وحش المدينة – قصة : محمد اغبالو

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسكنت – أنا – إلى حدود يوم الأربعاء الماضي مواطنا عاديا جدا : موظفا في الرابعة والثلاثين من عمري ، أقضي جل نهاري وراء مكتب قديم ، منكبا على ترتيب الملفات والوثائق ، وكنت منعزلا ومنطويا على نفسي ، أتفادى ما أمكنني معاكسة الآخرين في الحديث وفي الرأي وفي كل شيء ... فهزالة جسمي غالبا ما كانت تغري بي المختلفين معي فلا يترددون عن التعنتر علي وضربي بسادية غريبة ... وأعترف أنني عدت مرات إلى المنزل في حالة يرثى لها كما يقولون ، يحمل جسمي في أكثر من موضع كدمات وجروحا ، فتسارع أمي إلى مساعدة زوجتي لتنظيف الجروح ووضع الدواء الأحمر والمراهم عليها ، في جو من اللعنات والدعاء على ضاربي ، وعاصفة من التعنيف لي ولومي على التدخل فيما لا يعنيني وما لا طاقة لي به ... هكذا كان دأب حياتي إلى حدود صباح الخميس الفائت . كنت أنتظر الحافلة للتوجه إلى العمل ، ولما بدأ هطول المطر، اتخذت لنفسي مكانا على المقعد الطويل المظلل بصفائح الألمنيوم اتقاء للمطر ، جاءت "عائشة الكحلة"وأمرتني بأن أخلي لها مكاني لتجلس فيه هي بعجيزتها العظيمة ، فهي امرأة ومن اللباقة أن أتنازل لها عن مكاني أنا الرجل الشاب ، ولأنه كان هناك شبان آخرون جالسين، ومنهم من يملك مظلة لاتقاء المطر، فقد رفضت أن أتنازل لها عن مكاني !
فسكنها هوس جنوني واتسعت عيناها وتطايرت رغوة اللعاب من فمها ، وهجمت علي ركلا وضربا وجرا وهي تردد "ملعون أبوك الكلب ، خذ يا بن "العسرية" خذ يا امرأة في صورة رجل !!" تلقيت ضرباتها الهمجية المؤلمة ثم أحسست بشيء فظيع وغريب بأعماقي يستحثني على ضربها والدفاع عن نفسي ، ترددت لكن الرغبة اللاإرادية القوية غطت على الخوف والتردد ، فنهضت إليها وجررتها من شعرها وألقيت بها على الأرض ، وعفصتها عفصا ، ولما تدخل بعض من وجد بعين المكان كان مصيره الضرب و الاهانة ... نعم أنا سكنتني على حين غرة قوة جبارة ، وصرت أصرع هذا وأخبط ذلك بالأرض وألوي عنق الآخر ، فهرب الجميع ... نزل رجال الشرطة من سيارتهم ، ولما رأوني استصغروني ! فأنا بضحالة جسمي لم أكن لأمثل في تقديرهم أي خطر ، اقتربوا مني بثقة تامة ، ثم اشتبكت معهم ، ضرب ورفس ، فـ ... هروبهم، تساءلت : لماذا لم يستعملوا السلاح ؟! ... لم أذهب إلى العمل ذلك اليوم ، وإنما عدت إلى البيت في هدوء ... استفسرتني زوجتي عن سبب عودتي فقلت لها : لا شيء ، أرادت أن تستفسر مرة أخرى لكن صرخة عالية مني جعلتها ترتاب وتنزوي مملوءة خوفا !

انتشرت قصتي على نطاق واسع ، فطلعت صحف الجمعة بعناوين عريضة على المانشيت : كتب في الأولى : "وحش المدينة يهاجم المواطنين ورجال الشرطة". وقالت الثانية : "الوحش يعتدي على رجال الأمن والمواطنين - سقوط ضحايا ما بين جريح وقتيل !" وادعت أخرى : "وحش المدينة يغتصب النساء ويعتدي فقط على الأطفال والعجزة والمعوقين" وأضافت رابعة : "جني في صورة إنسي يضرب البوليس والمواطنين – عقد اجتماع طارئ للحكومة وتشكيل خلية أزمة" ... ورغم ذلك ، وبالرغم من خطورة الموقف الذي وجدتني فيه ، فإن ذلك لم يحرك في رأسي شعرة واحدة ، وخرجت بكل هدوء إلى الشارع . ولما وصلت إلى المدار حيث ملتقى الطرق في ساحة "الجامعة العربية" وجدتني محاطا بجيش من الناس ، كانوا ينظرون إلي دون كلام ، يتأملون في ويبحلقون في وجهي ثم بدأ الهمس ، ثم رأيت حشدا آخر يسارع إلى عين المكان ، كانوا رجال شرطة ورجال درك وعساكر ... يحملون بأيديهم هراوات حمراء وأسلحة. وتصاحبهم كلاب رومية ... اتجهوا نحوي ثم وقفوا ... وسمعت صوتا من مكبر الصوت يقول : "سلم نفسك ! أنت محاصر". لم أعر أي اهتمام للصوت فبدأت المعركة ... أنا من جهة وجميع الرجال والكلاب من جهة أخرى ، حاولوا ضربي وحرضوا كلابهم علي ، لكن ما أن كان كلب ينطلق نحوي حتى تنبعث في طريقه كلبة بهية تغريه بنفسها فينصرف إليها ... فوقف الجميع فاغرا فاه بمن فيهم أنا ، ليحصل شيء آخر ، فقد أرعدت السماء وأبرقت واسودت الدنيا وبدأت تهطل أمطار غزيرة بماء بني اللون ، وهاج البحر هيجانا فبدأت أمواجه تغمر البنايات الشاطئية ، ثم بدا بالأفق سرب كبير من الطيور . حلقت فوقنا ، حمائم بيض تتحول إلى صقور كلما هاجمت أحد المسلحين من رجال "المخزن" ، فهرب من نجا وهربت أنا أيضا ... دخلت المنزل فوجدت أمي تصلي وزوجتي خائفة جدا ، صعدت إلى الطابق الثالث فرأيت عجبا آخر : بدأت الأمواج تطير من البحر على هيئة حيتان ضخمة فتغمر العمارات ، أما السماء فبدأت تتشقق وبدأت النجوم تتساقط على المدينة ... سمعت أمي تقول إنه يوم الفناء ... ثم حل ظلام عظيم الحلوكة فغرقت المدينة فيه ... وحل سكون تام ، فكرت في الخروج ، لكن إلى أين ؟ وكيف وكل شوارع المدينة تحولت إلى أنهار هادرة ! اجتمعنا في الغرفة العليا أنا وأمي وزوجتي ، كانت أمي تصلي وزوجتي خائفة ملتصقة بي ، أقفلت النوافذ والباب وأشعلت شمعة ، وبدأت أدخن في قلق ... جلست إلى الكرسي ، نظرت إلى الساعة فوجدتها تعطلت ، والهاتف غابت عنه الحرارة ، والبث الإذاعي والتلفزيوني انقطع .

بقيت هناك جالسا أدخن ... ثم وجدتني أسير نحو العمل دخلت فتوجهت إلى مكتب المدير ، كنت أريد تبرير غيابي أولا ، لكن المدير استغرب وادعى أنني لم أتغيب أبدا وحتى يطمئن قلبي أطلعني على كناش الحضور ، حيث بدا اسمي وعلى يساره توقيعي الواضح !!!


محمد اغبالو

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة