حُـرة على الـجـسر - خيري عباس

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

انفاستوقفت مرتين على الجسر متثاقلة، قبل الوقوف الأخير في وسطه.. وبذا تكون هذه النقطة هي الأبعد عن مياه النهر فتسهل مهمتها القاسية.. والأبعد في الوقت نفسه عن الشاطئين لتضاف سهولة أخرى.. ولكن!. كيف سيواجه أشقائها عامة الناس؟.. ويواجهوا الأصدقاء؟ لا سيما أن أعداداً من سكان الديوانية قد نزحت إليها من القرى والأرياف.. ولو ـ لعنت الشيطان ـ وعادت بخفي حنين إلى المدينة، كيف ستواجه الأم التي طالما حذرتها منه؟ إذ هي على دراية أن السفر هاجسه بقصد الدراسة أو الإقامة أو ما يبرر له هذا.. عدا أن الكثير من شباب الحي يمني النفس بها، وهي لن تمني النفس إلا به، لذا لقبتها أمها ـ إكحيلة ـ عن استحقاق.

فبعد مضيها لبعض الوقت في غرفته تنهض لتضع لمساتها على جميع مقتنيات الدار ولوازمه، لم تدع صحناً أو قطعة ملابس إلا وغسلتها وتحديداً ملابس أمه.. التي أحبتها بصدق.. والحق، إنها كانت كحمامة بيضاء هادئة ووديعة.. كغزال بري في لفتاته. كثيراً ما أضافت إلى المنزل هالة رائعة بتشكيلات ملابسها وتسريحات شعرها. كان الشريط الأسود بعرض اصبعين يطوق جيدها ويضفي عليها الكثير.. كانت واثقة الخطى في المنزل.. وواثقة منه تماماً، فعما قريب ستأتي رسمياً إلى الدار، وبذا تلقم الأفواه الممطوطة الشفاه هزءاً بحجر.. فأمها حين امتثلت لإرادتها، قالت ذات صباح:ـ إنها كفيلة بإسكات أشقائها.


كانت الأيام مجهولة.. ومتسارعة.. مر عام منذ أن أنهى دراسته الإعدادية. كثيراً ما كانت تأتي خلسة كعادتها.. تمضي أوقاتاً قربه، وبذا عرفت المقادير وحاجيات طاولته والزاوية الأثيرة لها. لفتت نظرها ذات مرة أوراقاً رسمية وجواز سفر. توقفت عند ورقة قد دونت بآلة طابعة إنكليزية كانت قد صدرت منذ أشهر من رئاسة جامعة أوربية، متضمنة فحوى قبوله للدراسة فيها. قرأتها بإمعان، بعينين دامعتين من الخوف والفرح في آن.. فرحاً لمستقبله وريبة على مستقبلها.

ـ أحقاً يا معن ستسافر؟.

أجاب:ـ نعم أيتها الغالية، لأجل عينيك أفعل كل شيء!!

ـ وإن مكثت هناك؟

ـ …………………

ـ .. إن الجميلات هناك كثيرات، وأنت رجل شرقي؟.

ـ لا أيتها العزيزة، فأنا معن.. ونحن معاً إلى الأبـد. لن تفصلنا المسافات،

وخطوط العرض والبحار.

تذكرت هذه الأحاديث وغيرها.. وأشياء كثيرة بأمل قديم وخوف جديد عندما أقلتها الطائرة مع أمه إلى المدينة التي أقام فيها، حيث استقبلهن في مطارها بفتور، إذ فوجئ بها مع والدته. كانت تصحبه امرأة شقراء. وعلى مضض ذكر لهن بأنها زوجته، حين دُوهم بسؤال وأن الطفل الذي يتوسطهما هو ولده..

أمضتا ليلة بالبكاء الخافت في شقته.. وعند الصباح أقلتهن الطائرة إلى بغداد.. حيث جسر الأحرار يتوسط المدينة.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة