فوق منضدتي الخشبية الصغيرة ، حاولت , لملمت أوراقي المبعثرة ، لم أكن اعرف أني كتبت ذلك كله وسط شعور بهذيان بهيجٍ ، هكذا يكون الإنسان عندما يتخلى عن ذاكرة الآلهة ، نبياً منعتقا من جحيم الخيال ، ويصبح نافراً بلا لجامٍ , يصبحُ غيرَ مأمون الجانب وكأنه مهرة مجنونة !
في ذلك الذوق المفروش بالعوسج ، في ظهيرة يوم عراقي مليء بالخوف والترقب ، وحيث الدخان يدخل إلى القلب ليخدر الحياة فينا , كان صوتها يصلني ، فيدفع أفكاري كأبخرة تتصاعد لتتبدَّد .
ماعدت قادرة على الإحتمال في هذه الأجواء المشحونة ، فبيوتنا التي بُنيتْ منذ عهد بعيد تتماهى فيما بينها وتتلاصق ، حتى يصبح الهمس مشتركاً والألم واحداً ، فلقد كنا نسكن في تلك المنازل المُنَضَّدة على التلال المطلة كالأثداء على ضفاف النهر ...
بيوتٍ شهدت دون إرادةٍ منها او بإرادةٍ ! صنوفَ الحكايات المخبأة والسعيدة الحزينة ، ولازالت تضمنا او نضمها لا ندري ...
بيوت شرقية صغيرة ، أسجيتها العالية تهرأت بمرور الزمن ، وأصبحت تنبئ بخجلٍ ، أنَّ هناك أسواراً بيننا بما تبقى فيها من حجارة ، لكن ما بيني وبين جارتي وابنتها ليس سوى علب الصفيح الصدئة عملنا معاً على ملئها بالطين ، وغرزنا فيها بعض النباتات المشتركة التي كنا نتناولها بحميميةٍ مع أقراص الخبز الطازجة ، كلما أوقدت تنورها الطيني ، وأوقدت معه حكاياتٍ شجية وكثيراً ما تُدعو للإستزادة لغرابتها ، لكنها لا تلبث أن تبترها فتتركني فريسةً لتذمري او لإشفاقي !
ركضتْ عبر السياج , دخلت باحة بيتها .
كانت تقف بجانب تنورها الطيني ، في تلك الباحة المكشوفة ، متشحة بالبياض ، وتتلفع بفوطة عراقية بيضاء لكن خصلات شعرها الأبيض الممزوجة ببقايا من سحب الحناء الشاحبة تهلهل متماوجة من خلف ستارها الأبيض
- أنت هنا ؟؟
همست لي وفي عينيها بريق أخافني . وضعتْ كلتا كفيها على فوهة التنور الخامد ، وأحنت رأسها وكأنها غارقة في صلاتها .
- ستة أولاد أردتهم أن يطهروني من هذه الدنيا , ذهبوا جميعاً ( صفقت بكلتا يديها وأزاحتهما عاليا ) وتركوني للوحشة , ستة أولاد مع أبيهم وهذه المسكينة .
قالتها وهي تشير إلى ابنتها الجالسة في الزاوية البعيدة منتحبة تلطم صدرها العاري .
- تتصور أني مجنونة .
إقتربت الإبنة خائفة .
- منذ أن رأت سحب الدخان
- لكنها تعرف جيداً أنَّ ذلك بسبب الإنفجارات وهذا ليس جديداً علينا .
- لقد جُنَّت هذه المرأة , جُنت , تتصور أنها نهاية الدنيا ، ويوم القيامة آتٍ دون شكٍّ .
إندفع صوتها المبحوح
- دجلة , نهرنا الجلاّب , لقد كنتِ صغيرة , ألا تذكرين ؟
بدأت تجوب المكان ثم توقفت على حافة التل العالي الباسط كفيه على كتف النهر و كأنه يوصيه ، ثم انحدرتْ بانحدار الطريق الترابي الذي عبدته أقدام من مروا عبر هذا الزمان ...
فبيتها هو الوحيد الذي أعتقته من الحواجز ، وتركت المكان مفتوحاً بينه وبين النهر .
في لحظة وجلٍ يكبلنا أنا والإبنة مشت جارتي المليئة بالحياة ، باتجاه النهر ، فأمامها بضعة أمتارٍ في أرض وعرة ...
مشينا خلفها مبقين على مسافة بيننا ، لأننا نعرف أنها عنزة جبلية لا تُقهر !
في الأفق البعيد ... إمتداد عجيب لسحب الدخان المتماوج يمتلك النهر ، فيدفعه بقوة سحرية إلى فسحة السماء فيلتهب العشب المخضل بالقطران ، ويمد رداءه على طول النهر وعرضه , يتدفق اللهب في كل مكان , ينسحب مرة معتذراً للنهر , يجرجره هواءُ تموز اللاهب فيتماوج في كل مكان متناسياً اعتذاره !
توقفنا نحن الثلاثة غير بعيد عن النهر لكنها انفلتت مندفعة إلى أحضان دجلة كما العاشقة البكر بعد أن أزاحتْ فوطتها وألقت بها على الشاطئ ، وبدأت تغرف بيديها من مائه لتسكبَهُ عليه في محاولة لإخماد نارهِ ! أية غرابة وأي عجب ومَن يطفيء النار بالنار ؟
ولكنها - وهذا هو الأغرب - تؤمن عميقاً بإمكانية ذلك .
- لقد جنت , الم أقل لك ( قالتها الابنة هامسة وسط ذهولها )
- في الصباح عندما سمعنا إنفجار أنبوب النفط , وتدفقت النيران على ضفاف دجلة ، وجدتُها تركض إلى خزانة ملابسها لترتدي الملابس التي تدخرها للحج ووجدتها تدور حول البيت , تصرخ : إنه يوم القيامة يا ناس ، وأنا لم أتطهر من ذنوبي ، ستحل علينا لعنة الرب ، حاولتُ تهدئتها لكنها لم تكن تسمعني .
تذكرتُ وأنا أتأملها أن بعض المتصوفة أجازوا أنْ يطوف الإنسان حول بيته ، بعد أن يعطره ويغتسل ويرتدي ثياباً بيضاء نظيفة ، فيكون كمَن أدَّى فريضة الحج !!
ولكن هذه المرأة ... أية طريقة صوفية تتبع !! وهي بكل هذه البساطة ؟
خرجتْ باتجاهنا وقد التصق ثوبها , الذي غدا بنياً , بما علق به من بعض العشب المحترق ، والحلفاء المتفحمة , بجسدها المختلج , وبقايا حشائش على شعرها المجدولِ خلف ظهرها ...
تربعتْ على الشاطئ كسيرةً حزينة فأحطنا بها ونحن نرى الحريق يمتد باتجاه الريح إلى الجنوب ، فيشتعل العالم حولنا ، وإذا اشتعل فسينطفئ ويُذرّى ذات يوم , ساعةٍ , هنيهةٍ ولكنَّ ما في القلوب مَن سيذرِّيه ؟
سمعتها تهمس :
- كنا نوقظ الفجر , نسابق الدنيا وننزل إلى النهر ، وخلفي أولادي الستة وأبوهم ، عبر طريقنا الوعرة , وبطوننا خاوية والماء البارد يلسعنا في كل مكان وعندما تتجمع السحب فوق الرؤوس الصارخة بالحياة ، وتنشب أظفارها فينا بزخات كحمم البراكين , يصبح وقع القطرة على جلودنا المنسوخة كأنها من صلب الشياطين ! كما الموت القاتل ، لكننا كنا نرفع ملابسنا ونتعرى فحياتنا رهنٌ بما يجود به هذا النهر الغاضب , وفي كثير من الأحيان أرفع كل ملابسي , يسترني الغبش الربيعي , وكان جسدي بضاً لم تطله الشمس ، وربما لهذا السبب لم يكنْ أحدٌَ يبالي !
فكان علي أن أغوص في وسط النهر فترطمني أمواجه ، تسحقني لكني أتشبث بالطين , بغريَنهِ كي أجمع ما جرفه رغم إحساسي بما يشبه اليقين بعضَ الأحيان أنني أصبحتُ من بين ما يجرفه ... كان يمنحنا هداياه ، فنتشبث بكل شيء حتى القشة الصغيرة ، فإن تركناها ، سيأخذها جيراننا الذين جاءوا بعدنا !
نعرف أنه خرَّبَ القرى الفقيرة البعيدة ، لكننا فقراء أيضا ، وهو يعمر بيوتنا حولاً كاملاً ...
كنت أسمع امتعاضَ الستة وشكواهم من البرد والمطر ، ومن هذا العمل الذي يسرق منهم نشوة التباهي أمام أقرانهم , بقدرة تنوري على إدخالهم المدارس ، ورغبتي في أن يطالوا الشمس ذات يوم ، ويتمكنوا من أن يسألوا السماء :
لماذا تنثر غبارها الأسود علينا وليس على أعدائها ؟ لماذا يمهر ناسنا بالألم والحزن في هذا الوقت فيتركه مُحدِّقاً كالهاوية ؟
ثم أين هم الآن ؟ تناثرت أشلاؤهم وأضحت الأرض تنحني أمام عالمهم السماوي . .
نهضت ثم عادت إلى النهر ورفعت هذه المرة فوطتها ثم ألقتها إلى النهر ..................
- لو كانوا هنا لما حدث ذلك كله .
بعد عدة أعوام رأيتها على الضفة الثانية وكان مساءاً .
كانت جالسة على بساط ، في حقلٍ يطفح من بين ثناياه عشبٌ ملونٌ لم أرد أن أصدق أنها هي لذا اكتفيت بأن أسمع بعض همسات تفوح منها .
قالت للستة ومعهم البنت وهم متحلقون حولها كهالةٍ من الحبور والإصغاء : كان هذا جيلاً وحكاية ,حكايةً ظلت تخشى أن ترى لها خاتمة , فمَن منكم سيشْرع بتدوين عنفها لتكون أغنية أنتم أنغامُها والقلوبُ التي تُصغي اليها !؟