اللوحة – قصة : مصطفى سهيل

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسحمل الفنان التشكيلي الشاب لوحته ، بعد أن لفـَّها بعناية في ورق ملوَّن وصقيل..وتوجه بها إلى مقر اللجنة المنظمة والمشرفة على المسابقة..وانتابه شعور هو مزيج من الرهبة والثقة بالنفس..كان يعلم أن لعبة المسابقات لا تحكمها قوانين مضبوطة ولا تخضع لمعايير دقيقة ..وأن اللجنة بأعضائها الذين تتفاوت مستوياتهم وتختلف أهواؤهم ومشاربهم ، لا يمكنها أن تـُجمع على تعيين العمل الفائـز إلا بعد مداولات وتنازلات من بعض أطرافها لحساب الأكثر نفوذا وتأثيرا ، والذي هو في الغالب رئيسها..
سلمهم اللوحة الملفوفة والتي اشترطوا خلوها من أي توقيع أو علامة قد تدل على صاحبها ، طبقا لقواعد المسابقة..طلبوا اسمه ورقم هاتفه والعنوان الذي اختاره للوحته..ثم انصرف إلى حال سبيله بعد أن ألقى نظرة أخيرة على إبداعه الملفوف وكأنه يشيعه إلى مثواه الأخير..
مرت أسابيع حاول خلالها أن ينسى أمر المسابقة..لكنها ظلت تلاحقه حتى في أحلامه..كانت أحيانا تتحول إلى كوابيس مرعبة..تحولت اللوحة إلى حبل مفتول التف حول عنقه..وكاد يزهق روحه..لولا أن تدار كته اليقظة ، فصحا من نومه مذعورا..وتراءى له أعضاء اللجنة وكأنهم أشباح مزعجة تطارده في غابة ذات أشجار كثيفة..وأقسم بعدها أن لا يعود إلى المشاركة في مسابقة أخرى..مهما كانت قيمة الجوائز المرصودة لها..

وذات صباح اتصل به صوت لا يعرف نبراته..طلب منه الحضور في مساء اليوم التالي ..لأن الفائز سيعلن عنه في حفل رسمي تحضره بعض الشخصيات السامية..ازدادت رهبته..وتراجعت ثقته بنفسه..سيما بعد أن علم من خلال الصحافة مشاركة عدد كبير من الرسامين المرموقين..كما علم أن بعض أعضاء اللجنة هم من النقاد التشكيليين الذين تملأ كتاباتهم صفحات مختلف الجرائد والمجلات..استعاد تفاصيل لوحته..وندم على أنه نحا فيها منحى سورياليا قد لا يفهم أبعاده سائر أعضاء اللجنة ، ناهيك بالجمهور العام..ودَّ لو يستطيع سحب تلك اللوحة ليستبدل بها لوحة أخرى فيها مشهد انطباعي عام قد يعجب الجميع..أو رسما تشخيصيا لوجه تبرز فيه القسمات والملامح بشكل واضح ومؤثر..ظل ندمه يفترسه حتى وصلت ساعة الحسم..تردد بعض الوقت قبل أن يذهب..إذا لم يحضر قد لا ينتبه أحد إلى غيابه..ما دام على كل حال لن يفوز..لكنه ، في آخر لحظة ، استجمع كل قواه فتو جه إلى مكان الحفل ويده على قلبه كأنه يخشى عليه أن يخرج من مكانه..

كانت القاعة ملآى عن آخرها على غير ما توقع..وأدرك فيما بعد أن الحاضرين إنما جاءوا ليستمتعوا بغناء المطربة الجميلة التي استـُدعِيت لتنشيط فقرات الحفل..ثم جاءت لحظة الحسم..فأصبح قلبه كالطبل الكبير تتعالى دقاته بإيقاع تصاعدي..ألقى رئيس اللجنة كلمة بدت له وكأنها خطبة من خطب الرئيس الكوبي فيديل كاسترو..لم يعد يذكر منها شيئا..وقبل أن يعلن اسم الفائز تعمد أن يطيل لحظات الانتظار ..أحس أن حلقه قد جف تماما..فطأطأ رأسه وعيناه لا تكادان تبصران شيئا..لم يصدق نفسه عندما سمع اسمه يملأ فضاء القاعة..انتابته غفوة كالإغماءة..ثم صحا على إيقاع التصفيق الحار الذي غصت به القاعة..طلب منه الرئيس القدوم إلى المكان المخصص له في المنصة..صافحه بحرارة وهنأه بفوزه..ثم أمره بإزاحة الستارة عن لوحته وقد عُلـِّقت وسط المنصة..مد يدا مرتعشة من شدة الفرح..أزاح الستارة..وبُهِتَ لما رأى لوحته معلقة بشكل مقلوب..همَّ أن ينبه الرئيس إلى ذلك وأن يعيدها إلى وضعها الطبيعي..لكن الرئيس لم يمهله لأنه كان قد شرع في تحليل مضمون اللوحة وتفسير أبعادها ورمو زها ..والثناء على عمق الرؤية الفلسفية والإنسانية التي عبر عنها تداخل الألوان وتقاطع الخطوط وتفاعل الأشكال ...

أسَرَّها في نفسه..وعندما عاد إلى بيته علق لوحته في وضعها المقلوب ..ومضى يتأمل تفاصيلها بحثا عن عمق الرؤية الفلسفية والإنسانية التي تحدث عنها الرئيس..ثم همس لنفسه وهو يبتسم: ربما وضعي أنا هو المقلوب..وضع توقيعه في زاوية من زاواياها..ثم كتب عنوانها الجديد : الوضع المقلوب..
 
 مصطفى سهيل


تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة