهرها لسور شبه متداع ، قرب منزل صغير ، حيّت الوافد الجديد ، لكنه تجاهلها ، و هو يتابع سيره متسائلا : << أما تزال لعنة هذه الشمطاء تلاحق القرية ؟ >> فكر في التوجه نحو بيت كان له ذات يوم بها ، فعدل عن الفكرة بسرعة ، متذكرا أن لا شيء كان رحيما به ، و بأسرته لقد قتلوا جميعا و أصبحوا مجرد نكرة في ذاكرة النسيان .

  أحس بدوار غريب و برعشة تجوب أعماقه تزاحمت الصور بمخيلته ، سمع طلقات رصاص ، و صراخ نساء ، و أطفال ، رفع يده نحو السماء ، داهم عينيه نور الشمس ، تشتت الصور أمامه شعر في داخله بغصة كبيرة ، و بمغص شديد ، سمع حوافر جياد تمر غير بعيدة منه ، مثيرة نقع غبار أحمر ،
مسح عينيه فجأة ، بدت له الطريق تحتفل بالسراب ... صرخ : أمـي !!! أمـي !!! أبـي !!! ...
 و فرقة من الخيالة مدججة بالأسلحة ، كانت تبيدهم بوحشية ، أمام مرأى و مسمع كل سكان القرية الذين كبل الصمت و الخوف ألسنتهم ... مسح المكان ، و هو لا يزال يسترجع شريط ذكريات أخرى ، أبعد زمنا ، مرر راحة يده فوق جدع الشجرة ، تراءت له صور طفولته المغتصبة ... لا مس أول الحروف التي نقشها هناك ، و غير بعيد منها ، كان اسمه داخل قلب كبير لا يزال غائرا كالجرح المثخن ، بكى بحسرة ، و خالجه إحساس غريب جدا ، لأول مرة في حياته ... 
رنا بعيدا ، لاحت له قبة الزاوية ... سابحة في هدوء قاتل .. لحظة توغلت عينا شيخها بداخله و هو يسترجع ذكريات ليلة مشؤومة ، عندما تسلل رفقة بعض زملائه لسرقة ما تخفيه من كنوز ، و كيف تمكنوا من حمل متاعها البئيس في الأكياس ، و ظلوا يمشون ... و عندما لاح نور الفجر فتح باب القبة فجأة ، دخل الشيخ و بعض مريديه عليهم و هم لا يزالون في أماكنهم يئنون تحت أثقالهم ... هالهم منظره وهو يبتسم في وجوههم ، وهم مرتبكون جدا ، ، نزع الطلاب عنهم الأحمال و هم مندهشون ... فأمرهم الشيخ بالتوجه نحو إحـدى الغـرف ، قدم لهم فطورا شهيا و نفحهم بمجموعة من القطع النقدية ... ثم أمرهم بالرحيل .
بدا له ذلك الموقف ، غريبا جدا و لم يستطع هضمه لسنوات ، لكن ما حزّ في نفسه ، ولم يجد له تفسيرا ، هو توالي الحوادث الأشد غرابة بعد ذلك ، موت أصدقائه الواحد تلو الآخر في ظروف غامضة ، و مأساوية ، و كأن لعنة لاحقتهم مما حدا به إلى الإختفاء عن القرية ، و الالتحاق بالجبل ... و بالمقاومة بمحض الصدفة
  
-3-
 في بيدر كبير من بيادر القرية ، كانت زمرة من الأطفال و النساء متحلقين حول فنان متجول ، متعدد المواهب ، وهو يحكي لهم قصصا بطولية عن رجال طبعوا ذاكرة القرية بأمجادهم ، أشاح بوجهه جهة جبل شامخ ، ظل يتأمله في سهو و  بعد لحظة بدأ في سرد بعض النتف من حدث قديم ، أخبرهم عن اليوم الذي هبت فيه قبائل زيان لمواجهة جيوش الاحتلال بقيادة رجل شهم يدعى " موحى " حيث نشب عراك مرير اندحر على إثره المئات من الجنود ، و تحول النهر المجاور للقرية إلى مستنقع تطفو فوق مياهه مئات الجثث ، وحده الجسر استطاع إنقاذ طفل جريح ، ظل يصارع وحيدا من أجل الحياة

-4-
أسند الغريب ظهره إلى جدع الشجرة ، برزت له صورة والده ، وهو متوسط جمعا من أعيان القرية ، وهم يتبادلون أطراف الحديث ... قطع عليهم نعيق غربان في الأعلى سفره اللذيذ ، أحس بالضيق و هو يلاحقه إلى أن حجبته تلة مجاورة ... أسر في نفسه قائلا ، النعيق فأل نحس ، تساءل عن مسارها ... فبدت له صورتها ثانية و هي تحط بأسراب عديدة بمحيط الدوار خلال سنوات الجفاف المريرة ، لما كانت تحاصره النسور الجائعة لتنهش لحوم الجيف من الحيوانات . أحس بالاختناق ، و العطش و القلق ، تساءل إذا كانت محمية خنازير القبطان لا تزال في مكانها السابق ، محتملا كون خنزير قد سقط من أعلى الجرف و مات ... قذف حجارة صغيرة بقدمه بغضب ، وعاد بأدراجه نحو الجسر ... بدا له سرير النهر باهتا و مليئا بالحجارة و القذارة ...
-5-
لم يستسغ الأطفال صمت الفنان ، و من شدة تشوقهم لمعرفة المزيد طالبوه بإتمام القصة ، إلتفت إليهم بعينين دامعتين و هو يدخن " سبسيـه " في تؤودة ، يجتر ذكريات أخرى أكثر مرارة ، لاحظ إصرارهم فأذعن مبتسما و بريق أعينهم يحاصره من كل الجهات ، ثم أردف قائلا : << ظل المحارب الصغير ، الجريح ، ينزف هناك لساعات ، و عند غروب الشمس انتشله بعض المجاهدين من تحت الجسر ، وهو فاقد الوعي إلى معسكرهم السري بالغابة ... لما اشتد عضده أدرك أن الحياة شجرة ، كي تظل شامخة ، وفي كل عنفوانها ، عليها التمسك بقوة التربة التي خلقت فيها ، إذا كانت ترغب دوما في معانقة نور الشمس و استنشاق هواء الحرية ... >>
حمل بعضا من أمتعته و اتجه نحو أحد البيوت بالقرية ....

-6-
اغترف الغريب حفنة من رمال النهر ، قبلها بحنو كبير ، ثم نثرها عاليا ، بدا له المكان في حلته القديمة ، ضفاف النهر مكسوة الجوانب بالحشائش و الأشجار القصيرة ، الأسماك براقة و هي تسبح في مياهه العذبة ، حبيبته إيـزة تحضنه بحنو ، و أصدقاؤه يتسامرون حول ألسنة اللهب و هم يرقصون على إيقاعات " البندير و الوتـر " و هم يحتسون قنينات " ماء الحياة " السحرية التي كان العطار اللعين يحملها معه مدسوسة بين سلعه الناذرة ، ابتسم في كمد و هو يتملى في مفاتن الواد المقدس ... توجه دون شعور نحو ركنه المفضل تمدد على الأرض تحت أغصان شجرة " ذفلى " ،ى أحسها تحتضنه ، تصاعدت آهات " ايزة " ناعمة بين جوارحه ، فقطع عليه حلمه كابوس شيخ القبيلة ، اللعين " السي المكي " و هو يجلد  "عيسى " المجنون و هو معلق بحبل تحت الجسر و صراخه يكسر المكان ... صاح بأعلى صوته ، ممزقا ملابسه غاضبا محتجا :
<< أيها الصندوق الأسود ، آه لو تفتح من جديد ... لأرى ما بداخلك من عجائب الأسرار !!! ...>> تأمل السماء بعينين غائرتين أحس بلهيب أشعة الشمس قوية ، رنا نحو الأرض فبدت له كوجه عجوز تعلوه تجاعيد كثيرة ... انطلق نحو القرية ، ما كاد يصعد المنحدر حتى استقبلته الكلاب بالنباح ، و الأطفال بصراخهم " هبيـل !! هبيـل !!... ، بدوا له لحظة كجمر مستنفرة ، و هائجة .. تجاهلهم و استمر في طريقه هائما ، باحثا عن بقايا ذكريات سحيقة .
ولج زقاقا ضيقا ، أطلت من أبواب بيوته هامات أطفال ، و من فوق أسطحه فتيات و نساء مكبلة أفواههن بالدهشة و على محياهن ارتسمت أكثر من علامة استفهام . ظل يرتقي بعض الأدراج بخطى حزينة و هو محتار و متسائل إلى أين المسار ؟ .
أقبل نحوه على عجل رجل في عقده السادس تقريبا ، و بمجرد ما دنى منه ، انتابه إحساس غريب ، بدت له ملامح الوافد مألوفة ، حياه بفتور و حذر ، أمر الناس بالعودة إلى حال سبيلهم ، بينما ظل الأطفال متحلقين ، فهش عليهم بعصاه الصغيرة ، فتناثروا كذراة عقد قد انتثرت درره في كل مكان ، طلب من الغريب مرافقته ، فأذعن في صمت .
    و هما يصعدان ما تبقى من الأدراج في صمت قال الغريب بصوت خافت :<< ما أشبه اليوم بالأمس !! ..>> حدجه الرجل بنظرات خفية ، دون أن يعرف لكلماته معان ، و سأله :
- هل سبق لك أن زرت ÷ذا المكان ؟
- لا شيء تغيـر ...
التفت إليه و علامات الدهشة تعلو محياه وهو يلوك في نفس السؤال و هو صامت ، ولحظة أشار بأصبعه نحو شجرة التين العجوز في أسفل القرية قائلا :
- تلك الشجرة كانت شاهدة على أكبر إبادة جماعية بهذه القرية ، يوم استولى " النصارى " على نقطة الماء الوحيدة التي كانت تغوث البهائم و الناس على السواء .
ظل الرجل صامتا بعدما أربكه جواب الغريب ، وفكر في تغيير مجرى الحديث ، فهو لا يعرف من يكون ، ولماذا أتى ؟ و ماذا يريد ؟ ... لمح طفلة صغيرة على ظهر حمار يحمل قللا ، ابتلع ريقه وأردف قائلا :
- الناس دائمو التنقل في رحلة البحث عن الماء و جلبه من أماكن بعيدة جدا ، لقد استنفد منهم الأمر الجهد و الوقت بعدما أكد لنا " المخزن " أ، مياه عيوننا ملوثة ، خصوصا بعد حدوث كارثة الوباء التي حصدت المئات من السكان .
بعدما تأكد أن الرجل يراوغه و يعطيه مبررات واهية، وهو أعلم بحقيقتها ، أسر في نفسه معارضا : القرية لم تعرف يوما وباء ، كل ما في الأمر أم مياهها فوتت لشركة أجنبية بالقوة ، رغم أنف المعارضين من السكان و الذين أبيدوا بشكل مخـز ...
دلفا باب منزل كبير ، أدخله الرجل إلى غرفة فسيحة و جميلة ثم تسلل نحو زوجته مرتبكا و حائرا ، ليخبرها بأمر الضيف الغريب الأطوار .

-7-
و هو متوسط مجلسا كبيرا ، صحبة الفقيه و أعيان الدوار ، كان الفنان المتجول يحكي بعضا من قصصه و نوادره الغريبة ، و لحظة تلو الأخرى ، كانت القهقهات تتعالى صاخبة و مدوية ، تدخل بلطف شاب وسيم التمس منه أن يحكي له قصصا عن ماضي القرية ، نظروا إليه في اندهاش ، و حملقوا فيه بحنق وبعد هنيهة كسّر الفقيه دهشة اللحظة بترتيله لآيات بيـنات من القرآن ، فانسحب الشاب ، غاضبا تتقاذفه الظنون و الأشجان تحت شجرة التين العجوز ، جلس وحيدا يتساءل عن سبب الصمت و التجاهل و السرية التي يواجهه بها الآخرون كلما سألهم عن ماض القرية ، فهو يحس أن بداخله عالم يرتج ، شيء ما يقض مضجعه ، إحساس غريب ينتابه لكنه كان دوما غامضا و ملغزا بحاجة إلى أكثر من تفسير .
عفا قليلا ، فسمع نداءات استغاثة ، أصوات أطفال ينتحبون ووقع حوافر جياد قادمة من بعيد فجأة ضمته امرأة ، غمرته بحنان مفرط ، دثرته بشعرها الطويل الناعم ، و سحبته برفق من مكانه و هو حزين ، أخذت تعدو ، وهي تلتفت وراءها مبتسمة فتبعها كالمجنون ، اختفت و أخذ يفتش عنها إلى أن وجدها داخل مياه العين تسبح عارية ، توقف في مكانه و ظل يتملى في تضاريس جسدها الفاتنة و الجميلة ، فتحت له ذراعيها ، رشته بالماء ، و أخذت ترشقه بفرح طفولي ، تحولت القطرات إلى قطع بلورية ساحرة الألوان ، كانت تعلو مخترقة كبد السماء ، و هو يلاحقها بعينيه المليئتان بالدهشة و الإعجاب ، فأخذت البلورات تتفرقع محدثة أنوارا وهاجة ، عم جو رائع المكان ... اختفت المرأة الفاتنة بغتة، نزل إلى العين ، فتش عنها ، لكن دون جدوى ، هم بالشرب فجف النبع ، ... انشقت الأرض ، و خرج من جوفها وحش قذر ، نثن عملاق ، أفزعه بضحكاته الصاخبة ثم طارده بلا رحمة إلى أن عاد إلى مكانه قرب الشجرة ، احتمى خلفها و هو مرعوب بينما الوحش أصبح غير قادر على اختراق محيط الشجرة ، صاح الشاب بأعلى صوته طالبا النجدة ، رأى سكان القرية وراء الوحش يحرضونه على الاقتراب أكثر ، يدفعون به نحوه بكل ما أوتوا  من قوة ...صحا من غفوته ، وجد جسده قد تعرق ، وحلقه قد جف بينما المكان هادئ و جميل من حوله ...

-8-
استنتج الغريب و هو داخل الغرفة أن مضيفه هو ابن شيخ القبيلة ، لما أثار انتباهه من كثرة الأوراق و المستندات المرتبة بعناية فوق رف كبير ، و الأثاث الباذخ الذي يزينها ، لاحظ أن الجدران مزينة بكثير من الصور الجماعية و الشخصية المختلفة الأحجام ، وهو أمر أثار دهشته ، شكل سابقة بالنسبة إليه ، لأنه يصعب على المرء مجرد الحصول على صورة شخصية واحدة نظرا لتكاليفها الباهظة ، فبالأحرى كل تلك الصور . أحس بتطفل غريب يدب في نفسه ، نهض يتفرج عليها الواحدة تلو الأخرى ، تعرف على شيخ القرية " العجوز الداهية " و هو يتوسط حشدا من الضباط الفرنسيين ، وهم مدججون بأسلحتهم ، و أمامهم مجموعة من الطرائد و بعضا من الخنازير البرية ، و بقربها كلاب صيد أصيلة ، وعلى يسار الصورة زمرة من الرجال و هم يمسكون هراوات ، وفي خلفيتها كانت القرية تبدو من بعيد تحت التلة و في الأعلى نصب علم فرنسا . سحبته الذكريات إلى الوراء ، وغاصت به في جروح ذكرياته الدفينة ، انسلت من بين شفتيه جملة شريدة : << القبطان فرانسوا >> إغرورقت عيناه ، واحتقنت وجنتاه ، تذكر ليلة خروجه متسللا لاغتيال ذلك الخنزير القذر و كيف أن دورية تمشيط كانت عائدة من رحلة تفقدية هاجمته و طاردته ، و أفشلت مخططه . تنحى ببصره نحو الباب ، هم بالخروج فتذكر أنه لم ينه بعد المهمة التي جاء من أجلها ، تطلع نحو الجدار المقابل فصفعته صورة أخرى ، رأى والده رفقة شيخ القرية ، وبعض الأعيان ، وثلة من رجال المقاومة و هم يستقبلون وفدا من الوطنيين ... جلس محتارا يفسر لغز الصور ، فأدرك أن أغلب الناس أذعنوا في النهاية للأمر الواقع تحت التهديد و القتل ، و الاعتقال و النفي ، ومن ظل في مكانه آمنا كان يرقص على حبلين ...لكن في الأخير كان الولاء للمصلحة الخاصة و الامتيازات لا للوطـن ... دخل ابن الشيخ على الغريب فوجده مشدوها ، جلسا معا و بدآ يتبادلان أطراف الحديث .
و هي تتجسس عليهما من ثقب في الجدار ، امتقع وجهها ، و خرت جالسة في أحد الأركان مرعوبة ، كانت ايزة متأكدة بشكل مطلق من أن الوافد الجديد لم يكن سوى الرجل الذي أرعب النصارى و قتل خلقا كثيرا ، فكرت في إخبار زوجها بالأمر، لكنها تراجعت لأسباب غامضة ، نادت عليه مرات متتالية على غير عادتها ، هب نحوها مسرعا و حانقا من تصرفها الغريب و غير المعتاد ، فأمرته من أن يحتاط من ضيفه . دون أن ينبس بكلمة، دس مسدسه في حزام تحت الجلباب ، حمل طبقا من حساء ساخن و دخل عليه مرتابا ، بينما كان الغريب شاردا يحاول مقاربة لغزه المحير .
لفهما صمت قاتل ، و إحساس متبادل بالحذر ، لاحظ شيخ القبيلة أن الغريب مهتم جدا بالصور ، نهض على عجل و بدون مقدمات ، أخذ يسرد عليه تفاصيلها و حيثيات التقاطها ، أشار إلى نفسه في إحداهن قائلا بزهو:
- كنت ذلك اليوم جالسا في حضن أبي – تلعثم قبل أن يواصل تعليقه – و هذا الطفل الصغير الجالس في حضن أبيه بقربي ، تحول فيما بعد إلى أخطر رجل عرفه تاريخ هذه المنطقة ، إنه( قناص الخنازير ) يعني النصارى ...
قاطعه الغريب قائلا :
- أمر غريب !!
فعقب الشيخ قائلا :
- ذلك ما أكده الضابط " فرانسوا " لأبي ف؟أنا لم أمكث كثيرا بالقرية ، بحيث قضيت طفولتي ضمن بعثة من أبناء الأعيان متابعا دراستي بإحدى المدارس الفرنسية بالعاصمة . سأله :
- لكن لماذا عدت إلى القرية ؟
أجاب الشيخ : بسبب موت أبي المفاجئ ، و لتأزم الأوضاع بالمدن ، نتيجة لتزايد نشاط الفدائيين .
سأله الغريب عن الصبي / القناص /  القاتل ... قائلا
- هل تتذكر اسمه ؟
أجابه في أسى :
- نعم ، اسمه مولود بن لحسن
دخلا معا في صمت رهيب و قاتل مرة أخرى بينما كانت إيـزة قابعة في مكانها تحترق و أسئلتها الرهيبة ، كانت صندوق أسراره ، و رفيقة دربه لسنوات سواء بالمعسكر أو بالقرية ، و صلة وصل بينه وبين كل الخلايا الغير بعيدة من القرية ... لكن بعد إبادة أغلبها و انقطاع الاتصال معها ، فرت ذات مساء نحو مكان مجهول خصوصا بعد مقتل شيخ القرية " المكي " لكن ما حيرها ، هو عودته المفاجئة ، و وصوله إلى بيتها و إليها من حيث لا تدري ، إن لم يكن قد عاد من أجل تصفية حسابات قديمة ، جدا ، جدا ؟ !


-9-
عاد الشاب إلى مجلس الفنان ، وجده يحكي بتشويق كبير قصة امرأة تحولت إلى مارد لعين بعدما سلبت بجمالها الأخاذ ، و تضاريس جسدها الفاتنة عقول الكثير من الرجال الذين كانوا يظلون تائهين بين الحقول و الشعاب بحثا عنها ، تسحبهم الواحد تلو الآخر نحو عين الماء فتغرقهم فيها ، حتى تلوثت المياه و تسببت في وباء قاتل و فتاك .
انكمش الشاب في مكانه ، أحس برعشة تجوب جسده ، بحيرة قاتلة تلفه ، بدت له المرآة في صور متعددة ، وهو ينظر إلى الفنان  بدا له كالوحش الذي طارده ... لم يتمالك نفسه ، تدخل برعونة مقاطعا سرد الفنان و سأله في لهفة قائلا :
أين وقعت أحداث هذه القصة ؟ رد الفنان ساخرا ، إن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد أسطورة من نسج الخيال .عقب الشاب حانقا لكون الأمر حقيقي. اندهش الحضور ثانية ، و هم فاغرون أفواههم من الدهشة ، احتجوا على تدخل الشاب كل مرة مقاطعا استرسال الحكي ، و مشوشا عليهم ، صاح أحدهم مستهترا و ساخرا : - لقد نالت منك الحكاية يا " عقى "
رد عقى بثقة كبيرة :
بل الأمر حقيقة ، بادية للعيان،و بإمكان سرد بقية تفاصيلها بدقة ..
تدخل الفنان محاولا تهدئة الشاب قائلا : - إنها يا بني مجرد حكاية ليس إلا ...
رد الشاب في عصبية :- بل حقيقة تحاول طمس معالمها ، أنا أعيشها دوما ، كلما جلست تحت شجرة التين المجاورة للسور المتداعي.
أجابه الفنان مستغربا :
-أنا لم أذكر قط شجرة التين!!
    علت ضحكات صاخبة، وساخرة منبثقة من أفواه ووجوه لفها الشحوب ، والتساؤل ، والدهشة الممزوجة بالغضب من تهور عقى، وطالبوه بالصمت أو الانسحاب،لكنه أصر على موقفه ساردا تفاصيل أخرى أكثر عربة.
     تدخل رجل وقور لحسم الموقف، ولتحويل مجرى النقاش الصاخب قائل:
المرأة الوحيدة التي سلبت عقول الناس، وظلت حكاية غامضة لعقود طويلة،" شيخة " لها صوت ملائكي، وجسد فاتن، شعر أفحم من الليل، اختفت في عز المقاومة بعد رفضها الغناء في حضرة القائد و القبطان فرانسوا، بعدما تم تضييق الخناق عليها من طرف العسس، ويحكى أنها ألقت بنفسها من فوق الجسر، وابتلعتها مياه النهر، فكيف لها أن تعود وتصير حقيقة حسب ما تدعيه؟!!.قاطعه الشاب بغضب:
أنا أعيش أحداث الحكاية، وتفاصلها،لحظة بلحظة، كلما جلست تحت تلك الشجرة ..
        بدهاء كبير ، قال الفنان محاولا تعجيز عقى ،أن كل الأماكن التي تتحدث عنها الحكاية ،لا يعرف لحد الآن أين توجد بالضبط ، كما أنه ابتدعها من بنات أفكاره ،وهو يمر قرب عين ماء كانت في الماضي توجد أسفل المنحدر المحادي للجسر.
رد الشاب بعصبية و تد كبيرين أنه يعرف مكانه بالضبط قائلا:
إنها توجد عند الضفة اليمنى للوادي قرب الجسر ، و غير بعيدة عن مسكن العجوز الشمطاء..
نهض الفنان ، و انتصب واقفا في مكانه مخاطبا الحضور بقوله:
- الشاب عقى على حق ،إنه نفس المكان الذي استرخيت به قبل مواصلة الطريق نحو القرية هذا الصباح ، لقد أحسست بعياء كبير ، من جراء السير طوال الليل ، فغفوت  قليلا ، لكن كابوسا لعينا استبد بي ، تفاصيل أحداثه تتطابق إلى حد ما مع حكاية عقى ، و لكن لدي سؤال واحد ، ما الأمر الذي يميز المرأة؟.
رد عقى دون تردد قائلا :
شعرها الفاحم، و جسدها الغريب، جمالها الأخاذ و نظراتها القاصفة و المميتة، إنها لا تشبه أية إمرأة من زماننا...
تحشرج الفنان، و استأذن الحضور في الرحيل عن القرية.

-10-
    لم تستطع الزوجة تمالك نفسها، دخلت عليهما على غير عادتها، و هما لا يزالان يتبادلان أطراف الحديث بجدر، رمقها مولود ، فأحس باهتزاز كيانه و مشاعره، ارتبك و ظل ينظر أليها في حدر و صمت كطائر جريح يحاول التواري بين أغصان شجرة يابسة، تحلم بتفتق أوراق خضراء يانعة بحجم الدهشة و الخطيئة بينما كانت هي تنظر إليه ، بنظرات جانبية ، في حين كان الزوج مصعوقا ، مندهشا ، لتصرفها و جرأتها القاسية على اقتحام عالم ضيفه الخاص ، و تكبيرها لعرف الخصوصية الساري مفعوله بكل البيوت ، أحس بالضيق و تمالكه الذعر و تقوقع على نفسه و كأنه في مواجهة فواهة بندقية قناص متمرس.
خيم صمت جنائزي عليهم جميعا كسرته "إيزة "  قائلة:
لم عدت بعد كل هذه السنوات ؟
ظل، يبتلع ريقه ، والزوج ما حيرته الكبيرة لم يتمالك نفسه من توجيه سؤاله لزوجته :
هل تعرفين هذا الرجل؟!..
ظلت إيزة صامتة، ومولود هو الاخر ، لم يكن الامر عليه يسيرا للخروج من صمته،طأطأ رأسه، أحس بأليته ، والضياع ،وبنوع من التخاذل وبسقوط كل أقنعته فبدأ يعترف على مضض قائلا: أنا فعلا هو ذلك الصبي الجالس بقرب والده في تلك الصورة، قناص الخنازير.
تنهد كلماته العبيرة ... وهو يلوك حرقتها بمررة كبيرة ... بينما تراجع الزوج إلي الوراء قليلا محاولا إبتلاع مفاجأته، أحس بدوار عنيف، ورجة قوية بداخله، بكى كالطفل بكاء مريرا ، وزوجته لاتزال متوبثة كلبؤة حائرة ، بين ضعفه وهول المفاجأة، ودهشة مولود العائد من جوف النسيان.استجمعت كل قواهاأخبرته أنها علمت منذ سنوات بحادث مقتله مع عائلتها وبعض المقاومين ، أثناء محاصرتهم من طرف جنود الاحتلال في الجبل...ابتلعت لسانها فجأة، ولولت ، وناحت باكية هي الأخرى، وطفقت توبيخه بحنق  ،مضيفة أن جروحها لم تندمل بعد، رغم محاولات النسيان المريرة، اعتقدت أنها طوت ذكراه للأبد.

11 –
و هو يحث حماره على السير بسرعة بعيدا عن القرية ، كان الفنان المتجول ،يفكر بإسهاب في أمر الشاب ، اعتقد أنه تمكن من استرجاع بعضا من قدراته على تشنيف أسماع الناس ، بكل ما هو عجيب ، و غريب ،  لكن الأمر كان مجرد رؤيا /كابوس لعين ألم به ، أو انذار على وقوع مكروه كبير بالقرية .حدسه  لا يخطئ أبدا .تأثر ا كثيرا لحال " عقى " و لحكايته التي لم تكن قط من نسج الخيال ، و بتقاطع أوقل تطابق أحدثها مع حكايته الصعبة التأويل.مما أرغمه على المغادرة بسرعة استجابة لنداء داخلي ، و حدس لا يخطئ .
     عند مدخل الجسر اعترض سبيله  عقى ،الذي ظل واقفا كالمارد ، تابتا لا يشرك ، توقف مذعورا ، و دون أن ينس بكلمة واحدة ، اتبع إشارة بسبابته نحو  مكان العين الجافة ، نزل من ظهر دابته ، و رافقه في صمت .

-12-
لم يستطع ميمون تمالك نفسه، هم بالخروج فاعترض سبيله الزوج ، ترجاه أن يقضي الليل عنده ، مطمئنا إياه بكتمان سره و دفنه للأبد و بضرورة البحث عن حل يمكنه من العيش بالقرية و تدبر أمر البحث عنه من طرف المخزن ... بينما كانت إيزة ، لا تفكر إلا في المبررات التي سوف تقدمها لزوجها فهي لم يسبق لها أن فاتحته حول ماضيها معتقدة أنها دفنت أسراره للأبد ، ويموت كل الذين كانوا يعرفونها عن قرب ، لما اختفت ذات ليلة صيف قائضة في أوج مقاومة المستعمر ،  تاهت لا تعرف أين ذهبت ؟ أو مع من كانت ؟ أو كيف حدث ذلك ؟ كلما هو أن شيخ الزاوية و مريده، كانوا برفقتها في رحلة طويلة نحو الجبل . وهي شبه فاقدة للوعي، و لما استفاقت، وجدت نفسها محاطة و محفوفة بالعديد من النساء و الأطفال داخل كهف مظلم؛ قضت به أشهر عديدة لتتمكن بعدها من الاندماج الكلي مع جو المعسكر و نظامه القاسي. و ذات صباح أرسلت إلى القرية بهوية جديدة و اسم مستعار من أجل التنسيق بين مختلق الخلايا النائمة التي لم تطالها الإبادة من أجل تنفيذ مخططات طويلة الأمد ...
في حين تساءل ميمون عن قبوله فكرة العودة متنكرا إلى قرية ظل يمقتها كل المقت ، في هيأة رجل غريب و عن دواعي إذعانه لرؤسائه بسهولة بقبول إنجاز المهمة ، لماذا استسلم لذلك النداء الغريب الذي ظل يناجيه من الأعماق ؟ تلك الذكرى الجميلة التي شكلت جسره الوحيد للعبور نحو الماضي ؟... ثم هو قد كلف من طرفهم بقتل الشيخ و زوجته التي لم تكن سوى هي ، مامة / ايزة اسمان لشخص واحد ، العدو الجديد للمقاومة و العميلة النائمة داخل القرية ، لكن لماذا وقع اختيارهم عليه بالضبط ؟ هل فكروا في التخلص منهما معا ؟ أم لأنه الشخص الوحيد القادر على انجاز المهمة بشكل نظيف و متقن ؟ ثم لماذا قبل ، و امتثل دون ايداء ملاحظاته ؟ هل يعلم أحد من رؤسائه بعلاقته القديمة معها ؟
تنازعته عشرات الأسئلة ، خلخلته ، و أربكته في نفس الوقت حتى وصل حدا من الحيرة و العجز لم يشهد مثله من قبل ...
فتح شيخ القبيلة صندوقا كبيرا ، أمد مولود ببعض المال و حثه على الرحيل إن أراد ذلك ، قبيل الفجر ،    ثم خرج رفقة زوجته و هو يفكر في وسيلة تمكنه من الإيقاع بضيفه أو التخلص منه و من كل الأسرار،
التي لا محالة ستجلب له مشاكل كبرى ، و تبعده من دائرة أسياده الخاصة، بأقل قدر ممكن من الخسائر.
فالرجل كان عشيقا لزوجته، و عدوه اللدود، و شريكها في كثير من المؤامرات و الأحداث التي كانت كل مرة تهز مكانته كشيخ للقرية.
   تحسر كثيرا لكون عشرون سنة ، لم تكن كافية لطي صفحات ماض غرق في الدسائس و الجرائم تذكر كيف كان يساوره الشك مرارا في أمر زوجته التي لم يكن يعرف عن ماضيها أي شيء، و فشله في الحصول مجرد على معلومة واحدة عنها ، و في الأخير أدعن و استسلم لحبها ، و غوايتها و جمالها.. امرأة ذكية ، لا يعرف الخطأ سبيلا لقرارتها ، حكمتها بليغة ، و شخصيتها قوية. لكن ما استجد ، كان أكبر من أن يتحمل عواقبه وتبعاته، أحس أنه كان يعيش خدعة كبيرة انطوت عليه حيلها، وبأنه أبلد رجل في القرية على الاطلاق . لن يقبل بروية إنهيار  الصرح الذي شيده رفقة والده في أحضان "المخزن" وهو
الذي يحلم، ويطمع في تعزيز مكانته، وركائز نفوذه وسلطته، فوعد القطبان له بترقيته ، رهين بما يقدمه هو الأخر من خدمات جليلة، كما أن حلمه لن يحول بينه وبين تحقيقه عائق كيفما كان.
      وهو يسرج بغلته، أمر زوجته بالتزام الصمت والحذر، ومراقبة مولود، وأنه مهما حصل، ستظل المرأة التي أحب، ومن مصلحتها عدم التهاون، أو ارتكاب خطأ مهما كان بسيطا، وبأنه سوف يتخذ كافة الإجراءات، والاحتياطات ،للوصول خفية إلى المركز لإبلاغ السلطات ، والقبض على المجرم حيا.
 قالت له :
و لماذا لا ترسل شخصا أخر بدلا عنك ؟
ابتسم في خبث قائلا :
إنها فرصة العمر يا إيزة ، و لن أدع شخصا آخر يستغلها و يحقق طموحه على حسلبي.
13 –
     تمكن الفنان من الاحتيال على الشاب ، أخبره بأنه يصدق رؤيته ، و أن الأمر لا يعدو أن يكون خيرا ينتظره، و ثروة كبرى سيحصل عليها قريبا ، و أنه  في الحقيقة ليس بفنان متجول و لكنه باحث عن الكنوز  المدفونة و المنسية ، يتعقبها أينما كانت أو سمع بها  .أخرج من حافظة فوق صدره قلما ، و قطعا من الورق ، و أخد يكتب مجموعة من التعاويد ، علق أحدها بجيب الشاب ، و أمره بالتوجه نحو عين الماء الجافة و بدء الحفر.
   تردد عقى في بداية الأمر ، لشعوره بالخوف لعدم تقته في الرجل ، لكنه و تحت التأثير و الإلحاح المتواصل ، أدعن بسهولة ،   و أخذ ينجز المهمة بكل عفوية ، بينما كان الفنان ، يتلو بعض الآيات ، و يحرق أصنافا غريبة من البخور . لحظة أغمي على عقى...

14 –
 حين الليل ، مخرج الشيخ متسللا فوق راحلته ، نحو المركز ، و هو في الطريق ، أحس أن المسافة التي اعتاد اجتيازها في مدة قصيرة ، قد أضحت جد طويلة و عسيرة ، راودته هواجس كثيرة، بدت له "إيزة" لحظة و هي في أحضان عشيقها ، يتبدلان القبلات ، يقهقهان في نشوة كبيرة، و أخرى ، و هي متسللة خلفه نحو وجهة مجهولة .
        فكر في العودة إلى البيت و العدول عن قراره بالتبليغ، ة أنه كان اغتياله رميا بالرصاص في بيته ، و أنه من الخجل تركه و زوجته الخائنة  ...لكن طمعه في الحصول على مكافأة كبيرة ، و النجاة بجلده  من رد فعل مضاد ، كان عزاؤه الوحيد ، و أن قراره كان صائبا ، كما أنه كفيل بجعل كل " إيزاة" القرية  يخرن راكعات تحت قدميه ، و رهن إشارته ، و ما إيزة إلا امرأة كبقية النساء  ، ثم سرعان ما عاد إلى رشده ، تساءل محتارا ، في أنه كان لزاما عليه إرسال من ينوب عنه في تلك المهمة ، ما قيمته هو كشيخ للقرية ، إن لم يظل قويا ، باسطا نفوذه ، واقفا بالمرصاد للخائنين ؟ لاح له يبيت من بعيد ، فتوجه نحوه ، هم  بطرق بابه فتذكر أن ما به سوى العجوز الشمطاء و الحمقاء فعدل عن الفكرة و عاد أدراجه نحو دابته ليواصل مساره .
    أحست العجوز بحركة غير عادية قرب باب منزلها، فخرجت مذعورة وهي تصرخ في جنح الليل ، الموت قادم أيها الخونة !!! الموت قادم أيها الخونة !!! أيها الغريب إياك و الاقتراب من الجسر الملعون !!
   تجاهلها ، وصياحها المدوي في جوف الليل البهيـم ، لاح له الجسر كفكي كماشة تمسك بكل عابر ، تملكه شعور غريب ، أحس برغبة ملحة في قضاء حاجته ، نزل بسرعة من على ظهر دابته ، ابتعد قليلا ، ذعر البغل ، و انطلق بسرعة جنونية ، وهو يلاحقه بعينين مندهشتين ، فجأة داهمه قطيع خنازير برية ، أسرع نحو الحافة ، تلقى طعنات قوية من الخلف ، و ألقت به أسفل الجسر ، قتيلا على الفور

-15-
   لما استعاد " عقـى " وعيه ، كان القمر يلهو بنوره في كبد السديم مبددا ظلمة ليل طويل جدا ، نادى على الفنان ، بحث عنه دون أن يعثر له عن أثر ، أحس أنه استغفله و استغل سذاجته ،... تنازعته ظنون كثيرة من كون الرجل مجرد حقير ، أو عميل خائن ... لكن ما قضّ مضجعه هو كيف سرد أحداث كابوسه ، و عرف كثيرا من تفاصيله الدقيقة إن لم يكن ....  شـك في كونه منجم أو قارئ للأفكار.... و هو يحاول تسلق المنحدر في عناء كبير ، لاح له شبح رجل نائم غير بعيد من الجسر ، استعاذ بالله من شر ظنونه ، وسوء نيته ، دنا منه ، فهاله المنظر ، كان الرجل مضرجا في دمائه ، تفرس وجهه ، فلاحت له ملامح شيخ القرية ، جن جنونه ؛ لم يعرف كيف يفسر ما حدث ، فانطلق يعدو غير لاو على شيء نحو القرية .

-16-
شعر ميمون بأرق كبير، فخرج مهموما، و جلس فوق صخرة غير بعيدة من منزل عشيقته السابقة، يحاول ترتيب أفكاره، و اتخاذ قرار حاسم، تناهى إلى سمعه نقر فوق الدفوف ، فتذكر أيامه الخوالي معها قرب النهر، و في الغابة،و تحت الجسر ،و بينما هو منتش بذكرياته الجميلة ، تسللت خلفه ، و دكت رأسه بحجر كبير مرات متتالية .
    و هو يحتضر، لاعبته بشكل مرير، قائلة: -لم يكن يجدر بك العودة إلى هنا لقد ارتكبت خطأ فادحا،
وأخطأت التوقيت المناسب لذلك ..
    ابتسم وأغمض عينه في أسى .
    ولولت، صرخت، تحلق حولها بعض الرجال، سألوها عم حدث، فأخبرتهم أن الضيف راودها عن
نفسها، فرت هاربة منه نحو الخارج، طلبا للنجدة تعتر، وسقط على صخرة، فتهشم رأسه.سألوها عن زوجها فأخبرته أنها لا تعرف إلى أين ذهب.
     تناقشوا أمرهم فيما بينهم ، فأفتى بعضهم بإخراج الجثة من القرية ورميها من فوق الجسر، بينما اقترح أخرون دفنها في سرير الوادي و كثمان السر . وهم يتنازعون الأمر فيما بينهم ، تدخلت "إيزة"
وحسمت الموقف، آمرة إياهم بانتظار عودة الشيخ فهو من سوف يقرر في الأمر.
      لم تمض سوى ساعات قليلة ، حتى وصل الشاب منهارا ، وأبلغهم بالحادث المؤلم .
       تلقت "إيزة " خبر موت زوجها كالصاعقة ، طار عقلها  وخارت قواها ، بينما اجتهد ظرفاء القرية في الربط بين الحادثتين ، وظهور الفنان بغتة ، ورحيله كذلك بشكل مفاجئ ، وبين قصة الشاب "عقى"الذي مس فجأة ، وحكايته حول المرأة الجميلة والوحش ، والكنز ، الذي أخذه الفنان / الساحر / الدجال /  الفقيه ... من جوف النبع القادم.
    عمت الفوضى داخل القرية ، ومع وصول دورية الخيالة الفرنسية ، بدأت الاستنطاقات والاستجوابات بالجملة قبيل منتصف النهار .
   أضحى الجميع محط اتهام ، داخل لغز جريمتين متماسكتين ، وهو في مكتبه يقرأ بعض التقارير الأولية و إفادات في بعض المحاضر ، كان ضابط فرنسي يحاول فك أسرار اللغز المحير ، تساءل عن أسباب عودة القناص الخطير ، و موته قرب بيت رجل مخلص ، أضحى موته هو الآخر ضحية و لغزا يحب حل طلاسمه.
   ظل يتفرس " إيزة " التي كانت منهارة و مهزومة ، يتساءل عن الأسباب الكامنة وراء قبول الشيخ استضافة مجرم خطير ، تاركا بيته ، و قريته و زوجته ، ثم المغادرة لوحده لإبلاغ السلطات ...
   بدت له صورة الرجل في هيئة عملاق و بطل ، محب لفرنسا ،و في نفس الوقت غبي و ساذج  ، تسبب في هلاك نفسه بشكل غامض و هو يحاول إقناع نفسه بالفكرة الأخيرة ، سرعان ما استبعدها ، لما لامسه في الرجل مرارا من مكر و دهاء كياسة و حنكة ، تساءل مرة أخرى بحرقة عن الدافع الحقيقي الذي جعله يقدم  على ذلك الموقف ، دون طلب المساعدة من رجاله .شك في كون الزوجة على بأمر ما أو على الأقل قد يكون الهالك أخبرها بذلك قبيل رحيله. إلتفت إليها و سألها بدهاء عن هوية الغريب ، قنعت معرفتها به بشكل مطلق حاولت تحويل مجرى الحديث ، مخبرة إياه بكونها كانت و لا تزال من المخلصات " لفرنسا " .. كرر الضابط السؤال مرة أخرى، فأجابته بأنها لا تتدخل في أمور زوجها الخاصة، و أنها لا تتوانى في تنفيذ أوامره و احترام خصوصيته. كما أنها لم يسبق لها و أن عرفت الرجل الذي تهجم عليها و حاول اغتصابها في  عقر دارها.
    تأملها طويلا ، و هو مؤمن في قرارة نفسه أنها تحاول مراوغته ، و بكونه ليست امرأة عادية كما تحاول إيهامه به ، أمرها بالانصراف وهو لا يزال يفكر  في كيفية تكسير صمتها و الغوص في أعماق أسرارها و استكناهها ، سمع صراخا ، م هرجا كبيرا بالخارج ، أطل حانقا على جنوده  ، موبخا إياهم على إهمالهم و تهاونهم في الإمساك بزمام الأمور ، فوجد المرأة المجنونة في حالة هستيرية   وهي تحاول الدخول عنوة لمقابلته ، أمرهم بتركها و حالها ، لما مثلت أمامه ، ظل يستمع لإفادتها بهدوء و ببرودة أعصاب ، لحظة تلو الأخرى كان مترجمه يتوقف عن الترجمة ، فكان يحرجه بنظرات حادة آمرا إياه بالاستمرار و عدم التوقف و نقل كلماتها حرفيا .
   كانت إفادتها ملغزة ، و حركاتها عنيفة و لحظة هم المترجم بإخراجها ثانية فحدجه بقسوة ، و أمره بتركها تقول ما تشاء .
   ظل الضابط محتارا ، أمام سيل من الجمل و الكلمات ؛ لبعضها معنى ، و لأخرى معان مبهمة و في حاجة إلى كثير من النبش و الدقة و الغربلة ، استنتج أنها الوحيدة التي استطاعت مساعدته في الإمساك بأحد الخيوط الواهنة لكنها مهمة ، تساءل ؛ هل يعتد بشهادة امرأة مجنونة ؟ 
عكف ثانية  على إعادة قراءة ما دونه ، ثم أمر الحارس بإدخال زوجة الشيخ مرة أخرى ، تلا عليها كاتبه ما دار بينه و بين المجنونة من حوار ثارت ثائرتها ، امتقع   وجهها ، و تحشرج صوتها ، عقبت "إيزة" على إدعاءاتها الكاذبة ، و فاقدة لكل الحجج .
      أحس الضابط، أنها فعلا كانت تربطها علاقة ما "بالقناص" حسب إفادة المرأة المجنونة ، و أنها شاهدتها مرارا في أماكن نائية عن القرية رفقة رجل في عقده الخامس أو السادس، و أعطته تفاصيل أخرى عن رجال آخرين منهم من كان يأتي في هيئة عطار، أو حلايقي ،  أو متسول، ومع آخرين بالجبل ، و ليس من المستجد أن تكون هي التي استدعت الغريب للحضور إلى القرية ،   وخططت لمقتل زوجها ، بعدما تم افتضاح أمر انتمائها للمقاومة...
       ظل اللغز الوحيد الذي حير الضابط ، هو كيف تمكنت من قتلهما معا في مكانين مختلفين بينهما مسافة كبيرة ، دون أن يكون ذلك قد تم بمساعدة أحد ما ، ثم كيف عرفت المجنونة بكل تلك التفاصيل ، إن لم تكن لها يد في الجريمة . ابتسم في مكر ، ثم استبعد الفكرة الأخيرة ، لما ستجر عليه من سخرية من طرف رؤسائه ، و حنقهم عليه ، و رغم ذلك ظل يساوره الشك تجاهها ، متسائلا كيف يعقل أن تكون شاهدته الوحيدة على أمور و أحداث لم يكن له بها علم من قبل و يستحيل معرفتها و لو بالصدفة.
    لم يكد يحل المساء، حتى كان الجنود، قد اعتقلوا مجموعة من الرجال ، و الشبان ، المشتبه فيهم ، و من ضمنهم زوجة الشيخ ، بتهمة التآمر  ، و المشاركة في اغتيال رجلين ، وزعزعة استقرار الأمن ، فأمر الضابط بترحيلهم جميعا نحو المركز ، لاستكمال مجريات التحقيق .
-17-
و هي تغادر القرية ، مكبلة بالأصفاد ، و مثقلة بوزر أفكار سوداء ، و مثخنة الجراح ، كانت " إيزة" تبكي حظها العاثر ، و ليلتها المشؤومة ،  لم تكن تظن أنها في يوم من الأيام ، ستضطر إلى قتل الرجل الذي أحبته بعنف ، من أجل زوج منحها   ثقته و بيته ، و حياة جديدة ، لكنها ، كانت تعيش معه جسدا بدون روح ، في جو من الخداع و الكذب ، ربما كانت تنتظر فرصة أخرى ، زمنا آخر ، حلا سهلا ، حسب طريقتها ، للتخلص منه ، و من كل الذين أبادوا أهلها ، و عشيرتها ، لكن اختفاء  "عقى "  المفاجئ أربك كل حساباتها ، و أفقدها كل قدرة على المناورة ، و لربما أرغمها على التعلق برجل آخر ، وجدته مختلفا نسبيا ، و طوع يدها على الاستسلام مؤقتا  ، لإذابة حقدها الدفين من أجل غد آخر ، نابدة تاريخها النضالي وراء ظهرها ، بعد الفتور الذي اعترى أغلب الخلايا ، و التضييق الذي مورس عليها ، و الإبادة و الإختراق الذي تعرضت له أخرى ، مما كسر حقدها و حلمها مؤقتا 
و أرغمها على الاستسلام و الانتظار...
     وهي  تسيخ السمع لأزير محرك العربة العسكرية ، التي توقفت فجأة فوق الجسر ، ترجل الضابط  
و بعض من أعوانه لتمشيط  مسرح الجريمة ، أحست "إيزة " بالاختناق التمست منهم السماح لها بالنزول للحظة لقضاء حاجتها ، فتم لها ذلك تحت مراقبة جنديين ، فجأة عدت بكا ما تملك من قوة ،
و ألقت بنفسها من فوق الجسر .

 حميـد ركاطة
 خنيفرة - المغرب

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة