" أورسولا" - قصة : م ع الرحمان دريسي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسالزمن خريف وعلامات السقوط المفقود تؤشر للقدر المختوم,ليس في السطور ولا حتى بين تلافيف الصدور,بل انسكابا في متاهة ذاكرة النسيان..هي حكاية ترويها جدتي أورسولا,تلك المرأة التي خط الشيب شعرها وانقضمت ظهرها على ايقاع طقطقات عظامها كفالس أخير يشد أوتار لمقاطع نشيد الوداع.تضاءل نهائي يعلن الرحيل كامتداد أجنحة طواها الأفق الكالح لتغيب..
 يدان بيضاويتان ترتجفان ونبضات تئن من تحت عروق كأخاديد مهجورة تعزف اللحن الأخير.عينان ساهمتان نحو الله وأنا وأبي لا نستوعب مداها,فترتقي هي ونمكث نحن على حواشي فراش الموت..
 مولاي..مولاي..هكذا كانت جدتي تمزق اهابي في لحظات احتضارها.الأب الصامد يشد على يديها,فألمح على صفحة وجهه بريقا هادئا شديد البهاء يمنحني الجسارة لأنحني اليها لأسمع:
"كنت هالة نورانية في حلم راودني قبل ميلادك.."
تنبعث آخر الزفرات مع ترديد أسماء ليست هنا.لأرواح حضرت لتشيعها.ربما لأنها أطالت المكوث قرنا من الزمن في لعبة اسمها الحياة..
 
يظهر الفجر في السماء شفافا..رهيبا كلحظة الاحتضار..والشمس في قلبي ترفض البزوغ تمسكا بالرحيل.فتنهال الحكاية التي أرويها..
 
كان اعتدادها بصمودها تحد أخرق لعبء ذاكرة محزونة تستعاد مرارا حول صينية الشاي,بين النساء,في الأعراس والمآتم..فكان الزمن البهي ينثال داخل أحياز ملكوت الزاوية.تلك القرية التي لم تكن لا بماكوندو ولا بكومالا,بل تأسيسا عبثيا لامتداد ريح قدمت من المشرق حاملة معها بذورا تبرعمت في أراضي القفار,في الخلاء المتوج بالهباء..
 
أبواب ضخمة من الخشب الرفيع منقوشة برسوم خزفية,وحلقات نحاسية تزينها, تحدث بصنجها طقوسا جنائزية.بخور أدخنة كانت هبابا كحل الحيطان والأسقف القصبية المهترئة,وانهيارات متتالية لأعمدة شدت قلاع البنيان الذي شيده المؤسس الأول منذ قرون خلت.كان يسمى الأطرش.استقدم حمارا هو ومعاونوه الأوائل حاملين اياه لأنه كان مقعدا.تائهون هاربون من صراعات السلاطين ومؤامرات الغزاة.
نبوءات يسكنها الماوراء تحدوا بها السنوات العجاف وواجهوها بابتهالات الأطرش المتوحد فوق سطوح الزاوية.وكل صباح كانت الأواني النحاسية التي اشتروها من مدينة فاس مملوءة بكل ألوان الطعام والجوالات تطفح بالقمح والذرة والشعير..
 
وكما أن لبوصلتهم الشريفة دقة التحديد,كان حدسهم بوجود الماء مبعثا حقيقا للاستمرار والاستقرار.حفروا ساقية امتدت لأميال من الجبل لتخترق أسوار الزاوية المسيجة بالطين المسلح بالتبن.تخترق بيوتها بخرير يهز عوالم الصمت المكين, ما زال لحد الساعة يبكي هداة الأطلال الممزوجة بحكاية رقصات الجن..
 
بدون ضجيج ولا جلبة يسدل أبي ستائر الموت على الجسد المسجى,أنزعه قليلا لأحمل قبلتي الأخيرة الى جبهة باردة كالموت..أحدث نفسي على أننا نأتي كي لا نعرف قسطا ضئيلا من الحياة..أستدير لأرى أمي تعانق الدمع في صمت رهيب..
 
ومع حكمة التمرد التي تركبني لم أبصر هالة النور تسيجني,فتساءلت دوما: هل أنا شريف ابن الشرفاء؟وأنا الذي استحكمت فظاعتي بقراءاتي التي استجلت حقيقة تاريخي المرة.والتي أغيرها باستيهاماتي  لصورة المؤسس الأول على أنه مركب خرافي من مارثن لوثر وغيفارا..
ولأنني اكتشفت أننا لسنا أحرارا وأننا غرباء هتكوا عرض أرض بكر يأويها الغجر,فيها نصبوا الخيام ورعوا الغنم وصقلوا أسماءهم من الطبيعة والحجر,فاني تلفعت بكبرياء بسيط يحترم الانسان ويكسبني احترام الانسان..
 
ولأني عمدت بهوس أورليانو على فك أسرار الرقاق,فاني اعتكفت على مخطوطات عالمنا الذي درس في جامعة القرويين وتلامذته حفظة القران الذين أكملوا دراستهم في الشراطين وفي رسائلهم إلينا واليهم.لم أصل إلى شيء محدد سوى أننا شرفاء لن يستمر وجودنا بدون الاتاوات و الجبايات والضرائب,وبدون الخيام البهية التي تنصب في الخلاء لتستقبل جحافل الرحل يقدمون الماعز والسمن والعسل المراق في أمعائنا لهيبا.كل هذا من أجل التبرك بالتراب الذي تحت نعال أجدادي الشرفاء..
 
ولأن أصول عائلتي وفروعها لم تأكل من مؤونة تلك المخازن حسب رواية الجدة,فخلفها كان شديد الكره للمخزن.كانت تغرفهم حساء الذرة وأكواب الشاي عملا بنصيحة المؤسس الأول على أن من أكل من تلك المخازن حتى شبع كانت عاقبته مغبونة لا محالة..
 
عبر قرون كان الاجتثات الرهيب يقتلع السلالة,فعم القفر الحيطان والذاكرة..ولم يبق سوى هذه الحكايا التي توخز الضمير وتمنح الاستمرار لي..لكن بعيدا عنها في زمن تلونت فيه حياتنا بأضواء كاشفة مزيفة..
 
الأم تقوم بواجبها في التحنيط..فالعدة موجودة في صندوق الجدة المزين بنقوش على خشبه الرفيع.رائحة البخور والحناء تذكي الألم بالرحيل.والنعش الشبيه ببساط بدائي يرفرف بأسطورية
فوق السماء..
 
الفجر في السماء..والارتجاف في داخلي..ومع بزوغ الشمس سرت في جنازة أورسولا ببطء بجوار أبي وأمي..قطعنا الطريق المترب فوق عربة يجرها الحمار والنعش يترنح.حينما بدت لنا المقبرة المتاخمة للزاوية تنفست الصعداء لأني مثقل بغبار الموت..وآذاني تلتقط إشارات مائة عام من العزلة والسؤال المحموم حول إمكانية فرصة أخرى للحياة..
 
 
م ع الرحمان دريسي
المغرب

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة