أمسيا ت الشّعر الصّامت ـ قصة: علوي سيف

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

wland02هم يسرقون الآن جلدك
فاحذر ملامحهم وغمدك
كم كنت وحدك
يا ابن أمّي يا ابن أكثر من أب,
كم كنت وحدك
ـ محمود درويش ـ
يتهافت النّاس على الدخول في حركة مائجة من الازدحام والجلبة وكأنما يدفعهم دافع إلى الفرار من الشارع.
القاعة فسيحة تتّسع لعدد كبير من الكراسيّ والزّائرين.فضاؤها الدّاخليّ بديكوراته الأنيقة وأساليب تنضيد محتوياته على طرازات غربيّة بارزة الازدهار , يوحي بالتألق والفتنة .. على جد ران الغرفة الوسيعة تتدلّى صنوف السّتائر متناسقة في الطّول والشّكل مع طريقة التّشكيل المعماري للقاعة, وتتعدّد ألوانها بما يسمح بانسجام مميّز بينها وبين ألوان الجدران وطلائها وألوان المقاعد ولمعانها .وقد تتلاءم إلى مدى واضح مع ما يوحي به الرّكح من بنّيّة باردة تتحوّل إلى بريق برونزي كلّما شرقت فيه أضواء الفوانيس. وكلّما تراقص الضوء ,مضى ذائبا في ألوان الستائر, وسائحا في أخشاب المقاعد والركح. فإذا هما متناغمان في تأثيث مشهد الدفء والحفاوة للوافدين على المكان.

في شكل طوابير رصفت الكراسي, وعلى درجة لا تغفلها العين من التّنظيم .. أمّا الممرّات شبه الضيّقة فلم تكن تعرقل دخول الدّاخلين أو تحول دون من يحاول تغيير مكانه بحثا عن التّناسب والاطمئنان. ولعلّ الرّحابة لا تلوح بسهولة إلاّ لمن اعتلى الرّكح ودقّق النّظر في الإطار العام للقاعة عندئذ يحسّ بمتعة التّفاعل مع الأشياء والعناصر والعباد .. أمّا الرّاغب في البحث عن جماليّة الإطار وعبقريّة توزيع العناصر فيه فله أن ينسحب إلى آخر القاعة ليتراءى له الفضاء بانوراميّا. وإذا ما أطلّ إطلالة المتفحّص فهو واجد دقّة الفنّ وسلامة الذّوق مجسّمتين في التّناسق العام بين الرّكح وبين ستائر الجدران وبين توزيع المقاعد وبين الأصوات التي تعلن عن الحياة وهي تتشكّل على نحو جديد .


يعلو الرّكح المكان . يلوح في علوّه ربوة خشبيّة

كان النّاس قد بدؤوا يتوافدون بأكثر كثافة.
قال حامد كالمخاطب نفسه: "ترى هل يبدأ انطلاق الحفل الآن ؟"
قال أحد الدّاخلين لمرافقه وأشار الى الرّكح:
ـ من تلك القمّة تشرف عمّا قليل نخبة من النّاس علينا.من تلك القمة يحضر الفرسان
وتدكّ سنابكهم القاعة ويهزّ صهيلهم فضاءنا بأكمله.
ردّ صديقه ناظرا إلى الجماهير التي تصدر ضجيجا بالغا:
ـ لن يتكبّد الحاضرون إلا عناء التّصفيق والمتعة. ولأنّهم سيحصدون المتعة وفيرة فعليهم أن يجهزوا . أن يهيّئوا للنّشوة فضاءها الدّاخليّ نفوسهم, وأن يمرّنوا أكفّهم على قرع نظائرها..

في وسط الرّكح وعلى امتداده أعدّت طاولات بيضويّة الشّكل . وصنّفت فوقها قوارير مياه معدنيّة وأكواب لمّاعة ومناديل كأنّما زرعت بشكل جمالي ّداخل بعض الكؤوس.
خلف الطّاولات وضعت مقاعد ذات جاذبيّة مميّزة تبدو أبعث على الاتّكاء والزّهو والارتياح من مقاعد المتفرّجين..في تلك الأثناء بدأت القاعة تعجّ بالحاضرين وتزدحم بالدّاخلين فيما بدأ حامد يشعر باللّحظات تثقل ولا تتقدّم ولمّا ينطلق الحفل. تقدّم نحو ثلّة من الرّجال كانوا يقفون عند الجهة الداخلية للمسرح وقد همّوا بالدّخول, وبرفقتهم امرأة في الأربعين من العمر ,وسأل أحدهم:
ـ متى يبدأ العرض؟
انفلتت من المرأة ابتسامة وهي تردّ:
ـ إنّه ليس عرضا.
قال حامد:
ـ ماذا يكون إذن؟
لكنّ المرأة لم تضف شيئا, وظلّت مع بعض من معها تنظر إلى حامد وسواه وكأنهم يتعرّفون على وجوه الوافدين.ثمّ مضى الجماعة للبحث عن مقاعد تناسب عددهم .

مضى حامد خلف الجماعة كالمحتجّ وقال:
ـ لكنّكم لم تجيبوني.
فنظر اليه بعضهم وتبادلوا ضحك الاستغراب. أمّا المرأة فقالت بلطف:
ـ تعال واجلس بجانبي وأنا أجيبك.
لم يتردّد للوهلة الأولى وهمّ باللّحاق,لكنّه سرعان ما ذهل بسبب الإسراع في الدّعوة فتراجع.ولكنّه لاحقها بعينيه فرآها تجلس وهي تبادل رفاقها الخطاب والابتسام.تظاهر بالبحث عن مقعد حتّى تجدّد الدّعوة ولكنّها أهملته. فاضطر إلى الانزواء في مقعد ليس بعيدا عن مجلسهم .
مرّت لحظات من الازدحام والضّوضاء,انشغل خلالها حامد بملاحقة مميّزات المكان ينتظر انطلاق المشهد. وجعلت القاعة المضيئة تشهد آخر أسلاك الضّوء وهي تنسلّ وتخفت ,فاغتنم فرصة النّظر إلى الوقت في ساعته كمستعجل موعد يبطئ. لم يمض وقت طويل حتّى تجدّدت إضاءة القاعة. فردّد في سرّه: ما سرّ هذه اللّعبة؟ إضاءة , إطفاء ثمّ إضاءة , أيّ قرف هذا..
لكنّ الضّوء ازدهر في مناطق داجية بشكل متتابع في فجئيّة ملحوظة. وأنير المكان. واتضحت الحدود والمساحات جليّة.. اكتشف حامد أنّها ما تزال تستقبل الدّاخلين , واكتشف في لفتة منه موقع تلك المرأة التي سألها منذ حين , ولمحها منشغلة بالحديث مع رفاقها..

كان المشهد جميلا ." أن يمتلئ الخواء بهذه السّرعة أمر لم أتعوّده, ربّما لأنّي ألفت نقيضه. الامتلاء الذي يتحوّل فجأة إلى فراغ ووحشة ,أمر بدهيّ .أمّا تحوّل الفراغ إلى امتلاء فالغرابة تصعد نفسي آنئذ".
قال حامد ذلك في صمت وهو يجيل بصره ويدقّق في الكائنات المضاءة والتي قد يغمرها الظّلام مرة ثانية .
لحظة بان الضّوء وأفصح, لاحت الوجوه للأبصار . وغمرت الأسماعَ أحاديثٌ وهمسات وكركرات. وآختلطت الحوارات . وكاد حامد ـ مزدحما بضجره ـ أن يغادر القاعة . بيد أنّ الستائر جعلت تنزاح عن الرّكح. وخرج شابّ بسوم وأخذ يقول للجماهير طالبا الهدوء والاستماع:
ـ أهلا بالسّادة الكرام .إن كنّا تأخّرنا قليلا في الانطلاق فنحن نعتذر ونعدكم بأن نغسل انتظاركم بالإمتاع سنؤنسُ حضوركم, و نغرس على امتداد ساعات الفرح الأخضر في كلّ من تسرّب إلى نفسه الضّجر. المعذرة مرّة أخرى ولا نرجو إلاّ رضاكم حتّى ندخل هذه الجنّة معا.
أمّا الآن فنحن ننتقل فورا إلى المداخلات الشعريّة مرحّبين بكافّة الأخوة الشّعراء ممتنّين لهم من أجل تلبية الدّعوة في هذا الظّرف التّاريخيّ بالتّحديد والأمّة العربيّة تشهد مرحلة من الرّعب الأسود, وحالات من الاختلال والتّداخل, والإخوة الفلسطينيّون يعيشون ضربا من الإبادة والتّصفية . وجنين تستعرُ هناك..
لا علينا..
نفتتح اللّقاء بالكلمة التي يلقيها السيّد زائد توفيق الوافي في هذه المناسبة .
ينسحب ستار آخر من وراء الطّاولات المرصوفة .ويظهر الرّجل زائد كأكمل ما يكون من الوسامة والأناقة . يتقدّم نحو المنبر حيث المصدح معلّق على ارتفاع نسبيّ من الجماهير . يخطو في اتّزان خطى وئيدة ثابتة توحي بقدرة على الخطابة والوصول الى قلوب المستمعين والتّغلغل في وجداناهم وأذهانهم .. يصل إلى المنبر ويضع أوراقا على ما تسطّح منه . يرتشف ماء من كأس معدّة للغرض ثمّ ينطلق:
ـ أهلا بالسّادة ثانية . نصافحكم مرّة أخرى بالكلمة متمثّلين ما قاله محي الدّين بن عربي"لولا الكلام لكنّا اليوم في عدم". على أن يمهّد الكلام لمعانقة حميمة خالدة. فنحن كنّا وما نزال في مستوى الحدث , ننفعل بالطّوارئ ونتفاعل مع المجريات ونفعّل في الوقائع . وهذه علامة جديدة على أنّنا نحتشد على عسل الشّعر . فما يزال الشّعر ذلك الوهج المحرق , وما يزال فيه ذلك السّلسبيل بديل السّراب وممتح العطاشى . وسيظلّ بالرّغم من إرهاصات ضموره وتوافر أسباب تحاتّه ديوان العرب , به تدين ثقافتهم وبه يدوّنون تواريخهم ,وفيه يحترقون ليحيوا ويموتون لينبعثوا.
لا أطيل عليكم فلعلّكم الآن تقتنصون لحظات متعة مختلسة . وتتربّصون بالسّحر استدراجا وطلبا واستنزالا.. فليبق الشّعر إذن سيّدنا ولنبق سادة القول فيه رغم المرارة , رغم المرارة ...
يتراجع زائد منحنيا محيّيا الجمهور. فيصفّق الجمهور بنوع من الحرارة . ثمّ تنقطع دفقة التّصفيق بغتة بعودة المنشّط الشّاب وبإعلانه عن المتدخّل الأوّل ,وقد تزامن ذلك مع بداية انطفاء الأضواء الباهرة .
ـ أمّا الآن أيّتها الجماهير فلكم صوت الشّاعر مرداد القرشيّ .
يتنحنح مرداد. يتقدّم نحو المنبر . يصفّق الجمهور . لا ينحني. يلوّح بيده مكتفيا بابتسامة لا تكتمل. تعلن حركاته عن شعور داخليّ بالعظمة يكتسحه. يتناول جرعة ماء اذ يستعدّ للقراءة . خرج صوت من القاعة قريبا من حامد بين القوّة والانخفاض:
ـ الجميع على ظمأ هنا . أيّ حريق في أحشاء الخلق يظطرم ؟
سمع الصّوت قريبا منه . قال حامد في نفسه وهو يحاول أن يكتشف المتكلّم :" ترى أيّ حافز حفزه لقول هذا؟هل هو الجمهور الذي يبدو متلهّفا؟ هل هو التصّفيق الذي لا يكفّ إلا بطلب من الشّاعر أو بتدخّل من المنشّط؟ أم تراه يمتلك حسّا نقديّا يبعث على موقف فنّيّ عال كهذا؟"
المقعد الذي بجانبه كان فارغا منذ قليل, أمّا حين التفت فقد تحوّل إلى جسد أنثويّ . وحين التقت الأعين ابتسمت له وقالت :
ـ إنها الأمسية الشعريّة .
ـ أجبتني أخيرا.
ـ لقد أجبتك في المرّة الأولى ولم تلبّ. وها أنذا أجيبك ثانية .
ـ شكرا لك على الاهتمام .
وجّه حامد عينيه نحو الرّكح وبدا مرتقبا قصيدة مرداد.
ـ لكنّك لم تسألني لم جئت وجلست حذوك
ـ تلك مسألة تخصّك, والمقاعد ليست ملكي.
ـ وقد تخصّك.
ـ لا , لا أظنّ.
ـ أمّا أنا فأظنّ بل أجزم.
ـ لك ما تشائين.

وعاد حامد مرّة أخرى منشغلا عنها. .أحسّ أنّها تتهافت وقال في نفسه:
" كلّما كانت عصيّة أنوفة, كانت أجمل وأبعث على الشّوق والولع."
ثمّ أضاف:
" كم كنت أبله يا حامد.من قال إنها تتهافت؟ ومن تكون أنت حتّى تعلق بك امرأة بمثل هذه البساطة؟
أنت من سألها فـلِــمَ تعجب من الإجابة في زمن لا تجاب فيه الأسئلة؟
تنحنح مرداد وهو يسوّي المصدح بما يتناسب وهيئة وقوفه و مستوى شفتيه , ثمّ قال :
تحية الكفاح والانتصار لكلّ من يناصر القضايا العادلة في العالم. سأقرأ عليكم قصيدة بعنوان " الظّفر". أمّا الإهداء , فإلى كلّ عشّاق الشّعر , عشّاق الوطن ,إلى أبطال الثّورة في فلسطين الانتفاضة فلسطين الحريق,فلسطين الخضرة الطّالعة في الضمير .
ثمّ تنحنح ثانية , فثالثة خفيفة . وحدّق في الجماهير بعدئذ كالملتمس صمتهم. وأومأ بانطلاق القصيدة .
تطايرت الكلمات من فمه مطرّزة بالحماس.انفجرت الأحرف فخمة. كان الحاضرون في غمغمة حتّى إذا ما تسارعت اللّغة وتصاعدت أنفاس الشّاعر عبر المصدح تجوب القاعة الفسيحة وتصل إلى أقصى الزّوايا جعلت تلك الجلبة تزول تدريجيّا. وطفق النّاس يصيخون . واغتنم الشّاعر لحظة التّركيز معتقدا بأنّ لصوته قدرة الاستحواذ والامتلاك . فأخذ ينغّم الصّوت ويغيّر النّبرات وفق تبدّل المعنى الشّعريّ. وبذلك صار الإيقاع متنوّعا.
يخفت حينا ليصل إلى درجة عالية من الرّتابة , و يتفتّق حينا ليبلغ أقصى درجات الجلجلة..
أمّا الحاضرون وهم يرمقون مرداد يتحوّل إلى خطيب يتقن تصريف الكلام منسّقا مع حركة اليدين ومع تشنّجات التّقاسيم ومع لألأة الاستبشار تومض في عينيه , ومع نفحات حزينة تفوح من التصويت الموسيقيّ ينساب من مزماره وبلعومه في براعة مدّعاة , أمّا وهم يرون كلّ ذلك فقد سلّموا بمهارة الشّاعر , وبصموا له بإجماع عبر التّصفيق الجماعيّ بأنّه مقتدر فذّ ...
اشتعلت القاعة بالتّصفيق مخلوطا بضحكة غير صافية, قويّة . وبينما خفت التّصفيق تدريجيّا بقيت الضّحكة تتخافت لتموت قريبا من حامد على الكرسيّ الذي ملأته تلك المرأة.
بعد برهة وجيزة تخلّلتها معزوفات موسيقيّة , دخلت القاعة في الصّمت ثانية مع ظهور الشّاعر الثّاني.
اعتلى الشّاعرُ الرّكحَ . وعلى خلاف مرداد بدا أكثر تواضعا وأقلّ طولا. خطا وئيدا . ورغم تأنّيه واحترازه في المشي فقد تعثّر مرّتين . ولعلّه حاول أن يطرد حمرة من وجنتيه فلم يفلح.
قال أحد الحاضرين مبتسما:
ـ بدأنا العثار.
ردّ آخر:
ـ لا حليم الاّ ّ ذو عثرة .
قال صوت ثالث:
ـ رجاء قليلا من الصّمت . للشّعر طقوسه وآدابُ سماعه.
قالت المرأة التي ما تزال تجلس بالقرب من حامد , وما تزال تستدرجه إلى المشاركة في التّعليق والانخراط في الحوار :
ـ لكلّ حصان كبوة ونهوض. آمل ألاّ تمعن أحصنتنا في الكبوات وآمل ألاّ تتعثّر القافية لديه

قال حامد وقد راقه تعليقها:
حصوننا وأحصنتنا كلّها تكبو.أمّا القوافي فدوما في حالة استنفار.
ردّت المرأة في صوت أقرب الى الغنّة السّاخرة :
ـ هل نتراهن؟
ـ على أيّ أمر؟
ـ على أنّ هذا الشّاعر بارد المعنى كسواه , متعثّر اللّغة كخطاه غير قادر على التّبليغ والإيصال.
ـ لا أراهنك على أمر كهذا . لا أستطيع أن أحكم على أفكار إنسان من طريقة مشيه أو من زلاّته الظّاهرة.
قالت المرأة في وثوق جادّ:
ـ أمّا أنا فلا أحكم على العالم إلا إذا كانت لي خبرة بناسه ومعرفة باستقاماتهم وعثراتهم.
ـ إذن كأنّك على دراية كافية بعلم النّفس؟
ـ لا أعرف منه إلاّ اسمه واسم بعض روّاده.
قال حامد:
ـ علينا إذن أن نتابع المشهد إلى آخره ثمّ نشرع في التّقويم .
ـ هذا المشهد لا يستحقّ التّقويم .
وهمّ حامد بالردّ لكنّ أحد الحاضرين زجره متبرّما بالضوضاء.
فآنزجر حامد فيما أبدت المرأة احتجاجا صحبه تعليق مستفزّ:
ـ إننا في أمسية شعريّة ولسنا في أحد فصول الدّرس.
وتململ الجالسون قريبا من الحادثة . وانزعج المتدخّل من موقف المرأة التي لم تتوقّف عن الملاسنة والشتيمة رغم تراجعه. ووجد حامد نفسه مجبرا آنئذ على تليين الموقف بشد انتباه صديقته الجديدة إلى  انطلاق الشّاعر ّ في تلاوة نصّه. وبتذكيرها برهانها الذي رفعته . فاستعادت هدوءها وخرجت عن تشنّجها واعتدلت من جديد في جلستها . أمّا حامد فقد وجد نفسه في موقف غريب ، في لحظة فرضت عليه.. لكنّه وهو يراقب عودة الهدوء إلى المكان, وينظر إلى المرأة ملاطفا مطمئنا انتبه إلى بهرة بياض عند أعلى الرّكبتين.
منذ قليل لم يكن العري . أو كان ولكنّه لم يتبرّجْ . هكذا تبادر إلى ذهن حامد , وتبادر إلى ذهنه أيضا أنّ الثّوب آخذ في الانحسار والتّزحلق إلى أعلى بما يسمح له بتملّي المشهد كاملا دون عناء.. ولم يدر حامد عينيه . بل تمعّن . لم يخز الشّيطان ولم يطرده . ولكنّه حين تفطّن إلى أنّ المرأة قد انتبهت إلى ما يحدث, وأنّها تتابع نظراته دونما اكتراث أو حياء , نقّل باصرتيه إلى الرّكح متلهّيا بمتابعة القصيدة. .
كان الشّاعر يعتصر قريحته  ويتكبّد مشقّة استحضار أشعاره. وقد تعمد ألا يصطحب أوراقه الشعريّة متظاهرا بالقدرة على الارتجال . أمّا وقد نسي مقطعا أوبعض مقطع فقد تلعثم وتشابكت في ذهنه الخطوط , وكاد أن يحرن لولا أن أسعفته الذّاكرة , فتدارك عائدا إلى المقطع الذي أتمّ قراءته , فتسنّى له بذلك الرّبط الدّاخليّ بين المقاطع , وتوفّق في الانتقال إلى ما تبقّى له من أبيات القصيدة .
لم يعد حامد تثيره المعاني ولا طرائق التّصوير الشّعريّ , منذ أن رأى أواسط أفخاذ المرأة التي لا تكفّ عن التّعليق وإطلاق ضحكات السخرية من حين لآخر..
صحيح أنّ الشّاعر انهمك في التّلاوة بعد ذلك التلكّؤ, وأنّ انثيالاته لم تشهد بعد ذلك انحباسا. وصحيح أنّ أذن حامد صارت تلتقط صورا شعريّة مستساغة هنيهة بعد أخرى .. غير أنّ المعاني الشعريّة لم تكن تصل طازجة إلى الذّهن لأنّ حرارة دم أخرى ظلّت ترافقها وتغمر ذبذباتها حتّى تذيبها أحيانا ..
وظلّ الشّاعر يمطّ شفتيه , ويشدّ الكلمات وكأنّه يستعيد لحظات حمل ولذّات مخاض أولى:

" متى نحتفي بالبلاد البعيدة
تأتي من الرّمل والميّتين ؟
متى من معين الحنين نعبئ زادا
لأيّام قحط عجافْ
وبعض الجرار
لصحرائنا في السّفار
إذا كان للنّهر بعد الضّفاف
ستمتدّ راحاتنا بعد حين
سنطلق سيقاننا في النّعال
نشدّ الرّحال
نيمّم للظنّ والاحتمال
عسى نلتقي بالحقيقة بازغة في ختام المطافْ"

تناهى المقطع إلى ذهن حامد . لعلّه أرهف السّمع آنئذ. لعلّه اختلس الإرهاف قبل أن يجدّد الالتفات إلى المرأة وقبل أن يكتشف أنّها منشغلة بترتيب بعض الأوراق , وقد وضعتها على ركبتيها البيضاوين يُضيئهما ومضُ تبدّل المشاهد على  ركح القاعة فوق الظّلام المزدحم في أسفل المقاعد. خيط واحد من ضياء انسلّ من بين فتحات المقاعد إلى حيث موضع يد المرأة اليمنى من الكرسيّ. .جعلت يدها تقتنصه قبل أ ن ينفلت إلى الخفوت والتّراجع .. ودّ حامد أن يختزن مشهد الرّكبتين ثانية قبل أن تنسدل السّتائر وتنحجب الفتنُ  .
ولكنّه مع المشهد رأى المرأة وقد أمسكت قلما وجعلت ترسم خطوطا على ورقاتها في سرعة ملحوظة
لكنّها حالما أحسّت به قالت في نغمة جريئة :
ـ تودّ أن تعرف ماذا أكتب ؟
تمهمه حامد وقال:
ـ لست كثير الفضول . أعجب فقط كيف تكتبين في ضوء خافت كهذا.
ـ أعجبني مقطع فسجّلته . لكنّي لا أتصوّر أنّك قصدت ذلك فعلا.
قال حامد شبه متنكر:
ـ ماذا يمكن أن أقصد إذن ؟
ـ معرفة هذا مثلا.
وسحبت الأوراق من على ساقيها . فإذا الأفخاذ أشدّ عريا ممّا كانت . . نظر حامد مندهشا من جرأة فذّة لم يتوقّع حدوثها في إطار كهذا. ومن امرأة لا يعرفها. لكنّه تظاهر باللاّمبالاة .
فقالت له:
ـ تمعّن جيّدا. لا تخجل رأيتك تسترق النّظر إلى ركبتيّ منذ قليل . ولأنّي أقدّر حالتك فلن أحرمك من هذه اللّعبة الممتعة.
قال في نفسه : " لقد وقعت في شراك مومس يا حامد , كيف تتفادى الموقف؟
استدار حامد نحوها والتمس منها تقريب أذنها ليهمس , ففعلت.
ـ لماذا تبدين بهذه الدّرجة من الاجتراء والتّحرّر ولمّا نتعارف كما ينبغي؟.
ضحكت في لطف , وقالت :
ـ لماذا تبدو منكفئا وغبيّا إلى هذا الحدّ؟ ألست تلاحظ أنّ ساقي ّ أشدّ إثارة من الشّعر الذي تسمع منذ دخلت؟
ثمّ أضافت في نبرة تعلن يقينها من الإيقاع بالرّجل الجديد سريعا:
ـ هل تفوّت فرصة كهذه؟ أيّة متعة تهمل انتهازها؟ الرّجال يلهثون خلف اللّحم بلا جدوى أم أنّك لست من طينة الرّجال, أو لكأنّك ميّت ؟؟
ـ لا يمكن للأمر أن يحدث هكذا , هذه سّرعة مذهلة , أنت تحرقين كلّ المراحل فيما المقام لا يناسب.
ـ تعني مقام الشّعر , بين هذه الجموع . الأولى بك ألا تعيرهم أيّ أهميّة . والأجدر بنا ألاّ نعتبرهم موجودين  أصلا. معظمهم يحضرون بلا وعي ولا ذاكرة . اسمع , لو بقيت دهرا كاملا وأنت تصغي فلن تجني شيئا . سترهق نفسك وذهنك بمطاردة التّفاصيل واستقصاء المعاني المخصيّة . أمّا إذا وافقتني فسنقضي وقتا ممتعا لا سيّما والسّهرة في مستهلّها .
بدا الموقف غريبا بالنسبة إلى حامد وهو يراجع الكلمات التي ماتزال حارّة التّلفّظ, وبدا كالخارج من حلم  وامض, حتّى لكأنّ الحدث في نظره بين الحدوث وعدم الحدوث. وراح يردّد في صمت : " أبمثل هذه البساطة ؟ أبمثل هذه السّرعة تحدث الأشياء العصيّة ؟؟ ماذا تريد هذه المرأة منك يا غبيّ؟
ثمّ أجاب نفسه:
ما تريده  معلن صريح دون مواربة أو تخفّ . انّه الاستدراج نحو المتعة ؟
أمّا السّؤال الحقيقيّ فهو ماذا عليك أنْ  تريد أنت يا حامد؟ وكيف ستتعامل مع إرادة واضحة كالتي عندها؟
تظاهر ثانية بالانشغال بالشّعر والشّعراء الذين أخذوا ينهمر ون على المصدح . وراح يتأمّل المصدح. لبرهة أحسّ خلالها أنّه حقير جدّا. لعلّ سرّ هذه النّظرة الغريبة لهذه الآلة عائد إلى جمودها وانتصابها الثّابت دون حراك فيما يتناوب عليها الشّعراء.. تصوّر أنّ المصدح منفاخ ميّت , يستقبل الأصوات كلّها كما تأتيه ولا يعمل حتّى على تصفيتها وتهذيبها ,ويقبل الكلمات كما ترد بشذوذ استعمالها وأخطائها دون أن يعمد إلى قليل من الاحتجاج . ورأى أنّه أحقر من هذا كثير لأنّه يستسلم للأصوات تخترقه ولا يمتلك حتّى حقّ الغصّة والتّهدّج من ناحية , وهو من ناحية أخرى يضخّم الوافدات عليه ليزرعها في فضاء القاعة وفي أسماع الحاضرين بأشدّ قسوة وأعمق إزعاجا . إن دوره تحويل الخافت إلى مسموع فحسب . " الحمد للّه أنّي لست مصدحا " . قال حامد ذلك وهو يراقب دخول الشّاعر الجديد.
كان الشّاعر على خلاف الآخرين من الأناقة والزّهو . بذلة أميل إلى الزّرقة البنفسجيّة مكويّة بإتقان وكأنّما خرجت لتوّها من محلّ بيع . قميص ذو بياض باهت لا تشوبه شبهة , ولا أثر لالتواء في الأطراف الظّاهرة منه. أمّا الحذاء فبلون صبيغة الخشب البنّيّة الضّاربة إلى حمرة خفيفة مستحبّة , لمّاع عن بعد . . وكأنّ الشّاعر كان على اتّفاق مسبق مع منسّق ديكور القاعة في اختيارا لألوان المتناسقة بين المكان و الإنسان.. أمّ ربطة العنق فبجمعها لمختلف الألوان الموجودة في البذلة والقميص والحذاء وحتّى ألوان السّتائر والمقاعد , فقد اختزلت الانسجام العامّ وربّما استطاعت أن تصرف النّظر عن المفصّل إلى المجمل في زيّ الشّاعر , حتّى أضحت أشبه
على صغر موقعها من الصّدر , بلوحة تؤطّر الشّاعر بل تحوي الإطار بأكمله داخلها ..
لاحظ حامد كغيره مظاهر الأناقة وصمت . ولاحظت المرأة بجواره ذلك التّأنّق ولم تصمت:
ـ سيكون لهذا الشّاعر شأن ولن يشقّ له غبار .
ابتسم حامد حين أدرك أنّها تدسّ السّخرية في قالب الجدّ. ولكنّه لم يلتفت نحوها
فأضافت:
ـ لعلّه يفحمنا بالقول كما أسرّنا بالزيّ .
لكنّ حامد لم يلتفت .
قالت وهي تقرّب ساقيها العاريتين من ساق حامد عند الموضع السّفليّ لفخذه ـ أراك تتحوّل إلى مستمع فذّ. أليس كذلك؟
قال حامد وقد تحوّلت تلك البقعة من فخذه إلى جمرة توزّع النّار والحرقة إلى مواطن الدّم في جسده:
ـ لم أحضر هذه الأمسية إذن؟
ـ لكي نقضم من الوقت القليل. لكي نتلهّى عن الوقت خارج القاعة ونتناسى الأحداث خارج الجدران .
ألا تريد النّسيان؟
قال حامد مستحضرا مقطعا لمحمود درويش:
" نسيان أمر صعود نحو باب الهاوية
هذا أنا أنسى نهاياتي وأبدأ حيث يمتحن الصّواب..."

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة