على مسافةِ رغبات – قصة : لمياء الالوسي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

أنفاسقبل أن ينسج  الفجر الشتوي خيوطه ، أطل من نافذة  الغرفة   الوحيدة ، التي تلم  أجساد إخوته الصغار ، في بيتهم  الذي يتسامق مع البيوت الأخرى ،  فتُلغى  المسافات  ،  وتغدو متداخلة ،   فسطح الجيران هو فناء بيتهم الصغير ، إذ ينتصب تنور أمه الطيني وهي تتأهب لتسجره  في ذلك الغبش  المطير .
خجلٌ بحجم الأرض يكتنفه ، ويمنعه  من اختصار المسافات ، إلى المسجد ، واختراق السلم الحجري القصير ، الذي ينزل  به إلى بيت العم  بمدخله الطويل ، والذي صُبَّت أرضيته على الجانبين بمصاطب حجرية مفروشة طوال الوقت ، تفضي إلى حجرة غطّتْ جدرانُها برفوف  تضم  عشرات الكتب والمصاحف ، وفي الزاوية  ،  قبر  دارس  ، أُهيلت  جوانبه بأيدي نساء المدينة المعتقدات بأنَّ حفنة رمل من قبر هذا السيد  ستعتقهن  من هموم الدنيا ومشاكلها  ، يمتلئ المكان بطيب أعواد البخور المتقدة  طوال الوقت ، تطلق رائحتها في أرجاء المكان  
ولكن كيف ؟ وغالباً ما تكون  تلك الأوقات موعداً لحركة العم الدائبة  ، وهو يلف أذيال ملابسه البيضاء على ذراعيه  ، يحمل إبريقه النحاسي  الكبير ،  فيصبح جسده الذي طوت ظهره السنون  ، هالة كبيرة تذرع الفناء جيئة وذهاباً ، متأهباً لصلاة الفجر .
  تلفع بمعطفه القديم  ،  تتلقفه دروب زلقة  لا يتبين فيها خطواته ،   تعرج به عبر أرض جبلية إلى سوق المدينة الخالي في مثل تلك الساعة من الليل ، تؤنسه أصواتُ  ميازيبِ منازل غارقة في غموضها  ، يغطيه نثيث المطر  ، وذلك الصمت الموشى بالخوف ، لتنحرف  به  إلى  زقاقٍ  أكثر رهبة من كل أزقة المدينة ، ومجاهلها الكثيرة  .

رغم أنه يجوب المدينة طوال النهار ،  ينوء بعشرات الأعمال الصغيرة ،  إضافة إلى الأذان في الأوقات الخمسة  ،التي أوكلها إليه عمه إمام المسجد  ، لتلبية احتياجات عائلته الكبيرة التي تأود بها رغم سنوات عمره الطرية ،   فعليه بعد أن يؤذن لصلاة الفجر ،  إيصال أرغفة  الخبز الساخنة التي تخبزها أمه ،  إلى المدرسة الإبتدائية في الطرف البعيد من المدينة ، ليعود محملاً  بما يجود به مدير المدرسة من فائض التغذية المدرسية ، إلاّ أنه يأبى أن  يمد إليها يده ، مكتفياً بالوجبات التي يتمتع بها لقاءَ أعمال البناء في بيوت الميسورين ،
 
كثيراً ما تمنى لو أنه خُلق في  مكان آخر من الارض ، فلا تكبله أفواه إخوته المفتوحة  ، 
كثيراً ما يتساءل ،  لما فرض الله الكد عليّ وعلى الفقراء ؟  والفقراء ...
 لمَ لا يُبقي الفقراء معه هناك ما داموا أحبابه ؟
لم يكن  الظلام يخيفه كثيراً ، إذ عرف معجم متاهاتهِ ، لكن ذلك الزقاق الضيق  ، المنحدر باتجاه النهر ،  قريباً من المسجد ، كان  يصيبه  بالهلع ، يملأه بعشرات الحكايات   ، كلما دنا منه
 فعلى الجانب الأكثر ظلاماً ، تقبع  بقايا بيت متهدم غائر إلى  الداخل ،  وسط جدران البيوت العالية التي تحيط به من كل جانب ، تنتشر في وسطه أجمةً تقصَّفتْ جذوع الشجر فيها ، مهملة يثيرها هفيف  الريح فتطلق أصواتاً تقتلعه من كل محاولاته ،  وتراتيله التي يذخرها لحين مروره من هناك ، تتسارع خطواته العجلى ،  يتلو أدعية كانت تودعه بها أمه  كل يوم ،
أجفلَ لمواء قطة مرقت من أمامه ، وكان الظلام المحدق في كل ركن ،  قد أفقدها لونها .
 
راعه في تلك اللحظة ضوء  ، أنار الطريق كله ، يشع من ذلك البناء القديم المتهدم بل أن أجمة الأشجار المهملة  ، تحولت إلى حديقة غناء غاية في الجمال ، أراد أن  يهرول مبتعداً ، لكنه هذه المرة توقف مبهوراً تتقاذفه رغبة بالهرب ، وأخرى في اكتشاف المجهول وخباياه اللعينة !
أطرقَ تسوره اللهفات لاقتحامها ،
 فعلى خطوات قليلة  ،  ارتفع بابٌ  حديدي مزركش بزخارف  متضاربة الألوان بديعتها
وممرٌّ رَحِبٌ تنيره مصابيح باهرة الضوء ،  لو وزعت على أزقة المدينة  لحالت لياليها  إلى ظهيرةٍ  ،   أرضيتها المرمرية  ،  تعكس ضوءاً إضافياً ، تنير ما في داخله من صبوات ، 
تربعت  امرأة  بديعة  الجمال  على أريكة   ، مزينة بالورد ،  والحلي التي زادتها فتنة وجمالاً 
امرأة لم يرَ في مدينته كلها بجمالها  ، وغنجها ، نهضت لمقدمه ، وتحركت نحوه حافية القدمين
وكأنها تمشي على أرض ليس لها قرار ، وشَعرٌ بلون الفجر يتطاير خلفها ، أزاحت بذراعيها البضتين مأزرها عن جسد مرمري ، أحس أنَّ  بريقاً تساقط باتجاه الأشجار المشرئبة أعناقها حول البيت وحول تلك المرأة ، فأظهرت نورها الأخاذ   
-         إدخل أبا جعفر ولا تخشَ شيئًا  ،  فالحياة هنا
أشارت إلى مجلسها  الوثير ،  بملابسها الفضفاضة كاشفة عن مفاتنها  ، أراد أن يبتعد لكنَّ يديها الممتدتين  إليه ، أغرتاه بالدخول ، أحس أنَّ  قدميه  ستفضيان به إلى شطآن  ، خشي أن تتشابك ظلالها ، وإذ تُسقطه فيها ، لن  يتمكن من الفكاك منها ،
 إنها تدعوه لدنيا لم يكن يعرفها من قبل ،  
دون أن يعي شيئاً كان بين أحضانها ، مشفقاً عليها من ملابسه المبتلة القديمة ، ومن  أصابعه المغروسة بالطين ،  ومواد البناء ،  كأنها حشف عافته الحياة  .
 
سحبته إلى داخل غرفة جانبية باذخة الترف   ، أرتَقتْ فراشاً وثيراً  ، بلون زهري زاهٍ   ،  فظهرت ربلتا ساقيها الممتلئتين ،  فتعالى وجيب قلبه   ، سقته  شراباً لم يذقه من قبل  ، وضجيج ضحكاتها الرخصة يغمره  بالدفء والحياة  ,
احتوته بين ذراعيها  ، فضاعَ في أفراح تشابكت فما عاد الليل ليلاً .
 
من بعيد .. تعالى صوت الآذان  ، فتعرف اليه  , إنه صوت عمه الذي بقي قوياً رغم تعب  السنين  ، فدفع المرأة عنه , وبدون أن يدري لاح وجه أمه المتعب خلف تنورها الطيني ، تردد حوله أدعيتها الحانية .
ركض خارج خدرها  ، لكنها أزلجت الباب الحديدي دونه ،   تحولّ فرحه المباغت  إلى سُخط  يعتصره ، فدفع المرأة عنه،  تشبثت به ، فأزاح يديها عن عنقه ،
صرخ بها : إبعدي ناركِ عني !
    
 في لحظات كأنها الدهر كله ، رَمَقَها , كان قد جللها ضوءٌ بامتداد الريح ،  تمتطي صهوة جواد أشهب ، يرتقي بها فوق ذلك البيت ، آخذةً معها كل بهائهِ ونورهِ ،
 فعاد نثيث المطر يزغرد على وجهه المحموم ،
تلفت  بوجل ، كان وحيداً مبتلاً حد العظم  ، مهجوراً في ذلك  الزقاق ،  وكان البيت كما هو غائراً في أعماق الجدران العالية ، لهذه  المدينة التي تسرق الحياة عنوة  ،عاد الصمت  يخيم على ذلك المكان ، عندها عرف أنه فقد كل أشيائهِ هناك .
سطوح البيوت المتداخلة ، وتلك الفتحات الصغيرة التي يسميها الأهالي نوافذ ، مطلة على الأزقة  ،  تتلصص خلفها عشرات العيون  ،  كل شيء يرقبه  ، ويشي بما أقدم عليه ،
   جاءته رائحة خبز أمه ، والسماء تمنحه ذلك الشعور بانجلاء الوقت ،   كان مسمراً في مكانه ، وحمى الخوف تبث فيه رغبة حارقة بالهرب ، وحزن يشعره بأنه سجين في تلك الزاوية  من الزقاق  ، كان مبتلاً ، مسكوناً بصوتها  ، لكن هل تغسل قطرات المطر دنسه ؟ هل تمحو وجهها وعطرها  المغروز فيه  ؟
في لحظات كان يرتقي سلماً خشبياً امتد  من أحد الجدران ، ليوصله إلى فناءات متداخلة وأصوات تدعوه للدخول ، لكنه كان يغادرها ، باحثاً عن بيته المفقود ،  وخبز أمه الذي أصبح بارداً  ، منقوعاً بالمطر ،
 
رأى في الظلام  ، خلف شعاع الفجر المنثال كشلال من الحنين  ،  قامةَ عمه وهو يمتشق سيفاً صدئاً ، يقف أمامه غاضباً ، يسد عليه منافذ الحياة ،  عندها غاصت قدماه في أرض طينية لزجة ، وما عاد يرى شيئاً
 ****              ****
 تنبه إلى همسٍ متداخلٍ يحوم حوله  ، ونساء يحكمن قبضتهن على جسده ، وخدرٍ لذيذٍ  يتملكه ، كان ممدداً  في تلك الحجرة إلى جوار القبر  ،  إخوته الصغار يتلصصون النظر إليه  من وراء أمه الواجفة  ، مدير المدرسة ،  عمه   الذي يكبِّر في أُذنيه ، الكل  يحدّق به  ، كيف للأرواح الشريرة أن تُحكم قبضتها عليه ، وسط  كل هذا الفيض من الإحتشام والتردد ؟!
 لكنه كان مأخوذاً  بتلك المرأة ،  التي  كانت تغمزه ضاحكةً  ، يطالعه وجهها  بين الكتب  المرصوفة على الجدران  ، تبعد عنه  ثم تدنو
، تبسّم  لها  ، فمدت له ذراعيها ،
ضحك مقهقها ً،
-  عدتِ..؟ عادت بك خيولك الجامحة ، سباتُ الكون حولي  دعاكِ إلي  .
لطمت أمه خديها  صارخة  :
-  وتقولون : لم يُجَنَّ  ؟!
 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟