ذاكـرة الأسـامـي ـ قصة : محمد الفشتالي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

49انقذفت للخارج. كان هو عينه يمشي في خطوي كظلي. يلاحق إيقاع سيري. يطاردني بلا هوادة!. ثم دهمني سيل أسام : ابن جلجل ، ابن المثنى، ابن شملال، ابن تومرت.....ابن القفطي. سيل لا ينضب، وأنا تياه في ليل شارع خال. كيف أمكن لرجل أن يعدم وجاهة الألقاب منذ فجر التاريخ، ويقضي حياته يدون أعيان الأسماء حسب حروف الهجاء بدءا من الهمزة إلى الياء؛ دون أن تطوقه طبقاتهم، ولا تواريخ وفياتهم ؟!. الحي القريب ضوؤه يلوح باهتا، وسيل آخر يندفع: ابن بسام، ابن زائدة، ابن الهبارية، ابن الفضل، ابن باشاد، ابن التعاويذي...ابن قلاقس...ماذا صرت ؟. لائحة أسماء، أم نسابة جديدا؟!. اختلطت علي الأشياء. توقفت أتحسس أعضائي؛ أتثبت من السلامة، ثم عرجت على اليمين. وسرت أتطلع إلى الدور العصرية المتراصة من حولي. بدا جليا أن المعماري الذي كان أول من خطها على أوراقه؛ مغرم بالدوائر. كل واجهة تدوير إسمنتي مصبوغ، والواجهات تختلف في تشكل أحجام الإسمنت عليها. أقواس هندسة الدوائر تعطي انطباعا باقترابها منك؛ ولو أنها بعيدة، أو عالية. إحدى الشرفات يتدلى منها نبات أخطبوطي يضفي هسيسا، ويعبق برائحة ليست كريهة، وليست طيبة أيضا، أو هي طيبة إذ لا يمكن أن تكون إلا كذلك، وهي تعم الشرفة.  فذاكرة الشم لا تحتفظ لها بأثر،  ولم يسبق أن ضمختني على أية حال.

 كان قاضي القضاة شمس الدين بن شهاب الدين؛ ما انفك يضبضبني بالأسماء، مذ أفضت يد فضول جارف إلى "وفيات الأعيان"... لم أستطع في الواقع أن أنهي فسحة المساء، في المقبرة الغاصة بالجثث العظيمة. انصرمت ساعات بأكملها، ولم أتلفت لشيء. لم أتململ حتى خيم صمت مريع. كان الليل قد استولى على العالم، فغادرت متقصدا هذا الحي الجديد، بلا أدنى سبب معقول. الرائحة أضحت تلازم أنفي، رغم أني بعدت بأمتار عن الشرفة. ماذا حدث في حراك المعمار حتى غدا دائريا؟. ربما هو كذلك من الخارج؛ بينما الداخل قد يكون بتربيعات، وزوايا منفرجة. من يفكر بالدائرة؛ لابد أن يشتغل على الزوايا والأقطار. أحيانا قد يشي الخارج بما في الداخل. منزل واحد هناك هو الأكبر. ظاهر أن جماليته صنعتها فكرة أسطوانية. هكذا هو المعمار بهذا الحي العصري؛ منظورا إليه من الخارج. أما الداخل فلا يعرفه بالطبع سوى صاحبه بمفرده. ولا يمكن لراء مثلي أن يتعرف عليه. وفي هذه الحالة يمكنه أن يتكهن به، ولن تنقصه في التخمين حيلة. وحده هذا البيت شدني بجماله وغرابته أيضا. لقد بدا استثناء يشذ عن قاعدة التصميم العام. أسطواني من قاعدته، ويتلولب إلى قمته. دنوت منه أكثر؛ أقلب  أوجه النظر، كمن يصوره. فجأة سمعت غمغمة قريبة، ثم باغتني اسم نكرة، وصافحني قائلا:
- بلا شك أنك تبحث عن شخص ما..؟!
- نعم...نعم. قلت، ولا أدري لم وافقته ! يبدو كأحد الحرس مشمر الأكمام، بيده هراوة، ويبتسم.           ابتسامته غامضة؛ عوض أن نقول صفراء.
- ما اسمه؟. سألني، وهو يتفحصني منتظرا جوابي.
- اسمه...  ؟ اسـ.... اسمه هبة الله. نعم هبة الله. نطقت بالاسم دون أعرف من أين انبثق. هل انفلت من ذاكرة الأسامي، أم انسل من ذاكرة الكذابين؟. ولم هذا الاسم بالذات؟! ... المهم أني تخلصت من سؤاله.
- آه  تقصد هبة الله  بن الفضل؟.
- تماما. أكدت شفتاي ثانية على نذيره هذا بدون معنى،  ولا مرام.
- قال، وابتسامته الغامضة الصفراء لا زالت ملء شدقيه: ليس تماما. اسمه الكامل هو: هبة الله بن الفضل بن القطان. يسكن في شارع بغداد. الأول على اليمين من هنا.
- هذا هو. نعم، تماما. (لمن هو هذا الاسم الملطخ...؟ وبالتمام أؤكد عليه...؟).
- تعال معي. من هنا. (إلى أين يا خفاش الليل؟ إلى أين...؟).
-   لا داع. لا عليك؛ إني أعرف بيته. قلتها كما لو أصبت بنوبة كذب حادة، وهممت أودعه؛ إلا أنه مسكني من ساعدي، وقال بتأدب ناشئ بين عضلتي وجنتيه:
- أنا هنا لأساعدك، لا غير.
صار دليلي خفاش ظلام. عرق بارد بدأ ينز، وحلقي ناشف. أمسيت مركز الدور، وهي تدور من حولي. تحاشيت أن أنهار أمامه، وهو ما يزال فاتحا منقاره المشؤوم. تحجرت قدماي. أخذت سيجارة لأشعلها. مد يده، فناولته أخرى، وأشعلناهما معا. إننا ندخن معا الآن. إنه يساير وتيرتي المترددة، ويتابع ما يريد قوله، وقد برز نابه كمنقار تماما:
- وصلت عييا من السفر ؟.
-  آه. نعم... وأحسست بأني من أسوأ  كذابي العالم.   
- عند هبة الله ستستريح جيدا هاته الليلة!.
-  نعم. نعم. لا شك في ذلك... قلت هذا ككذاب لا يعدم له جواب.
-  هنا يقيم ابن الفضل!. (هبة الله يملك أكبر منزل في الحي...؟ !).
- شكرا. شكرا. شكرته أنتظر الباقي، وقد لبسني  قناع الكذابين .
- الله يحفظك. قالها بتمطيط وتفخيم... فأشفقت على نفسي.
تجمدت وحلا في ورطتي؛ أنتظر، حتى  إذا ما غادر أطلقت رجلي للريح. غير أنه تراجع قليلا، وتسمر في مكانه. هجمت علي جبال الجليد، وارتجفت ارتجفت. أحس بي عييا،  كما قال، وأضاف:
- تعبت كثيرا؛ لا تقدر حتى على لمس الجرس!.
ضغط على الزر. لقد وصلت مصيبتي لذروتها بسبب هذا الخفاش المنحوس. رنة واحدة، وإذا بي أمام أسمر طويل وممتلئ، قوي ورهيف، وشعره أبيض على أسود. ارعد كياني، وما كدت أسأله (وعم سأسأله؟!. نعم، لا بد أن أسأله مداريا حرجي/فظاعتي) حتى أفحمني بتلطف زائد، وهو يقول:
- هكذا تنسى الأصدقاء. كأننا ما تعارفنا يوما!.
أفرج ثغره عن ابتسامة عريضة ترحب بي. لم أعرف آنئذ ما دهاني، وقد بت ذا باع موغل في الكذب. حللت ضيفا عزيزا، وعبارات التكريم والحفاوة بالغة؛ تتعجرف على فمه الأسود، ولا تفارقه:
- تفضل. اجلس هنا، هنا. ستأتي حالا السيدة زبيدة، وترحب بك. إنك لا تعرف السيدة زبيدة وكرمها. أي ياي ياي....سترى بعينيك!.
سادرا انطويت، بل اندفنت غارقا في قناعي: كيف لي أن أغير الآن على السابق واللاحق مما ابتليت به؟؟. نسيت كل الأسماء التي كانت تراودني. نسيت اسمي أيضا!. تناهت إلي أصوات خفيضة، كأنها مكتومة. صوبت عيني باتجاه غرفة يشع منها نور شفيف أحمر: أواه...أجساد مشتبكة في عراك حميم!. دارت بي الدنيا. في هاته اللحظة ترجيت أن يكون الانتظار قاتلا كعادته؛ على الأقل لأولي أدراجي، ولا أرى أبا الخفافيش القوي الرهيف؛ يعود من جديد...كلمات ترتعش، وتذوب في موسيقى خافتة؛ تنساب، تتعرج، تصعد القمة، وتسري في أجسام محمومة. تضاعفت دقات قلبي، وتسارعت. تحطمت أعصابي، وفرغت من أي إحساس. نسيت كل الأسامي، بما فيها اسمي. سقطت ذاكرة الأسماء، وأبو الخفافيش الفادح قد أطل يقول:
-  الغزالة زبيدة  آتية حالا. في انتظارها ماذا تشرب؟.
- لا شيء ... أي شيء. قلت هذا بصدق. فـ (لا) تعفي وتريح، كما يقول المارقون.
- هات ... (سأبرعك) هذه الليلة. سترى!. قالها دون أن يكترث  برغبتي.
أعطيته بمكر بين كل ما بحوزتي. ولم يعد قويا ورهيفا كما الأول. إن ابن الفضل فعلا ضعييف، وخليع مغر بالهجاء*. ابن القطان هو تشكيل من قطران. من يسمع به خير ممن يراه. صفق الباب وراءه. ضمن مكوثي، وراح. انسحقت في دوامة الظنون، وحامت بي سيناريوهات مرتقبة للبقية. هدأ روعي بعض الشيء ملمح الباب، وقد تبينت إمكانية الفتح والتسرب. وما إن وقفت كي... حتى هلت زبيدة... قد بطول وامتلاء يهرق لذائذه في ممشاه، ويهفو آسرا. اهتزت الدوائر كلها. استرقت نظرات خاطفة لمحيا الزبيدة، وهي تقعدني بغنج، وتلح على الضيافة. استسلمت بعض الشيء لكرم دلالها، ثم تيقظت، وسألتها:
- هل هنا... هنا... ؟ (كنت سأقول: ماخور ؟!).
- ربتتني، وأطاحت بالسر قائلة: الليلة هنا لا شبيه لها. لن تنساها مهما طال بك العمر.
ربما كان اللقاء قدرا محتوما!. ولربما هو مجرد مصادفة؛ يمكن أن تلاقي أي كذاب!. استمر إصرارها اللعوب يطفح بالأنوثة، فيقظني أكثر، وانتصب سؤالي :
-  تدخنين...؟.
- ردت بوله يتقطر: طبعا ... طبعا. ولم لا ؟! (وعلاش لا؟!).
- قلت أعرض خدمتي: ابعثي من يحضر علبتك المفضلة، أوعلبتين من الأفضل، فالليلة هنا تطول.
- صاغت الرد  بلسانها وعينيها ويديها: حالا. حالا...لن لن لن...
قامت تتهادى في حركة من فتنة، ودلفت إلى غرفة. وما إن غابت؛ حتى انخطفت، وأشرعت الباب، فانطلق الحصان الجامح يعدو بعيدا في الأنحاء، والأسامي قد أطبقت عليها سحابة قاتمة، ومحت – يا خيبة الاسم – صفحة ابن الفضل برمتها.        


* ذكر ابن خلكان في "وفيات الأعيان" بخصوص ترجمة هبة الله بن الفضل بن القطان أنه "كان غاية    في الخلاعة والمجون، كثير المزاح والدعابات، مغرى بالولوع بالمتعجرفين والهجاء لهم" . 

* قاص من المغرب

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة