قبل أن ينسج الفجر الشتوي خيوطه ، أطل من نافذة الغرفة الوحيدة ، التي تلم أجساد إخوته الصغار ، في بيتهم الذي يتسامق مع البيوت الأخرى ، فتُلغى المسافات ، وتغدو متداخلة ، فسطح الجيران هو فناء بيتهم الصغير ، إذ ينتصب تنور أمه الطيني وهي تتأهب لتسجره في ذلك الغبش المطير .
خجلٌ بحجم الأرض يكتنفه ، ويمنعه من اختصار المسافات ، إلى المسجد ، واختراق السلم الحجري القصير ، الذي ينزل به إلى بيت العم بمدخله الطويل ، والذي صُبَّت أرضيته على الجانبين بمصاطب حجرية مفروشة طوال الوقت ، تفضي إلى حجرة غطّتْ جدرانُها برفوف تضم عشرات الكتب والمصاحف ، وفي الزاوية ، قبر دارس ، أُهيلت جوانبه بأيدي نساء المدينة المعتقدات بأنَّ حفنة رمل من قبر هذا السيد ستعتقهن من هموم الدنيا ومشاكلها ، يمتلئ المكان بطيب أعواد البخور المتقدة طوال الوقت ، تطلق رائحتها في أرجاء المكان
ولكن كيف ؟ وغالباً ما تكون تلك الأوقات موعداً لحركة العم الدائبة ، وهو يلف أذيال ملابسه البيضاء على ذراعيه ، يحمل إبريقه النحاسي الكبير ، فيصبح جسده الذي طوت ظهره السنون ، هالة كبيرة تذرع الفناء جيئة وذهاباً ، متأهباً لصلاة الفجر .
تلفع بمعطفه القديم ، تتلقفه دروب زلقة لا يتبين فيها خطواته ، تعرج به عبر أرض جبلية إلى سوق المدينة الخالي في مثل تلك الساعة من الليل ، تؤنسه أصواتُ ميازيبِ منازل غارقة في غموضها ، يغطيه نثيث المطر ، وذلك الصمت الموشى بالخوف ، لتنحرف به إلى زقاقٍ أكثر رهبة من كل أزقة المدينة ، ومجاهلها الكثيرة .
رغم أنه يجوب المدينة طوال النهار ، ينوء بعشرات الأعمال الصغيرة ، إضافة إلى الأذان في الأوقات الخمسة ،التي أوكلها إليه عمه إمام المسجد ، لتلبية احتياجات عائلته الكبيرة التي تأود بها رغم سنوات عمره الطرية ، فعليه بعد أن يؤذن لصلاة الفجر ، إيصال أرغفة الخبز الساخنة التي تخبزها أمه ، إلى المدرسة الإبتدائية في الطرف البعيد من المدينة ، ليعود محملاً بما يجود به مدير المدرسة من فائض التغذية المدرسية ، إلاّ أنه يأبى أن يمد إليها يده ، مكتفياً بالوجبات التي يتمتع بها لقاءَ أعمال البناء في بيوت الميسورين ،
كثيراً ما تمنى لو أنه خُلق في مكان آخر من الارض ، فلا تكبله أفواه إخوته المفتوحة ،
كثيراً ما يتساءل ، لما فرض الله الكد عليّ وعلى الفقراء ؟ والفقراء ...
لمَ لا يُبقي الفقراء معه هناك ما داموا أحبابه ؟
لم يكن الظلام يخيفه كثيراً ، إذ عرف معجم متاهاتهِ ، لكن ذلك الزقاق الضيق ، المنحدر باتجاه النهر ، قريباً من المسجد ، كان يصيبه بالهلع ، يملأه بعشرات الحكايات ، كلما دنا منه
فعلى الجانب الأكثر ظلاماً ، تقبع بقايا بيت متهدم غائر إلى الداخل ، وسط جدران البيوت العالية التي تحيط به من كل جانب ، تنتشر في وسطه أجمةً تقصَّفتْ جذوع الشجر فيها ، مهملة يثيرها هفيف الريح فتطلق أصواتاً تقتلعه من كل محاولاته ، وتراتيله التي يذخرها لحين مروره من هناك ، تتسارع خطواته العجلى ، يتلو أدعية كانت تودعه بها أمه كل يوم ،
أجفلَ لمواء قطة مرقت من أمامه ، وكان الظلام المحدق في كل ركن ، قد أفقدها لونها .
راعه في تلك اللحظة ضوء ، أنار الطريق كله ، يشع من ذلك البناء القديم المتهدم بل أن أجمة الأشجار المهملة ، تحولت إلى حديقة غناء غاية في الجمال ، أراد أن يهرول مبتعداً ، لكنه هذه المرة توقف مبهوراً تتقاذفه رغبة بالهرب ، وأخرى في اكتشاف المجهول وخباياه اللعينة !
أطرقَ تسوره اللهفات لاقتحامها ،
فعلى خطوات قليلة ، ارتفع بابٌ حديدي مزركش بزخارف متضاربة الألوان بديعتها
وممرٌّ رَحِبٌ تنيره مصابيح باهرة الضوء ، لو وزعت على أزقة المدينة لحالت لياليها إلى ظهيرةٍ ، أرضيتها المرمرية ، تعكس ضوءاً إضافياً ، تنير ما في داخله من صبوات ،
تربعت امرأة بديعة الجمال على أريكة ، مزينة بالورد ، والحلي التي زادتها فتنة وجمالاً
امرأة لم يرَ في مدينته كلها بجمالها ، وغنجها ، نهضت لمقدمه ، وتحركت نحوه حافية القدمين
وكأنها تمشي على أرض ليس لها قرار ، وشَعرٌ بلون الفجر يتطاير خلفها ، أزاحت بذراعيها البضتين مأزرها عن جسد مرمري ، أحس أنَّ بريقاً تساقط باتجاه الأشجار المشرئبة أعناقها حول البيت وحول تلك المرأة ، فأظهرت نورها الأخاذ
- إدخل أبا جعفر ولا تخشَ شيئًا ، فالحياة هنا
أشارت إلى مجلسها الوثير ، بملابسها الفضفاضة كاشفة عن مفاتنها ، أراد أن يبتعد لكنَّ يديها الممتدتين إليه ، أغرتاه بالدخول ، أحس أنَّ قدميه ستفضيان به إلى شطآن ، خشي أن تتشابك ظلالها ، وإذ تُسقطه فيها ، لن يتمكن من الفكاك منها ،
إنها تدعوه لدنيا لم يكن يعرفها من قبل ،
دون أن يعي شيئاً كان بين أحضانها ، مشفقاً عليها من ملابسه المبتلة القديمة ، ومن أصابعه المغروسة بالطين ، ومواد البناء ، كأنها حشف عافته الحياة .
سحبته إلى داخل غرفة جانبية باذخة الترف ، أرتَقتْ فراشاً وثيراً ، بلون زهري زاهٍ ، فظهرت ربلتا ساقيها الممتلئتين ، فتعالى وجيب قلبه ، سقته شراباً لم يذقه من قبل ، وضجيج ضحكاتها الرخصة يغمره بالدفء والحياة ,
احتوته بين ذراعيها ، فضاعَ في أفراح تشابكت فما عاد الليل ليلاً .
من بعيد .. تعالى صوت الآذان ، فتعرف اليه , إنه صوت عمه الذي بقي قوياً رغم تعب السنين ، فدفع المرأة عنه , وبدون أن يدري لاح وجه أمه المتعب خلف تنورها الطيني ، تردد حوله أدعيتها الحانية .
ركض خارج خدرها ، لكنها أزلجت الباب الحديدي دونه ، تحولّ فرحه المباغت إلى سُخط يعتصره ، فدفع المرأة عنه، تشبثت به ، فأزاح يديها عن عنقه ،
صرخ بها : إبعدي ناركِ عني !
في لحظات كأنها الدهر كله ، رَمَقَها , كان قد جللها ضوءٌ بامتداد الريح ، تمتطي صهوة جواد أشهب ، يرتقي بها فوق ذلك البيت ، آخذةً معها كل بهائهِ ونورهِ ،
فعاد نثيث المطر يزغرد على وجهه المحموم ،
تلفت بوجل ، كان وحيداً مبتلاً حد العظم ، مهجوراً في ذلك الزقاق ، وكان البيت كما هو غائراً في أعماق الجدران العالية ، لهذه المدينة التي تسرق الحياة عنوة ،عاد الصمت يخيم على ذلك المكان ، عندها عرف أنه فقد كل أشيائهِ هناك .
سطوح البيوت المتداخلة ، وتلك الفتحات الصغيرة التي يسميها الأهالي نوافذ ، مطلة على الأزقة ، تتلصص خلفها عشرات العيون ، كل شيء يرقبه ، ويشي بما أقدم عليه ،
جاءته رائحة خبز أمه ، والسماء تمنحه ذلك الشعور بانجلاء الوقت ، كان مسمراً في مكانه ، وحمى الخوف تبث فيه رغبة حارقة بالهرب ، وحزن يشعره بأنه سجين في تلك الزاوية من الزقاق ، كان مبتلاً ، مسكوناً بصوتها ، لكن هل تغسل قطرات المطر دنسه ؟ هل تمحو وجهها وعطرها المغروز فيه ؟
في لحظات كان يرتقي سلماً خشبياً امتد من أحد الجدران ، ليوصله إلى فناءات متداخلة وأصوات تدعوه للدخول ، لكنه كان يغادرها ، باحثاً عن بيته المفقود ، وخبز أمه الذي أصبح بارداً ، منقوعاً بالمطر ،
رأى في الظلام ، خلف شعاع الفجر المنثال كشلال من الحنين ، قامةَ عمه وهو يمتشق سيفاً صدئاً ، يقف أمامه غاضباً ، يسد عليه منافذ الحياة ، عندها غاصت قدماه في أرض طينية لزجة ، وما عاد يرى شيئاً
**** ****
تنبه إلى همسٍ متداخلٍ يحوم حوله ، ونساء يحكمن قبضتهن على جسده ، وخدرٍ لذيذٍ يتملكه ، كان ممدداً في تلك الحجرة إلى جوار القبر ، إخوته الصغار يتلصصون النظر إليه من وراء أمه الواجفة ، مدير المدرسة ، عمه الذي يكبِّر في أُذنيه ، الكل يحدّق به ، كيف للأرواح الشريرة أن تُحكم قبضتها عليه ، وسط كل هذا الفيض من الإحتشام والتردد ؟!
لكنه كان مأخوذاً بتلك المرأة ، التي كانت تغمزه ضاحكةً ، يطالعه وجهها بين الكتب المرصوفة على الجدران ، تبعد عنه ثم تدنو
، تبسّم لها ، فمدت له ذراعيها ،
ضحك مقهقها ً،
- عدتِ..؟ عادت بك خيولك الجامحة ، سباتُ الكون حولي دعاكِ إلي .
لطمت أمه خديها صارخة :
- وتقولون : لم يُجَنَّ ؟!